هذا الوجه أين رأيته ، أين صادفته
في مهب أحوالي
ومعترك مدائني:
فى الحلم أو اليقظة ، في الشرق أو
الغرب بأي ساحة أو مدينة وزقاق ؟
في الدخان المتصاعد من حناجر الغرقى ،
في المتوسط وبحر إيجة ، كازنتزاكي،
يتنزه بين عظام الاغريق ، في البحر الميت
أو البحر الشمال حيث القراصنة بلحاهم
الصفراء تتطاير في البرد والضباب .
هذا الوجه الموءود في قعر غرائزي
في ظلام ذاكرتي
أعرفه جيدا، أعرف إ يماءاته الرشيقة
في الأثير، أعرف خطوته
التي تخبيء الكنز، ذهابا وإيابا
من غير معرفة ولا جهل ، حالة ،
الخطر، المتدلية من لهاة
برق الجنوب المشرع على النافذة ،
يجعل ملامحه متلعثمة وحجلة كانما نزل
للحظة من قويته ، مخضبا باحناء
وجوس الصفارد تحت الصخرة الكبيرة ،
التي دفن تحتها غزاة لا هوية لهم ولا
أطماع ، غزاة البراءة التي تنبلج في فجر
العاشق للمرة الأول والأخيره .
وجه أمي الذي لا أجرؤ على النظر اليه كأنما
أهرب من جنتي المستحيلة ، الذابلة حتى التلاشي،
جنة لم تكن لأحد غيري قبل أن يتصرم حبلها.
وجه أبي ، وجه المرأة التي أصبحت مجهولة لا
عنوان لها، وجه الوجوه ، إسورة الفيضان ؟ ليل
المدينة الذي ظلامه من وبحوه تتدفق من الجهات
كلها، هن النوافذ المضاءة والمغلقة ، من الحدائق
والخرائب والحانات ، تنخل الجسد الوحيد على
الأريكة التي طالها البلى وعبثت بها رياح
الصحراء.
الوجوه حين تنفجر هكذا ، دفعة واحد فاتحة جدول النحيب .
***
الباشق الذي كان ينقنض على السلاحف
والأسماك في المقيعان البحرية المثلمة ،
وفي الكهوف والخلجان » أراه الان
يحوم مع إناث خالية في هدوء سماء
لم تعد تحلم بالنجوم والمفاجات.
سماء خرساء بمجراتها الهرمة كأبراج مدينة منكوبة
وبرك تتموج تحت نعيق الغربان ومفارش
الخريف.
على خطمه دم المسافة
الباشق ، شقيق الهجران الذي
كان يحتوي بمخالب حنانه الفريسة
ويضمها كعريس يلتهم بها الفضاء
والليل ، مكللا بمجد اضطرابه من فرط النشوة،
هو الوحيد من غير صلات تذكر مع عأئلات
الجوارح ، يحمل في حناياه مزاجه المتقلب ويحمل
عروس وحدته كجوهر استرده من مغتصبيه
مسافرا بين جزائر زرقاء ونيران غجر في مسودة
أفق باهظ الخرافة والعصبية بصواعقه وأمطاره
المحتقنة ، عقدة في حبين العواصف القادمة من
بحار الهند باتجاه بحر عمان المتاخم لقلاح الفرس
وأناشيد الرعاة المنحدرين من الهضبات الى وقب
الأفلاج التي تلمع في رأس المسافر كالسراب
المثخن بجراحه وطيوره .
الباشق الشريد ، قنفذ المتاهة الذي
لا يفصله عن الأبد إلا أرخبيل قزحي
يتنزه في مرآة عدم كاسر، عدم
يرتب المكان والبشر والحيوات
المسرفة في الغواية .
لا يفصله محن الأبد إلا شرفات
محطمة
وكنائس مضفورة من ضلوع الموتى.
***
الشجر الذايل أمام بيتي، أرقبه كل صباح وأنا
ذاهب الى العمل وكل مساء وأنا قادم من البحر،
وقد أرنحي سدول أيامه بيأس أمام سطرة الجبال
والمآذن والعمائر المأهولة بالجفاف وبمخلوقات
زنخة تفوح من أردانها بحثة العالم المتفسخة منذ
قرون .
أرقمب الشجر، شجر الميموزا، المسترسل ث هذيان
الغياب عن محطه وطيوره ومحن الجذور التي
أصبحت تغذيها النفايات السامة في أعماق الأرض
الملحية ، التي تصارعت على أديمها أرومات البشر
والضياع وآلأشجار السامقة ، أعالي حبال
"الأنديز" ولم تهدأ روحا القلقة العصية عبر
الأزمنة حتى أمام أعنف الطلقات غدرا وخيانة .
