«ميديا:
كيف استطاع أن يهجرني أنا!!
أنا التي فعلت كل شيء من أجله!».
«مقطع من مسرحية ميديا»
ميديا وأنا… أو حلم الممثل!
أنا ممثلة مسرحية! في معهد وأكاديمية الفنون الجميلة كنت قد درست المسرح الكلاسيكي القديم، وقد استمرت دراستي سنوات طويلة، وكنت أقوم بأداء بعض الأدوار من المسرح العالمي مثل «انتيجونا» لسوفوكليس، «إلكترا» ليوربيديس، «أوفيليا» و»ديدمونة» لشكسبير، «مس جوليا» سترند برج، «الدُّبّ» تشيخوف، «بلانش» تنسي ويليام، «شن تي» بريخت، وغيرها من الشخصيات القديمة والحديثة التي استطعت أن أقدمها بنجاح كبير.
كان هناك حلم لدى كل ممثلة شابة: أن تلعب دوراً مسرحياً قوياً ومعبراً وتأمل أن تحصل عليه ذات يوم وتؤديه على المسرح. ومن الأدوار التي كنت أحلم بها دور «ميديا»، لكن «ميديا» شخصية مركبة ذات أبعاد يصعب فهمها وتجسيدها بسهولة، وكنت ممثلة شابة في بداياتها الفنية تنقصني التجربة والخبرة لمعرفة شخصية كهذه. «ميديا» مسرحية للكاتب الإغريقي «يوربيدس» كتبها قبل ما يقارب ثلاثة آلاف سنة، تدور أحداثها حول موضوع الخيانة الزوجية، ومدى تأثيرها على المرأة، فعندما يهجر «جاسون» زوجته ميديا وولaديه الصغيرين من أجل الزواج بفتاة أصغر سناً، يرمي بزوجته ميديا في سلة المهملات من أجل زوجته الجديدة، فتقف ميديا هنا وقفة غاضبة لتنتقم منه انتقاماً مروعاً، فتلجأ لقتل ولديهما العزيزين لتريه أشد العذابات قسوة. وقد اعتبرت «ميديا» ذلك الانتقام مجرد تعبير طبيعي من يد قدرية أكثر قسوة منها كان يمكن أن تحول دون موت الصغيرين، لكنها تقول إن ذلك كان خارجاً عن إرادتها، فالقدر هو الذي أجبرها على اتخاذ قرار كهذا.
إن تبرير القتل الذي أعطته «ميديا» لنفسها أرادت أن تعبر به عن كمية العذاب الذي كانت تعانيه من ذلك الزوج الخائن.
«المربية: لا تستطيعين قتل
الثمار التي حملتها في أحشائك.
ميديا: بل أستطيع، إذا ما كان ألم الرجل
الذي اكرهه أعظم!».
من مسرحية «ميديا»
كان من الصعب عليَّ تقديم دور كهذا، ثم إنه على افتراض أنني وافقت آنذاك على أن ألعب دور ميديا، كان يتوجب عليَّ حينها دراسة الشخصية بكل أبعادها، النفسية والاجتماعية، دوافعها، انفعالاتها، تصرفاتها، ولماذا وكيف إلى آخر الحالات والمشاعر التي مرت بها.
في مهنتي كممثلة كنت قد تعلمت دراسة الشخصيات المسرحية بجميع أبعادها، وعندما يُسند إليَّ، أو لأيِّ ممثل، دورٌ معين ينبغي عليه البحث في كيفية فهم ذلك الدور بصورة عميقة كي يستطيع أن يؤديه بشكل مقنع، وأحياناً يذهب الممثل ليراقب بعض الأشخاص من الحياة الواقعية الذين يجمعهم شبه قريب من تلك الشخصية التي سيلعبها على المسرح، ويحاول الاستفادة منها واقعياً لتقربه أكثر من حالة الدور الذي سيقوم بأدائه، وأحياناً أخرى يطلب من الممثل أن يجمع ويخزن كي يعيد ترتيب كل ما يستطيع من معرفة ومعلومات في الحياة، ليفهم الشخصية أكثر ويتبنَّاها ويقوم بتقديمها على المسرح.
لم ألعب دور «ميديا» أبداً؛ كنت أتمنى ذلك، لكنني لم أستطع آنذاك، وذلك لأنني كنت لا أفهم الألم الذي تعانيه المرأة في تلك الحال، وليس لديَّ أي معرفة بعذاباتها، وكيف أن كلمة واحدة يمكن أن تقلب حياتها رأساً على عقب، وتتحول إلى جحيم ومعاناة وأزمات يصعب عليها الخروج منها أو تجاوزها بسهولة.
