صالح لبريني*
تتصف الكتابة بالتفاعل المُتماهِي والانفعال الهادئ بين الكاتب والواقع،فبوساطتها ، يجسد الوعي العميق بالسياق التاريخي والحضاري الراهن ، والانسجام مع أسئلة الذات الحارقة داخل مجتمع متحول مستلب ،يخوض صراعا من أجل تحقيق هويته ، ويمكن عدها أيضا محاولة لاستيعاب واستكناه غور هذه المتغيرات، و تعبيرا عن موقف تجاه الذات والعالم. ولعل هذا ما تعبر عنه رواية ” علبة الأقنعة ” التي تمثل انعطافة في سيرة الروائي محمد رفيق وإضافة نوعية للمتن الروائي المغربي.
فالرواية تشهد على لحظتها التاريخية المُتصادية مع الواقع ، والمتأملة لمسار الإنسان منذ بدايات وجوده على هذه الأرض ، وهي لحظة مفارقة ، مثيرة لأسئلة تعمق مكابدة الذوات السردية المشكلة النواة الرئيسة للحكاية المؤطرة لهذا العمل السردي . فاللحظة التاريخية تنطلق من سؤال البدايات حول محنة الإنسان، منذ خلق العالم، وقذف آدم إلى العالم السفلي، عالم المحن والإحن، الجرائم والخطايا، الحب والحرب، هذا الإنسان الباحث عن كينونته؛ في ظل حكايات تحملها كل شخصية من شخصيات الرواية، الشيء الذي يجعل القارئ يتيه في مسارب السرد الغاوي المحفز للذات المتلقية إلى ولوج متاهات أحداث ووقائع، تسم العوالم المتخيلة التي تقول الوجود بلغة الحكي الاستعاري الممزوجة بإيهامية حقيقة هذه الأحداث. فكل فاعل سردي يبحث عن توازن الروح والجسد، ويحُلُ ” محلا إشكاليا يتذبذب بين الواقع والخيال، والوجود والفناء، والغياب والحضور، والغموض والتجلي في الآن نفسه، بما يجعل العملية السردية برمتها محض بحث أبدي عن الأنا المفقود ” كل هذا يدعونا إلى الولوج إلى مملكة هذا النص المترع بالمفارقات.
(1) علبة البنية الروائية:
توهم الرواية بأنها ذات بنية سردية كلاسيكية؛ تعتمد على النسق التقليدي في الكتابة، وذلك انطلاقا من الاستهلال المعنون بـ”الكتاب” الحمال لأوجه دلالية تحيل إلى فعل القراءة المتسم بالإنصات لمحمول الرسالة. رسالة مواجهة الذات لِأناها، ومن تم دعوة إلى التنقيب عن الآخر في هذه الذات يقول: ” وكلما قرأت الكتاب، نقبت عن الذوات في ذاتك، ثم ألفيتها كالحمأ المسنون، تتناسل أشجارها كمدد البحر ، لا تنفد كلماتها، ولا تستقيم أعوادها” ،وبالتالي أليس الكتابة ، في جوهرها بحث عن الكينونة في كينونة الآخر؟ سؤال يقودنا الدخول إلى العوالم السردية للرواية بغية اكتشاف خصائص البنية السردية، فقارئ النص سيقف على سمة التجديد والابتداع وبموجب ذلك ” أخذت الأشكال الروائية تتنوع وتنتقل من مرحلة تعلم الصنعة إلى مرحلة التشكيل الواعي لوظيفة التقنية الفنية وامتداداتها على المضمونية ، فالأزمنة أصبحت متداخلة ، حلزونية المسار. والصيغ ابتعدت عن اللوحات الاشتمالية (البانورامية) لتتغلغل في التفاصيل والوصف الدقيق. والحوار بدأ يتسع ليشمل مختلف مستويات اللغات الاجتماعية المتعايشة والمتصارعة، ولم يعد السرد قائما على فكرة الإيهام بالواقع من خلال سارد عالم بكل شيء ، لقد تعددت منظورات السرد، مما يسر التقاط التعقيدات والتشابكات القائمة في واقع المجتمع؛ وفي خطاباته واتجاهاته الفكرية والإيديولوجية”(1) فالحكاية تنطوي على سيرة فواعل سردية أسهمت في خلق حياة تتصف بمنعرجات ومنعطفات رهيبة ، مذهلة ومغرية في المصاحبة ، و التي فرضت إيقاعها المتواتر والمتوتر