قصيدة الشاعرة لينا الطيبي عنيدة في تشكيلها, عسيرة في استحضار مطباتها الدلالية المفاجئة والكثيرة ,توقفك بعد اندفاع وانسياب، وتدهشك بعد وضوح، تتمرد عليك وعلى وعيك بعد مصالحة واتفاق . إنها كائن دائم التمرد على اللغة بالشكل، وأسلوب توزيع أنماطه , وهي كائن متمرد على المضامين والمحتويات، بالانكسار الدلالي الذي يأتيك بالفكرة الخاطفة المغايرة والدهشة المفاجئة .
فالشاعرة لا تريد لقصيدتها أن تكون لها حدود بنائية ومعمارية مألوفة، ومراسيم وتقاليد للتسلسل والتوافق اللغوي ، ومحاور وتوقعات دلالية متوقعة، انها توقفك فجأة وتستنطقك في لحطة، وقد تفر منك الى غور أخر، وتأملا- جديدة بعد أن تتركك في نفق البحث، وتيه التأويل، تقطع تيارات الإرسال اللغوي, والتواصل الدلالي في تشكيلها دون تمهيد، تشغلك بالفكرة الثانية عن الأولى، وتبني هرمها الدلالي بالتراكم والتجميع لذا لا يعرف المسار الدلالي في قصائدها، السكون والنمو الطبيعي فهو متعرج، ومتقاطع، متضام ومتضاد داخل البناء، ولا نصل الى معمارية القصيدة، الا بعد سلسلة من التراكمات الدلالية التي تم خلقها بالتناوب، وإذا تطلب هدم الفكرة وتفكيكها، واعادة تشكيلها من جديد، فان هذا يأتي غالبا استفزازيا للمألوف الدلالي السابق، واستنطاقيا للوعي بالدهشة والانفعال، والاستفهام التهكمي، وكل هذا يتحقق باللامألوف والغريب من التشكيل، لذا فان سلم التجدد والتطور، وترميم محتوياته الضمنية، يأتي بالتطاول على أفكاره ومنجزاته باستمرار، وخلق ديناميكية التحول في بنيته الدلالية، والانتقال به من المثير إلى الأكثر إثارة ومن المدهش الى الأكثر إدهاشا .
قصيدتها لا تهديك مفاتيح دلالاتها مجانا، وتمنحك خرائط معانيها بسهولة، وانسياب، إلا بعد أن توجعك بمتعة التأمل وكد التأويل، وتشفك بقطع مسافة البداية والنهاية فيها، وقد تضجرك بحل غموضها، إلإ إنك تستأنس بعد الخوض في سطحها، والغوص في أعماقها، فتأتيك منقادة مروضة، ان ما يظهر من قصيدة لينا الطيبي ليس سوى قليلها، أما أغلبها فيغطس في لجة التشكيل، وجذور الدلالات، وفضائها المفتوح، فهي مثل باخرة محملة تطفو بربع منها، ويبقي في الأعماق واللجج قسمها الأعظم، يعد ديوان لينا الطيبي بأجمعه قصيدة واحدة، قطعت إلى قصائد بمونتاج التشكيل، وتوزعت دلالاتها وفقا لمحور اللغة العمودي وهذا هو نفس التقطيع الذي امتد الى تشكيل دلالة كل قصيدة فالدلالات الفرعية لقصيدتها، التي تنثرها هنا وهناك، بانفعال اللحظة ودهشة المفردات، والقطع اللغوي المفاجئ يتم تجميعها لأغراض انتاج الدلالة المركزية، لذا تصبح قراءة قصيدتها هي قراءة انتاج دلالي أو بعبارة أخرى، هي تجميع لشبكة من الدلالات الفرعية، أو للمبعثر من التشكيل بانتظام، والمنثور من الدلالات بقصدية وعناية .
إن البناء اللساني لقصائد الديوان يعتمد على التقطيع المقطي في بنية القصائد، إلإ إننا نجد نموذجا للسرد داخل تلك البنية اللسانية، في القصيدة الأولى من ديوانها، لم يتوفر في أي قصيدة أخرى من الديوان،ولعل وجود هذا النموذج السردي وبالذات في فاتحة الديوان يرتبط بحاجة المضمون الذي يلخص ويستوعب قصة حياتها،لانه يقوم على الاسترسال، وتسلسل الأحداث والنفس الطويل … الخ، وهذا يتعارض مع طبيعة التقطيع اللساني الذي تنتهجه الشاعرة في بناء قصائدها .
