لوزان في: 15 يناير 1977
برقية
عزيزي فيلليني
انبهرت، وتحرّكت أعماقي بشكل رهيب، إثر مشاهدتي لفيلمك الرّائد: كازانوفا! إنّه لوحة عظيمة وباذخة، كما أنّه في ذات الآن غوص عميق في دواخل النفس البشريّة، حتى لا أقول إنه تحليل نفسيّ لها.
سيظلّ هذا العمل الفنّي واحدا من بين أهمّ الأعمال الكلاسيكيّة الخالدة.
أقبّلك قبلة مفعمة بمشاعر التقدير والمودّة، وأقول لك إنّي أضع نفسي رهن إشارتك.
سيمونون
15 يناير 1977(1)
برقية
صديقي العظيم،
منهمكا بالردّ على رسالتك الأخيرة المترعة بالتأملات الهادئة والنصح الغالي كنتُ، فإذا ببرقيتك التي تشهد هي الأخرى على عظيم ما تُكنّه لشخصي وعملي الفنّي من محبّة وتقدير وتشجيع، ترد عليّ، وهو ما ملأني ويملأني دوما، بقدر كبير من القوّة والطاقة.
وإلى جانب هذا، أريد كذلك أن أعبّر لك عمّا يجيش بدخيلة نفسي من تحيّر وارتباك طفيفين،لأني أخشى أن تسعى شركة جومون(2) Gaumont، بمعنى من المعاني، الى استعمال علاقة الصّداقة التي تجمع بيننا، فتضايقك بتقديم طلب ما. أتمنى صادقا أن لا يحصل منها هذا.
أتوقع أن أحلّ بزيورخ خلال نهاية هذا الشهر الجاري، أو ربّما خلال مطلع الشهر المقبل، لأتصل بك هاتفيا من هناك، وأبثك مدى السّعادة التي سأحسّ بها ولا شك، وأنا أتهيأ لزيارتك بلوزان.
أقبّلك بحرارة بالغة، يا صديقي وتوأم روحي، ولا أنسى أن أنقل إليك مرّة أخرى شكري العميق على تلك الهدية الثمينة التي توصلت بها منك، وهي مؤلّف «ريح الشمال وريح الجنوب»(3) الذي قرأته مجدّدا في ليلة وصوله ذاتها، بنفس النّهم الجميل والشغف اللذيذ، اللّذيْن قرأت بهما مؤلفاتك، حين كنت فتى يافعا.
إلى اللقاء عمّا قريب. وسلامي ومشاعر مودّتي وتقديري أبعث بها معك الى ثيريز كذلك.
فريديريكو فيلليني
لوزان في 17 يناير 1977
برقية
صديقي الأعزّ والأغلى،
أدركتُ بعد فوات الأوان بأنّي لم أقل حتى نصف ما خطر ببالي، وما فكّرتُ في قوله، في البرقية التي أبرقت بها إليك، يوم السبت المنصرم.
لقد أنجزتَ عملا باذخا وجوهريّا، يتميّز بعمق وفنيّة جماليّة كبيرين.
كلّ شيء في هذا الفيلم عظيم(4)، كلّ شيء فيه صادق، وكلّ شيء فيه يتميّز أيضا بطابعه الإنساني العميق.
لقد واصل الفيلم ـ بتأثيره العميق في نفسي ـ ملاحقته لي يوميّا، ولاشك أنّ هذا سيحدث لملايين الناس من أمثالي.
إلاّ أني سأسعد كثيرا بالتحدث معك عنه، أنت بالذات ـ ما لم يتركنا الخجل الطبيعي فينا، شبه أخرسيْن تقريبا! ـ وذلك ما سيشكّل عندي التكريم الأكبر، الذي أستطيع أن أوفّره لك.
لا تخش أي شيء بخصوص جومون. سأقوم، بعد مراجعتك في الأمر والتعاقد فيه معك، بكلّ ما سيطلبه منّي القائمون على الشركة، وسأكون مسرورا للغاية بتقديم مساهمة ولو بسيطة، في خضمّ ما حققه عملك الفنيّ من انتشار خارق.
صديقي العزيز، بقدر ما أفكّر في أمر هذا الفيلم، بقدر ما يحملني ذلك على الاقتناع بأنّ ما تحقق هو إنجازك لتحفة فنيّة مطلقة.
من غير شك أنك ستشعر بفراغ أعماقك. ذلك أمر طبيعي، خاصة بعد كلّ ما بذلته من جهد مكثف. وإني لأقدّر فيك ذلك، منذ وقت لا يستهان به. وما أزال الى الآن أقدّرك بشكل كبير، وأغبطك شيئا ما، لأنك توصلت الى تحقيق هذا المنجز المتكامل، بجميع المعاني الممكنة للكلمة.
لا يهمّ ما ستطلبه مني شركة جومون.
سأكون على استعداد دائم لإنجاز أي شيء يُطلَب منّي، لكنّ هذا لا يعتمد إلا عليك أنت، أنت وحدك.
أقبلك بكلّ حرارة.
سيمونون
روما في: 24 يناير 1977
صديقي العزيز سيمونون،
أردّ متأخّرا شيئا ما على برقيتك الثانية، لأنّي كنت موزّعا بين الرغبة في المجيء لزيارتك، والخوف من أن تلقي مسألة «كازانوفا، وجومون، و،،، الخ»، بظلالها المربكة والثقيلة وغير المرغوب فيها، على لقائنا.
لكني شعرت في الأخير، بأن صداقتنا يمكنها أن تتحمل مثل هذه المضايقات المعاكسة، لذلك قررت أن أحلّ بلوزان إذن، في الفترة التي تلائمك بشكل أفضل. فأنا سأصل الى زيورخ في نهاية الأسبوع القادم، وعندها سأتصل بك من تلك المدينة عن طريق الهاتف، قبل لقائنا بيومين. فهل توافق؟
أقبّلك بكثير من التعلّق والمحبّة، يا صديقي العزيز والعظيم، ولا أخفيك أني أشعر بقليل من الارتباك الجميل، بسبب قرب رؤيتي لك.
أتمنى لك قضاء أيام هادئة وسعيدة، وإلى أن نلتقي قريبا.
صديقك
فريديريكو فيلليني
لوزان في: 28 يناير 1977
برقية
صديقي العظيم فيلليني،
توصلت الآن برسالتك المؤرخة في 24 من الشهر الجاري، مثلما توصلت كذلك من شركة جومون، وفي نفس اللحظة، بمكالمة هاتفية تخبرني بأنّك قادم يوم الثلاثاء فاتح فبراير.
لكم أشتاق إلى رؤيتك، وسأكون رهن إشارتك ابتداء من يوم الثلاثاء، أو أي يوم تختاره للمجيء الى زيارتي.
أنا كلي لهفة وشوق الى هذا اللقاء.
جومون تلحّ على أن تحضر معنا محرّرة مجلة الإكسبريس، لكنّي لم أعدها بأي شيء، وأترك لك أنت وحدك اتخاذ القرار المناسب.
لك كل محبتي وشوقي، يا عزيزي فيلليني.
وإلى أن نلتقي عما قريب.
جورج سيمونون
[بلا تاريخ]
بطاقة بريديّة
أنا في زيارة عابرة لزيورخ، رفقة الصديق دانييل؛ ومن زيورخ أبعث إليك سلامي الحارّ.
أتمنى أن أحلّ بلوزان منتصف شهر فبراير تقريبا، لألتقي معك، وأشدّ على يديك بحرارة.
بلّغ تحياتي الى ثيريز
سيمونون
1 سبتمبر 1977
صديقي الغالي والأسطوري سيمونون،
أكتب إليك من شيانتشيانو(5) Chianciano ، مثلما سبق لي أن فعلت معك من قبل، حين هجرت فالمونت Valmont بطريقة متسرّعة (وخرقاء بعض الشيء)، لقضاء أيام العطلة في هذه المحطّة التي تعتمد على المعالجة بالمياه المعدنيّة، التي أعتقد أنها لا تختلف عن كافة المحطّات السياحيّة المعتمدة على المعالجة بالمياه المعدنيّة في العالم بأسره، إلا في هذا الخاصية الوحيدة التي تجعل شيانتشيانو تقع بقلب منطقة توسكانيا، وتحاط بقرى وبلدات وقصور وكنائس صغرى وبوادي تسحرنا، وتبتزّ منّا عبثا الأسى والحنين الى حقب وأزمنة، لم نكن نعرفها من قبل أبدا، وإنّما نتخيل روعة العيش أثناءها، وحسب. إنّ بلدي كلّه بهذه الكيفية، نتحسّر دائما فيه على ضياع شيء ما وُجِد من قبل، نعتقد أنه كان أفضل حالا مما هو موجود، الآن.
