ينتمي فن المدير النبوي في التراث العربي الى شريحة المناجاة الدينية التي تنج عنها على تعاقب العصور لون من المشاعر الرقيقة الصافية التي تجد في عالم الشعر مناخها المناسب للترعرع والامتداد، وتجد في لغة الشعر المجازية طريقا معبدا يستطيع أن يستوعب الفيض الوجداني الخاص، الذي تضيق عنه عادة لغة النثر بتراكبيها التعبيرية التي تجني الى التحديد. كما تحتاج هذه الفيوض الوجدانية الى الايقاع الذي يكاد يتولد منها تولدا حتميا عندما تهتز النفس بالأشواق السامية من ناحية، ويساعدها على هز النفوس الأخرى والوصول الى أعماقها من خلال الترديد والانشاد الفردي أو الجماعي من ناحية أخرى واذا كان شعر المدير النبوي ينتمي الى شريحة المديح من الناحية التصنيفية الشكلية التي غلب اطلاقها عليه، فإنه ينتمي في معظم نتاجه الى شعر "الرثاء" من ناحية التصنيف الموضوعي، حيث يعني المديح في التصنيف التقليدي "ذكر محاسن الأحياء" على حين يخلف عنه الرثاء كما يقول قدامه بن جعفر بأنه "ذكر محاسن الأصوات " ومن ثم فإن الصيغة الغالبة على قصيدة المدير هي صيغة «المضارع » بكل ما تستدعيه من صيغ «المزامنة » نداء ودعاء ورجاء ومواجهة، على حين أن الصيغة الغالبة على قصيدة الرثاء هي صيغة "الماضي" بكل ما تستدعيه من صيغ،"الاسترجاع " تذكرا وتمثلا واشادة واعتبارا، ومن هنا تكمن المفارقة الواضحة في التسمية التي شاعت في قصائد "رثاء الرسول " واعتبارها قصائد "مديح" باعتبار أن "المرثي" حافر هنا ومائل في القلوب وملك مسيطر عيها يهيمن على مناخ "المضارعة " ولا يسهل إدراجه في تصنيف "الماضي" فهو ممدوح وليس مرثيا، وقد حاول أمير الشعراء أحمد شوقي أن يطور المسطح مرة أخرى حين سمى قصائد المديح النبوي بقصائد الدعاء. إذ يقول في فمزيته المشهورة :
ما جئت بابك مادحا بل داعيا
ومن المديح تضرع ودعاء
ولكن تسمية "المديح" ظلت هي "البردة " الواسعة التي ينضوي تحتها هذا اللون من الغناء الوجداني منذ بردة كعب بن زهير الى مدائح الشعراء المعاصرين. وشعر المدير النبوي ينتمي من ناحية أخرى الى شريحة "الشعر الديني" وان لم يكن من الضروري أن يكون المبدعون المبرزون فيه من الوعاظ والزاهدين، فبردة كعب بن زهير التي مثلت "النموذج المحتذى" في هذا اللون، كتبت في البدء على يدي فال متمرد، دخل أهل عشيرته في الاسلام وأبى هو أن يدخل، بل إنه عاداه وهجا نبيه حتى أحل النبي دمه، ونصحه أخوه "بجير" أن يجد لنفسه مخرجا أو يسيح في فجاج الأرض بعيدا عن الجزيرة العربية، فكانت قصيدته تلك التي كتبها وهو لا يامن أن يمتد به حبل الحياة حتى يلقيها، ولولا أنه جاء ملثما وطب الأمان قبل أن يكشف عن شخصيته ويلقي قصيدته، لطار رأسا بدلا من أن تطير قصيدته شهرة في آفاق الزمان. والتاريخ يدرك كذلك أن زهديات "أبي نواس " كانت أجمل بناء وأبلغ تأثيرا من بكائيات "أبي العتاهية " مع الفارق المعروف بين سلوك الرجلين وانتماءاتهما، فالقدرات الفنية لها مكانتها الواضحة في ايصال الرسالة الشعورية لقصيدة المديح النبوي.
لكن التجربة الدينية إذا أضيفت اليها هذه الطاقات الفنية كانت عامل إثراء هام لقصيدة المدير النبوي.
