عبدالله علي الزلب *
إن النهج الأكثر ملاءَمة لفهم ظاهرة إقبال اليمنيين على استهلاك نبات القات هو في فهم دور أو أدوار القات في النشاطات الحياتية المهمّة والتعرف على مختلف الخصائص الجوهرية التي دفعت بقيام هذا النبات إلى لعب هذه الأدوار. ومهما يكن من أمر، فإن السلوك الذي يمارسه اليمنيون والطريقة التي يتحدثون بها في علاقتها بالقات لا يمكن أن تُؤْخذ بعلاّتها، وتسند إلى عوامل فيزيولوجية أو نفسية فقط. وفعل تخزين (مضغ) القات، مثله مثل أغلب المواد المستهلكة اجتماعياً، إن لم يكن أكثرها ثراء من الناحية الرمزية، هو تعبير عن الاجتماعي ووسيلة بسيطة للتعبير عن بعض الأشياء ذات الأهمية الاجتماعية والبالغة التعقيد، أكثر منه إشباعاً أو إرضاء لرغبة فيزيولوجية أو نفسية.
ونعني هنا بـ»ثقافة القات» المعاني التي تضفيها الثقافة اليمنية على استعمال القات، أي الأفكار والتصورات والمعتقدات المصاحبة للسلوك، وهذه المعاني هي في الواقع حصيلة تجربة تاريخية متكاملة عرفها المجتمع وليست وليدة محدثات راهنة. فالسلوك «القاتي» له امتداد تاريخي أي أنه سلوك يحقّق درجة من التواصل الزمني كونه سلوكا موجها من قبل تصورات ومعتقدات ومواقف تكسبه صفة العادة وتدمجه داخل نُظم التصورات الحياتية الشاملة فهو إذن سلوك مؤطر اجتماعياً وليس سلوكاً فردياً.
يتمّ تخزين القات في مجالس جماعية، تختلف تسميتها من منطقة إلى أخرى، فيعرف في عدن وبعض مناطق الجنوب اليمني بـ»المبرزْ»، ويسمّى في صنعاء «المتكا»، وفي تعز يطلق عليه «المقيّل»، وفي الحُديدة «المنشر».
ويمكن اعتبار جلسات القات في اليمن من اللحظات الاحتفالية المهمّة التي يعبر فيها الإنسان اليمني عن واقعه الاجتماعي وعن رؤيته للعالم وعن أحلامه في وقت واحد. وهذه اللحظات أو الفواصل الزمنية التي يطلق عليها ترنر Turner بالفترات الزمنية خارج الزمنtemps en dehors du temps غالباً ما تكون مخصّصة للاحتفال بالمسلمات الأساسية البيولوجية والثقافية للوجود الإنساني. ويأخذ هذا التعبير في هذه اللحظات «خارج الزمن» أشكالاً مباشرة ورمزية.
ويعتبر مجلس القات شكلاً مؤسَّسياً للمشاركة الاجتماعية، ارتبط بالوسط الحضري أكثر من أي شيء آخر. ويستحق هذا الفضاء الاجتماعي اهتماماً خاصاً، إذا أخذنا بعين الاعتبار الممارسات الغنية والمظاهر الاحتفالية التي تحدث فيه والدلالات المتضمّنة للرموز التي تشكلها هذه المظاهر.
كما يقوم مجلس القات بإعادة إنتاج الثقافة التقليدية، أو ما يطلق عليه بيير بورديو Buordieu الثقافة المشروعة. فهناك الكثير من مظاهر هذه الثقافة لا تزال سائدة في المجتمع اليمني بفضل استمرارية وانتشار ظاهرة مجالس القات.
لقد أصبحت مجالس القات، في شكلها الراهن وفي غياب فضاءات ثقافية وفنية أساسية، بديلا مفروضا للمراكز الثقافية والمؤسسات التربوية والفضاءات التنشيطية والترفيهية وفضاء تواصل واتصال لا غنى عنه بين الأفراد والجماعات. فنجد أن حفلات الموسيقى لا تتمّ إلا في إطار مجلس القات. وتتناسب الموسيقى اليمنية، والصنعانية منها على وجه خاص، من حيث عدد العازفين ونمط الغناء وإيقاعاته مع طقوس الجلسة القاتية وتقاليدها وتدرج المراحل الزمنية فيها، فالعود هو الأداة الموسيقية المهيمنة في الموسيقى اليمنية.
وبما أن المجلس القاتي، في حد ذاته، يُعَدُّ احتفالاً اجتماعياً يثير في الذهن بشكل طبيعي صورة المسرح سواءً بسبب موقع «الممثلين» الرئيسيين les acteurs، حسب تعبير ماكس فيبر، والجمهور، أو بسبب السيناريو الموضوع مسبقاً والذي يجب على كل ممثل أن يسير على خُطاه حسب الدور المنوط به. وانطلاقاً من مبدأ أن كلّ مكان يصلح للعرض المسرحي، كان اختيار المخرج المسرحي العراقي كريم جثير أن يذهب بالمسرح إلى مجلس القات واستغلاله كفضاء مسرحي، من خلال تجربة فنية ظهرت في بداية التسعينات عرفت بـ»مسرح المقيل»، وكانت فريدة من نوعها في العالم العربي. وقد علل المخرج جثير اختياره قائلا «أن «المقيل» يمتلك جواً نفسياً يتصاعد بشكل درامي وينتهي نهاية مسرحية… لذا وجدنا في «المقيل» منطلقاً لما نراه مسرحاً يحمل خصائص تميزه عن غيره».
