ليس ثمة سبب واضح يدعوها لغسل ثمرة البطيخ قبل شقها، فهي عادة ما تلقي القشرة الخضراء السميكة وتلتهم القلب الأحمر غير عابئة باتساخ يديها ولا بالعصير المتساقط على ذقنها وعنقها، فكر بركات وهو يختار الموضع الملائم لغسل ثمرة البطيخ: "الماء ضحل هنا، ستطفو الثمرة لا شك ". وسألت هي نفسها: "لو إنني تقدمت حاملة ثمرة البطيخ بين ذراعي مثل جرو أليف وانحنيت على ماء النهر لاغسلها، ألن يبتل حذائي ذو الرقبة العالية وإلا ربطة المتشابكة مثل علامة خطأ، ألن يتسخ ثوبي المنسدل حتى منتصف الساقين؟" المنظر الطبيعي قفر ويوحي بالعزلة، فضلا عن انه يبدو خارج الزمن. عندما يلحق بها المهندس داخل الكادر ستتأكد عزلتهما تماما وكأنهما نقطتان في فراغ هائل، حدوده الافق والنهر، وسيكون ممكنا- بعدما يساعدها على انقاذ ثمرة البطيخ من الانجراف مع التيار- ان يضمها بين ذراعيه وان تستكين إليه بضع ثوان، محاصرين كما هما بوحشة المكان وصمته الرازح. صاح بركات: "ستوب!" كانت تهم بتقبيل صاحبها لولا أن رن في إذنيها صوت آخر يردد، "هنادي خدها الوبا"، ولولا إنها رأت نفسها تنتحب بين ذراعي أمها وهي تكرر: "هنادي خدها الوبا يا ماي!" أسرع أحد المساعدين لانقاذ البطيخة من الانجراف مع التيار وصاح بركات مرة ثانية: "نعيد اللقطة "، جميل إن تنحني على سطح الماء وتترك ثمرة البطيخ تنزلق بين يديها هكذا وهي تحاذر أن يبتل حذاؤها وثوبها، لكن ليس جميلا أن تكرر الحركة نفسها ست مرات متتالية (الشمس قاربت على المغيب) أو أن يلحق بها المهندس ست مرات متتالية فتستسلم لذراعيه وقد ارتخت عضلات كتفيها قليلا (هل يقبلها الآن ). تجاهد كي تبعد عن ذهنها صورة الخال وهو يقول باقتضاب خشن: "هنادي خدها الوبا"، فتغمض عينيها ويتوقف التصوير بعد القبلة. فكرت أن تسأل بركات بعد انتهاء المشهد لماذا اختار ثمرة البطيخ بالذات، ثم عدلت عن الفكرة بعد حين لفرط ما بدت لها ساذجة، كانت الثمرة تنزلق بين يديها مندفعة نحو الماء ثقيلة ومجوفة، متكورة على نفسها ومكتفية بتكورها وبسطحها الاملس كأنما هي الكمال والتمام بعينهما، وكانت هي، على العكس تماما، تشتهي تقبيل المهندس رغم انه السبب في موت هنادي ورغم إنها قطعت كل هذا الطريق لا لشيء إلا للانتقام، كأنما يسخر منها القدر ومن تهاونها بينما هي تغسل ثمرة البطيخ عند شاطئ النهر بدلا من أن تفرس خنجرا في قلب الخائن، التفتت لتجد نفسها بين ذراعيه وبينهما بطيحة مبتلة وصوت الكروان معلق فوق رأسيهما وهي لا تعرف هل تقبله الآن أم تنتظر قليلا ربما تنقذها صيحة بركات للمرة السابعة: "ستوب!".
