حاوره :حسين جواد قبيسي
حينما جاء قادر بوبكري إلى فرنسا، قادماً من الجزائر بعد استقلالها، كان قبل وصوله إلى باريس يُدرك في وعيه الشامل(1)، أن ما دفعه “إلى الهجرة هو في الحق ذلك النقص في ميدان العلم لاستشراف ثمار الاستقلال التي لم يكن قد بدا بعدُ أفق إمكانها”(2). فمن هو قادر بوبكري الذي يقول في شأن هجرته هذه: “على الأصح، أُكرِمْتُ باستيعاب مقولة الإمام علي بن أبي طالب: “الفقر في الوطن غربةٌ والغنى في الغربة وطنٌ”. ولقد تسنّى لي تبعاً لهذا الإدراك، أن أفهم هذه المقولة العظيمة، بحيث إن الإمام علي قصد بها الفقرَ الشامل، بالمعنى الفكري، وكذلك الغنى يقصد به الغنى الفكري والروحي أيضاً، بل ولعلَّهُ الأساس. كان ذلك أساساً قويّاً عندي، فإنني لم أهاجر بسبب الفقر المادي، إذ كنت أصغر المذيعين والمنتجين في الإذاعة الجزائرية سنّاً (وعلماً) غداة استقلال الجزائر”(3).
مسكونٌ بوبكري بهاجس التعلم والدراسة والتحصيل، مع أن دخوله المدرسة الابتدائية كان في سن متأخرة، إذ درس في جامعة القرويين التاريخية في مدينة فاس، ثم مع انتصار الثورة عاد إلى الجزائر حيث عمل في التدريس ثم في الصحافة وفي الإذاعة الجزائرية بين العامين 1962 و1965.
يعرّف قادر بوبكري نفسه في قصيدةٍ له بعنوان “أنا بكل إخلاص”فيقول: “هذه القاصدة هي أداء العمرة في معبد الحرية، أو الحج إلى النفس صياماً عن المُقتمَع المسمّى بالمجتمع. إذاً هي أقرب ما يكون إلى التناهي بالـ”هُنا” رفعاً ونصباً و”الآن” إنّيّاً لا أنانيةً. ويقول أيضاً: “أنا، عمداً وقصداً، عربيٌّ حضاري علمئيماني. ضد العرقية والطائفية واستعمال الدين في السياسة؛ فالإسلام، بوصفه تاريخاً، لم يُصَب بهزائم جوهرية كما أصابه التأسلمُ بضاعةَ تجارةٍ مفلسةٍ للوصول إلى السلطة التسلطية، واستعمال الشريعة ذريعة. أنا، مُواطن الثورتين الفرنسية والجزائرية، سياسياً، أرى أن كل “ربيع عربي” و”حراك “خارج إعادة بناء وحدة عربية، كأسبقية حيوية، هو أفيون للناس”.