على تلك الفواعل السردية ، محتمة عليها خوض الحياة بكل ما تملك من أقنعة متنوعة تساوقا مع وضعياتها السردية داخل المتن الروائي، لكنها حكاية متشظية وخارجة عن البناء القائم بخلق نسق سردي قادم سمتُه تقويض الجماليات السردية الكلاسيكية؛ باقتراح جماليات سردية مستفيدة من التقنيات الحديثة في السرد، لأن الرواية الحديثة ” لا تقبل مهمة تصوير العالم ومحاكاة خريطته البشرية والتاريخية كما هو، وإنما صارت مهمتها إعادة إنتاجه وترتيبه وتمثيل القيم الثقافية المتناقضة فيه” (2)، إن هذه الخصيصة التمردية التجاوزية تمتلكها هذه الرواية – قيد المناولة – لأنها نجحت في تكسير البناء الروائي المعتاد، إذ نلاحظ أن التشابك السردي –إن صح القول – حاضر بقوة في المحكي العام للرواية، فالأحداث لا تنمو بشكل اطرادي تواتري ،وإنما بمنحى منقلب ومارق عن التسلسل المنطقي، مبدِعة نسقا سرديا خاصا بها ، يقول وجوده السردي انطلاقا من الإبدالات التي تشهدها منظومة القيم الموروثة ، كل هذا يستدعي ” ظهور لون من الكتابة المتجاوزة للقواعد والحدود والقوانين “(3) الروائية، ومن تم سعت الفواعل السردية إلى خلق هويتها السردية وفق زاوية النظر للذات وللعالم ، فبالرغم من أن السارد هو المتحكم في زمام البناء الروائي غير أنه يترك فجوات تمنح القدرة لشخصيات النص للتعبير عما يعتورها من مشاعر وتصورات، عواطف ورؤى وهواجس تضفي على مجريات الأحداث حياة السرد وحيويته. فالقارئ للرواية سيخلص إلى كونها تخرق المألوف في الكتابة الروائية بخلق وجودها الروائي هذا من حافة، ومن حافة ثانية نشير إلى أن عنونة كل فصل من فصول الرواية تسلط الضياء على الفاعل السردي والأحداث والأمكنة والأزمنة ، مما يصبغ الرواية بطابع كلاسيكي موهم ، وهو في جوهره لا يخضع للمنطق البنائي السردي الثابت، بل داخل النص نجد تفاوتا كبيرا بين ما ترغب فيه الشخصيات من تحقيق الأحلام في حياة سردية متقلبة وغير مستكينة لنمطية السرد التقليدي، وهذا إن دل على شيء ،فإنما يدل على كون الروائي محمد رفيق جد واع بأهمية البناء ومتملك لرؤية واضحة لكتابة روائية تستمد وجودها النصي من الواقع والمتخيل .
(2) علبة المتن السردي:
تطرح الرواية قصة مسار حياة رشيد الشخصية المنبثقة من رحم أرض بني عامر، الريف الذي كان اختيارا قدريا لذات ستبحر في خضم منعطف حياة مبصومة بارتجاجات وتحولات في الزمان والمكان ، ومطوقة بفضاء موسوم بلعنة الجغرافيا والتاريخ ، ساعية إلى كشف أسرار الجسد والوجود ، غير أن للمكان نكهة خاصة يقول السارد: ” من هذه البلدة الريفية، أول مكان للأشعار، توفرُ له الأفق دون حاجز، والمأوى والحب والُحُلُم ، فيها المسير يصحُ أفقيا وعموديا، وتختار حكايته ذاتها” ص 133 من هذه الأرض الطيبة رغم ما يطبعها من قساوة إلا أنها تشكل الرحم الأمومي الأول ، حيث عاش داخل أسرة عُرفت بالكفاف والعفاف بعد ضياع الأرض من بالمعطي في الحوز . تعلم وتدرج في سلك التعليم حتى حصوله على شهادة الباكالوريا بمدينة الفقهانية ليلتحق بعد ذلك بجامعة القاضي عياض لمتابعة دراسته العليا بكلية الآداب تخصص التاريخ، إلى حصوله على شهادة الإجازة وهو العاشق للفن والمتيم بالأشعار والتاريخ والجغرافيا، ليعود بعدها إلى بني عامر حالما بالحصول على وظيفة تنقذه من جحيم البطالة ، لكن كل ما يتمناه