ومن هذه الزاوية الأخيرة يستطيع تاريخ الشعر العربي في عمان أن يركز على ملمح خاص، يكمن في ذلك التقارب الشديد بين الشعراء والفقهاء، وهو تقارب يجعلهما يكادان يتحدان معا في بض الفترات التاريخية، فعل خلاف كثير من المناطق العربية الأخرى، سادت المنظومات الفقهية "سيادة معلقة " وأصبحت تكاد تشكل لغة "العلم الديني" الذي كان يحل بدوره مكانة "العلم الأساس "، ويكاد أحيانا أن يكون هو "العلم " وحده، ومن هنا برزت ظاهرة الأسئلة والأجوبة المنظومة التي كان بمقتضاها يبرز الطلاب النابهون من خلال مقدرتهم على صياغة "سؤال منظوم " لأساتذتهم في واحدة من القضايا الفقهية على أن يرد الأستاذ عليا بنظم مماثل يتضمن الجواب، ثم تتسع الدائرة فتكون الأسئلة متبادلة بين العلماء نظما، وتشكل هي واجاباتها موسوعات فقهية الى جانب "منظومات المترن " التي تشكلت منها كل أساسيات المعرفة في تاريخ علماء عمان، بما في ذلك علوم "التاريخ " والفلك والطب والتنجيم وعلوم البحار.
كل ذلك جعل الشعراء الفقهاء، أو الفقهاء الشعراء مقومون بدور متشابك حتى إن الأسئلة الفقهية المنظومة بإجاباتها التي تبين حدود الحل والحرمة نظما قد امتد مجالها الى قضايا "الغرام " فكان يوجه لمفتي الغرام سؤال يجيب عنه، كما حدث مع الشاعر أبي مسلم البهلاني، وكان فقيها قاضيا عندما وجه اليه الشيخ سيف بن ناصر الخروصي سؤالا حول حكم "عض وجنتي الحبيب ":
مفتي العصر ما على مستهام
عض تفاح وجنتي الحبيب
فانثنى مغضبا وقال حرام
عض تفاحنا بعين الرقيب
فأجابه:
ما على المستهام إبهذا
وأرى الاثم راجعا للحبيب
هيمان العاشق نوع جنون
ومناط التكليف عند القلوب
مكنوني أعض منه كما شئت
وخلوا بيني وبين الذنوب
إن هذا التشابك الشعري الفقهي يساعد في تلمس مذاق خاص لشعر المدير النبوي لدى الشعراء العمانيين، على قلة ما بقي لنا من انتاجهم الذي ضاع ولا شك جزء كبير منه عبر العصور.
وربما كان الشاعر ناصر بن سالم بن عديم الرواحي المشهور بابي مسلم البهلاني ( 1860 – 1920) نموذجا واضحا لهذا التشابك المعرفي والشعوري سواء عل سترى التكوين الثقافي، أو الانتاج المكتوب شعرا أو نثرا، أو الأداء الوظيفي وشغل المناصب، أو التأثير التعليمي والتثقيفي أو الشعوري لدى الآخرين، ففي كل هذه الجوانب يسب الفصل بين الشاعر فيها والفقيه عند أبي مسلم، وان كان الحس الشعري يعصمه من الوقوع في المزالق التي تحدث نتيجة هذه التشابكات.
فقد كان قاضيا دينيا بارزا، وقد تولى منصب القضاء في زنجبار في عهد السيد حمد بن ثويني، وكان صحفيا نابها أصدر واحدة من أوائل الصحف العربية بعد عصر الطباعة وهي صحيفة «النجاح » التي كانت تصدر في زنجبار، وكان ذد ثقافة دينية تجديدية يتابع كتابات الشيخ محمد عبده، وينقل عنه كثيرا في مؤلفاته الفقهية الكبيرة وف مقدمتها «نثار الجوهر» وهو الى جانب هذا كله وربما قبل هذا كلا كان شاعرا شديد التأثير، تنتقل منظوماته الدينية عبر حلقات الأذكارومجالس الابتهالات فتنعش النفوس والقلوب، كما تنتقل قصائده السياسية على أسنة الرواة سرا وعلانية فيكون لها مفعول قوي في تعبئة الصفوف وتوحيد الكلمة والتمسك بهدف بعيد النظر.
لقد أغرت الناحية الشفوية والترديد الجماعي للشعر الديني من قبل الجماعة التي أحاطت بالشاعر، أغرته أن ينتبى لهذه القلوب الظامئة ماءها الذي ترتوي به، وأن ينتج للأسماع الملهفة تنويعاتها الايقاعية التي تبتعد بها عن الرتابة، في الوقت الذي تظل فيه حائمة حول المحور الأساسي، وفي هذا المجال قدم أبو مسلم جهدا شعريا طيبا حين دأب على التأمل في المعاني الدينية لاستخراج ايقاعات مبتكرة منها، وجانب الصعوبة الفني في مثل هذه المحاولات، يكمن في أن هذه المعاني طرقت من قبل آلاف الشعراء، ويكاد الشاعر للوهلة الأول حين يقترب منها أن يردد قول الشاعر القديم : "ما أرانا نقول إلا معارا" ومع ألك فإن البهلاني استطاع أن يستخرج كثيرا من الايقاعات المبتكرة من هذه المعاني المطروحة.