وإذا ما وجد مثل هذا السرد في قصائدها، فانها تفتته بأسلوبها الذي قلنا عنه، الذي يعتمد على المفاجئ من التشكيل والدلالة .
ان الوظيفة الوحيدة فيما يوجد من سرد هنا وهناك في قصائدها هي في احتواء المونولوج الداخلي الذي يتحكم بالسرد في قصائدها وتعصف به تداعيات وانثيالات لا حصر لها، تعانق فيه الماضي بحرارة أسى أسر، وتهرب منه برجع الحاضر المبتل باليأس، ويهيمن ضمير الأنا (السرد المتجانس) في أغلب قصائد الديوان، وبذلك يحقق الآصرة الدلالية مع عنوان الديوان "هنا تعيش".
قصائد الديوان سؤال الذات الحائرة في الوجود، واستنطاق للواقع بعدسة تفصيلية، وقراءات مكدسة، دخلت في موشور العي المنطلق من الذات الى الكل وطأة أسى الماضي شديدة عليها، تحاول ان تحرق أوراقه، بنار لا تقل أسى عنه، إلا أن الماضي يبقى لحظة التحفز التي تقفز بها نحو الحاضر لكن ما ان تنطفئ نار الماضي وذكرياته، حتى تشتعل حرائق الحاضر، تقول الشاعرة :
الماضي بلا سمعة بريئة ولا فرح
والماضي إذ ننساه، ينساب إلينا برقة الفراشة
هم وحزن انساني، وخوف ووحشة يغلفان وعيها، تحاول أن تطردهما إلا انهما يعودان فيصبغان النص،بد أن يفلتا من طيات روحها، وثقل حزنها الوجودي، وهما بالتأكيد وان تمحورا حول ذاتها، ومسا ضمير الأنا، إلا إنهما يتكوران في النهاية عند وعي الهم الانساني العام، ويفرز وعي المرأة بالذات تجاه الوجود والحياة في ظل سطوة القيم، وهيمنة الذكورية في المكبوت من ذاتها.
الوحشة منزلي
أفقي الظلام
تتوضح في الديوان ملامح أزمة مع الأخر العام، وتتأرجح بين التسليم بقدرتها والمصالحة معه وبين الفرار واعلان القطيعة والعداء. ولكن بالرغم من ذك تحاول أن تقيم تزاوجا للذاتين، تحاول بهما أن تفتح أسرار الوجود الانساني، وتقيم خيمة السعادة، حيث يتحد الصوتان صوتا واحدا، وتمتزج الروحان بروح واحدة، إلإ أن هذا يتبدد عن وهم وسراب ويتكشف عن حقيقة حزينة تعيشها الشاعرة وترتد حزينة، بحنجرة ضعيفة، خاوية الصوت، بعد أن وقفت مع تلك الذات المقدسة وتوضأت كما توضأ الحاضرون .
ان صلاتها مع الذات الأخرى مؤقتة، فسرعان ما طارت تسابيحها وتبخرت أصوات كلمات صلاتها من حنجرتها، وغادرت مسامعها، وهكذا تسمرت ذاتها التي تتوق نحو الوحدة والصمت، اللذين ينقذان روحها التي تكبر، ولا تجد في النهاية إلإ أن تطردهما، كما تطرد جسدها من روحها أيضا.
حين توضأ الحاضرون باسمك ظننت
الصلاة صلاتي
ولما خرجوا ذهب مني الصوت
الوجل دب في حنجرتي
وحشود من الكلمات ودعت أذني
عندما امد يدي انما أعنيك
وعندما أقول اسمي انطق بصوتك
لكن الكلام يخون
وإذا أتوضأ بالصمت
محبتي ان أجلس وحدي
والروح اذ تكبر
أكره مني جسدي
لذلك أطردك
أطرد النواقيس
الوحدة لا تستقيم بي
وأنا لا شيء من غيرها
ان الشاعرة لينا الطيبي تعالج قضية الأنثى، وعلاقتها بالوجود بحساسية مفرطة تدخلها ضمن مسارب ذاتها، وتنظر اليها من مرآتها العاكسة، وبالرغم من كل هذا، لم تتبدد نظرتها الشمولية، وتنطفئ حرارة اتقادها الإنساني، فهي تنم عن وجع معلق، وألم دفين، وحسرة غائرة في ذات المرأة، انها قصه الحيرة الإنسانية، تعبر بها المرأة قوس المحنة، وتضرب في الأقدار، وأخيرا تستسلم وتموت على ضفاف الموت .