ماذا أصنع في شيانتشيانو؟ لا شيء. في روما نفسها لم أكن أفعل أي شيء منذ وقت غير يسير، حتى بعد أن اكتريت المكتب المعتاد منذ شهرين، لأوهم نفسي بالانهماك في إعداد فيلمي الجديد. مضى عليّ الآن عام كامل، لم أنجز فيه أيّ شيء! وهذا أمر لم يسبق لي أن عشته، على الإطلاق. فماذا يجري، إذن؟
إليك الوقائع: شغلت نفسي لمدّة شهر بفكرة أني سأرحل، وسأنتقل الى أمريكا، لأنجز فيلما هناك. وداخلني الاعتقاد بأني مستعد تماما لذلك، بل ذهب بي الأمر الى حدّ توديع الأصدقاء، فخالجني على الأخص الانطباع بأني بلغت حدّ الانفصال عن شخصيتي العادية، والإحساس بالاضطراب والتأثر، كمهاجر. وفيما بعد، أدركت يوما بأني لن أرحل أبدا، وأن ما حدث لي لم يكن سوى حصيلة للأجواء الثقيلة التي كانت تسود الحياة الإيطالية، ونتيجة للخوف من نضوب موهبتي، وعدم إيجادي لشيء ما أقوله، خاصة وقد اشتعل شعر رأسي شيبا ـ وعما قريب سيجتاحني الصلع! ـ وأني لهذين السببين، رغبت في تبديل الأجواء، قصد التمكن من تجديد ولادتي بالخارج.
لم أرحل، وإنما وجدتني كمن قرّر تغيير مقرّ إقامته، وهجر شقته المألوفة، فحمل معه كل الأثاث؛ لكن ما أن نزل درجات السلالم، وألفى نفسه على عتبة الباب الرئيسي للعمارة، حتى عضّ على أصابعه؛ فلم يعد يرغب في العودة الى شقته العتيقة، كما أنه صار يخشى في ذات الآن، أن لا يطيب له المقام في محلّ الإقامة الجديد؛ وبذلك، صار يمضي الوقت حائرا وهو لا يدري ماذا عليه أن يصنع بكل ذلك الأثاث، الذي وضعه على قارعة الطريق، بجانب العمارة!
في غضون هذه الفترة المتقلّبة، خربشت ما شاء لي أن أخربش، فأعددتُ بكيفية ترميقيّة ثلاثة مشاريع، أحدها كان قديما جدّا عندي، ظل يسومني العذاب باستمرار، ومن المحتمل أني كنت أخشى من مواجهته، لأني لا أبلغ الحدّ الذي يجعلني أقبض عليه بشكل تام؛ فهو يفتتني، ويخيفني، فظللت أجرّه معي لخمس عشرة سنة، لأنه بدا لي دوما أنه موضوع أكثر راهنية، وأحوج ما يكون على الدوام لأن يطرق… لكني لم أطرقه. إنه مشروع يجمع حوله سلسلة لا تصدق من التعارضات، والتنازعات، والعوائق المباغتة، والخصومات الحانقة، والمحاكمات، والأمراض، وتصدّع العلاقات التي تبدو متينة؛ وقد رأيت من هذا ألوانا الطيف كافة، كلما حاولت أن أعيد الإمساك به بين يدي. ولكم أود أن أتحدث طويلا في يوم ما، من غير مداراة ولا مداهنة، عن هذه المغامرة الإبداعية ـ أو بالأحرى العَيّ الإبداعي! ـ الغريبة، التي خلّفت لدي نزوات متطيّرة، في النهاية.
صديقي العزيز،ألتمس منك الصفح، لما قد تتسبب لك فيه هذه الثرثرة من إزعاج، لكني حتى وإن كنت أميل كثيرا الى التحدث معك في كل شيء، يتعين علي بحق أن أبذل جهدا لاحتواء هذا الفيض المتدفّق من المسارّة التي تبوح بمكنون أسرارها، والحدّ من هذا الإسهاب غير المناسب، ومن التماس النصح. فأنا أعرف بأنك متعوّد دائما على هذا النمط من العلاقة التي تربط بين الآخرين؛ لذا أشعر في قراري بأني مذنب حيالك، بدرجة أقل.
لستُ كلفا ولا مأخوذا بالمشروعيْن الآخرين، ولدي الانطباع بأني لن أفعل سوى تكرار نفسي فيهما، لذلك أود أن أغير كل شيء، سواء الموضوعات، أو الميولات، أو الأساليب، إلا أني لا أعرف ما الذي علي أن أقدّمه للمنتجين الذين أتعامل معهم، لكي أقنعهم بأن يتركوني أنجز أفلاما لا تحمل توقيعي. ستكون هذه أفضل للغاية!
إجمالا، أنا أجتاز خلال هذه اللحظة، فترة تفرّغي المعتاد، وفترة القصف المكثف للأفكار المحبطة والقاصرة. ولكم أجد عنتا ما بعده عنت للتعوّد على أني سأبلغ بعد فترة وجيزة، وجيزة جدا، سنّ الستين، وأني سوف أنقب ولاشك في صفحات حينما كنت عجوزا(6)، لأعيد قراءتها، بحثا فيها عن معلومات ونصائح وتحذيرات، من شأنها أن تكون لي مهمّة في العمق. ويا للألق، والسلوى، ورقّة المصادفات المتصلة بالمخاوف والمفازع والتأملات التي ينطوي عليها كتابك الثمين جدا!
ظللت أعيد وأكرر لنفسي بأنّ أي مشروع، إلا ويكون مساويا لأي مشروع آخر، وقد أقررت بهذا في جرأة، ضمن الحوارات العديدة التي أجريت معي، مضيفا بأنه لا ينبغي أن نضيّع أي ثانية من وقتنا في اختيار الفكرة، أو الموضوع، لأنّ ذلك ليس سوى تعلّة لتحريك الطاقة الإبداعيّة الكامنة فينا، على الدوام… ومع هذا، صارت المسألة عندي في كلّ مرّة مدعاة أكثر فأكثر للخيفة، وغدا الشك والحيرة والتردّد وضربات الحظ المرتجلة، تصيب ذهني بالفتور والوهن.
حينها، فكّرت فيك، وفي الخصب الإبداعي الذي يفوق عندك، ما تحتمله أية طاقة بشرية عادية، وفي الثقة المدهشة التي تفيض عليك، فشعرت بتحسّن حالي، ثمّ أصدرتُ أمرا بأن يجري البحث لي عن مكتب، للشروع في رقصي الأبدي.
ألتمس عذرك يا عزيزي، لتبيّني بأنّ هذه الرسالة منفصمة العرى، ولا يجمع بين أطرافها المتنافرة أي رابط، وكأنها هذيان سكير تعتعه الشّرب، زد على ذلك أنها لا تبرهن عن رغبتي القوية في التعبير عما أكنّه لك من مشاعر المحبة والتقدير والامتنان، بعد طول الصمت الذي حصل من جهتي. على كل حال، سأصمت قريبا، وسأنزل برفقة جولييتا الى النبع في الظهيرة، للارتواء من ماء السّانت إيللّينا، ونحن نتجول وسط الممشى الكبير المحاط بالأشجار، والكأس في يدنا، بينما جوقة نسائية تعزف موسيقى الـﭬـالس. تماما مثل ما وصفته أنت بكيفية بارعة في مؤلفك: ميـكري في محطّة ﭬـيشّي، الذي عثرت على نسخة منه لدى الكُتبي المحلّي، في المساء الذي تزامن مع يوم وصولي الى محطة شيانتشيانو، فقرأته على الفور (أو بالأحرى أعدت قراءته، لكني لم أعد أذكر)، بالمتعة التامة التي أجدها دائما في قراءة مؤلفاتك؛ ودعني أقول لك بكيفية سريعة، بأنه مؤلف جميل ورائع!
إذن، تقبّل شكري الخالص على كل شيء، يا صديقي العزيز. سآتي الى زيورخ في بحر الأسبوع القادم، لأني أريد أن أجري سلسلة من التحليلات الطبية بكانتونال (صحتي بألف خير، وإنما سأفعل ذلك، من غير داع يذكر، اللهم الرغبة في إنفاق المزيد من الوقت)، وسأكون سعيدا بمهاتفتك من هناك، لأبلغك سلامي. تذكّرني مثلما تستحضر ذكريات ثيريز السعيدة. أما أنا فأطبع على خدّك قبلة أخوية حارّة.
فريديريكو فيلليني
مونت ألتشيني في: 3 سبتمبر 1977
عزيزي سيمونون،
ونحن نتجول بالسيارة هنا، بين الوديان المحيطة بمحطة شيانتشيانو، وصلنا اليوم إلى مونت ألتشيني، وهي هضبة أسطورية لا تقل روعة كذلك عما كان عليه حال الأولمب بالنسبة للإغريق، زمن هوميروس. هنا أيضا، ثمّة قدسية: فنبيذ البرونيللو دي مونتاليتشينو شراب مقدّس، بمستطاعه أن ينافس بصورة أفضل، النبيذ الفرنسي الأكثر شهرة.
