عندما تخلص المرأة لأحلامها في الحياة
بعد روايتها الأولى أيام في الجنة التي تناولت فيها تجربة شاب عربي في لندن مولع بالحياة الباذخة على حساب ضحاياه من النساء المخدوعات بشخصيته المتأنقة دوما، تعود غالية ف. آل سعيد إلى الواقع العماني في مرحلة منتصف الستينيات من القرن الماض لتقدم لنا تجربة فتاة تعاني من الظلم والقهر والاستغلال، فيكون الحب نافذتها الوحيدة على الحياة والفرح والحلم خارج أسوار عالمها الشديد القسوة، حيث يقوم شقيقها المتسلط على مصائر العائلة بمنعها من إكمال تعليمها على الرغم من تفوقها الدراسي وتعلقها الكبير بالعلم والكتابة بسبب ما كان يعانيه من خوف من شخصية شقيقته، في حين لا يستطيع الأب فعل أي شيء في مواجهة هذا التسلط، بينما تعاني الأم من المرض وفقدان البصر الذي يمنعها من الحركة داخل البيت. تكشف الكاتبة من خلال شخصيتي صابرة التي هي البطلة الحقيقية للرواية وصابرين التي يكون دورها مكملا لصابرة من خلال الصداقة التي تربطهما والصلات الأسرية عن حالة العزلة التي كان يعيش فيها المجتمع العماني في تلك المرحلة، ووطأة التقاليد في بيئة محافظة تحول دون تعلم المرأة خوفا من معرفة الكتابة التي يمكن أن تقود إلى كتابة رسائل الحب، مما يترتب على ذلك فضيحة كبيرة للبنت وللأهل، الذين لا يجدون سوى القتل وسيلة لغسل العار الذي ألحقته بهم.
تلعب جملة الاستهلال دورا مهما في التعريف بشخصيتي الرواية الرئيستين صابرة وأصيلة والعلاقة التي كانت تربط بينهما منذ الصغر، على الرغم من عناصر الاختلاف القائمة بينهما سواء على المستوى الاجتماعي لعائلتيهما، أوعلى مستوى الجمال والشكل الذي يميزهما عن بعضهما البعض، ثم تقوم بالتعريف بأسرة كل منهما لتحديد الإطار الاجتماعي الذي تنتميان إليه. وإذا كان الاسم يشكل علامة لغوية فإن ثمة مطابقة على المستوى الدلالي بين الاسم الذي تحمله هذه الشخصية، وما تتميز به من صفات أو تعاني منه في حياتها التي تعيشها، كما هو الحال مع شخصية بطلة الرواية صابرين التي يدل اسمها على الصبر وقدرة التحمل وهو ما يعكس واقع الحال الذي كانت تعيش فيه تلك الشخصية معاناتها الشاقة والمريرة في أسرة تتحول فيها إلى خادمة لأخيها حمد وأولاده ولأمها الكفيفة ووالدها دون أي تقدير لدورها وخدماتها التي تؤديها، بل على العكس يتعامل معها شقيقها بكثير من العنف والشدة لأقل هفوة يمكن أن ترتكبها، ما يدفعها للهرب إلى الأحلام التي تعبر عنها من خلال الكتابة الساذجة والبدائية، وهي الفتاة التي لم يتح لها أن تتقنها بسبب منعها من إكمال تعليمها، خوفا مما يمكن أن تتسبب به من خطر يتهدد العائلة( حال تحول صابرة إلى امرأة ذكية وسريعة البديهة، ويحذره من أن تتمتع ابنته بالتميز العقلي والاستقلال الذاتي) ص 12 كما يقول حمد لأبيه مبررا منعها من التعلم، إذ طالما أن المرأة كما يؤكد شقيقها لن ينفعها العلم في شيء ما دام الزواج ورعاية البيت هو جل حياتها في النهاية. أما اسم الشخصية الثانية في الرواية أصيلة فإنه يعكس صفات تلك الشخصية الأخلاقية كما يتجلى ذلك في موقفها الصادق تجاه صابرين وإخلاصها لتلك العلاقة حتى النهاية ما يدل على مدى أصالتها ونبلها.