بعد مرور سنوات تملَّكني الفضول لمعرفة هذه التجربة، فقمت بإعادة قراءة المسرحية، ووجدت أنه من حسن حظي وحظ الجمهور أنني لم ألعب هذا الدور، إذ لم أكن لأفهم ماذا تعني كلمات ميديا، ولا أعرف الآلام والعذابات الذي تعانيها. فكرت في أن أتعرف إلى شخصية ميديا عن قرب، ليس لشيء إلا لأفهم فقط تلك اللغة القوية والحاسمة التي قيلت على لسانها، والتي لم أسمعها تقال على لسان امرأة في حياتي أبداً.
لقد اعتُبِر الكاتب المسرحي الإغريقي «يوربيدس» من أبرز كتاب المسرح الكلاسيكي القديم، نظراً للأعمال المسرحية العظيمة التي قدمها، وبالرغم من أنها أعمال كلاسيكية إلا أنها من أكثر النصوص القديمة تعبيراً عن مشكلات الإنسان المعاصر، فقد اهتم يوربيدس بكتابة معاناة الفرد العادي وهمومه الشخصية أكثر من اهتمامه بالشخصيات الأسطورية القديمة.
وقد اعتبرت نصوصه من النصوص الواقعية، نظراً لاحتوائها على مادة ثرية ونابضة بحياة الواقع اليومي البسيط. وقد كتب يوربيدس أعماله بأسلوب سلس قدم فيه معالجات فائقة الدَّلالة لانفعالات الناس العاديين ومعاناتهم النفسية، وقد ظهر هذا بصورة واضحة في أعماله جميعاً.
احتار المسرحيون المعاصرون في تفسير أعمال يوربيدس، وقامت أكثر المسارح الأوروبية الحديثة بإعادة تلك الأعمال وإعدادها وعرضها بصورة معاصرة، الأمر الذي يدل على أنها أعمال عميقة لا تزال حية إلى زمننا هذا.
من أعمال «يوربيدس» الأخرى مسرحية «الفينيقيات»، ومسرحية «المستجيرات»، ومسرحية «عابدات بوخوس»، وغيرها.
«ميديا:
الخسيس! الجبان، الكلمة الوحيدة
التي أستطيع أن أقولها بحقك،
أيها المراوغ! ستأتي إليَّ،
أنت من دون البشر،
أنت الذي سبَّب لي الألم
أكثرَ من أيِّ شيءٍ في الوجود.
لن أرتاح ويهدأ لي بال إلا إذا ذقتَ طعم
الإهانة والعذاب الذي ذقتُهُ أنا منك!».
من مسرحية «ميديا»
أيُّ عظمة عالية تفوق بها «يوربيدس» بتعبيره عن عذابات المرأة المهجورة! وأيُّ وصف دقيق عبَّر به عن مشاعر الخذلان التي تعانيها! إنه وصف لم يتفوق فيه أحد من المسرحيين حتى الآن.
يظهر تأثير يوربيدس على المسرح الأوربي بشكل ملحوظ، فقد تجاوز تأثيره أيَّ شاعر تراجيدي إغريقي آخر، وقد استلهم منه كثير من الكتاب المسرحيين المعاصرين، وتبعه أجمل الشعراء العالميين، فعلى سبيل المثال تأثر الشاعر الألماني «غوته» بنصوصه المسرحية وكتب «هيلينا» و»إيفيجيني»، وقال عنه مقولته الشهيرة: «إن على المرء استيعاب أعمال يوربيدس بصورة عميقة كي يتعرف ويفهم سر عظمة هذا الكاتب»! كما أن المسرحي الفرنسي الكبير «راسين» استوحى من أفكار يوربيدس عدداً من مسرحياته، منها مسرحية «أندروماك، وفيدرا»، هذا دون أن ننسى الشاعر «بايرون» وعدداً آخر من الكتاب المعاصرين.
والآن، وبعد كل تلك السنوات، حدث أن كنت أقرأ في إحدى الصحف السويدية، فوجدت أن الكاتبة السويدية غودرون، الباحثة في علم الاجتماع، قد كتبت دراسة عن شخصية ميديا بعد أن أدركت أنها شخصية يعيشها كثير من النساء في يومنا هذا، وهذه حقيقة، فهناك «ميديات» شبيهات تماماً بميديا يوربيدس، وقد عشن نفس التجربة التي عاشتها ميديا قبل آلاف السنين، ويحملن نفس مشاعر الألم والعذاب. كتبت غودرون هذا الكتاب عن سلوك البشر بأسلوب بسيط سلس، وهو عبارة عن بحث شامل في شخصية ميديا والنساء المعاصرات الشبيهات بها. بعد أن قرأتُ الكتاب وأعجبني اتصلت بالكاتبة وطرحت عليها فكرة أن أقوم بترجمة الكتاب إلى اللغة العربية، فرحبت وقالت لي إن كتابها قد ترجم إلى عدة لغات أخرى ولم يُترجَم إلى العربية، وأنها ستكون سعيدة إذا فعلتُ هذا؛ أقدم لها الشكر على موافقتها وتعاونها معي.