عمري مسكوب كشهقة حبيس
عيناي مغمضتان وعلى فمي رقة الموت،
قوس اطلق صوتي في برية
ولما عبرت هجرني الماء. . .
والشاعرة أمام هذه القضية، تصعد لهجة الاحتجاج ضد الأخر، حيث تتهمه بدم حريتها، ومسؤولية قفص اتهامها، المرأة عندها مطاردة بالسؤال داخل جدران البيت، وضمن حدود التأمل، حتى تموت متعة الحياة، ورعشة الفرح في روحها .
هنا لا مدارك
لا حدائق للتأمل
أصحو على قناديل تنحب
وإذا أخرج من الباب
يرمي بي السؤال
ولما أعود
يضيق بي المنزل . . أوسعه بصوتي
الدلالة المؤجلة, وهلامية الصورة
تختزن الشاعرة لينا الطيبي في معجمها الدلالي، وتركيبها الشعري، دلالات مؤجلة، تقتحم بها نصها من حين لأخر وتوقد به حرارة مضافة، وتولد به تراكمات من المعاني الجديدة، تحرك الساكن فيه، وتنشط الخامل منه وهذه الظاهرة لا تنحصر بقصيدة دون أخرى، بل انها تبسط هيمنتها على قصائد الديوان، وتتفاعل في تركيبها، ومن أجل الدخول في غابة الشاعرة الشمعية، وهلامية صورها نقف عند فاتحة قصائدها :
– يذهب أيار
– تذهب حدائقه
– ولا يبقى لي غير يدي التي شلت
– حينما يأتي الماضي دفعة أسى
– تضج ملاهيك
– أمسك طرفه، ولا اهتدي
– القبلة غبطة نائمة
– أفلته
حين يستوطن الحزن الشاعرة ويقيم الحنين جسور الذكريات، تتذكر ايار وحدائقه (السطران الأول والثاني) قبل أن يأتي السطر المستفز والقطع الدلالي والتشكيلي للإرسال اللغوي, المتدفق في المقطع الشعري, (السطر الثالث ) وحين يتدفق الماضي شلالا من الأسى (السطر الرابع ) يفتح أبواب ذكريات المتعة مع الأخر (السطر الخامس) وبالرغم من أن هذا السطر، يمكن أن يعد ضمر الانسياب الدلالي العام للقصيدة، إلا أنني سأعده ضمن الوثبات الدلالية فهو يحتمل هذه القراءة أيضا.
وحين يلح الماضي على الشاعرة وتتصاعد في ننسها تداعياته مع الأخر، تحاول أن تمسك خيوطه، وتحنط لحطاته (السطر السادس )، قبل أن يأتي السطر السابع، كدفعة دالية مؤجلة، وشحنة اضافية أخري، وفي السطر الثامن، تخبرنا الشاعرة عن فشلها في الامساك بلحطات الماضي السعيد (الحزين ).