لقد فصص أبو مسلم ايوانا كاملا يبلغ مائتين وخمسين صفحة للتأمل في
أسماء اته الحسنى والفواتح والخواتم المتصلة بها، وكان تعامله معها من الناحية الفنية في معظم الأحايين تعاملا جيدا.
ولنن بدا أن القصائد التي خصصها للمدير النبوي لا تتجاوز شوين صفحة في ديوانه، فإن كثيرا من قصائد الابتهال الالهي كانت تتضمن فقرات طويلة عن الحب النبوي، باعتباره مدرجا للصعود الى الآفاق العليا بل إن بعض القصائد التي وضعت في باب الالهيات تكاد تكون خالصة للمدير النبوي مثل قصيدة الخاتمة الأخرى التي تبدأ على النحو التالي :
وصل وسلم عد أسرار كل ما
لذاتك من اسم بدا أو بخفية
وصل وسلم عد أسرار جاهها
ومقدارها في الشأن والغظمية
ويستمر في ترديد الجملة الأول "وصل وسلم " في صدر ثلاثه وعشرين بيتا متتالية قبل أن يذكر المصل عليه في البيت الرابع والعشرين :
على المصطفى الهادي اليك محمد
رسولك ختم الرسل خير البرية
هو الجامع الاسماء جمع تحقق
ومشكاة مصباح الصفات الجليلة
ويقوده هذا الانتقال الى تحويل صدور الأبيات من جمل فعلية الى جمل اسمية تبدأ بالضمير «هو» الذي يحتل مكانا خاصا في عالم الذكر والانشاد ويظل الضمير يكرر في صدارة عشرة أبيات متتالية، كلها تثمير ال صفات مدير الرسول حتى يقوده ذلك الى بحر المناجاة الخالصة
والتوسلات التي تعود به الى استخدام الجملة الفعلية وخاصة في صيغة الدعاء حتى تصل الخاتمة الى ذروتها:
توسلت ملتاذا بسلطان قربه
إليك وحسبي أن يكون وسيلتي
ومن يتوسل بالرسول محمد
يلاق المنى من عين كل رغيبة
وعلى هذا النحو تدور القصيدة في أبياتها التي تربو على الستين حول شخصية الرسول (صلى الله عليه وسلم) حتى وان أدرجت في باب الالهيات،وهو منهي يتردد بدرجة أو بأخرى في قصائد عديدة من قصائد الالهيات عند البهلاني.
أما القصائد التي قدمت تحت عنوان "في مدح الرسول بي(صلى الله عليه وسلم) " فهي تغترف الى جانب فيض الشعوري الغاص من تقاليد المدير النبوي الممتدة في التراث الشعري على اختلاف اتجاهاتها.
فهي أحيانا تنزع الى اتجاه صوفي يدور حول فكرة "النور المحمدي" وكونها أصل الوجود وأقدم الأشياء، ومن خلال صلة فكرة النور المحمدي بالوجود تتعدد زوايا النظر اليها في شعر أبي مسلم، فمحمد عنده غوث الوجود، وسر الوجود، ونور الوجود، وروح الوجود"، وأنس الوجود، وأمن الوجود،، وعين الوجود، وعز الوجود…. الخ، وهي كلها صور مجازية روحية
يجد الابداع الشعري الصوفي من خلالها طريقا الى الانطلاق والتجنيح.، وفي قصيدة تقترب من مائتي بيت تزدحم هذه التجليات المتصلة بالنور المحمدي من خلالها:
غوث الوجود أغثني ضاق مصطبري
سر الوجود استلمني من يد الخطر
نور الوجود تداركني فقد عميت
بصيرتي في ظلام العين والاثر
روح الوجود حياتي انها ذهبت
من جهلها بين سمع الكون والبصر
روح الوجود وهي الكرب العظيم وفي
أنفاس روحك،روح المحرج الحصر
أنس الوجود قد قد استوحشت من زللي
وأنت أنسي في وردي وفي صدري
أمن الوجود أجرني من مخاوف ما
أحرزت نفسي منها في حمى الحذر
وهذا المنزع الصوفي يتكرر في قصائد أخرى للبلاني فهو يقول للرسول (صلى الله عليه وسلم) مخاطبا في إحدى قصائده:
أهلا بمن خلق الوجود لأجله
سر الوجود وفاتح الأقفال
أهلا بمغني العالمين بجوده
دنيا وأخرى غنية المفضال