من الفصل الأول
الهجران
«ميديا:
الحُبُّ الجديدُ يُنْسِي الحُبَّ القديم.
لم يعد يهتمُّ ببيتنا بعد اليوم!».
من مسرحية «ميديا»
عندما يهجر الرجل زوجته فجأة ويتزوج بأخرى فإن المرأة من شدة الصدمة لا تعرف ماذا تفعل، ولا تفهم ما الذي يدور في داخلها من عذابات ومعاناة، يعود هذا الأمر ربما لافتقارها إلى الخبرة وإلى تجربة الهجران، ومن دون وعي منها تشعر بأنها فقدت أشياء كثيرة في حياتها بالغة الأهمية، من ضمنها احترامها لذاتها، ثقتها بنفسها تتزعزع، ولا تعرف ما المعنى الحقيقي لهذا الفقدان المفاجئ الذي بدأ بهجران الزوج لها.. فحين غادر غادرت معه كل الأشياء.
في الهجران يكون إحساس المرأة مزيجاً من الحزن واليأس، وشعوراً بالإهانة والتحقير، وإحساساً بالذنب، وغضباً وكرهاً وانتقاماً وبكاءً لا يتوقف. كل تلك المشاعر التي لدى ميديا وجدتُها لدى نساء اليوم، فميديا تشعر بنفس مشاعر الحزن، والإهانة، ولدى نساء اليوم أيضاً نفس تمنيات ميديا بالموت.
إن أغلب النساء، بعد أن يتجاوزن محنتهن وينهضن من حزنهن، وبعد أن يستعدن احترامهن لذواتهن، يقمن بعدة أعمال لحياتهن الجديدة، وأوَّل شيء تقوم به المرأة هو البحث عن مكان آخر تبدأ فيه حياتها الجديدة. وهكذا، بمساعدة الأصدقاء والمعارف، تضطر إلى المغادرة إلى مكان آخر، وترك بيتها وحياتها، والرحيل بعيداً عن الزوج، وبدء حياة أخرى في مكان آخر. وهذا قدر الميديات جميعاً، تماماً كقدر ميديا يوربيدس التي تركت بيتها ومدينة زوجها وراء ظهرها، بمساعدة والدها الشمس الذي أرسل إليها بدوره العربة الطائرة، فاستطاعت ميديا أن تطير بعيداً عن بلد زوجها، وترك لنا «يوربيدس» الخيال لنتصور ميديا وكيف ستواصل حياتها بعد الطلاق، فهي تنتقل من مدينة «كورينث» إلى مدينة «أثينا»، المدينة التي تقع على مقربة من البحر، لتعيش بحرية وسلام وتقوم بالأعمال التي كانت تتوق أن تعملها يوماً ما في حياتها، وتساعد زوجة الملك في ولادتها، وكذلك نجد أن المرأة اليوم تجد لنفسها عملاً كانت تطمح إلى أن تنجح في القيام به ذات يوم فتبدأ بتحقيقه، وهذا ما تفعله جميع النساء المهجورات.
إن شخصيَّات ميديا وإيفا صديقتي وجارتنا مايا ونساء أخريات، كلهن جعلنني أبدأ بكتابة هذا الكتاب، بل وصمَّمتُ مع نفسي على دراسة هذه التجربة ومقارنتها بتجربة ميديا، وأن أقوم بالبحث عن المعاناة الداخلية المختبئة داخل النساء والعوامل المشتركة بينهن وبين ميديا.
إن النساء اللائي عشن الهجر شيئاً فشيئاً، وعرفن كيف أن حياة الشريك وصلت إلى نهايتها، وبعد أن يكتمن ألمهن ويرحلن بصمت، لسن بحاجة إلى كلمات كثيرة، لأنهن عرفن كيف جرت الأمور وما وصلت إليه، وعرفن أيضاً مشاعرهن، وليس هناك سر بحاجة إلى كشفه، لكن الصعوبة الكبيرة مع هؤلاء النسوة اللائي لا يعرفن شيئاً عما حدث لهن -وذلك لأن مشاعرهن تكون في تلك الفترة بالذات واقعة تحت سيطرة حالة من الذعر- وتراودهنَّ أفكار تهدد حياتهنَّ واستقرارهنَّ النفسي، كل هذه الأشياء تعيق إدراكهنَّ وتمنع الوعي عن الاستيعاب. من المعروف أن الخوف يستهلك طاقة كبيرة من الجسد، وبهذا تصبح المرأة المهجورة بدون طاقة وليس لديها القدرة على عمل أيِّ شيء، ولا حتى كيف تصف مشاعرها وما تشعر به، ولا تعرف كيف تُعبِّر عن ما يحدث لها، ولا حتى بكلمات بسيطة.