في هذا المقطع الشعري، نجد أن الدفقات الدلالية التي دخلته واستوقفت انسيابه العمودي (الدلالي) تمثلت في الأسطر (الثالث والخامس والسابع ) وهذه الأسطر يمكن أن ترفع مكانيا ودلاليا من المقطع، ويستقيم السياق، بل ان الانسياب الدلالي والتشكيلي تتوضح حلقاته بشكل أكمل بغيابها لذا يمكننا أن نعيد ترتيب المقطع وأسطره على النحو الأتي، دون أن يحدث فيه خلل دلالي وتشكيلي انسيابي:
– يذهب آيار
– تذهب حدائقه
– حينما يأتي الماضي دفعة أسى
– أمسك طرفه، ولا اهتدي
– أفلته
ان الأسطر الثلاثة التي سميناها بالدلالات المؤجلة والشحنات الاضافية التي تقدح بها الشاعرة التشكيل بين لحظة وأخرى تعد محطات للتوليد الدلالي داخل نسيج النص، تبني حولها الشاعرة تراكمات الدلالة على طول الخط العمودي للنص، والحقيقة أن من جماليات نص لينا الطيبي، انه حتى وإن رضي باستقطاع مثل هذه الدلالات إلا ان وجودها أعظم تأثيرا، وأنفع للدهشة الدلالية وحدتها في النفس. واذا ما تأملنا صلاتها ببقية الأسطر، نجد أنها تتداخل وتتفاعل داخل طيات النص، ويشتعل ويتقد بمعانيها البعيدة – فالسطر الثالث – يضيف بدلالته القافزة على السياق، وعلى الدلالة السابقة، حدة في الشوق والحنين للماضي الآفل، الذي خلف عطبا جسديا قبل النفسي. وهذا يحدث في السطر الخامس الذي يزيد الماضي أسى بضجيج السعادة والمتعة المنصرمة مع الأخر، أما السطر السابع فهو قلب الماضي المجمد الذي أرادت الشاعرة أن توقظه باستعارة القبلة النائمة في العروق والدفاتر القديمة، إلا أنها لم تستيقظ فانفلت الماضي، مع الحاضر منها .
ان مثل هذا البناء الذي تعد فيه هذه الأسطر بؤرا للدلالة ومواطن الاستقطاب المثير للدهشة داخل بناء، توظفه الشاعرة في ديوانها بكثافة، تكسر به حدود المألوف من الدلالة وتراتبها الكمي، وتضغط به فضفاض اللغة وحشوها، وهي كثيرا ما تأتي في أعلى درجات الكنانة والشعرية، ويمكن أن تحيا بنفسها حتى خارج السياق . لكن فعلها المؤثر في نسيجا وطياته، ومثال على ذلك ما تقوله الشاعرة :
والرؤيا سلم الدهشة
الخفاء عطر الليل
ان الصور الشعرية لقصائد الديوان، رقيقة الملامح والأطر، هلامية التشكيل، فهي تعتمد على الاستعارات المرهفة الهاربة بالتجريد من الذاكرة، والفائرة في الحياة مثل خيوط وألوان الفسيفساء بل انها أكثر تعقيدا، وزيغا من شاشة العين والذاكرة، ويصبح تجميعها فرحا في التأمل، وكدا في الاستحضار، وهذا هو حصيلة البناء اللغوي الذي تنحو نحوه الشاعرة، فهي تلجأ الى تقطيع النص وليس استرساله، الى تجميع دلالاته المبهرة، وليس الى رصفها رصفا، وتحتمي الصورة داخل أسرار الاستعارات والمعاني المجردة التي يغرق في خضمها النص . والحقيقة أن هذا الميل يشتت أجزاء من الصورة، ويبدد بعضا من ملامحها، إلا أن سيطرة الشاعرة على المتناثر من استعاراتها البعيدة وعلائقها المحسوسة واللامحسوسة، ردم الهوة ما بين المتخيل منها وملامحها النصية
صورتي أعلى من الموجة
ورائحة البحر تخدش حيرة الماء
الملح يأكل قدمي
والسراب يختفي بمجيئي
الانكسار الدلالي
يجد القارئ في شعرية القصائد التي تميل نحو التجريد والغموض اللذين يغلقان نوافذ المعنى، صعوبة في متابعة التقطيع الدلالي فيها، فالمعاني في القصائد لا تقطر داخل نسيه التوكيد بل يجمع نثار المعاني الفائرة هنا وهناك . داخل نسيج من الاستعارات والمجازات المستترة بشفافية التركيب ورهافته وعلائقها التي تربط أركان الاستعارات والمجازات (المشبه والمشبه به )، والذي يزيد من تعقيد دلالات الصور الشعرية، هذه المخيلة الضاربة في أعماق التجريد التي تضفي على اللامحسوس حسية، وتجرد المحسوس، في شبكة من، العلائق الاستعارية داخل الخطاب وتصبح قراءة القصيدة نوعا من التأمل الفلسفي، والغور والكد الذهني، وإنتاج جديد للدلالة وإعادة تشكيل المتخيل منه واستقباله بمخيلة جديدة، وينشغل القارئ بتفكيك شفرة اللغة، ونسيب التركيب، وشبكة الدلالات التي تتحرك داخل منافذ ضيقة، وحدود مرهفة .