المهندس
يستدعي وصول المهندس الى المنطقة النائية في بداية القرن احتفالا خاصا يقيمه البدو عند الحدود الفاصلة بين الريف والصحراء، إذ يبدو لهم وصوله واستقراره في المنطقة تعويضا لهم عن جدب الأرض إو بديلا طبيعيا لهطول الأمطار، فيروحون يغنون: "لمهندس جاي لمهندس جاي، يا صحرا لمهندس جاي، يرويكي بعيون المي لمهندس جاي لمهندس جاي!" يشعر المهندس الشاب القادم لتوه في القطار البخاري انه قد أصبح مركزا للكون حين يسرع الجميع لخدمته ويلبي القريب والبعيد مطالبه ونزواته.. وهو يستثمر ذلك جيدا لكنه، عندما تسنح له الفرصة، سينتقم لنفسه من كل هؤلاء المخبولين، صحيح انه مركز الكون الآن غير أن ذلك لن يدوم، فالصحراء تبتلع طاقته وايامه ونهارات العمل رتيبة بلا مفاجآت وليالي السهر في الريف عصيبة والزمن الذي ألقى به في صندوق الصفيح هذا، يجب أن يعوضه عنه بما هو أثمن من الذهب والفضة وأندي من المطر وألذ من قشدة الحليب، يقضي المساء في النادي حيث يلتقي نفس الوجوه، المأمور، مدير المركز، ناظر الصحة وقليلين آخرين من ذوي الالقاب، يلعب البلياردو، يدخن السيجار، يحتسي كأس خمر ويعود الى بيته عبر طرقات القرية الموحلة ودروبها المقفرة مهموما نصف ساكر، يحدث نفسه في الظلام: الليلة ادخل على هنادي، يستوقفه بركات لوهلة ويطلب منه ان يعدل وضع الطربوش على رأسه وان يهز عصاه الابنوس في الهواء وهو يتقدم صوب الكاميرا، فيفعل كما يفعل وجهاء العصر، لن يعيد اللقطة سوى مرة واحدة فالمهندس ينفذ التعليمات والاشارات بدقة ويسرع في خطوته قليلا وهو يمني نفسه بقضاء ليلة ناعمة بين ذراعي هنادي، لن يصور بركات لقاءهما أبدا وسيفضل أن يعود الجميع إلى الفندق للراحة استعدادا للتصوير في فجر اليوم التالي. يتسلل المهندس في غفلة من الجميع إلى حيث تنام هنادي، يدفع باب غرفتها الزجاجي دفعا هينا ويوقظها طالبا منها أن تعد له كأس نبيذ وان تلحق به في غرفته، هي ستفعل مكرهة لانها تحبه ولا تحب أن ترفض له طلبا وهو سيدها وسيد قلبها، ستمد يدها بالكأس وسيتناوله بيد، وباليد الاخري يجذبها نحوه بحركة مفاجئة فيستقر قلبها في ركبتيها وتندفع نحوه دون مراوغة تماما كما يحدث في شرع المحبين، في الصباح التالي يصحو في فراشه بالفندق حين يدق جرس الهاتف: يدعوه موظف الاستقبال للاستيقاظ ويذكره بأن الجميع في انتظاره في البهو، وفي الصباح التالي أيضا تكون هنادي في الطريق إلى بقعة نائية بصحبة الخال والجمل، حين يحلق فوقهما الكروان وهو يدعو: "الملك.. لك لك" مذكرا هنادي بموعد الموت، كما يحدث أيضا في شرع المحبتن .
هنادي
قال الكروان وهو يحط على قبر فوق التل بين نخلتين عاليتين إن خالها قتل المهندس بدلا من أن يقتل آمنة وان هذه النهاية ترضي جميع الأطراف فلا بأس من إن تقبل بها. إذن الخطيئة من نصيبها والتكفير عنها من نصيب المهندس، تموت هي في الخطيئة ويموت هو مطهرا حبه لآمنة. رغم غيرتها من الأخت العاشقة ولوعتها على الحبيب الخائن ارتاحت للنهاية التي اختارها بركات وفكرت أن روحها المعذبة قد آن لها أن تستقر وان تكف عن مغادرة جسدها كل ليلة لمتابعة الاحداث أثناء التصوير وبعده. سألت الكروان قبل ان تصرفه: "هل تمكن الخال من الفرار؟" هز الكروان رأسه يمينا ويسارا وصاح "الملك لك لك " قبل أن يحلق في الهواء ويغيب عن ناظريها.