رشيد لم يدركه لأن رياح الواقع كانت له بالمرصاد، ليلج دوامة فراغ حتم عليه التفكير في الهجرة للتخلص من واقع القحط الساري في كل شبر من هذه الأرض – على حد تعبير السارد- ليخوض تجربة اتسمت بحوادث يشيب لها الولدان وتقشعر لها الأبدان، فاتجه بداية إلى الأراضي الإسبانية ثم الفرنسية والديار الإيطالية، هذه الأخيرة تقمص فيها هوية ألبانية كانت بمثابة البداية لتقمص أقنعة أخرى ، في هذه الرحلات المكوكية التي خاضها نقف عند حجم المعاناة التي تكبدتها الشخصية البطل في مسيرة مليئة بأشواك الإحساس بالضيق والتبرم يقول السارد ” لقد ضاق درعا من التسكع ، والعيش على ما تجود به جيوب الآخرين ، عبر امتهان حرف مؤقتة ، والسرقة أحيانا ” ص56 ، فالوضعية السردية تكشف عن مشاعر اليأس التي وصلتها الذات البطلة والشعور بالفقد والاغتراب ، لكن رحلته باءت بالفشل بعد افتضاح أمره، ليعود من جديد إلى مدينة الناظور، ليبدأ مرحلة جديدة أخرى ، على اعتبار أنه شخصية يلاحقها النحس وسوء الطالع ، لكن هذا الطالع السيء لم يزده إلا إصرارا على إعادة الكرة مرة أخرى ليعبر إسبانيا والذهاب إلى ألمانيا حيث ” سيكون جسده ملاذا لكل الهويات بل والأقنعة ، وبحرا لكل المغامرات” هكذا سنجد البطل رشيد جزائري الهوية ، فتحول رشيد إلى قادر، وبعد أن ضاقت به الحياة توجه سريا إلى أمريكا التي لبس فيها قناع الكردي طالبا اللجوء السياسي يقول البطل: ” أنا هنا من أجل الحق في اللجوء السياسي، بعدما ضاع مني كل شيء ، وقد ركبت من فرنسا وقضيت اثني عشر يوما لأصل إلى نيويورك بحثا عن الحرية” ص 80 ، ليمتهن حرفا عديدة بعد تعرضه للاستنطاق وإطلاق سراحه ، غير أن اللعنات ترافقه إذ وقعت أحداث11 سبتمبر، فغدا في وضعية لا يحسد عليها ونفسية قلقة متوترة وهو القادم من أحراش لا تشي بعلامات الحياة، ليظل تحت رحمة عيون الشرطة مما ولد لديه نوعا من الوسواس القهري، فعاش حالة كارثية يقول السارد: ” الوضع كارثي، القناع الذي اختاره في هويته، محاصر أيضا بهذه الأحداث التي تدور بعيدا عنه، في أقصى مناطق العالم سخونة ، في الشرق الأوسط ” ص96 ، ليعود إلى الوطن بهوية كردية ليتم اعتقاله والدخول في دوامة جديدة ستفضي به إلى العمل مع مكتب للاستخبارات جاسوسا وعينا لها لرصد شبكات تهجير المتطرفين إلى سوريا في بني عامر ، حيث كانت هويته فرنسية برنار، ليخوض، بعد ذلك، تجربة مريرة عاش فيها بين الموت والحياة ، وقاسى من جحيم حرب يموت فيها الأبرياء جزافا على الأراضي الشامية ، ليعود إلى المغرب مثقلا بأعطاب ستزداد حدة جراء تخلي مكتب الاستخبارات عن دوره ، ليغدو أسير عطالة حاول التخلص منها ليعثر عن ذاته غارقا في ليلها الأبدي ، ليخلص إلى ” أن مسألة الانتماء مجرد سراب، بعد التجارب التي عاشها وارتدى خلالها العديد من الأقنعة، وسافر في بحر المغامرات، وكان سندباد زمانه في اختراق جغرافيا الذوات بلا أشرعة صلبة، استلذ اللعبة في بعض الأحيان، ومجها في أحايين أخرى”ص 186،
وعليه فشخصية رشيد تعبر عن ضياع جيل تكبد كل صنوف المعاناة والتهميش في واقع أكثر هشاشة على جميع الصعد ،ولسان لحظته التاريخية والحضارية التي يشهدها العالم في ظل الانهيارات للكيانات وخيبة الأحلام والهزائم العظمى ، و هو نموذج لإنسان هذا العصر المتقنع بأقنعة تختلف باختلاف الوضعيات والحيثيات، وهي أيضا ” تعبير عن إحساس بضياع العالم، بالفقدان والاغتراب وبالمتاهة الضاغطة التي يدرك السارد الجديد أن مسؤوليته في تمثيلها هي من التعقيد والصعوبة ، ما يفرض عليه ارتحالا في الأراضي الجمالية ، ومزجا للأنواع وصهرا للأنساق الثقافية والفكرية المتعددة في ثنايا النص” (4)