أكاتبك اللحظة من مكتب صاحبة الضيعة، التي يتم فيها إنتاج النبيذ، وأنا خجل شيئا ما من كثرة الجوائز المحيطة بي، والشواهد المعلّقة على الحيطان، والميداليات، وقصاصات الجرائد المطلّة عليّ من كل ناحية، وصور رؤوس المتوّجة بالأكاليل والتيجان، والقساوسة، وأصحاب الشهرة المعروفين بحبّهم للخمور، والذين ينتمون لجهات الأرض الأربع، وعليها إهداؤهم وعلامات امتنانهم. وبهذا، وجدت نفسي أندفع أنا كذلك، وسط دوامة المبالغة.
لا خبرة لي في أمر النبيذ، بل لا أعرف فيه أي شيء على الإطلاق، لكن هذا البرينللو الذي ارتشفت منه، أمام المنظر المدهش لوادي أورتشيا، بدا لي ممتازا. إلا أنّ جولييتا هي من فكّر في تنصيب سيمونون حكما، في أمر هذا النبيذ. ها هو ذا أبعث به إليك، إذن، لتحكم بنفسك. أملي أن يصلك سالما، وعلى أحسن حال. نرفع الآن كأسيْنا ونحن نتمنى كامل الصحة والسعادة والعافية لصديقينا جورج وثيريز. تشينْ تشينْ!
مع وافر الحب.
فريديريكو فيلليني
لوزان في: 7 سبتمبر 1977
عزيزي فيلليني،
ما يحدث لك عشته أنا حوالي مائتين وثلاثين مرّة، وما زال إلى الآن يحدث لي، كلما انتهيت من تأليف كتاب ما. في البداية، لم أكن أقيم وزنا لقيمة الروايات التي أكتبها، مع أني كنت أبدل قصارى جهدي في تجويدها. لكن، بقدر ما صارت رقعة قرائي تتسع، بقدر ما صرت أشعر بالواجب حيالهم، فبدا لي كل مرّة بأني أدنى من المستوى المطلوب. وما كنت أنتهي من تأليف رواية من الروايات، حتى يداخلني الاعتقاد بأنها سيئة، وهذا يتواصل عندي الى أن أنتهي مرّة أخرى من مراجعتها، لتبدو لي بأنها على العكس من ذلك، جيدة للغاية. فتبدأ حينئذ فترة اضطراب وقلق، أعيشها ستّ مرّات تقريبا، في العام. وكنت أعتقد بأني لن أعثر لروايتي القادمة على موضوع جدير بالكتابة. وفي كل مرة، يخالجني الاعتقاد بأنّ معيني نضب. وكانت هذه الفترة الغير السارة تسترق شهرا أو شهرين، الى أن يأخذ موضوع جديد ما في الاستحواذ علي، ذات يوم.
والحال أن الروائي ليس كالسينمائي، لأنه لا يحتاج كي يؤلّف عمله، سوى الى بعض الأوراق البيضاء وآلة كتابة. بينما السينمائي يلفي نفسه على العكس، في مواجهة عدّة إكراهات، بدء بالرّأسمال الهائل الذي يوضع تحت تصرّفه ليستثمر في عمله، الى غاية اختيار الممثلين المناسبين لأداء الأدوار التي يراهم مناسبين لها، والذين لا يكونون دائما رهن الإشارة،،، الخ.
أشكرك يا عزيزي فيلليني جزيل الشكر على الثقة الكبيرة التي وضعتها فيّ، وأنت تكتب إلي ما كتبته من أسرار وشواغل خاصة، ضمّنتها رسالتك الأخيرة. فما تشعر به ليس خارجا عن العادي، ولا هو يستدعي القلق وانشغال البال. وأرجو أن تغفر لي طريقتي هذه في التحدّث إليك، التي تشبه الى حدّ ما طريقة الطبيب الذي يتحدّث الى مريض من مرضاه.
أشعر من خلال الأسطر التي كتبتها، بأنّك عوض أن تجد نفسك أمام الفراغ، وجدت نفسك على العكس، تحت تأثير عمل فنّي ظلّ يلاحقك منذ زمن بعيد، وبأنك لأسباب عديدة، منها الجيّد ومنها غير ذلك، تتردّد في الشروع فيه، وتقف حائرا أمام مواجهته. كالخوف مثلا من الوقوع في تكرار نفسك. أتعتقد أني كلما تعاطيت الى الكتابة، لا أعاني من نفس مشاعر الخوف، لاسيما أن ذاكرتي ليست على ما يرام، كما أني لا أجد في نفسي الشجاعة اللازمة، لأعيد قراءة ما سبق لي أن كتبته؟
لسوف ترى بنفسك، بأنك ستستيقظ ذات يوم وصبر نافذ، وأنت لا تطيق الإبطاء دون الارتماء في لجة الإبداع، من دون تفكير في أي شيء، عدا التركيز على فيلمك الجديد. وانطلاقا من هذه اللحظة بالذات، لن تعاني من القلق ولا من التردّد أو الحيرة، أبدا. إذ بمجرد ما أن ترسخ الجملة الأولى من سيناريوك على الورقة البيضاء، حتى تجد نفسك تسبح (مثلما يقال بالعاميّة)، وأنت مندفع بنشاط وحيوية نحو الأمام.
أما بالنسبة للتضجّر، فأنا كذلك أعاني منه، خاصة قبل الشروع في العمل. أضع الأدوات الضرورية للكتابة في محلها المناسب، وأراقب موقع كل شيء على حدة، وكأني بهلوان من بهلوانات السيرك، الذين يتحققون من كافة الحبال والأجهزة التي تتوقف عليها سلامة حياتهم.
أتضجر من وضع إبريق الشاي في الناحية غير المخصصة لها، فأضعه فيها بشكل تام، وأحرص على أن تكون غلاييني الستة طوع يدي، وأن،،، الخ.
في الواقع، أنت منذ عام يا عزيزي فيلليني، تعيش حالة المرأة الحامل التي تتساءل هل سيتحقق لها أن تنجب ولدا بحق وحقيقة، أم لا.
حدثتني عن حينما صرت عجوزا. أتعلم أني كتبت ذلك الكتاب، حين كنت بالضبط في مثل سنّك، اليوم؟ حينها، ظننت أني انتهيت. ثم أدركت فيما بعد، بأني بدأت أصير شابّا من جديد. وبعدها بخمس عشرة سنة استمرّ شبابي. لكن ما جعل مسارّتي صعبة، وفرض علي الغشّ نسبيا في تأليف ذلك النصّ، هو أن زوجتي التي سأضطر الى الانفصال عنها بعد سنتين، أو ثلاث سنوات قبل صدور الكتاب، كانت تقرأ دفاتري يوميا، لحظة بلحظة. وكانت تبحث فيها عن الدور الذي أفرده لها فيه، خاصة أنها كانت على استعداد للشعور بالإهانة، لو أني قصّرت في حقها، ولم أمنحها الدور الجميل الذي ظلت تنتظره. لهذا انتظرت ما يقارب عقدا من الزمن، قبل نشر ذلك الكتاب.
كم من مؤلفات أخرى تلته؟ إنها الجزء الذي أعتبره الأهم، في مجمل تآليفي. وقد أمليت هناك في ﭬـالمونت، حيث قضيت ما يقارب شهرين، مؤلفين ضخمين من مؤلفاتي.
قال لي موريس شوﭬالييه بأنه ظلّ يحسّ على امتداد حياته المهنية الطويلة والناجحة، في كلّ مرّة كان يدخل فيها الخشبة بالتهيّب من الجمهور، الى حدّ الذي الرغبة في التقيؤ. وأضاف: ضعاف الموهبة هم الذين لا يعرفون فقط، هذا التهيّب بالذات!
أنا متأكّد من أنّك لن تتأخر في العودة مرة أخرى الى إيقاعك الإبداعي. إنه حياتك، وقدرك، وأكاد أقول: إنه واجبك!
إذن، هيّا الى العمل، من غير كوابح!
أقبّلك، مثلما أقبّل من خلالك جولييتا أيضا، وأنتظر سماع صوتك عبر الهاتف.
سيمونون
على سبيل الإشارة:
أظن أني أفلحت في الاحتياط، بجعل هذه الرسالة تصلك بزيورخ، على عنوان صديقنا المشترك كييل، بعد أن لم أعد أعرف أين ينبغي البعث بها إليك.
روما في: 20 دجنبر 1978
صديقي العزيز سيمونون،
كم مرّة تحرّكت رغبتي في الكتابة إليك، كي أختلي بك قليلا، لأبثك بعض ما يختلج في الصدر، وأدردش برفقتك؟ لكنّ المواظبة على قراءة يومياتك (وهي اليوميات التي اقتنيتها من بروكسل، حيث عثرت عليها هناك كاملة.. على الأقل، الى غاية الجزء الذي نشر منها لحدّ الآن، ويحمل عنوان: ما دمتُ حيا.. فهل هذا هو آخر ما نشر منها، أم هناك ما هو أجدّ منها؟)… أقول: لكنّ قراءة يومياتك بانتظام ومواظبة، والاطلاع من خلالها على ما تقوم به يوميا، ومعرفة ما تقوله، وما تفكّر فيه يوما بيوم، كلّ ذلك أعطاني الانطباع بأني أتواجد دوما برفقتك، وأتبادل معك الانطباعات باستمرار، وكذلك الأسرار، والتعاليق، مثلما نقوم بذلك مع الصديق الذي نلتقي به كلّ يوم.