بوبكري الشاعر والمفكر
قادر بوبكري كاتب مقلّ، يفكر ويتكلّم بأكثر مما يكتب، ويتجلّى فكره أكثر ما يتجلّى في الحوار. بل هو من تلك الدائرة التي تضمّ مفكرين قلّما يكتبون، كالمفكر المغربي رشيد صباغي، الذي ربطته ببوبكري صداقة فكرية من دون أن يكون بينهما لقاءات منتظمة، أو لا يكتبون قطّ بنفس المعنى، كصديقه الجزائري علي بن قادر بوبكري عاشور،(4) وقد عرفتهما، صباغي وبن عاشور، كما عرفتُ بوبكري نفسه، عن كثب، وعايشتهما ردحاً من الزمن بين باريس وبيروت. وقد رحلا من دون أن يتركا إلّا القليل من الأثر المكتوب، الدالّ على قامتهما الفكرية. مفكرون يعيشون فكرهم، وقلّما يكتبونه، وكلما أرادوا كتابة تريّثوا. تمثل نضجهم الفكري في نهج حياتي لم يندرج في سطور بين دفّتَيْ كتاب. وبحسب منهج بوبكري، فإن “عدم تسجيل فكرة خطّياً لا يعني أنها قيلت من غير تأملٍ “ليزري” (من “ليزر” Laser) سابق بعمقٍ صارمٍ حاسم”. لا يكتب بوبكري إلّا نادراً، ويتكلم بلا خطابةٍ ولا منبرية، وقد وجد في تقنية التواصل بالفيديو استمراراً للثقافة الشفاهية؛ فهو ينشر فكره المعرفي والاجتماعي والسياسي عبر فيديوهات بات عدُدها (حتى الآن) يربو على ثمانمائة شريط فيديو بالعربية والفرنسية.بَيْدَ أن لبوبكري نصوصاً كتبها في تلك الفترة ونُشِرَت في “الرغبة الإباحية” ثم في “النقطة” و”فراديس”، وهي المجلات السوريالية التي تعاون مع عبد القادر الجنابي على إصدارها في باريس. من تلك النصوص مثلاً، نصٌّ يعتزّ به كثيراً، وهو بعنوان “مجال العربية وجمالها” (وعنوان فرعي “عَوْد العربية الأبدي”)، ونص آخر ضد العامة بعنوان “العامقراطية”. كما نشر ترجمةً لنص أساسي في ميدان الشعر من تأليف أندريه بروتون وصديقه جون شوستر بعنوان “صناعة الشعر” (l’Art poétique). غير أن لبوبكري أيضاً موقفاً لم يتغيّر ممّا يُسمّى في رأيه تدجيلاً بـ”السوريالية العربية” يلخّصه بما يأتي: “السوريالية هي نقيض الفوضوية أو على الأقل هي ليست الفوضوية التي نادى بها ناشطون سياسيون أمثال باكونين. لكنَ بعض العرب مثل عبد القادر الجنابي ناشر مجلة “الرغبة الاباحية” (التي سميتها “الرغبة النباحية”، وذلك في مقال لي نشرته جريدة “الحياة” اللندنية، قفزوا من الفوضوية إلى السوريالية فبعض الفوضويين العرب الذين ظلوا يحملون بداوتهم وأعرابيتهم، لا عروبتهم، انتحلوا صفة السوريالية تماماً كما انتحل العفيف الأخضر صفة الماركسية، ثم قفز من الماركسية إلى الفرويدية والتحليل النفسي (في كتابه من محمّد الإيمان إلى محمّد التاريخ).
كانت مجلة “عيون” الصادرة في ألمانيا قد نشرت مختارات من مجموعة بوبكري الشعرية “إرادة التوترات”. كما كانت مجلة “بانيبال”(5) الصادرة في لندن، قد نشرت مقتطفات من مجموعة شعرية له بالفرنسية (وهي ليست ترجمة عن الأولى، بل مؤلّفة في الأصل بالفرنسية بعنوان: Pré-tensions) وقد ترجم منها عن الفرنسية مقطعًا جد قصير إلى الإنجليزية الشاعر الإنجليزي جيمس كيركب James Kirkup. في تقديم مجموعته الشعرية “إرادة التوترات” كتب بوبكري: “ليس هدف هذا النص “إبداع” ما يُسمّى بالشعر، وإنما الهدف “روجسا”، أي “روح ـ جسد” ومغزى الروجسا، بعيداً عن محتوى مصطلح علم الطب، في مجال الأعصاب مثلاً، وعلاقة ذلك بما تدّعيه بهلوانيات علم النفس التحليلي (psychanalyse) تحت مصطلح التأثير المتبادَل تفاعلياً بين النفس والجسد أو “النفجسدي” (psychosomatique)”.