ورغم محدودية هذه التجربة واقتصار تطبيقها على مجلس قات محدّد، إلا أن المكان المتخيّل للعرض المسرحي كان يمتلك صفة التجديد الدائم، حيث قدم العمل الأول -ملصقات- في مساحة تمثيل لا تزيد عن المتر المربع ولم يكن في هذا العمل قد أشرك الجمهور الجالس. بينما في الأعمال التي تلت -ملصقات- اتسعت بيئة المكان عنده شيئاً فشيئاً وأشرك الجمهور المخزن في عملية العرض، أي أن الجميع دخل متن الحكاية وأزاح المخرج المكان النمطي لمجلس القات اليمني وتقبل الجمهور البديل الفني الذي اختاره جثير له..
ويُعَدُّ مجلس القات في اليمن أحد الفضاءات التي لجأ إليها الناس وعادوا إليها بقوة للبحث عن المعنى المفقود وعن الشعور بالانتماء، وعن الهوية في ظلّ تعدّد المرجعيات الثقافية السائدة في المجتمع اليمني المعاصر واختلافها، فأصبح تخزين القات يرمز إلى معانٍ جديدةٍ تتعلق بالهوية الثقافية لليمني، إذ يستطيع من خلالها التعريف بنفسه والتميز عن الثقافات الأخرى.
البحث عن المعنى
إن اللجوء إلى تخزين القات والإقبال الكبير عليه في السنوات الأخيرة يأتي في إطار ارتفاع الطلب الاجتماعي للمعنى المفقود والبحث عن «هوية» تتوفر في إحياء وتجديد التقاليد والطقوس وخاصة عبر «التبنّي» الجماعي للحنين إلى الماضي في ظلّ تعدّد المرجعيات الثقافية التي ظهرت في المجتمع اليمني، وبشكل خاص وأكثر جلاء في مجتمع مدينة صنعاء، وهناك أربع مرجعيات أساسية:
أ. ثقافة المدينة التقليدية، التي تندرج في إطارها ثقافة القات.
ب. الثقافة القبلية.
ج. الثقافة العربية الحديثة التي دخلت اليمن مع المصريين.
د. الثقافة الغربية التي انتقلت عبر تيارات التبادل ووسائل الاتصال الجماهيرية.
وهذه المعاني الجديدة التي يتضمنها فعل تخزين القات لم تكن وليدة محدثات راهنة ومؤقتة، بل كانت نتيجة صيرورة تاريخية وتدخل عوامل عديدة، خارجية وداخلية، سياسية واقتصادية وتاريخية تضافرت جميعها لتجعل من الظاهرة القاتية موضوعاً يحتل أحد مراكز اهتمام اليمن المعاصر كلما تعلّق الأمر بالبحث في تحديد هويته وخصوصيته في إطار حضارة عالمية «ذات بعد واحد» تهيمن فيها ثقافة الأقوى (الغربي) وتتجه نحو التشابه أكثر من الاختلاف.
«أنا من بلاد القات مأساتي تضجّ بها الحقب/ أنا من هناك قصيدة تبكي وحرف مغترب»
بهذا التعريف قدّم شاعر اليمن الكبير الدكتور عبدالعزيز المقالح نفسه ولم يجد غير القات رمزاً ليمن المأساة حينها.
واليوم لا يزال الشاعر المقالح عند موقفه فيؤكد أنه: «ليس هناك ظاهرة أو عادة محلية خلقت نوعاً من الثقافة الخاصة في المجتمع كما فعل القات في المجتمع اليمني. فنجد آثاره الثقافية على الشعر والفن والمسرح والحكاية والمعمار… والطعام…. ويمكن القول بيقين إن القات خلق منظومة ثقافية في حياة اليمنيين لا يمكن إنكارها ابتداء من الغذاء إلى الحمام إلى الملبس إلى الموسيقى إلى طريقة الحديث وطريقة الشرب».
وحين أراد الشاعر عبدالله البردوني وصف المغترب اليمني خارج بلاده لم يجد أبلغ من خضرة القات مؤشرا لهويّته اليمنية فقال:
«من خُضرة القات في عينيه أسئلة/ صفرا تلوح كعود نصف متّقد».
إن القات يستمدّ مشروعية وجوده وشيوع استعماله من مرجعية دينية – اجتماعية، تعزله عزلاً تاماً عن المخدرات وبقية المغيِّرات ويعتبر هذا من العوامل التي أدت إلى انتشار زراعة القات واستهلاكه في اليمن، فكان لارتباط استهلاكه في بداية ظهوره من قبل النُّخب الدينية معانٍ أضفت عليه مشروعية دينية غير قابلة للتشكيك وتتفق المذاهب الدينية السائدة في اليمن كالزيدية والشافعية على إباحة استهلاكه.
وبناءً على ما تقدّم تبرز لنا الظاهرة القاتية في هذا السياق «خطابا» شعبيا ثريا ومفتوحا متحركا في الزمان والمكان ومتأصلا في الوجدان يجعله يلفظ محاولات الفرض الثقافي، ويقف في مواجهة التغيير، بإيجابياته وسلبياته. ويقوم فضاء مجلس القات وكل ما يتضمنه من ممارسات وأنظمة قيم ومواقف، بدور حاسم في التعبير عن الثقافة المجتمعية السائدة في اليمن وفي إعادة إنتاجها.