شكرا على برقيتك المفعمة بفيض المشاعر، وعلى أمانيك كذلك، واسمح لي بأن أقدّم لك أنا أيضا، أمنيات أخرى تعادل ما تمنيته لي، أنت وثيريز ولأبنائكما.
وأنا؟ ماذا فعلت خلال كل هذه المدة الطويلة؟
لقد أنجزت فيلما بعنوان: بروفة الأوركسترا Prova d’orchestra؛ وأودّ أن أحكي لك عن أجواء الحيرة، والارتباك، والمحاولات، والجهود التي بذلتها إحدى المجموعات الموسيقية، لتصل في النهاية الى تحقيق هذه اللحظة الباذخة من الانسجام، الذي تجسّد في تعبيرها الموسيقي.
بالطبع، مع الموسيقيين ثمّة رئيس الجوقة الذي يكتشف، ضمن الجدلية الصعبة لهذه العلاقة، بأنّ الهدف المشترك من عزف الموسيقى قد تمّ قتله، وتجاهله، وحيد عنه، وتُرك جانبا.
في هذا الفيلم القصير، هناك بالطبع أشياء أخرى تجري. لكن، ما بدا لي أني لم أقدّمه فيه، ولم يكن في نيتي بالمطلق أن أقدّمه فيه، هو الدلالات والأفكار، وما يسمّى بعلم الرموز Symbologie الذي يستثير هذه الأيام، سجالا حامي الوطيس، يزيد من شرارته بعض رجالات السياسة، وبعض الوزراء والصحافيين والسوسيولوجيين والنقابيين، بل وحتى الباطرونا (أرباب المال والأعمال)، وربّما سيزيده جذوة فيما بعد رجال الـ(7)ـSME أيضا!… ضجّة عارمة لم أكن مهيئا لها من قبل، تبلبلني وتخجلني الى حدّ أني انتهيت الى النأي بنفسي عن الكلّ، ودفن ذاتي من جديد هنا في السّينيتسيتّا(8)، حيث انخرطت في الإعداد لفيلم بعنوان: مدينة النساء، وهو الفيلم الذي كان إعداده يجري منذ السنة المنصرمة، فتوقف خلال فترة أعياد الميلاد تحديدا.
أحاول دون كبير طاقة ولا حماس، أن أباشر العمل في هذا الفيلم، من جديد. يا لغرابة هذا الفيلم! أو بالأحرى: ما أغرب ما يحدث لي معه! إنها المرة الأولى التي أشعر فيها بالخمول الشامل، والفراغ الرهيب، وكأني غريب عن هذا المشروع، الذي يتعين علي إنجازه. فالفيلم بدوره لا يتوقف عن الظهور لي بمظهر غير المبالي ولا المكترث هو الآخر، وكأنه يغلق على نفسه في كثافته السميكة. كلّ منا يبادل الآخر الازدراء والاحتقار، ونتجنب أن يقع اللقاء بيننا. وفي انتظار حدوث هذا، يتمّ الاشتغال في الأستوديو على ترتيب الديكور يوما بعد يوم، وينهمك المساعدون المساعدين لي في إعداد ما ينبغي إعداده بحماسهم المعهود، بينما ينتابني أنا باستمرار الشعور بأني منخرط في شيء لا يتصل بي أبدا، بنفسية تسكنها طمأنينة غير مسؤولة عن أي شيء، مثل الذي ينجز شغلا لفائدة شخص آخر غيره، شخص آخر سيتولى ترتيب كل شيء حين يصل، وربما سيتخذ قرار عدم إنجاز الفيلم بالمرة، بكيفية مستعجلة؛ هذا في كل الأحوال هو ما أتمناه، وأنتظره!
ومهما يكن، فالشعور الوحيد الذي أعتقد أني أحسه حيال هذه الحكاية، هو أني متطلّع بفضول كبير الى ما ستؤول إليه، ومن ذا الذي سينجز الفيلم. أما أنا، فيقينا لست بذلك الذي سينجزه.
سأتوقف عند هذا الحد، دون رغبة في إزعاجك بزيادة بشكواي ونحيبي المعتادين.
أتمنى لك أعياد ميلاد سعيدة، أما أنا وجولييتا فوقع تفكيرنا على قضاء بعض الأيام لدى أسرة آل كييل، بزيورخ.
وبهذه المناسبة، سنأتي لزيارتك، وقضاء القليل من الوقت برفقتك، إذا كان هذا سيروق لك.
بلّغ تحياتي الحارّة الى ثيريز.
أقبّلك بحرارة، يا صديقي العزيز والأبدي.
المخلص
فريديريكو فيلليني
لوزان في: 8 يناير 1979
عزيز فيلليني العظيم،
أنا دائما أقرأ رسائلك بمتعة ما فوقها متعة، حتى ولو أن الطائرة التي من المفترض أن تصل بها مباشرة الى سويسرا، ما دمت أرسلتها عبر البريد الجوي، اختارت أن تعرّج بها الى القطب الشمالي أولا، قبل أن توصلها الى هنا. ما جعلني بالفعل أشعر قليلا بالخوف، هو أني خشيت أن تكون جئتَ الى سويسرا، وأكون أنا فوّتت فرصة رؤيتك عني، لأني لم أرد عليك في حينه، بسبب تأخر وصول رسالتك!
أتعلم بأنّ أضمومة رسائلك والحوارات التي أجريت معك، من شأنها ـ حين تُجمع كاملة ـ أن تسمح للدارس بإنجاز دراسة تحليلية عن نفسية المبدع الحقيقي، الذي تقدّم أنت ـ إن صحّ هذا التعبير ـ نموذجا أصليا وأصيلا له.
فقد فوجئت على سبيل المثال بالصدى، الذي خلّفه فيلمك الأخير في مختلف المحافل، وبالكمّ الهائل من الملاحظات والتأملات التي ساهم في إفرازها. إن بمقدور المرء أن يقول الشيء نفسه عن بقية أفلامك كافة، لأني مقتنع بأنها تنطوي جميعها عن عدّة دلالات، قد لا تدركها أنت نفسك!
إنّ هذا بالضبط هو ما يميّز روح المبدع. وأعتقد أني ذكرت لك هذا من قبل، حين قلت إنك تبدع انطلاقا من منطقة ما فوق الوعي، وأنك حين تشعر بالفراغ بعد كل عملية إبداع، مثل حالك الآن، فإنّ هذا إنما يعني على العكس، بأنّ الاشتغال الإبداعي الحقيقي قد حصل معك وقتها، انطلاقا من أعماق الأعماق. وبهذه الكيفية، تكون قد أبدعت ـ وما زلت تبدع ـ عالما سينمائيا ما ينفكّ يدهشك، أنت أولا!
دائما ما أعتقد بأنّ الإبداع هو مسألة لاواعية، وأن هذا هو ما يميزه عن بقية الأعمال الذهنية الأخرى، التي يتم تمثلها عن طريق العقل وحده، وبالممارسة الحاذقة.
وإني لأنتظر إذن، وأنا واثق بقدراتك، أن أسمع خبر ولادة عملك الجديد. سأكون حينها سعيدا لرؤيته، والتحدث معك بشأنه.
اقتسم مع جولييتا مشاعر محبتي الثابتة والخالصة والواثقة.
جورج سيمونون
على سبيل الإشارة:
أبعث إليك رفقته، بلائحة تضمّ مجموع المؤلفات التي أمليتها، بما فيها تلك التي صدرت من قبل، وتلك التي تنتظر طريقها الى النشر.
روما في: 22 يوليو 1979
عزيزي سيمونون،
منذ مدّة طويلة وأنا أشعر بالحاجة الى التحدث معك، لكني كبحت هذه الحاجة بدافع الخوف، أو بالأحرى بما تحصّل لدي من قناعة، أثبتت لي بأني لن أزيدك، حين أحدثك عن فيلمي الجديد، سوى ضجر وحزن على ضجر وحزن، بفعل عادتي المسكونة بالبوح المتذمّر من كلّ شيء، والنواح الصبياني؛ ولهذا، أرجأت ذلك إلى حين، في انتظار أن تخيّم على مشاعري لحظات السكينة، ليهدأ مزاجي أثناءها، ويروق صفاء، ولأكون عندئذ قادرا على الكتابة.