لاحقاً، جعل بوبكري من نتاج فرويد هدفاً لنقده باعتباره “العلم الحزين” مقابل “العلم المرِح” لفريدريش نيتشه Friedrich Nietzsche، فقد وضع بوبكري باللغة الفرنسية بحثاً معمّقاً بعنوان: “العلم الحزين: التخلّص من علم النفس” (Triste science: se débarrasser de la psychanalyse) كشف فيه “تدا/جيل فرويد”(7). كما وضع بوبكري باللغة العربية مسرحية على منوال “رسالة الغفران”، بعنوان: “المحكمة العليا لمحاكمة تدا/جيل فرويد”. وقد اختار لهذه المحكمة أعضاء فلاسفة من جميع العصور: من الزمن القديم الفيلسوف الإغريقي صينك Sénèque، ومن القرون الوسطى المتنبي والمعري، ومن قمة عصر الفلسفة الذي لم يشرق بعده عهد، أي القرن التاسع عشر، هيغل وماركس ونيتشه”.
“متواتراً” مع اللغة وأبعادها التي لا حدّ لها، يتميّز بوبكري بالتعبير عن أفكاره بأسلوب فريد فهو يجرح الكلام لاجتراح عبارات جديدة، ويشقّه لاشتقاق كلام جديد، وتوليد مفردات باتت تحتاجها لغتنا العربية. اجترح قادر بوبكري كلمة “مِدرَك” في مقابل عبارة concept التي ابتدعتها الفلسفات اللاتينية، والتي لا يرى أن “مفهوم” أو “تصور” يصلح مقابلاً لها؛ ويبرر ذلك بقوله إن “المِدْرَك هو عديل المِبضَع، فإنك إذ تستعمل الآلة على منوال اسم الآلة في علم الطبّ مثلاً، المِبضع، تكون دوماً وأبداً مسؤولا عن الفعل بآلة، آلة جديرٌ بنا أن نسمّيها “المِبْدَع”.
ومن النماذج الشعرية التي تعبّر عن الشعر الفلسفة، بالمعنى الذي يفسّره بوبكري، قصيدة بعنوان “خير أمة أو الجهلوتيون باسم الإسلام(8). يقول بوبكري: “مفهومي الجوهري من خلال قواصدي في “إرادة التوترات” هو الشعر على أنه الفلسفة، بحيث إن الفلسفة هي الشعر، وبمغزى إن الفلسفة هي ما يتأتّى من كيانات الروجسا. وما أعنيه بالفلسفة هو الضدّ النشِط لما يُعرَف بـ”حبّ الحكمة”، ناهيك بـ”الحقيقة”. وإن كان لا بدّ من أمرٍ يقارب معنى مسألة الحقيقة، فإني أفضّل الاهتمام بمسألة الكذب”.
اهتم بوبكري اهتماماً خاصاً بنتاج نيتشه، فوضع بحثاً كان الغرض منه قبل كل شيء ـ كما يقول ـ “الاحتفاء باستقبال نيتشه في الفكر العربي”(9)، وهو ما يسميه “في ضيافة نيتشه لدى الخيمة العربية النجومية”. ويتضمّن البحث ملخصاً نقدياً لفلسفة نيتشه وحياته، وترجمات لعدد من قصائده، منتقاة فلسفيًّا، وهي قصائد غير منشورة في العربية لحد الآن. ويرى بوبكري أنه أضاف جديداً إلى ماهية الفلسفة، أضاف إليها “اجتياز الفلسفة” بالمعنى الذي ذكره في مقالته “جمال العربية ومجالها” على أنه “لا تجاوز من غير اجتياز”. والإضافة النقدية هذه يلخّصها بعبارة واحدة هي “النيتشاركسية” أي ـ كما يقول ـ “العلاقة الجذليّة (بالدّال المُعْجمة) بين نيتشه وماركس”. والنيتشاركسية تقدٌم في مجال علم الفلسفة، فهذه التسمية التي تجمع بين اسمين لعالمين بلغا بعلم الفلسفة أقصى مراحله، وهما كارل ماركس وفريدريش نيتشه، مكّنت الطليعة البشرية من الوصول حتى القرن الحادي والعشرين. وفي صدد هذا الكشف/ الاكتشاف، يقول بوبكري:
“ما أكشفُه من خلال عمل التحليل بالبحث، مضمونه كشف الإخفاء الذي كرسته الأبحاث حتى اليوم في المؤلفات باللغات المختلفة. وبالتكرار تحوّل التكريس إلى ترسيخ أن الماركسية لا يمكن أن تتواصل مع النيتشية؛ فأصبحت هذه الفرضية مفروضة على الباحثين، وبالباحثين، حتى صارت “حقيقة” من غير حق. على الحقيقة هذه، تم بناء قصور (تقصير) من ورق في أرض وسماء علم الفلسفة، انهارت بها قيم النزاهة العلمية، وأدت إلى سطحيات خطيرة النتائج، منها ربط التاريخ الفعلي لهتلر “النازية” بـ نيتشه Nietzsche وستالين Staline بـ “الشيوعية”. بالبحث والتحليل المنحاز لرفض طلب الظهور، ولو بالزحف على الظهور، أستطيع تأكيد أن نيتشه عرف من هو ماركس وما أنتجه وعرف سيرته. وأنا بصدد إنجاز الموضوع بالمنهجية المسماة بـ “الجامعية والأكاديمية”. وأنبّه إلى أن الوسائط الفعلية التي تجعل أن نيتشه عرف من هو ماركس لجهة نتاجه وسيرته هو ـ من بين آخرين ـ “صديقته المقرّبة منه إلى حد تسميته لها بـ”الأم الحنون”، المعروفة بمذكراتها، وأولها “مذكرات مثالية ألمانية”. فهي ذكرت اسم ماركس في الطبعة الأولى لكتابها الأول المترجم إلى الفرنسية عند صدوره، وأسماء آخرين ممن كانوا في لندن كلاجئين سياسيين مثل ماركس وعائلته لسنين عديدة. وألفتُ الانتباه إلى أنّ سنّ نيتشه عند وفاة ماركس (عام 1883) هو 39 عاما، كان خلالها نيتشه ما يزال في حالة صحية تُمكّنه من القراءة والتواصل بالمراسلات والتواصل باللقاءات المباشرة مع من “ملأ الدنيا وشغل الناس” في عالم كان نيتشه حاضرا فيه قبل غيبوبته بعد مأساة سقوطه في مدينة “تورينو” الإيطالية، “جنون” نيتشه الذي سمّيتُه “عندما هوى نيتشه”. وفي مجال البحث العلمي، وبخاصة في مجال الفلسفة – التي هي عقل العقل – وحده الاجتهاد العقلي يجعلنا قادرين على عدم الوقوع فيما أسميه الأكاديمولوجيا وما تعنيه وتكرسه من جمود بقناع البحث، المفترض فيه أنه يوجب الحركة الاجتيازيّة الفعلية “إذا كان فعلا بحثاً”. والأكاديمية في منشئها هي الانضباط بمسطرة الأوائل (ومن هنا معنى المرجع الذي يسمى أيضا بالموئل). فأقول تلخيصاً:
• اللص المتذاكي الذي هو “فرويد”، اللص المريض الذي لبس قميص الطبيب “بالتحليل النفسي”، والذي قام بالسطو والتطفل على عمل نيتشه ما كان ليستطيع خلق دين جديد “يُملي” فراغا تركه تواري الدين (في البلدان التي صار للدين فيها، كي يتوارى، ناطحات سحاب من المصانع، وليس عمارات غير عامرة بعقل العمل وعمل العقل مثل تلك التي تشترى بأموال ناتجة عن غير إنتاج). وهذا من بين نتائج إخفاء وتغييب نيتشه من حضور نتاج ماركس، فكان فرويد من بين “الحشريين” بينهما متخفيا.
• لو لم يتم تعاون غير معلن لقطع الجسر الفعلي الموجود بين فكر نيتشه وماركس، لَما بقي فرويد سوى طبيب أعصاب بالمستوى الذي كان له في القرن التاسع عشر بمحدوديّاته العلمية ـ أي مستوى الصراع في مجال العلوم التطبيقية ـ التي أشار إليها “إنجلز” صديقُ ماركس وشريكه فكرياً.