تجري أحداث الرواية التي يتولى الراوي العليم الحاضر في كل مكان والعارف حتى بما يجول من أفكار وخواطر في نفوس شخصياته في حي من أحياء مسقط المعروفة، حيث كانت وسائل الاتصال مع العالم الخارجي في تلك الفترة الزمنية محدودة جدا ما جعل وصول المدرسين العرب من جنسيات مختلفة يشكل إحدى تلك الوسائل رغم غياب الاختلاط بينهم وبين المحيط الاجتماعي الذي كانوا يعيشون فيه، بسبب انغلاق المجتمع على ذاته. ويظهر التحفيز الواقعي الذي تحاول الكاتبة من خلاله منح التخييل الروائي مظهرا مطابقا للواقع من خلال استخدام الأسماء الواقعية للأمكنة التي تجري فيها أحداث الرواية، أو استخدام التحديد الزمني الذي يحيل على أحداث تاريخية معروفة تشكل علامات في هذا التاريخ، حيث يتجلى البعد السوسيولوجي للرواية من خلال الاهتمام بتقديم الواقع الاجتماعي وحيوات الناس ومنظومات القيم التي تحكم تلك الحيوات وتؤطرها وتفعل فعلها فيها، الأمر الذي يجعل بطلة الرواية ذات الشخصية المغامرة والجريئة تهرب من بؤس الواقع وحصاره وعذاباته ومحدوديته إلى الحب باعتباره المنقذ لها من ذلك العالم، والمحرر لها من قسوته وإحباطاته، فتكون نهايتها المأساوية على يد شقيقها حمد تتويجا منطقيا لما يمكن أن يؤول إليه هكذا سلوك في واقع يعزل المرأة داخل جدران بيتها.
تميل الرواية إلى التجريب من خلال استخدام الحكاية داخل الحكاية وتوظيف الشعر بوصفه لغة مجازية مختلفة عن لغة السرد التقريرية ليكون بمثابة تعليق على أحداث الرواية يسهم من خلال لغته المجازية الموحية والمكثفة في تعميق إحساس المتلقي بالمشهد السردي وطبيعة الشخصية، لكن هذا التوظيف لم يحقق غاياته لسببين اثنين الأول يتعلق بطول تلك القصائد ما يؤدي إلى تعطيل حركة السرد، والثاني أن الدلالات التي تحملها نصوص الشاعر تعكس واقعا وتجربة مختلفة عن تجربة المدرس الفلسطيني الذي تقع صابرين في غرامه، وتجد فيه المنقذ لها مما تعانيه باعتباره شخصية تنتمي إلى عالم منفتح، ويتميز بمظهر رجولي يغريها، ما يعزز من اندفاعها في مغامرتها رغم النتائج المأساوية التي يمكن أن تترتب على ذلك في حال افتضاح أمرها في مجتمع لا يمكنه التهاون معها أبدا. كذلك تستخدم الكاتبة اليوميات التي تدونها البطلة للكشف عن المشاعر والحالات التي تعيشها البطلة واستحضار ما يجول ويحدث على مستوى عالمها الداخلي. تتوزع شخصيات الرجال في الرواية على نوعين ينتمان إلى واقعين مختلفين ويمثلان مستويين ثقافيين متباعدين جدا يمثل حمد الشقيق الجاهل والمتسلط ورمز الظلم الممارس على صابرين الشخصية الأولى، في حين يمثل شهم مدرس الكيمياء الفلسطيني الشخصية الثانية. وإذا كان من غير الممكن تناول الشخصية بعيدا عن قضية الدلالة وشكلنة المعنى في الرواية، فإن ثمة انحيازا يعكس موقفا مسبقا من تلك الشخصيات، ففي حين نجدها تدين شخصية حمد من خلال سلوكه وأفكاره المتخلفة عن المرأة وتعامله العنيف معها، نجد تعاطفها مع شخصية المدرس كما يظهر ذلك أولا في دلالة الإسم الذي أعطته إياه والذي يعكس مع محاولة تبرير سلوكه مع صابرين عندما يتركها لمصيرها المأساوي بعد أن تحمل منه في آخر لقاء لهما بحجة عدم معرفته بأن المرأة يمكن أن تحمل بعد الاتصال الجسدي معها وجهة نظر تبين حضور الروائية في السرد، لأن من غير المنطقي أن تكون تلك الشخصية المثقفة واليسارية بهذا المستوى من السذاجة حتى تمضي دون أن تحاول معرفة مصير تلك الفتاة المسكينة الساذجة بحجة البحث عن صديقته الفلسطينية السابقة نبال لدعم مشروعها السياسي والثقافي؟ كان يمكن أن للكاتبة بدلا من أن تمهد لما فعله شهم مع صابرين باعتباره محاولة للتعرف إلى الواقع العماني، وإلى الفتاة العمانية أن تقوم بتعرية التناقض والازدواجية التي تتميز بها هذه الشخصية، وأن تفضح الخلفية الذكورية التي توجه سلوكها وتجعلها تستهتر بحياة فتاة عرف حقيقة سذاجتها في مجتمع يدرك جيدا مدى محافظته وتعصبه، وعدم تساهله مع حالة كحالة هذه الفتاة المسكينة صابرين التي يتناسب سلوكها المغامر مع شخصيتها الجاهلة وضغط الواقع الاجتماعي الشديد عليها، ما يقود في النهاية إلى أن تتحول إلى ضحية للواقع القاهر والمستبد من جهة، ولشخصية المثقف الباحث عن التجريب والاكتشاف بغض النظر عن النتائج المأساوية لذلك من جهة أخرى.
مفيــــد نجـــــم
ناقد من سورية