فإذا برسالتك القصيرة تطلّ علي بكيفية عجيبة في اللحظة المناسبة، خاصّة أنها كانت لعذوبة المفاجأة، لحظة لم أنتظرها فيها. وهذه ثالث مرّة يحدث لي هذا معك، يا صديقي العزيز؛ لذا، أخشى بحق أن أصير مدللا، وأن يوشك هذا التزامن (أنا في ذروة أزمتي، وسيمونون يكاتبني) أن يصير ضرورة لا مناص منها، فلا أقدر على الانفكاك منها، ولا تجاوزها بالكل. لذلك، تصوّرتني أخوض في التضرّع إليك، ملتمسا منك أن تباعد بين هذه المواقيت السارّة، كي لا أسقط في مطبّ الحاجة إليها. لكن، هيهات! لأني بالنظر الى ما ذكرتَه في رسالتك الأخيرة، أدركت بدهشة كبيرة (جعلتني أتأثر تارة، وأخجل شيئا ما أخرى)، بأنّك حتى ولو لم تنهمك في الكتابة إلي، يحصل لك أن تفكّر فيّ، وفي عملي، وفي الأفلام التي أنكبّ على إنجازها.
صديقي الأعز، طريقتك الرقيقة التي كشفت لي من خلالها، بأنّك تفكّر فيّ على الدّوام غمرتني بالسعادة، وملأت أعماقي بالطمأنينة، وأكّدت لي بأنّ بيننا تواطؤا سرّيا، وتشاركا روحيّا قويّا. وسيكفيني من الآن فصاعدا، أن أتخيّلك وسط حجرتك الصغيرة الوردية بلوزان، أو تحت الشجرة الضخمة في الحديقة، كي أشعر بأنك فجأة هنا، برفقتي، تشدّ على كتفي، وتؤازرني، وتمنحني الطاقة والنشاط. تماما مثلما تفعل رسائلك، وكما يحدث معي في هذه اللحظة بالذات، التي انغمست أثناءها في خضم هذا الفيلم الثقيل جدّا على النفس، والمحبط، والمظلم، والعدواني. ها أنذا أعود من جديد، وأدرك هذا، للعب دور الضحية، وبث الشكوى. ومع ذلك، فهذا كله صحيح: إنها المرّة الأولى التي يحدث لي فيها الشعور بحالة السأم والقلق النفسيين، وأنا منكب على إنجاز فيلم. ويبدو أن هذه الحالة تكبس علي نفسيا وفسيولوجيا، تقريبا: زد على ذلك أني لم أعد، منذ شهور وشهور (إلا أني أردّد في داخلي بأنّ هذا يمكنه أن يكون دام سنوات طويلة، أو هو هكذا منذ الأزل!)، أتذوق طعم النوم في الليل إلا لماما، وبالضبط لثلاث ساعات أو أربع وحسب، وهو نوم مثقل ومنهك بفعل آثار الأقراص المنوّمة، ويُشبّه لي أنه أقرب الى ضربات الهراوة التي تهوي على الأعصاب، فتدوّخني، ويزيد ذلك من درجة إنهاكي. وفي انتظار أن تُفرَج، أواصل التردّد يوميا على السينيسيتّا، لتصوير مشهد وراء الآخر، والإشراف على الممثلين، وتصحيح وضع ديكور معين، والتعديل من هيئة لباس أو بذلة، وأنا أكدّس شرائط الفيلم دون توضيب، وكأنه حجرة ينبغي ملأها، بينما أتحرّك ـ وأنا مسرنم ـ وسط الظلمة الساطعة والمهددة، التي تشبه ظلمة غور منجمي عميق. أجل، ثمة الكثير والكثير، ثم الكثير والكثير من النساء، بل ليس ثمة غير النساء في هذا الفيلم، لكنّهنّ في هذا الفيلم الذي لا أشعر حياله بشعور خاص، ولا أحبّه؛ وإذن، وقع التشويش على المتعة والمرح اللذين عادة ما يرتبطان بالنساء، ويتصلان بقربهنّ، ففسد الأمر، وضعف مقدار المتعة والمرح أكثر، أو أن المرح والمتعة غرقا بسرعة في خضم تأملاتي السوداوية، التي أردّد فيها بأنّ هذا الفيلم، كان عليّ القيام به قبل هذا الوقت بعشر سنوات، وبأني بعد عشرين سنة قد ينبغي إنجازه مرة أخرى،،، وأحيانا، أشعر بأني أتموّج حقا لانعدام الجاذبية، وهذا ما يتسبب لي في دوخة خفيفة، وفي الشعور المحرج بالغثيان. وإليك بالمقابل ما أفكّر فيه بالتوازي، فيبهجني. أقول: سيكون الأمر ممتعا وجميلا، لو أن صديقي سيمونون تواجد معي في هذا المكان، لنكون معا برفقة بعضنا، نحن الاثنين، وسط هذا الكمّ الهائل من النساء! لكم سيكون الأمر جميلا لو أن هذه الفكرة تحققت! ربما بهذا أنجح في مواصلة الفيلم، وذهني قد خفّت حدّة انشغاله، بشكل كبير…
أتوقف الآن عند هذا الحدّ، لأني أدركت بأني أبالغ، وأني أجحد بما يحققه لي عملي الفني، الذي هو طريقة العيش الوحيدة التي أحذق ممارستها. لكن، صحيح جدا أني هذه المرة بالذات، مغتمّ وحزين بحق وحقيقة.
اسمح لي يا صديقي الأعز بأن أطبع على خدّك قبلة، بقلب أفعمه الامتنان، وبوجدان تعمّقت بداخله مشاعر الصداقة الأخوية، ولا تنس أن تبلّغ سلامي كذلك الى السيدة ثيريز.
كان بودّ جولييتا أن تكاتبك، لكنها لم تقرّر البتة تنفيذ ذلك، بسبب الخجل الذي يساورها، فطلبت مني أن أبلغكما معا سلامها.
المخلص
فريديريكو فيلليني
20 سبتمبر 1979
عزيزي فيلليني،
لن تكون لك الأمور سهلة، ولا متيسّرة أبدا. وأعتقد بأن ما من مبدع كبير من الذين نطلق عليهم صفة العباقرة، كان يشتغل في ظرفية تملأها الغبطة والسرور التامان. وإنّ ممّا صدمني مثلا، أني لم أر صورة من صور مايكل أنجلو قط، ولا ليوناردو دافنشي، ولا رامبراندت، ولا فان غوغ، يظهر فيها أحد هؤلاء بأسارير منبسطة وهو يبتسم، أو حتى وهو هادئ وحسب. لقد تصوّرت، حينما كنت في سنّ الشباب، بأنّ الكُتاب ينشؤون مؤلفاتهم في أجواء مشبعة بالغبطة والمسرّة والرسّامين ينخرطون في شؤونهم الفنّية، وهم يوقعون لحنا خفيفا بالصّفير، أو يحكون قصصا جميلة لبعض أصدقائهم. لكني أدركت فيما بعد، بأنّ الأمور لا تكون كذلك إلا لأهل الصّنعة والرداءة، لا لأصحاب الفنّ الحقيقي!
إنّ السير على هذا الدّرب ـ مثلما عرفت دائما، حتى لا أقول مثلما تعرف منذ زمن بعيد ـ هو شأن صعب، فكلّما تقدّمت على أرضه الوعرة، كلما واجهتك الحواجز الكثيرة، التي ينبغي عليك تحدّيها والانتصار عليها، لإنجاز فيلم من أفلامك. وهذه المرّة، أمامك ما يكفي من الحواجز. فقد بلغني في حينه، نعي الملحّن الموسيقي الذي ربطتك به أواصر المودّة والتفاهم القوية والحقيقية. ولم يكن هذا الموت سوى المشكلة الأولى، التي تعدّ في ذاتها عصيّة عن الحل سلفا، ناهيك عن أخريات! إذ تلاها موت أحد الممثليْن اللذين تلاحم مصيرهما في الفيلم، مع مصير مائة الى مائتي امرأة، بينما الفيلم لم ينته بعد؛ وقد اعتقد البعض، على إثر هذه الرجّة الأليمة، بأنك ستتخلى عن العمل!
بالنسبة إلي، أنا مقتنع بالعكس. ومتأكّد من أن هذه الصعوبات المتعدّدة، عوض أن تحبطك، سترجّك وتمنحك أكثر مما مضى، إرادة تدفع بك الى المضي قدما الى الأمام، حتى النهاية. ولو أني كنت أراهن بالمال، لراهنت بالكثير على أن هذا الفيلم سيكون أحسن أفلامك، وأنك ستتجاوز فيه نفسك، وستتحدّاها، حتى وإن بدا هذا مستحيلا.
في غضون الأسابيع الماضية، خطرت ببالي كثيرا، فشعرت ـ مثل دأبي دوما ـ بأنك قريب مني، وبأني أمشي على رؤوس أصابعي حتى لا أزعجك، وأنت منهمك في عملك.
لن أقول لك «أتمنى لك الشجاعة والصبر لمواجهة هذه المواقف الطارئة!»، لأني على علم تام بأنك تملكهما، أو ستملكهما.
ثق في صداقتي الأخوية المتينة يا عزيزي فيلليني، ولا تنس أن تبلغ تحياتي الى جولييتا، وأن تقول لها بأن عليها أن تتحدّى الخجل.