تعتمد الشاعرة في انتاج الدلالة، وتوليد المعاني في على السياق العام وظروفه الكلية، وليس على توليد المفردة نفسها في بيئة سياقية محدودة كما يفعل الكثير من الشعراء. ان مجموع المكونات داخل السياق أو السمات الدلالية هي التي تمني المعنى الكل المجزأ والمقطع بضرورة التركيب حيث تتجمع ظلال المعاني والايحاءات والإشارات النابضة، وايقاع الأصوات وجرسها، وهي حين تصاب بين الألفاظ ودلالاتها،تلجأ الى منطق خاص بها في منع الدلالة، يتكرر في ديوانها، ويعد ظاهرة لافتة للقارئ، فهي عندها تلجأ الى ايراد التكافؤ الدلالي، أو المقارنة بين الذات، والأشياء الكونية، فانها تعتمد على نتيجة السبب وما يمكن أن نسميه نتيجة "لان ". التي تتكرر في العشرات في البناء الدلالي، وايراد التكافؤ.
تقول :
لأن الموجة تلوذ بالشاطئ، وتموت
أسوق قدمي الى الهجران
او تقول :
ولأن البحر يحمل موتاه
رأيت زبد السيوف
وفي قصيدة أخرى تقول :
ولأنني ارتقيت السلم
رأيت الجنة
وفي أخرى
ولأن الفوز دائما ضربة مسمومة
أمضي الى البحر
وفي أخرى أيضا
ولأنني رأيت ما رأيت،
أقفلت صوتا على المساء
والحقيقة أن الشاعرة تحت وطأة الخوف من النهايات، ويعتريها الفزع الإنساني من توقف الحياة . ان هذه الفكرة تؤرقها ونجدها اينما نقرأ في الديوان . فهولا تختلف عن موجة (تكثر من الموجة والبحر) تنطفئ على الشاطئ وتذوب بين الصخور، ان هذا المشهد يلح على نفسها فتشد الرحال هي الأخرى مع الموجة المهاجرة كما انها كثيرا ما تعتمد على التضاد الدلالي اللذين يتعايشان معا في ظل ظروف واحدة النسيان والصرخة يعيشان في الحنجرة وفي كلا الحالتين فانها تبدأ من البديهي الفيزيائي في الخارج (خارج الذات ) وتناظره داخل مرآة نفسها بدلالة قد تكون مادية أيضا، أو غير مادية فهي حين تناظر بين دلالتين تنتقل من الدلالة المحسوسة الى الدلالة اللامحسوسة، أو بالعكس، او بالتناوب بينهما، كما في النماذج الأتية :
ولان الملح يموت في البحر
ازرع الترقب في الماء
ولا أحصد
ولأنني رأيت ما رأيت
أقفلت صوتا على المساء
ولأنني ظللت على حافة الوقت أنظره
أجفل بالعراء المتكشف
تأخرت في المجيء
ولأنني حرست هذا الباب، ظللت أقفله
طوقني الألم
التركيب الصوتي والايقاع
تحتمي أغب قصائد الديوان بإيقاع المفردات المنتخبة وتشكيلها الصوتي الخاص، بعد أن فقدت إيقاع الوزن والتفاعيل العروضية وقد ساهم تشكيلها الشعري، وإحساسها بالإيقاع الداخلي في تنظيم الايقاع، وخلق التنغيم في أسطر القصيدة، بالرغم من أن الشاعرة تعتمد في شعريتها على دهشة الدلالة في المقام الأول .
وتد وقفت في بشر سابق عند قصيدة للشاعرة، وأنا أتتبع تحليل طبيعة الايقاع الداخلي، وعلاقته بالتشكيل في قصيدة النثر أو الشعر غير الموزون، عبر أجهزة الرسم الطيفي Oscihomin & Spectroams أما الآن فاقف عند نموذج أخر من قصائدها، وأحل طبيعة الايقاع الداخلي فيه، وعلاقته بتشكيله الشعري وسوف يكون هذا النموذج تأكيدا أخر لنظرتي الجديدة للايقاع الشعري بين الموزون منه وغير الموزون وسوف أوجز الحديث عن مرتكزات الايقاع الداخلي فيها.