لنعد إلى «يوربيدس» ونرى كيف وصف في مسرحيته حالة «ميديا» النفسية ووضعها المتأزم على لسان أمان:
«أمان:
هناك ميديا مستلقية على الأرض،
لا ترفع نظرها إلى فوق، تضغط جبينها
بقوة على الأرض، لا تأكل، لا تشرب،
عذاب، ألم، جسد يرتجف، صامتة
لا تتكلم كحجرةٍ صمَّاء، كالأطرش
لا تسمع نصائح الأصدقاء ومواساتهم لها،
أصبحت كموجة في بحر.
من تلك اللحظة أدركت ميديا أن زوجها قد
خانها، وبدأت دموعها تنهمر أياماً طويلة دون انقطاع».
من مسرحية «ميديا»
بأيِّ كلمة يوصف الشعور بالهجران؟
قد يكون الشعور بالخسران أحد الأوصاف!
– عندما هجرني زوجي بالطبع كانت حالتي سيئة للغاية!
هذا ما قالته جميع النساء دون أن يفهمن شيئاً ممَّا حدث لهنّ.
إن المرء يعيش حالة غير واضحة من الفقدان، إذ يختفي الشعور بالهجران وينتقل إلى الحالة الثانية، وهو الشعور بالخوف، الخوف من كل شيء، إحساس بالهلع من أن يخسر أشياء أكثر وأكثر. ويزيد الهجران الشعور بالأشياء السلبية، وينمو إلى أن يصل إلى حدِّ فقدان الثقة بالنفس وعدم احترام الذات. وفي حالة وجود الزوج قريباً فإن الزوجة يراودها الشك في عدم فهم ما يدور حولها، إذ تصبح مشاعرها في حالة من الارتباك والحيرة، وذلك لأن حقيقة الواقع تقول إن الزوج لا يزال موجوداً هنا، ويكون هذا منافياً للعقل، ولا يتناسب مع مشاعر الفقدان التي تحملها في داخلها بأنه هجرها، وأنه بعيد ولن يعود إليها أبداً.
من النادر أن تعرف المرأة بماذا يفكر زوجُها أو يُخطِّط، وتقول:
– إنه غير متواجد في البيت! لا أراه حاضراً معنا، أراه فقط جالساً يأكل الطعام، أو نائماً على سريره، عدا ذلك لا أشعر بوجوده في البيت أبداً!
بعد الطلاق قالت النساء اللاتي التقيت بهنَّ:
– كنت أتمنى أن أعرف ماذا كان يفعل في غيابه الطويل. كنت أتمنى أن أراه كيف يقضي كل تلك الساعات بعيداً عن البيت! كنت أتمنى أن يساعدني أحد ويقول لي ماذا كانت تُخبِّئ لي الأيام!
إن الحياة مليئة بإشارات التحذير، تغيير صغير في مزاج أو تصرف الزوج قد ينبه المرأة إلى أشياء كثيرة. نحن البشر لدينا مقدرة على الإحساس بالتحذيرات التي تهدد حياتنا ونفهمها سريعاً ونحاول محاربتها والعمل على أن لا تحدث، وبهذا نتجنب خطر وقوعها، بالطبع يكون من السهل على الزوج أن يجد الأعذار الكثيرة عن تأخره وعودته في الليل متأخراً، على سبيل المثال:
– في الطريق ازدحام كثير!
– صديق لي في العمل كانت لديه مشكلة ووقفت أساعده في حلها! أو حادث مروري قطع السير لساعات، وغيرها من الأعذار الأخرى، لكن في حالة تكرار تلك الأعذار وعودة الزوج إلى البيت متأخراً يومياً، أو عودته إلى البيت صامتاً لا يتحدث، أو اختفاء الضحكة من فمه، أو تغيُّر شيء من تصرفه المعتاد، كل هذه إشارات يمكن أن تقوم بتنبيه الزوجة إلى أن هناك شيئاً يحدث في الطريق، لكن هناك نساء يحاولن مواساة أنفسهن بالقول:
– ليس هناك أمر جِدِّيٌّ! إن هذا سينتهي عما قريب وسيعود زوجي كما كان سابقاً!
لكنْ، في نفس الوقت، تشعر المرأة بأنها مهجورة، مهملة، بعد أن كانت معتادة على أن يقول لها زوجها:
– حبيبتي أنا أحبك! تُذهل فجأة من صمته وابتعاده عنها بهذا الشكل المفاجئ.
ترجمة: اثمار عباس
كاتبة من العراق تقيم في عُمان