المخلص العجوز
جورج سيمونون
روما في: 15 أكتوبر 1979
صديقي سيمونون الأعز،
ها نحن ننخرط مرّة أخرى في الحديث إلى بعضنا البعض، يُؤلّف بين قلبيْنا شعور ثابت على الدوام بالصداقة، ومفعم باستمرار بدفق الحرارة المطلقة والأبدية. وإني لأضبط نفسي باستمرار، مردّدا: الآن، سأكتب الى صديقي، أو: الآن، سأبلغه سلامي عبر الهاتف، لكن تواجد كتبك من حولي دائما، وتحدّثي عنك في أغلب الأوقات الى جولييتا والأصدقاء، إلى جانب انخراطي خلال فترات العُزلة في التفكير فيك وفي حياتك، كل هذا ظلّ يمنحني شعورا حيويا للغاية، ويجعلني أشعر فيما بعد بأنّي أحظى برفقتك؛ وهو ما جعلني أحسّ بأن الإقدام على أية مبادرة أخرى ملموسة أكثر، من شأنه أن يصبح ـ في عيني ـ مجرد إجراء مربك، وغير لائق، وتقريبا مختزل، إذا قورن بنوعية المشاعر التي أودّ أن أبلغها لك.
وإذا برسائلك القصيرة ـ منتظمة، وفي الوقت المنتظر ـ تتقاطر علي، بعدها. وبما أنها ظلت على وجه التقريب، تصلني منك في خضم الأجواء التي تكون دائما مفعمة بالصخب والقلق، اللذين يصاحبان تصوير الفيلم، فإنّ قراءتها ظلت تعطيني الانطباع بأني أصغي فيها إلى صوت حكيم ورائق وغيور علي، دائما ما ينتهي بأن يقول لي بعض الأشياء، التي كثيرا ما تسعد نفسي، ويطبع علي كذلك بعض القبل، في إطار مبادرة محبوبة جدا، يفعمها سخاء غامر… فأي هدية في الدّنيا أثمن من أن يكون للمرء صديق شبيه بصديقي سيمونون!
سأدردش معك قليلا، الآن، ومن غير أي خيط ناظم لما قد أقول. بعد التوقف الذي لحق بالفيلم الذي أنجزه، إذن، وهو التوقف الذي استغرق أكثر من شهر، تمّ استئناف التصوير منذ أسبوعين، ومع التصوير أخذت المشاكل في اعتراضي مرة أخرى، وكذلك الطوارئ والمضايقات؛ إنها إجمالا تتمة لتلك الكوكبة من الأحداث المعاكسة، التي ما زلت لا أدري إن كانت هي حصيلة للفيلم، أو أن الفيلم هو بشكل من الأشكال هدفها الخفي والبريء. فأثناء التوقف الذي اضطرتني إليه الشركة المنتجة، التي كانت متيقنة من قدرتها على الاستفادة الكبيرة من ذلك ـ وهو اليقين الذي تكشف على أنه لم يكن في النهاية، قد بني إطلاقا على أي أساس! ـ ركّبت بين جميع المشاهد التي صوّرناها، أي بين أكثر من نصف الشريط. وإذا كانت هذه العملية قد وطّنت من روعي، وطمأنتني من جهة، مثلما نطمئن دائما حين نرى تحقق العمل المضني والطويل ضمن شكل ملموس، بعد أن ظل غير محسوس أبدا ـ رغم أنه لم يكن إلا كذلك! ـ فإني رأيت من جهة أخرى، (وأنا لا أشاهد على الإطلاق، المادّة المصوّرة كل يوم، وإنما أفضل مشاهدتها كاملة عند النهاية)، تزايد شكوكي وندمي وسخطي إزاء فيلم، بصورة مدوّخة وعصابية، وهو الفيلم الذي أعتبره في قراري مجرد ورطة، حتى ولو أن ذلك صار يحدث معي الآن، بالهدوء المطلق الذي لا مفر منه.
أصوّر هذه الأيام المتواليات المسمّاة عامة: الرّؤى، ويتعلق الأمر هنا بسفر طويل، يهبط البطل أثناءه، وهو يتدحرج ويتزحلق في مزلقة دائرية، لينطمس تارة، ثمّ يطفو على السطح من جديد ، ليغور ثانية في أعماق أسطورته الفاتنة عن الأنثى، حيث يرى السيقان العريضة لروزينا الخادمة، التي كان يراقبها بنهم شديد من تحت المائدة، وهو طفل صغير؛ ويرى زوجة طبيب الأسنان المترفة، وهي تتجرّد من ملابسها قطعة فقطعة، داخل عتمة القمرية البحرية، قبل الخروج الى ضوء غشت السّاطع الذي يشيع توهجه على الشاطئ، كي تتجه رأسا صوب بحر صقيل، برفقة متجامل (مدّع للجمال!) يشبه طرزان؛ ويرى كذلك السيدة التي تعطي دروسا خصوصية في اللاتينية، وهي محتشمة جدّا، ومفعمة جدّا بروح محافظة ومندفعة للغاية؛ كما يرى المومس الأولى ذات المؤخرة البيضاوية الضخمة الحدرة، وهي ترتقي درجات السلم في أحد المواخير، لاهية وعابثة، حتى ليُشبّه لنا بأنها تكاد تقول لنا شيئا، أو أنها على وشك البوح بسر ما، فتسحرنا بذلك للأبد؛ مثلما يرى راكبات الدراجات النارية ذوات الشقرة الفاقعة، اللواتي يمارسن لعبة برج الموت، وهنّ ملفوفات في لباس جلدي أسود، يظهرن فيه متعجرفات ومتحجّرات عاطفيا؛ ويرى بائعة السّمك المتدثرة في سِرادات الصّوف، وكأنها من طائفة السّاموراي، بينما ينزّ العرق من وجهها وذراعيها ونهديها الضخمين، فيشعّ جسمها كله مثل تلك الأسماك الفضّية النابضة بالحياة، في السّلال.
أعترف لك يا عزيزي سيمونون بأني وددت لو لم أخرج أبدا من هذه الحلقة بالذات من حلقات الفيلم، لو أني بقيت وسط بوتقتها للأبد، وسط دائرتها الوهّاجة والدّافئة للأبد. ألم يسبق لك أنت أيضا، أن وجدت نفسك تعيش ـ وأنت منهمك في كتابة رواياتك ـ ضمن أجواء خاصة، وفي خضم وضعيات محددة، وبرفقة شخصيات معينة، الى حدّ لا تعود ترغب فيه هجر ذلك أبدا، ولا الانقطاع عنه؟ لكن المتوالية الأخيرة تنتظرني خلال الأسبوعين القادمين، وهي بعنوان: الحلبة. ويتعلق الأمر فيها بمدرّج فسيح، يتعيّن على مارشيللو ماستروياني أن يواجه اختبارا مخيفا وغير معلوم، بينما النساء يملأن المدرجات، ويصحن بأعلى الأصوات، ويتهدّدن، ويتوعّدن. فهل سينجح البطل؟ لا علم لأحد بذلك. ربما هذا ليس ممكنا. إذ أن المؤكّد الى الآن، هو أني لا علم لي بذلك.
يتعين على فضاء الحلبة أن يكون مفروشا بالملصقات واللوحات، التي تتضمن كتابات ضخمة وعملاقة حول مختلف الموضوعات، إضافة الى مجموعة من البورتريهات التي تتصل بأشخاص يمثلون الذكورة الأسطورية، أي أولئك الذين يمثلون صورة الفحولة الحقيقية والمكرّسة، من قبيل دون جوان، وهنري الثامن، وكازانوفا، وجياني أنييلي،،، الخ. وقد خطر ببالي كذلك، في سياق التقدير والإعجاب الصادقين اللذين أكنهما لشخصك، أن أضع تمثالا منحوتا لجورج سيمونون، يُتكتّم عليه، ويكون متفرّدا جدا عن البقية، لأحقق بذلك مثلما عرض لي ببالي، تكريما خاصا أشمل فيه شخصك الكريم بالمحبة؛ إلا أني قلت في نفسي بعدها، بأن تلك الإشارة قد تبدو من جهتي ماكرة نسبيا، ووقحة شيئا ما… أليس كذلك؟ من غير أن نأخذ في الحسبان بأن ميغري ومئات الشخصيات الأخرى، قد تأتي لتحدجني ربما، بنظرة إشفاق صماء ساخرة.
حسنا، هذا يكفي. من غير شك، أنا أزعجك بهذه الترّهات. وقد تبيّن لي بأني سُمْتك لفظاظتي، عذاب قراءة هذه الرسالة التي لا تنتهي!
أي شوق يشدّني إلى رؤيتك مرة أخرى، يا صديقي العزيز!
وكم أودّ لو سافرت الى لوزان. في كل مرة، أردد هذه الأمنية، إلا أني لست متأكدا من أني أستطيع تحقيقها في الواقع. وفي انتظار أن يتحقق ذلك، أنا أسعد بكوني أستمر في تخيل زيارة صديقي سيمونون لي في الأستوديو، وخاصة في موقع تصوير الحلبة. ولم لا؟ ربما، كي يعطيني وسط آلاف النساء، النصيحة السّديدة والقويمة بشأن النهاية.