ونستطيع أن نشتم في هذا الاتجاه عند أبي مسلم رائحة شعراء الصوفية الكبار كابن عربي والخلاج والجنيدي والشبلي. أما المفزع الثاني في مدائح البهلاني النبوية، فهو ما يمكن أن يسمى بالمفزع التاريخي السردي، وهو ينتمي أيضا الى تقاليد تراث قصيدة المديح النبوية، ويعتمد على سرد أجزاء من السيرة النبوية، وليس من الضروري في كل الحالات أن تكون هذه السيرة مطابقة للأحداث التاريخية الموثقة، فقد تجنح أحيانا الى ما يمكن أن يسمى بالسيرة الشعبية، وهي السيرة المعتمدة على سرد الكرامات والمعجزات مثل حنين الجذع وبكاء الغزالة وغيرها من الوحدات التي ما تزال تشكل صلب قصيدة المديح النبوي في الآداب الشعبية عند "شاعر الربابة " مثلا، وأحيانا ما يتم المزج بين الرافدين كما جاء في فهزية البوصيري وغيرها من القصائد التي حذت حذوها وأبو مسلم يلجأ ال السرد التاريخي في فنل قوله :
وكان أمينا في قريش محببا
اليها بصدق الوعد قبل النبوة
الى أن أتى جبريل بالحق من لدى
الاله ونال الجهد منه بغطة
فقال له"اقرأ" قال: ما أنا قاريء
فقال له (اقرأ باسم ربك ) وأثبت
وقم وادع وأصدع بالذ جاء في الورى
ولا تبتئس واصبر على كل نكبة
أما المفزع الثالث في قصيدة المدير النبوي عند البهلاني، فهو مفزع "الزخرف البديعي" وهي طريقة تعتب جذورها الأول الى عصر شعراء "البديعيات " وهي أنماط من القصائد، كان يعمد الشعراء فيها الى أن تكون القصيدة مكتوبة في مدح الرسول، ويشتمل كل بيت منها على محسن بديعي، بحيث تكون القصيدة في ذاتها تسجيلا لأنواع المحسنات البديهية كأن تبدأ القصيدة مثلا بقول الشاعر :
"إن جئت "سلعا" فسل عن جيرة الحرام"
فيكون في البيت جناس تام بين «سلعا» و«سل عن » وأبو مسلم البهلاني يلجأ الى نوع فريد من البديع في قصيدته التائية في مديح الرسول، فهو يلجأ الى ترتيب أبيات القصيدة وفقا لتتابع الحروف الهجانية، بمعنى أنه اذا كانت كل أبيات القصيدة تختتم بالتاه بحكم كونها تائية القافية، فإن كل بيت منها يبدأ بحرف من حروف الهجاء ويبدأ تاليه بحرف آخر على نسق تتابعي، المهمزة فالبا، فالتاء فالقاء الخ، وأكثر من هذا يحاول الشاعر أن يشيع في البيت الذي يبدأ بالمهمزة مثلا حروف المهمزة والذي يبدأ بالباء حروف الباء وهكذا.. وتسير بدايات القصيدة على النحو التالي :
أشمس أضاءت أم سنا وجه غرة
وليل سجى أم حالك الضوء أبدت
بريق الثنايا لاح أم برق عارض
فهيج بلبالي وشوقي ولوعتي
تمنيت من دهري أفوز بنظرة
إليها فهل لي أن أفوز بمنيتي
ثبت على صدق الوداد فما انثنت
ولكنها شحت علي بمهجتي
وعلى هذا النحو يستمر توالي الأبيات، فيبدأ الأبيات التالية
بحروف الجيم فالحاء فالخاء فالدال فالذال حتى تكتمل الحروف الثمانية والعشرون فيعود الشاعر من جديد ليبدأ بيتا بحرف الهمزة ويعقبه بيت بحرف
الباء:
اتت نحوه الاملاك من امر ربه
وما كان أمر الله الا رحمة
بطست ملي حكما ونورا فابقرت
عن القلب حتى أفعمته بحكمة
ويستمر على هذا النمط حريصا على أن يشيع في البيت نغمة الحرف المختار، محاولا أن يتخلص من التكلف وان كان يقع فيا أحيانا، ولكن ذلك يقبل في إطار الجهد الكبير للسيطرة على حرف أبجدي واتخاذه مفتاحا لنغمة ايقاعية وترتيلة صوفية في قصيدة مدح نبوية.
ألفيت هذه المداخلة في صالون الخليل بن أحمد الفراهيدي الذي أسسه معالي السيد عبدالله بن حمد البوسعيدي في القاهرة.
أحمد درويش (أستاذ جامعي من مصر يعمل بسلطنة عمان)