كما تبدِع الرواية ، من خلال المتتاليات السردية، خطابا روائيا يستمد وجوده من النهل من المعطى الواقعي الممزوج بالشعور المنصت؛ مع إضفاء طابع تخييلي على الأحداث والشخصيات لأن ” المخيلة والإحساس هما أداتان جوهريتان في التفكير العملي، ومن تم حاجتنا إلى الأدب لنوسع مخيلتنا وشعورنا الأخلاقيين ونحسن بذلك استعدادنا للتفكير العملي” (5)، والتوظيف الأبدع للغات التي تستطيع التعبير عن المجتمع وما يجري فيه من تحولات وإبدالات ، هذه التمظهرات الأسلوبية هي ما يحقق السمات الجمالية والتخييلية للرواية ومن تم يمكن القول إنها رواية تعبر عن ” تجذرها في بنية المجتمع الذي أوجدها ، والتقاطها للتحولات واللحظات المفصلية على صعيد التطور الاجتماعي ” (6) وعن إيمانها العميق بقدرتها على الغوص في قعر المجتمع بوساطة الإنصات لأنين ومكابدات بالمعطي مع الأرض التي تشكل هويته وتاريخه يقول السارد : ( رغم أن هذه الأراضي البورية ، بارت وأضحت لا تأتي بشيء ، بعد أن طالت موجة الجفاف، ورغم ذلك فطعم رائحتها خاص، ولا يعرف قيمتها إلا بالمعطي والفقيه ونفر قليل من القوم ) ص21
فالملفوظ السردي يبرز حقيقة ارتباط الإنسان الوثيق بالأرض، بالرغم من واقع القحط والمحل فإن بالمعطي الخاسر الأرض في الحوز والقادم إلى فضاء بني عامر يعي أن وجوده منبته التراب دون سواه، حتى ولو كان قاسيا عليه. فموضوعة الأرض المنطلق لبناء عالم سردي لعبت دورا مهما في تثوير الأحداث والتأثير على الشخصيات التي تماهت وتفاعلت وانفعلت جراء العشق الباطني الذي تكنه للأرض وإلى جانبه نجد الفقيه بوجرة الهسكوري وفطومة العرافة والشيخ ألطيبي والمقدم علي وشريبة البصاص والحاج المكي وأبي البديع هذه الشخصيات تحمل خطابها المنتمي لبيئة ملوثة وسقيمة بمختلف الأمراض الاجتماعية والسياسية التي ما هي إلا صورة عن واقع مجتمعي مدبوغ بإنتاج الماضي والركون إلى الثابت. في المقابل شكل هذا المناخ حافزا لكل من حميدو وسعيد ورشيد إلى التفكير في مخارج ناجعة لإنقاذ وجودهم من موت محقق ، هكذا نعثر عن حميدو في فضاء مراكش يمتهن مهنة مرشد سياحي الذي ( دخل السياحة من باب التطفل، بعد أن لفظته حياة الدراسة ، واستقر في بيت العطالة ) ص 34 حيث تكبد فيها ويلات مطاردات رجال الأمن السريين ، ثم بعد ذلك سيشتغل عند السيد برنار في رياض العروس ، لكن حادثة كلب ريكُو دفعت به إلى الهروب من هذا الجحيم ، ليجد ذاته محاصرا بفراغ عطالة سببها أزمة السياحة ، ليبحث عن عمل آخر وذلك بفضل صديقه سعيد والمتمثل في اصطياد الأجنبيات ، ليصاب بداء فقدان المناعة ويكون مآله الموت ، ونفس الأمر يمكن التأكيد عليه بخصوص سعيد الذي كان مصيره الالتحاق بالمتطرفين في سوريا بعد حياة مليئة بالحياة، ويظل بين الحياة والموت . فكل شخصية من الشخصيات كان خيارها الهجرة، فرشيد اختار الهجرة إلى الغرب والعودة إلى غروب الشمس، أما حميدو فكانت هجرته إلى الموت نهاية مأساوية، وسعيد بقي شقيا بين فكي ضلال التطرف.