نقبّلك جولييتا وأنا، بحرارة كبيرة، أنت وثيريز، ونقول لك الى الملتقى القريب، والقريب جدا.
المخلص
فريديريكو فيلليني
لوزان في: 31 أكتوبر 1979
عزيزي فيلليني،
لو لم أكن منخرطا بكيفية محمومة كالعادة، في إملاء خاتمة مؤلّفي الواحد والعشرين، من سلسلة ما أمليه، لاستهوتني دعوتك التي ضمّنتها رسالتك المؤرّخة في 15 من هذا الشهر، وجعلتني أندفع صوب السّينيسيتا، ساعيا الى الفرار من لوزان للمرة الأولى منذ ثماني سنوات، لا لأشجّعك (الشيء الذي لم تكن قط في حاجة إليه)، وإنّما لأراك وأنت تنازل عملا فنيا كبيرا، (وأنا أستعمل هنا لفظة لم تعد تستعمل في أيامنا هذه، بينما كانت تشير في القرن الماضي الى العمل المركزي المتعيّن على الفنان إنتاجه، إثر عودته من مرحلة التمهير والتمرين، التي قد تستغرق عدّة سنوات، يقضيها في الطواف حول فرنسا، أو أوروبا). إلا أنّ هذه المقارنة لا تستقيم في حالتك، أنت بالذات، لأنك أنجزت خلال مسارك الفني السابق، العديدَ من الأعمال الكبرى.
وأعتقد مع ذلك بأن الأمر يتعلق هذه المرة، بعمل قوي وحافل جدّا بالحياة، وطموح للغاية كذلك. فكلما أغمضت عيني، إلا تخيلتك على سطح سُقالة غير ثابتة، مثلما كان مايكل أنجلو تحت سقف كنيسة السكستين، أو شكسبير فوق منصّات المسارح الهشة، التي يرعد فيها المشتري، ويعلن الملك لير صخبه وعنفه، أمام جمهور متحرّك بكثافة.
أجل، كنت أرغب في معرفة الكيفية التي يتسنى بها لشخص وحيد تماما، شخص تُرك لمقدراته الذاتيّة وحسب، أن ينجز فيلما من هذا الحجم الذي تصوّرتَه بمجموع انفعالاتك ومشاعرك، دون اكتراث بمعرفة أي شيطان سيواجهك، ولا كيف ستصل الى تحقيق أهدافك وغاياتك، رغم العراقيل والعوائق جميعها.
لاشك أنك اجتزتَ اليوم، بالنّظر الى ما حدثتني عنه، فخّ المزلقة الدائريّة، اللّهم إلا إذا دخل بطلك، بعد الهبوط على شاطئ بحر هادئ ومتلألئ، الحلبة التي تحيط بها مئات النساء، اللواتي عليه منازلتهن.
ولأنّي أعتقد بأني أعرفك حقّ المعرفة، فأنا على يقين تام بأنّ هذا العمل الذي أنجزته، سيكون بلا زيادة أو نقصان، انعطافة كبرى وفارقة في تاريخ السينما، وتاريخ الفنّ عامة. لا، أنا لم أكن لأشعر بالاهانة ولا بالنكد، لو اعتمدتَ تمثالي شاهدا على ذلك الاحتداد والهياج اللذين حدثتني عنهما، لكني أعتقد بأني لن أكون جديرا بذلك، ولا كان ميغري سيشعر بالغيرة.
لقد ظلّ الإنسان يسعى منذ الأزل إلى الإمساك بصورة المرأة، إلا أن أي عمل من الأعمال الملحمية لم يستطع القبض على صورة كافة النساء، ولا استطاع الإحاطة بمختلف الاستيهامات المتصلة بالجنس والتخييل.
أنا لا أدنو عبر هذه الرسالة، من سقالتك الهشة إلا على رؤوس الأصابع، لأني لا أرغب بأي شكل من الأشكال في إزعاجك، ولا في قطع شريط حدسك الفني، واندماجك الكلي والكامل في العمل، حتى ولو لدقيقة واحدة.
ولا تنس، حين تنتهي من تصوير مشهدك الأخير من الفيلم، أن تبعث لي بتلغراف يتضمن كلمة واحدة فقط، هي: «النهاية». لأتيقن حينها، بأنك ربحت الرهان الذي تحديت فيه نفسك والآخرين؛ وإن أعلم مسبقا بأنك ستربح ذلك مرة أخرى، كدأبك وديدنك في جميع المرّات.
بالتأكيد، سنحتفل بهذا، ههنا، حين ستأتي. إلا أن صداقتك المستأمنة هي في حدّ ذاتها احتفال؛ لذا، سأبقى في الانتظار المشفوع بالصّبر، وأنا أحسّ بك قريبا جدا، كما هو الأمر دائما، لأقاسمك عن بعد كل ما تشعر به من اضطرام روحيّ مربك.
وتقبّل عزيزي فيلليني، أنت وجولييتا، فائق مشاعر المحبة والتقدير.
جورج سيمونون
روما في: 29 دجنبر 1979
صديقي الأغلى والأعزّ،
في رسالتك الأخيرة طلبتَ منّي أن أبعث لك ببرقية مختصرة، أعلن فيها عن نهاية تصوير الفيلم الجديد، متى ما حصل ذلك. وقد أقسمت في قرار نفسي بأن لا أخيّب رجاءك، وبأن أبعث إليك فعلا بتلك البرقية؛ لكنّي شعرت فيما بعد بأني قد أبدو بكيفية ما مضحكا، إنْ أنا أقدمتُ على إعلان نهاية التصوير بتلك الكلمات التلغرافية المختزلة، مثلما يفعل جنرال في الجيش، حين يعلن لرئيس الجمهورية عن نهاية حالة النزاع على الجبهة. ومنذ أن اقتنعت بعبثية هذا، غالبا ما صرت أؤجّل إخبارك بما تحقق عن طريق رسالة قصيرة، لم يحنْ أوان كتابتها إلا الآن، وحسب!
أجل، العمل السينمائي انتهى، وبنوع من الانضباط الدقيق في المواعيد، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار التوقعات التي كانت منتظرة. انتهيت منه في منتصف شهر نوفمبر، لأشرع للتوّ في الدّبلجة، بحكم أني قمت سلفا، بجزء لا يستهان به من التوضيب والمونتاج، إبان الفترة التي توقف فيها التصوير، بفعل ذلك الحادث المأسوف عليه، الذي حصل بموت الممثل الذي ذكرته في رسالة من رسائلك الأخيرة(9).
بالنسبة لي، الدبلجة عمل اضطراري أُكْرَه على القيام به، بشكل قسري وفظّ. إنّ بمستطاعي الإشراف على التصوير لساعات متواصلة قد تفوق ثلاثين ساعة، دون الشعور بتعب ولا بالإرهاق. لكنّ المكوث مغلقا عليّ في حجرة مزامنة الصوت للصّورة الشبيهة بقمرية الغوّاصات، في محاولة يائسة لضمّ كلمات بعينها، أعدت كتابتها في ذات اللحظة، الى شفاه لم تتلفّظ بها بالكلّ، وهي تعبر من أمامي على الشاشة، وكأنّما أنا شخص لا يعي ما يصدر عنه، يقع تحت نظرات متوجّسة لمتخصّصين في التزمين الصّوتي SINK، يتواجدون معه بالحجرة، ويكمنون له بالمرصاد، وهم يراقبون حركات الشّفاه بتلسكوباتهم العديمة الإنسانية؛ كلّ هذا يرهقني، ويدفعني دفعا الى الرغبة في الانصراف، وترك الفيلم معلّقا، بشريطه الصّوتي الصّاخب والمفكّك والمليء بالضوضاء والأصوات التي لم تكن متوقعة، وبصوتي وأنا أصرخ، وأهوّن على الممثلين، وأهدئ من روعهم، وأقدّم لهم النصائح، وأقاطع سير التصوير، وأزعق على المكلّف بالكلاكيط، بينما الكنيسة القريبة من السينيسيتّا تبدأ في قرع أجراسها الضخمة، دون سابق إنذار، وفي استخفاف تامّ من أي حرص أكوستيكيّ.
إنّ الشريط الصوتي الأصلي لأي فيلم، على الأقل لفيلم من أفلامي الخاصة، هو شريط لا يعوّض في واقع الأمر. أما مجموع العمليات التي تأتي فيما بعد، فإنما هي ـ مثلما يبدو ـ لي تفقير للفيلم، حتى وإن كانت ضرورية لجعل الحكاية تتضح أكثر، وللتحكّم بشكل متوازن في بوليفونية الأصوات والمؤثرات الصوتية. إنها بالتأكيد عمليات تجعل الفيلم صالحا للعرض، لكنها تفقر حيويته، مثلما تفقره من البعد الحسّي الوجداني.