• كان ممكناً معرفة النقد السلبي أو التوافق بين ماركس ونيتشه لو لم تقم مقرَّبةٌ من نيتشه، الكاتبة الألمانية “مالويدا ميزنبون”، بإخفاء ما تعرفه عن مدى معرفة نيتشه بفكر ومكانة ماركس في عهده. وسبب ذلك، في رأيي، هو أنها عاشت في صراع مع ذات نفسها تجاه وجود إله أم لا وجود، وهي نفسها حال “لو سالومه” (واسمها الحقيقي Louise von Salomé) المحبوبة الإشكالية من نيتشه، ولذلك وجدت “لو سالومه” عزاءً مسموماً عند” فرويد”، سماحة رجل الدين الجديد الذي دينه السماحة مقابل دراهم قررت سماحته أنها: “جزء من العلاج” (حرفياً في شعائره ومسجلة كشرط “علمي” في مزاميره).
• بعيداً عقليا عن حكاية نظرية المؤامرة، ما حدث لجهة أخت نيتشه، هو رغبة في جعل وضع أخيها منسجما مع زمن صعود هتلر. وخطيبها “فرستر” كان عنصريا معروفا ناشطا. وكان نيتشه يكره علاقة أخته به. ثم قامت نظريات من التلفيق جعلت نيتشه عدواً افتراضيا لماركس، ومصالح واقعية لجماعة “البازار”، مثل “لوران حسون” و”ميشال أنفري” وغيرهما في “فرنسا الأدوار” لا “فرنسا الأنوار”.
والفرد في رأي قادر بوبكري “ليس جديراً بالفردية إلا اجتيازاً لفلسفة شوبنهاور Arthur Schopenhauer وهيغل Georg Wilhelm Friedrich Hegel وماركس ونيتشه”. هذا الفرد هو الملتزم بما “لا يلزم” (اختصارا لقولة أبي العلاء المعري التي لم يُفْهَم حتى الآن مصداق لها: “أُولو الفضل في أوطانهم غرباء”)(10).وفي النيتشاركسية الفرد هو ما “فوق” خير وشرّ(11)، والتفوّقية هنا هي على النفس “مع” الذات وليس “على” الآخرين. ويرى أيضاً أن “الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز Gilles Deleuze لم يصل ماركس بنيتشه إلّا بإشارة عابرة، لأنه انهَمَّ بالزمن الحالي وبنزاهة علمية ورِفعة”، ففلسفة دولوز هي في التدقيق، ليس فيما فوق الطبيعة أو ما تحت الطبيعة أو من خلال الطبيعة أو الطبيعة نفسها، إنما في “الشرطية الإنسانية” (بعبارة أندريه مالرو André Malraux) بمعنى أنّ الفرد الذي تجسّد بعد انتصار الثورة الفرنسية والوريث المُزامن والمَدين لكل الحضارات السابقة، هو النتاج المنتج لما يسميه بوبكري “النيتشاركسية” أي:”المجتمع على أنه المفترَد، وليس المُقتَمَع. القِيَم من قيام الأفراد لا من “أخلاق” ماسكة بأخناق الأفراد، الفرد المتضامن بالماديات والمستقلّ بالمعنويات، أي لا مسؤولية بلا حرية، ولا حرية بلا مسؤولية”.
بدأ كل شيء في جامعة فنسانفي تلك الفترة قدّم بوبكري بحثاً لنيل شهادة التمكّن (Maîtrise) وما زال البحث محفوظاً في مكتبة الجامعة بعدما تمّ تصنيفه “مهمّ”، مع أن البحوث للشهادات من درجة غير الدكتوراه لا يُحتفَظ بها في مكتبة الجامعة. وجديرٌ بالذكر أن بحث بوبكري هذا المخطوط بيد صديقه موسى بوخريص، زميله في مجلة “آفاق”.