لقد أكدت التجارب التي أجريناها حول علاقة الايقاع الداخلي بطبيعة تشكيل الكلام بشكل عام، والتشكيل الشعري بشكل خاص بان التباين في التشكيل الصوتي المقطعي، ونوعية أصواته هو أساس الايقاع الداخلي للشعر، بشقيه الموزون وغير الموزون (قصيدة النثر) كما أكدت التجارب بأن الايقاع الداخلي في الشعر الموزون، يصنعه نوع التشكيل اللغوي، وهو أساس الايقاع الذي نسمعه في الشعر. وان، هذا الايقاع يختلف في النطق، وقراءة الشعر، عن إيقاع الوزن أو البحور الشعرية في الكتابة . ومن البديهي ان يعتمد التشكيل اللغوي والشعري على المبدع نفسه، وقدرته التشكيلية، وحسه الايقاعي في اختيار المفردات، وسبكها داخل نسيج الخطاب، في ظل التيه والضياع الانساني وأمام حيرة الوجود تفقد الشاعرة ملامحها الانسانية وتضيع سماتها الفردية في زحمة الصراع وتنسى ملامح وجهها في ظل الدوار ومرض العصر. تصاهر صوت الأخر، وهي بين مد وجزر الحياة والموت، ولا تنسى صوتها المميز الذي تعرف به .
هذا ما تقوله قصيدة لها، نقتبس مقطعها الأول :
– فقدت وجهي
– صار لي في المرآة شبيه
– وتساقطت ورود مزهريتي..
– ألقني الليل ..
– برقت مثل سيف
– دمي على يدي
– وصوتك صوتي الذي به عرفتني
– الزنبقة في مهب الخيال
– وإن أتساقط أعود الى دميتي
يتشكل الايقاع الداخلي لهذه القصيدة بشكل عام، والمقطع الشعري الذي اعتمدناه هنا نموذجا من طبيعة التشكيل اللغوي وتوزيعه على صفحة الورقة . وقد ساهم انتقاء مفردات النص بعناية فيخلق الايقاع المتميز الذي نسمعه في أثناء القراءة وان مسحا بسيطا لطبيعة تشكيل هذه المقاطع، سوف يكشف تأثيره على مرتكزات الايقاع الداخلي له .
لقد انتهت خمسة أسطر من المقطع الشعري، بكلمات انتهت مقاطعها الصوتية بالمقطع الصوتي المفتوح (الكسرة الطويلة ) في وجهي/ مزهريتي/ ويدي/ وعرفتني/ ودميتي/. وان حسن اختيار مثل هذه المفردات في التشكيل وفي نهاية الاسطر بالذات شكل مرتكزات صوتية في سلم الوضوح السمعيEY Sononity لهذه المقاطع من قيمة فيزيائية سمعية (حزم صوتية Forrnants تؤثر على طبيعة الايقاع الداخلي، وتحافظ على مستوي الوضوح السمعي في نهايات الاسطر، وتبقى الجمل مستقرة تنغيميا ومتناغمة مع بقية الأسطر عبر الجسر الإيقاعي لهذه المرتكزات التي تداخلت وتناوبت في نسيج المقطع الشعري، والشيء الذي ساهم في تأجيج الوضوح السمعي، واقامة جسور الايقاع في كل المقطع الشعري . هو نهايات الأسطر الأخرى وفي المقطع فقد انتهت أيضا بمفردات انتهت مقاطعها الصوتية الأخيرة (نهايات الكلمات ) بأصوات تعد من الأصوات السائلة Liquids Sounds) وهذه الأصوات تشابه الأصوات الصائتة من حيث درجة وضوحها السمعي، وهي (اللام والميم والنون والراء) ونظرة سريعة لنهايات الأسطر الخمسة المتناثرة مع الأسطر السابقة نجد أنها انتهت بالمقاطع الصوتية التالية .