(3) علبة الانفتاح النصي:
لقد تمكنت الرواية من ” تكثيف النصوص والخطابات والأحداث والدلالات الملتصقة برحم البيئة التي تتحرك فيها الشخصيات، والممارسات العفوية والتلقائية التي تنتجها وتودع فيها أسرارها ونظرتها للعالم ” (7) مما أثرى الخطاب الروائي وحقق للرواية الفعالية السردية الناجمة عن الاستثمار العميق للمتخيل الثقافي الشعري والشعبي الذي ” تستحضره الرواية، وتعمل على تكثيف دوره في الإفصاح عن فكر الشخصية الروائية ” (8) وفي هذا الانفتاح على المتون الثقافية المحملة بالمعاني والدلالات الإنسانية والشعبية -على حد قول إدريس الخضراوي- حققت الرواية هويتها الروائية المختلفة والمنحازة إلى الهامش المتجلية ” في اغتراف موضوعاتها من الواقع المعيش وحرصها على تفريد الشخصيات الروائية وتخصيص الفضاء، واستدعاء اللغات التي تنقل أصداء المجتمع إلى داخل الرواية ” (9)
إذ كل ذات من الفواعل السردية تمثل خزانا لقيم الجماعة ومعتقداتها وطرق فهمها – على حد قول أدونيس- وتمتلك ذخيرة معرفية عن واقع متشرذم ، ومقهور يعتاش على الخرافة و الشعوذة والانتعاش داخل منظومة التطرف، وعلى بنية ذهنية خارج الأسئلة والتاريخ، ذوات منذورة لأرض لا تحصد منها غير القساوة والصلافة، سوى اللعنات التي تكالبت بفعل مكر التاريخ والجغرافيا، ومحاصرة بين كماشة فعل سياسي مبتذل حيث الوصولية والزيف السياسي اللسان الناطق بأحوال المجتمع، وهذا دليل على كون الروائي محمد رفيق كانت له القدرة على الحفر عميقا في التاريخ والواقع ” لاستكشاف مجتمع تطاوله تحولات عميقة حيث يبرز الاهتمام بما هو هامشي بوصفه نتاجا لهذا المجتمع ، ولضغط القضايا الكبرى وسحقها للفرد، فهذا الاقتراب من هامش الحياة بجزئياتها وتفاصيلها، يظهر أن الكتابة التي يتعين جديرة باسمها هي تلك التي تمضي بالمتخيل إلى أفق التمثيل الثقافي لأسئلة الجماعة والثقافات التحتية” (10) ، وعلى تقديم عوالم تخييلية تنماز بنوع من الإيغال في الكوامن النفسية لشخصيات تعيش حالة من التمزق والتفتت والانشطار والعذابات ، مما جعل الخطاب الروائي مفعما وطافحا بسحر داخلي يضفي نبرة ذاتية على أفعال وممارسات الشخصيات. كما نشير إلى تميز الرواية بتداخل الأجناس الأدبية في طيات الخطاب، فنجد تداخل الخطاب الصحفي ، من خلال التقارير الصحفية التي كانت يرفعها رشيد إلى الجهات المعنية، والسيرة الذاتية التي تمثلت في سير كل من بالمعطي وحميدو ورشيد وسعيد والبعد السينمائي الحاضر بشكل ملحوظ في بنية النص ، إضافة إلى البعد الشعري الذي استطاع تطويع اللغة وجعلها موسومة بالطابع الاستعاري والحلمي ، ذلك أن المرجعية الشعرية تشكل إطارا جوهريا في صياغة الخطاب الروائي، إذ تحفل الرواية بلغة انزياحية ذات حمولات جمالية ومن الشواهد السردية قول السارد: ” غادرت تارغة البيت، على هدير أصوات تهز البلدة، لا تدري ماذا يقع، قبل أن تصل إلى البيت ، لم تجد من يطفئ فضولها حول هذا الصخب” ص24 ثم ” بقي الحزن يهيم في البيت” ص30، يقول رشيد: ” أول قبلة سرت بين جوانحي كالوداع الأخير للبلد، جاست ديار الجسد، رغم نسل الخيبات هناك، فالذاكرة عادت تراودني عن نفسها، وقدت قميصي من قبل ودبر، وكل أشيائي تطارد هذا الهوس الجديد ” ص 106، مما أسبغ على الرواية أجواء شاعرية تفيض بالغواية والانغماس في عوالمها المتخيلة، إضافة إلى الموروث الشعبي ، من خلال، الأمثال الشعبية الزاخرة بإيحاءات وحاملة لثقافة شعبية مازال مفعولها قائما إلى اليوم .