يرى بوبكري أن الحضارة الغربية “احتكرت الفلسفة وزوّرت ملكيتها، بزعم أنها مركز الفلسفة العالمية اليونانية الرومانية، وأن الحضارة العربية ليست سوى حركة “يحمل أسفارا”، أي أنها حملت الفلسفة اليونانية إلى ما يُسمّى في زمننا الحضارة الغربية، أو “الحضارة اليهودية المسيحية”. فتمثّل في هذا الزعم جبروت الشموخ العالي المرمري الذي نقش على رخامه: “هنا مركز الفلسفة العالمية اليونانية الرومانية”. فيكون بالتالي كل ما عدا ذلك من فلاسفة عرب وشرقيين هو من باب “المتكلمين” و”المبشرين”.. ومقعدهم خارج أكاديمية “الفلسفة”. فمن واجبنا أن نواجه هذه المقولة الاستعمارية التي مفادها أنّ الحضارة العربية في مجال الفلسفة ليست سوى حركة “حمل ونقل أسفار”. فليس صحيحاً أن العرب اكتفوا بحَمْل فلسفة الإغريق إلى أوروبا، ولم يكونوا ـ حسب النرجسيّة الاستعمارية ـ سوى حمّالين يحملون أسفارًا. في جامعة فنسان مدرسة في الفلسفة موازية لمدرسة فرانكفورت الألمانية التي أرى فيها منبَعَ النتاج العلمي لدولوز”.
يقول بوبكري: “درستُ ماركس ونيتشه من خلال بيوغرافيا كل منهما ومن خلال مراسلاته، وكيف عاش وكيف كانت حياته ووصلتُ إلى اكتشاف أمور مهمة؛ اكتشفتُ أن ماركس ونيتشه كان يعرف كل منهما اسم الآخر، وما أوصلني إلى ذلك هو البحثُ في حياة “مالويدا ميزنبون” المعروفة بكتابها “مذكرات مثالية ألمانية”، ومعرفتها الطويلة بنيتشه، فقد كانت له في مقام صديقة بمرتبة “أم حنون”. من هنا حتمية معرفة نيتشه لموقع وهوية ماركس من خلال ذلك، وهو ما طمسته أختُ نيتشه بعد وفاته، ونجحت في جعل الباحثين لا يجدون مدخلاً للوقوف على مدى معرفة نيتشه وماركس كلٌّ منهما بهوية الآخر، وقد عاصر كل منهما الآخر (نيتشه 1844 ـ 1900 وماركس 1818 ـ 1883. عند وفاة ماركس كان عمر نيتشه 26 عاماً، وكان أستاذاً جامعياً في جامعة بازل السويسرية المستعملة للغة الألمانية وهي اللغة المشتركة مع ماركس، إلى جانب الفرنسية التي كان يتقنها. صحيح أن بورديو Pierre Bourdieu اشتغل على ماركس “متحفيّاً”، إذا جاز التعبير، ولكن على الجانب السوسيولوجي في ماركس، وليس على الجانب الفلسفي. بهذا الصدد يقول بوبكري إن بورديو لم يتعمّق في فلسفة ماركس لأنه ليس فيلسوفاً بل هو عالم اجتماع. جيل دولوز Gilles Deleuze هو الوحيد بين المفكرين الفرنسيين الذي يقول بالتقارب بين ماركس ونيتشه وقد عبّر عن ذلك بقوله: “كانا يرقصان في حلقة دائرية يداً بيد”. وتجدر الإشارة إلى أن الفرنسي “هنري لفيفر” Lefebvreهو أول من اهتم بمسألة ماركس نيتشه، في بداية عشرينيّات القرن العشرين(12).