/هن / ل / فن / خيال / وان /
والحقيقة أن مثل هذه المقاطع في نهايات الأسطر، شكلت لحمة الاتصال الايقاعي مع الأسطر الخمسة التي انتهت بالكسرة الطويلة . وحافظت على درجة الوضوح السمعي في الأسطر جميعا . وهذا ما جعل الإيقاع الداخلي ثابتا، ومستقرا في نهاياتها، حيث تعد نهايات الأسطر في القصيدة من أهم مرتكزات الإيقاع في الكلام والشعر، وهذا ما أكدته التجارب المختبرية الحديقة حول إيقاع الشعر ووضوحه السمعي في اللغة الانجليزية والعربية على حد سواء.
إن وجود مثل هذه المرتكزات الصوتية ذات الوضوح العالي في تشكيل الكلمة العربية، يعد من أهم مراكز استقطاب الدلالة فقد ساهمت هذه المرتكزات في استقطاب اسماعنا نحو دلالة هذه المفردات، التي كانت البؤر الدلالية، التي تجمعت حولها معاني النص . لذا كان التفاعل بين مرتكزات الوضوح السمعي في التشكيل الصوتي للنص، فاعلا مع المسار الدلالي للنص بأكمله .
وليس نهايات الأسطر وحدها هي التي ميزت هذا التشكيل الرائع وإيقاعه المستقر، فقد ساهم انتقاء كل مفردة داخل الأسطر فيخلق السلم الايقاعي وانتطامه . إن كل انسجام بدايات الأسطر مع النهايات من حيث الوضوح المسعى، شكل عاملا أخر في هذا الايقاع . والمقيتة ان بداية السطر ونهايته، كثيرا ما تؤخذ بنظر الاعتبار في الدراسات الحديقة، لتقرير قمم الوضوح السمعي المؤثرة في ايقاع الشعر. كما لا نستبعد محتويات السطر الباقية فهي تعكس تموج الايقاع، مع البدايات والنهايات، وعلاقته بالدلالات .. ونظرة فاحصة لبدايات مفردات تلك الأسطر، ونوعية مقاطعها، نجد انها لا تختلف كثيرا عن نوعية مقاطع الكلمات التي انتهت بها الأسطر، فهي تنتمي الى عائلة المقاطع المفتوحة، والتي تشكلها الأصوات الصائتة التي قلنا عنها انها أوضح المقاطع في اللغة العربية وهذا يعني ان سلم الوضوح السمعي ÷ الايقاع ) الذي يتشكل من البداية والنهاية لم يهبط . كما ان النظرة الفاحصة لمحتويات الأسطر من مفردات اللغة، يكشف على انها تتمتع بنفس القدرة السمعية، ومثال على ذلك سطرها.
دمي على يدي
فان التناسب في المقاطع الصوتية داخل السطر. والتوافق التام بين بداية السطر / دمي/ ونهايته / يدي/ من حيث نوعية المقاطع الصوتية المفتوحة، وقوة وضوحها، جعل الايقاع ثابتا ومستقرا ورزينا بمصطلحات الدراسة الحديقة للاصوات والايقاع وعلى امتداد طول السطر، الذي تشكل من ستة مقاطع صوتية مفتوحة هناك ست قمم نسجت تنغيم السطر وإيقاعه ولم تختلف في ارتفاع ايقاعها وانخفاضه، الا قليلا في وسط السطر /على / وهذا الارتفاع كان مفيدا في توضيح الدلالة التي تقوم على الدم المسفوح على اليد .
وخلاصة القول في ايقاع قصيدة الشاعرة لينا الطيبي في ديوانها هذا ان ايقاعها متدفق، وغير مضطرب في أغلب القصائد، وهذا ما كشفته الدراسة، وان سبب هذا التدفق والانسجام في الايقاع هو حرصها الشديد الواعي، أو غير الواعي (الدفين ) في انتقاء المفردات، وتنظيم توافقها داخل النص، كما ان هذه الدراسة للايقاع تؤكد ما ذهبنا اليه من ان النثر يحتوي على ايقاع ذاتي متأت من طبيعة تشكيله . لذا قد يستغني الشاعر عن ايقاع البحور الشعرية اذا امتلك القدرة في تنظيم التشكيل وخلق إيقاع الكلمات في النص .
قاسم البريسم (أكاديمي من العراق يقيم في لندن )