على سبيل التأويل:
إن رواية “علبة الأقنعة” ما هي إلا لعبة مارسها الروائي ليمرر رسائل جوهرية مبطنة في ثنايا النص ، ذات نبرة انتقادية لواقع تنسج الميثولوجيا خيوطها على الذوات السردية ومن تم على المجتمع ، وتتكلم بحاله ، وذات حفر أنتربولوجي حول ظواهر اجتماعية سائدة داخل بنية مجتمعية مهترئة ومتشظية الشيء الذي يدفعنا إلى القول إن الرواية العميقة هي تلك التي تستطيع أن ترسم ملامح العوالم المهمشة أو السفلية والتعبير عنها بلغة سردية تكشف التنوع والغنى الإنساني . كما نشير إلى أن ” كل رواية هي سيرة ممكنة لذات مؤلفها، فحتى في الحالات التي تكون فيها الكتابة أكثر إمعانا في اللوذ بالخيال الجموح، فإنها لا يمكن إلا أن تتعين ثمرة الخبرة التي عاشها الكاتب، وكابد أهوالها ومغامراتها وخيباتها وآمالها ” (11)
مما يعني أن كل كتابة في جوهرها تمثل تاريخ الذات المؤلِفة غير أنها مطعمة بملح المتخيل والذاكرة، والمشترك الجمعي الذي يربط الذات الكاتبة بالمجتمع كمرجع يتصادى معها، لخلق عوالم سردية هي مزيج بين هذين العنصرين المشكلين عصب الكتابة الإبداعية.
الهوامش:
(1) محمد رفيق: علبة الأقنعة (رواية)، دار فالية للطباعة والنشر والتوزيع، بني ملال ، ط1، 2017.
(2) محمد برادة: أسئلة الرواية، أسئلة النقد، شركة الرابطة، الدار البيضاء، ط1، 1996، ص 58.
(3) عبد الله ابراهيم: السردية العربية الحديثة، الأبنية السردية والدلالية (2)، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت ، لبنان، ط1، 2013، ص198.
(4) أ. عبد الله شطاح: تسريد الذات بين ا سرديات الأمة: تخييل التاريخ وثقافة الذاكرة في الرواية المغربية المعاصرة،إفريقيا الشرق،2017، ص لرواية والسيرة الروائية…المراجع والمتخيل، مجلة عالم الفكر ، العدد 71،( يناير- مارس ) 2017، ص 22.
(5) إدريس الخضراوي: سرديات الأمة: تخييل التاريخ وثقافة الذاكرة في الرواية المغربية المعاصرة، إفريقيا الشرق،2017، ص86.
(6) محمد برادة: الرواية العربية ورهان التجديد، كتاب دبي الثقافية، ع49، مايو 2011، 70.
(7) إدريس الخضراوي: سرديات الأمة: تخييل التاريخ وثقافة الذاكرة في الرواية المغربية المعاصرة، إفريقيا الشرق،2017، ص 234.
(8) ن.م ،ص 271.
(9) ن.م، ص 264.
(10) ن.م ، ص235.
(11) ن.م ، ص 234/235.
(12) ن.م ، ص 224.