ظلت تسري في روع الفصول والأبناء والأحفاد،
حتى جف نسغها واضمحل تلقائيا بهدوء عطر
مردوغ ودعة ، حتى ابتلعتها الفصول التي
استحالت الى فصل طويل جارف كشاحنة خرافية
تمخر عباب الليل البشري للقسوة
***
لا أرى شيئا
لا أسمع شيئا
حتى بقايا العنادل والعصافير البرية وطيور
أخرى جلبت من نواحي "تايلند"
وبحر العندمان
والتيي كانت تذكرني بالحياة، سكتت دفعة واحدة
كأنما نزفت صوتها للمرة الأخيرة أو قطعت عادتها
اليومية.
كذلك الكلب النابح في العتمة
صخب الهنود والمكيفات
مومسات وسكارى
النداء الوهمي لباعة متجولين
شرطة بجنازير وبذلات أنيقة
بتنزهون في الحي اللاتيني
مصحوبين بالضباب المحتدم والمشردين
يعلكون الللبان على حافة المترو.
بواب ألاسكندرية العجوز. طيور هيتشكوك .
ذرية ألأحقاف . برذون الخليفة . فراء الأميرة .
جان دمو. مقهى "اللاتيرنا" مصارعو ثيران
قدماء. جلبة ألذئاب والقطارات . مخداع
المضاجعة لامرأة مجهولة . غيمة النار الزرقاء في
مواقد البدو.
الثعالب البيضاء تتنزه في أحلام
الفتيات.
رعايا المذاكرة ينهارون كما نتهار
القمم الثلجية في مخيلة المغامر.
هكذا دفعة واحدة .
يقطع اليمام هديله الى الابد
كما ذهبت انت ذات دهر
أمام البناية الضخمة في المدينة النغفطية ،
من غير كلمة ولا تلويحة وداع
يختفي المشهد بكامله
كأنما ابتلعته الأرض
اواختطفته عنقاء الجبال
ربما يشبه هذيان النائم
وسط تهاويل السفوح
تطوي الحياة موجتها
تحت قدم التيه .
***
أحلام القدماء
تلك التي تفعمني برائحة
الموتى في السرير
أراهم يختالون في حدائقهم المليئة
بالسناجب
في غسق المقابر
مشيرين إلى بضراعة وعنف
أن ألتحق بالقافلة .
رغم عواء كلبها الجريح .
وربما غير ذلك
لا أكاد أتبين الاشارات
في ظلام المقابر الدامس .
***
عيونهم مغمضة قليلا
يضطجعون على الخاصرة
يفتحون جزءا منها
كانما ثقل التراب على الجسد
أحزنهم قليلا
وغياب الأحبة
يتذكرون ميلادهم
في صرخة مباغتة
ولا يفكرون بالقيامة .
***
يتذكرون الدنيا
باوجه شاحبة
وقلوب مكلومة
كانما مرت عليها عربات جلادين .
الطرقات وقد شاخت
تحت أقدامهم
مفعمة بروائح الأجساد التي انهكوها كثيرا
مسرقين برغبة الزوال
الزوال الذي لم تساومهم عليه الحياة
التي ساومت في كل شيء
ربما رغبة في التجديد
رغبة في الخلاص
عرين الأسرار الأزلية
يفقس بيوضه في السلالات
التي تجرجر أثقالها من فيضان
الى أخر .
مسوقين بالرغبة نفسها
التي لا تشيخ مع الأحقاب
الموتى الذين لا يتذكرون موتهم
ويتذكرون الغيمة التي تنزل مع المساء
على الأسطح والجبال
وعلى مراوح النخيل.
***
تلك قصارى أيامهم
ينزل المطر على الصحراء
يصغون لثغاء الماعز
والطيور المهاجرة التي دمرها التعب
فانسكبت في حياض الصحراء
يصغون الى حنينهم
ينفجر مع البرق ، صواعق
تقصف الطرقات
لبكاء أطفالكم الذين لم يولدوا
للبهجة تعبر رؤوسهم نحو سمر بعيد.
للطفولة
يتسلقون ظلالها في الردهة
المظلمة
لعفاريت البيت القديم
ومطاريح المياه
سيف الرحبي
* مقاطع مجتزأة من نص طويل بعنوان (يد في اخر العالم) يصدر قريبا عن دار المدى.