ويرى بوبكري أن بعض ما وصل من كتابات نيتشه هو أصلاً مزوّر؛ لأن كثيراً من الوثائق التي كتبها زوّرَتها أخته إليزابيت بعدما أخفت أرشيف كتاباته وحوّرت بعضها، فطمسَت علاقة المعرفة هذه بينهما، وجمعت نصوصاً له تحت عنوان “إرادة القوة” لكي تنال إعجابَ هتلر، فأظهرَتْ نيتشه وكأنه “عنترة”، في حين أن نيتشه كان قد قطع علاقاته بفكر فاغنر العنصري، وكتب ضدّه كتاباً بعنوان: “ريتشارد فاغنر في بايرويت” (Richard Wagner à Bayreuth) أما أخته فبقيت نازيّة على فلسفة فاغنر. كما أن المزوّرين عمّموا على الجميع أن نيتشه نازيّ، كما قالوا عن ماركس “ستاليني” (قبل الأوان). كما أسهمت الأحزاب “الشيوعية” كثيراً في هدم فكر ماركس وأظهرته “معادياً للدين”، وهذا خطأ فادح. كذلك فعل العرب الذين تكلموا عن نيتشه وقرّبوه من النازية؛ فقد تلقفوا “إرادة القوة” على نحوٍ مغايرٍ لمعناها. تحديداً لأنّ الكتاب جاءهم من الغرب. كما أنّ محمود العقّاد أشار إلى التشابه بين المتنبي ونيتشه ولكنه فعل ذلك على نحوٍ إنشائي وليس بتعمّق تحليلي. كذلك كتب توفيق الحكيم مقدمة لكتاب زرادشت الذي ترجمه إلى العربية فليكس فارس، لكنها مقدمة سطحية. ويقول ثروت عكاشة وزير الثقافة في عهد عبد الناصر والمعاصر لأندريه مالرو وزير الثقافة الفرنسي في عهد الجنرال ديغول، يقول في مذكراته: “كنّا(13) نقر نيتشه..” بينما طه حسين أساء إلى المتنبي في الحطّ من شأنه، وإلى أبي العلاء المعري في معرض فهم حقيقة شأنه. غير أن الباحث العراقي، محمد محيي الدين خفاجي، ردّ على طه حسين ردّاً مفحِماً(14). أما اللبنانيون فقد فهموا نيتشه كما فهموا جبران خليل جبران، فهماً مسيحياً. يذكر بوبكري أنّ سلامة موسى استعمل عبارة “سوبرمان” بدلاً من “الإنسان الأعلى” (التي استعملها عبد الرحمن بدوي وهي أيضا غلط).
قادر بوبكري يرى أن حقّ واجبنا اليوم إدراك أن الثقافات عالمياً تتخالط بمعنى تتخالص، أي إنّ حوار الحضارات هو في الحقيقة تخالص الحضارات أي تلخيص، كل شعب يلخّص تاريخه من دون أن يتخلّص منه ويكون مخلصا له. في عُرْف القوة الرمزية للتاريخ يكون فولتير من سكان طنجة، وصيناك من سكان كندا والمأمون من سكان باريس والوجوه التاريخية كلها التي تمثل عبقرية شعوبها تسكن كل شبر من هذه الأرض”.
ومن صداقات بوبكري الفكرية المثيرة للدهشة العلاقة الفكرية التي ربطته بأصدقاء له لم يتعرّف إليهم شخصياً كتلك العلاقة (عن بُعد) بانتاج أمجد ناصروتلك التي ربطته بصديق لم يره قط، ولم يتعرّف إليه شخصياً البتة، حتى أنهما لم يلتقيا ولو بالمصادفة، هو حسن قبيسي أستاذ الفلسفة الإسلامية في الجامعة اللبنانية لمدة عشرين عاماً، وصاحب “المتن والهامش” و”رودنسون ونبي الإسلام”، ومترجم “أصل الأخلاق وفصلها” لنيتشه، وعدد من الإنّاسيّين (الأنتروبولوجيين) أمثال كلود ليفي ستروس وجاك لومبارد وإيفنز بريتشارد وإريك فروم.. وقد بلغ تأثر بوبكري بوفاة حسن قبيسي أنه رثاه في قصيدة بعنوان “التوحش المقدس، وهي قصيدة مسجّلة بصوته على اليوتيوب.