صديقي العزيز سيمونون، ألتمس صفحك وغفرانك بسبب هذا الاستطراد المزعج، لكني ما كنت، وأنا أحدثك، إلا متحدثا الى نفسي أنا بالذات، ربّما لأقنعها بأنّ كمية التعب الزّائد عن اللزوم، التي شعرت بها أثناء عملية الدبلجة، لا يمكن أن تتأتى هي الأخرى، إلا عن حالة الشكّ التي ظلّت تزعجني وتضايقني، لأني بقيت أردّد في قراري بأنّ الأمر الذي أخوض فيه، بعناء كبير وحميّة زائدة ودقّة علميّة عالية، قد يتمخّض عنه في النهاية، تفقير ما للفيلم: قد ينزع عنه خاصيته الحيوية، التي تميّزه في الأصل.
ومهما يكن، فإني سأنتهي من عملية الطبع في متمّ شهر فبراير المقبل، في حالة ما إذا مضى كل شيء على ما يرام، لأنّ برمجة العروض حُدِّدت من قبل ـ على الأقل في إيطاليا ـ في الأسابيع الأولى من شهر مارس، بطيش وغير ما روية!
لقد توصلت في هذه اللحظة بالذات، للصدفة العجيبة والرّائعة، ببرقيتك المفعمة بالمحبّة، فاصطبغ وجهي قليلا بحمرة الخجل، لكوني لم أسع من جهتي الى أن أكون أنا المبادر في البداية، للاتصال بك.
والحق أقول إني حاولت في صبيحة عيد الميلاد أن أهاتفك، لكنّ الخط لم يسعف بالربط بيننا. ولم أدر إن كان ينبغي لي أن أسعد بهذا أم لا، لأني حتى ولو كنت مدفوعا بالشوق والرغبة في سماع صوتك، أحسست كذلك بالخجل من مغبة إزعاجك، بتلك المكالمة الهاتفية.
أشكرك على متمنياتك الحارة التي بعثت لي بها، وأقدّم إليك بدوري مثلها، مشفوعة باندفاعة تمتح من عمق أخوي لا ينضب معينه.
هل لي أن أزيد من عمر هذه الدردشة معك، ولو قليلا؟
إذن، أريد أن أضيف بأنّ دواخلي تكدّرت، منذ اليوم الأول من تصوير الفيلم، وخالطها شعور غامض لم أفلح في تحديده بدقة، قد يكون أشبه الى حدّ ما بندم ملتبس، وبتبكيت الضمير.
سأحاول أن أشرح لك هذه الحال بكيفية أفضل، يا عزيزي سيمونون، أنت الذي له خبرة ودراية كبيرة بكافة الأمور. إذن: أنجزت هذا الفيلم بمزاج عكر، كاد يبلغ حدّ الفظاظة، لأنه كان عملا لم أشأ إنجازه بالمرة، وكنت أفضّل أن أنجز بدله فيلما آخر، إلا أن التعاقدات والالتزامات تمّت في حينه، فلم أستطع التراجع الى الوراء أبدا.
لقد شرعت في تصوير هذا الفيلم، وأنا أصرّ على أسناني، وبذلك أشعرته بسرعة بأنّه ينفّرني منه. ثمّ واصلت العمل على إنجازه، وأنا أحقد عليه أكثر فأكثر، رغم أني رأيت حلما أو ربّما اثنين، يدعواني بوضوح تامّ الى التصالح معه. ومع هذا، تحاملت عليه بحقد مني، وتهجّمت عليه بشكل عدواني، واستثرت هياجه بشتى السّبل الممكنة، وأنا أقول عنه لجميع الناس، وفي كافّة المحافل والأوقات، كل ما يسيء، والكثير مما يسيء!
وقد أذعن الفيلم لما ظل يصدر عني لبعض الوقت، لكنه انتقم مني فيما بعد، وصار يواجهني بكوكبة من المشاكل التي تنتمي الى كل نوع وصنف، وعرقل عملي بشتى العقبات، والتأخيرات، والحوادث، والإضرابات المتواصلة، والمصائب، ووقائع الموت. كان ثمّة ما يدعو الى القلق والذعر بالفعل، لكني عوض تغيير سلوكي، انغمست دون أن أخفي مخاوفي مع ذلك، في لجّة الاحتقار الغاضب أكثر فأكثر، وأنا أخوض في تهكمي الذي يسخر منه، ويضحك عليه. إجمالا، أعترف بأني أهنته، وأسأت إليه أثناء مرحلة التصوير كلها، تقريبا. والحصيلة أني أنجزت فيلما أهْنَف، حانقا، وقحا، عاقا وكنودا. كنودا حيال المرأة!
عزيزي سيمونون، أعتقد بأن مشاعر الضيق والإزعاج التي أحسّ بها، لم تنجم سوى عن وعيي المتأخر بما صنعت، بمعنى أني أدركت بعد مضي وقت لا يستهان به، أني أنجزت فيلما عن النساء (بينما بدا لي أنّ الفيلم كان في الواقع عن رجل!)؛ لا يمكن أن ينجز مثله إلا فتى قذر، يسكنه الخوف والتعجرف والقلق والوقاحة. وهذا لم يبد لي منصفا، وكفى. وبعدما انتهى الفيلم الآن، صارت مشاعر الذنب تسكنني. لم ترافق عملية إنجاز هذا الفيلم أية لحظة من لحظات التقدير والاحترام أبدا، ولا صاحبه الشعور بالامتنان والاعتراف بهذه الفرحة العارمة، التي تغمر بها المرأة حياتنا بفيض الكرم منها، الذي لا تحتاج فيه الى جزاء ولا شكر.
أعتقد بأنّ هذه هي محدودية هذا الفيلم. على كل حال، هذا هو الانطباع الذي تشكّل عندي الآن، في هذه اللحظة بالذات، حتى ولو أني أتمنى أن أخطئ في تقديري. إنما صبرا، سأحاول أن أصنع على الفور فيلما آخر، أتدارك فيه ما ينبغي لي تداركه.
كل شيء عندي على ما يرام، ما عدا الضغط الذي ما يزال مرتفعا، مقارنة مع المعدّلات الدّنيا، الى جانب الأرق الذي عاد يستبدّ من جديد بليالي الطويلة. وقد اعتقدت منذ فترة، بأني بقدر ما أقترب من نهاية الفيلم، بقدر ما سأخرج شيئا فشيئا من دائرة الأرق، لأربح مقدار ربع ساعة من النوم الإضافي، كل ليلة. وكنت على يقين تام بأني ما أن أخرج من نفق الفيلم، حتى أستعيد نومي بالليل بشكل تام. لكن هيهات! إذ ما أن مضت ثلاثة أيام، أو ربما أربعة، حتى عاد كل شيء الى سابق عهده.
إنما كفى! سأتوقف عن إزعاجك الآن، بكافة هذه الشكاوى الصبيانية، لأنّ حالة الأرق ستعرف لها حلا هي الأخرى ينهيها، في يوم من الأيام.
صديقي العزيز، أشعر وكأني ثرثرت معك مثلما يفعل السكّير، الذي يتعتعه الخمر. والحقّ أني لا أعرف كيف أعبّر لك بغير هذه الطريقة، عن مشاعر التقدير والامتنان التي تستحقها الرسائل الرائعة التي كتبتها لي، أثناء سفري العابر للظلمة المدلهمّة، التي عشت وسطها في متاهة قصصيّة، لا أعرف الى الآن السبب الذي دفعني الى كتابتها، ولا الحافز الذي شجعني على إخراجها في فيلم. لقد كانت مساعدتك لي ثمينة للغاية.
أطبع على خدّك قبلات تملأها مشاعر المحبة والتقدير، يا سيمونون العزيز، ومن خلالك نبعث أنا وجولييتا، متمنياتنا الصادقة والحارة بالصحة والهناء، الى ثيريز.
أتمنى صادقا أن أراك في فرصة قريبة، مرة أخرى. وأغتنم هذه اللحظة الأخيرة لأبلغك من جديد، سلامي المضمّخ بعاطفة أخوية راسخة، يقويها إحساسي الكبير بقربك الدائم لي.
المخلص
فريديريكو فيلليني
الهوامش
1 ـ لا تحمل هذه البرقية أي إشارة الى المكان (المترجم).
2 ـ شركة إنتاج فرنسية، أسسها في البداية ليون جومون سنة 1895 (المترجم).
3 ـ سيرة ذاتية كتبها جورج سيمونون سنة 1976، من ضمن مؤلفاته السيريّة التي ظل يمليها في أواخر حياته (المترجم).
4 ـ الحديث هنا عن فيلم كازانوفا (المترجم).
5 ـ محطة استجمام تقع بجنوب إيطاليا (المترجم).
6 ـ كتاب لجورج سيمونون (المترجم).
7 ـ لم أستطع فك شفرة هذه التسمية المختصرة، ومعرفة الجهة المقصودة، رغم محاولاتي العديدة التي قمت بها لفكّ هذا الاسم/اللغز (المترجم)
8 ـ السّينيتسيتّا هي مقر الاستوديوهات السينمائية بمدينة روما (المترجم).
9 ـ تراجع رسالة جورج سيمونون المؤرخة يوم: 20 سبتمبر 1979 (المترجم).
التقديم والترجمة: أحمد الويزي*
(الجزء الثاني)