طاهر البكري*
لم ألتق بلوران غسبار إلا نادرا في سوق الشعر بباريس وكان ذلك في كل مرّة بصفة عابرة، نتبادل فيها التحية والسلام في شبه صمت خجول. كان دفؤه ولطفه يمنعاني من الحديث إليه مطوّلا وأنا لم أتعرّف عليه سابقا عندما كنت في تونس كغيري من كتّاب جيلي وقد غادرتها سنة 1976.
بقيت أتابع إصدارات وأخبار الشاعر على مرّ السنين وأقرا ما يكتبه وكانت أشعاره دائما قريبة من نفسي أحبّ عالمها ولغتها السلسة الرقيقة المرهفة. فهي تذهب إلى لبّ الأشياء والعناصر وتغوص فيها. توحي لك بمناظر وأحاسيس هادئة، تلتهم من نورها ما انبثق شعورا عميقا داخليا حميما جميلا: بحر، سماء، شجر، نبات، بين العتمة والضياء. شعره كالصمت البليغ، بعيد عن الافتعال أو التّصنّع، يرتكز على الموادّ والمعادن، يغوص فيها غوصا باطنيا ذاتيا، كمن يحتاج لمعالجة الروح وهو الطبيب الذي يعالج الجسد.
من ديوانه الأول « الحالة الرابعة للمادّة « 1966 مرورا بديوانه «أرض مطلقة « 1972 إلى «باتموس» 2001…تبعث اللحظة الشعرية ميلادا جديدا يرقى بالإنسان إلى الصفاء وحب الحياة.
كل هذا جعلني أتجرأ يوما وأبعث له إلى منزله في سيدي بوسعيد – وأنا حديث العهد بالنشر- بديواني «القلب يرتاد البحار» 1988 قلت لعلّ الشعر يكون أبلغ من الكلام الخاطف، وأنا أقدّر في الرّجل إبداعه وسلوكه ومساهماته في الحركة الأدبية في تونس, بعد أيام ، وصلتني من الشاعر كلمة قصيرة كبيت شعري لا أنسى وقعه وقد تآكلي المنفى والاغتراب ولم أزٍر تونس منذ سنوات طويلة : « لك في بيتي صخرة متى شئت «.
قلب الرجل كشعره يملأه الضياء وسعة الصدر, هكذا أسّس في تونس مجلة « أليف « التي نشرت أعدادها من 1970 إلى 1982 والتي أشرف عليها بمعية زوجته جاكلين داود وكذلك الكاتب صالح القرمادي وثلة من خيرة كتاّب تونس في السبعينات المنتبهين إلى الأدب العالمي الحديث وكانوا يحاولون الخروج عن المدارس العقائدية والحطاب المتعارف, بفضل هذه المجلة تعرّفت وأنا طالب في الجامعة التونسية ثمّ تابعت ذلك على ما كان يترجمه لوران غسبار من شعراء كسفيريس وإليـتيس وكفافي وريلك ولم تتعصب المجلة إلى لغة على حساب أخرى بل نشر فيها العديد من الكتاب والشعراء الفرنسين والتونسيين والعرب على حد السواء. وكم نحن اليوم في حاجة إلى مثل هذه المجلة الأدبية الجيّدة.
وكنت سعيدا في السنوات الأخيرة لقراءة لوران غسبار مترجما إلى العربية بقلم خالد النجار في كتابين « البيت قرب البحر» وأجساد ناهشة» وكذلك ترجم رضا الكافي «باتموس» ولا شكّ انّ هذا يقرب الشاعر من القارئ العربي وهو الصديق لفلسطين وقد خصّص لها كتابين فكان مؤرخا إنسانيا نزيها. تمتزج في أعمال لوران غسبار اللغات والبلدان على حافة الحدود والشعوب لتكوّن جسدا مطلقا يعلو به الشعر إلى سموّ الروح.