تلاحقت أفكار هنادي مثل رفرفة جناحي طائر يحتضر: هي في نظر الناس عاشقة وخاطئة وآمنة عاشقة وحسب، هي استحقت الموت غدرا وآمنة استحقت الحياة، هي استسلمت للحظة ندم فتركت
صدرها مكشوفا للخال يغمد فيه خنجره وآمنة احتمت وراء حبيبها. فكرت إنها ستزور آمنة الليلة لتواسيها وتشهد بعينيها حزنها وحسرتها، آن لها أن يرتاح قلبها الغيور. وفكرت أن الظلم الذي حاق بها مضاعف، فقد نسيها بركات أيضا وكان بوسعه أن يظهر وجهها بين الحين والآخر منعكسا على صفحة الماء أو هائما بين السحاب.. نسيها رغم أن آمنة تتذكرها: دائما بين الحياة والموت، مجرد وجه بلا رقبة وعينين تشخصان نحو الافق في أسى وكأنها ماتت فعلا رغم إنها حية في الذاكرة، ثم فكرت هنادي أن الناس أنفسهم لن يتذكروها لان وجودها برمته كان وجودا عابرا، لكنهم سيتذكرون جملة "هنادي خدها الوبا".(ومن كان يحبني على أية حال؟ المهندس، أمي، آمنة؟) المهندس سقط صريعا بين ذراعي آمنة في حديقة منزله فسقطت الى جواره تحتضن رأسه وتذرف دموع الحسرة: فاتتها فرصة المعرفة، تركت ثمرة البطيخ تنزلق في الماء ويجرفها التيار، خافت ان يبتل ثوبها فابتعدت وهي تتمنى لو انه يقبلها ويختبر جسدها. عادت الأم الى الصحراء تخرف كالمجانين وتسأل النساء والاطفال عن هنادي وآمنة. إلا تعرف حقا مكانهما؟ هراء، ركضت آمنة، تسلقت التل حتى بلغت النخلتين وارتمت فوق القبر باكية بحرقة، هي التي اشتهت حبيب أختها المقتولة. مثلا هنا، في تلك اللحظات، كان من الممكن أن تظهر صورة هنادي مطبوعة فوق صفحة السماء، تماما بين النخلتين، لكن بركات لم يفعل فالتزمت الصمت وكظمت غيظها، نسيها كما نسيها الآخرون وكما سينساها الناس في غمرة انسياقهم وراء حكاية آمنة والمهندس واكتفى الجميع بحضور الكروان بديلا عن غيابها، تنتبه الى ان الرمال الممتدة حولها والبيوت المترامية عند الافق تزيد شعورها بالوحشة كأنما لا احد سواها هنا، كأنما بوسعها اخيرا ان تمتلك المشهد كاملا (هل عاد الجميع الى الفندق وتركوني وحدي؟) صوت أخنف منبعث من
ميكروفون محمول يوقظها من ذهولها عنوة: "مدام زهرة! داير!" تلتفت نحو الخال الذي يستل خنجره ويطعنها في صدرها فتسقط صريعة بلا دعاء، ثوبها الأسود يحسر سطح الرمل الناعم. تتخيل – لحظة سقوطها البطئ- إن بركات، في هذا الموضع بالذات، سوف يستعين بدعاء الكروان للمرة الاولي، وان الناس سيدركون ان الكروان ليس سوى روح هنادي التي حررها الموت، تبتسم لهذا الخاطر بينما يشرع الخال في حفر القبر بين النخلتين العاليتين.
مي التلمساني(كاتبة من مصر)