من العبارات التي اجترحها بوبكري عبارة “عِلمئيمانية”، إذ يكثر في العربية استعمال كلمة عَلمانية (بفتح العين) نسبةً إلى عالَم، أو عِلمانية (بكسر العين) من عِلم، وبعضهم يقول “لائكية” التي هي تحريف للعبارة اللاتينية laïque التي لا تتناقض مع الدين. ولأنّ هذا المفهوم يجمع بين الإيمان والعِلم، فقد ابتكر له بوبكري كلمة “عِلم ـ إيمانية” فهو يرى أن العِلم لا يصحّ إلا بالدين، بالمعنى الذي ذهب إليه رابليه حين قال “عِلمٌ بلا ضمير خرابٌ للروح”. لم يحارب كارل ماركس الدين بوصفه إيماناً، وإنّما حاربه بوصفه أداةً تستعمَل للسيطرة والتضليل، ولم يحارب الدين إلا بشرط واحد، وهو إذا استُعمِل مخدّراً. وكان تكوين ماركس فلسفياً وكانت أطروحته الجامعية (1841) فلسفية محضا، وتحمل عنوان: “تبايُن [مفهوم] فلسفة الطبيعة عند ابيقور وديمقريطس” (Différence entre la philosophie de la nature chez Épicure et Démocrite). كذلك تشي غيفارا كان ماركسياً بالسليقة والعفوية ولم يكن معادياً للدين بدليل أن المسيحية التي استُخدِمَت في أميركا الجنوبية كانت تيولوجيا دينية لتحريرها من الاستعمار، تماماً مثلما استُخدِم الإسلام أداةً لمقاومة الاستعمار في الجزائر.
في نظر بوبكري أن “الشيوعيين المتمركسين” ارتكبوا خطأً فادحاً حينما أنكروا على العامّة الدين والإيمان، بمقولة “الدين أفيون الشعوب”، فهُم بذلك يُخفون الجزء الآخر من الآية “ويلٌ للمصلّين…” مقطوعةً عن تتمّتها المكملة للمعنى الصحيح. ثمة نص مطوّل لماركس يستفيض فيه حول استعمال الدين تاريخياً أداةً لتضليل الشعوب وتخديرها، لكنّه أبدًا لم يتنكّر للدين أو يُنكِره على الناس(15). ونحن نرى أن العمود الفقري للثقافة في العالم الإسلامي هو الإيمان، فإذا نزعتَ من الناس الإيمان ولم تعطِهم شيئاً بديلاً (غير الكلام الفارغ عن التحرر والمستقبل..) فهذا اعتداء عليهم أو احتقار لهم. والإسلامُ يُجِلُّ العقلَ، والقرآنُ يحثّ على العِلم، والاجتهادُ في العِلم يُقفَل الباب أمام المتأسلمين(16) ويتنافى مع تمسّكهم بالتقليد ويدحض قولهم بأن ثمّة جوابًا جاهزًا على كل شيء، إذ يكفي أن نأخذه من الجواب الذي كان تجاه حوادث جرت فيما مضى من الزمن. غير أن الزمن لم يتوقف والحوادث مستمرة، وعلى المسلمين أن يجترحوا إجابات تجاهها بفضل تقواهم وعلمهم وعملهم. فهل توقف الزمن بوفاة الرسول؟ لو أن الله أوقف الزمن لحلّ يومُ الحشر والقيامة. لكن الله مدّد الزمن، والحكمة من تمديد الزمن هي “ليبلوَكم ويرى أيُّكم أحسن عملا”، أي ليمتحنكم. والامتحان لا يحصل بعمل واحد، وإلا لكان الخلق جميعاً يعرف سلفاً النتيجة المطلوبة والعمل الذي يجب عليه أن يقوم به. وإنما مادة الامتحان تتغيّر دائماً، والزمن هو الحوادث التي تتوالى ولا تتوقف، وعلى الإنسان أن يستجيب لتحديّاتها ويجد الإجابة الصحيحة عنها بفضل عقله وعِلمه”.
بوبكري هو الذي دشّن مصطلَح الـ”خميهابية” الذي يعني أن كل نقد للخمينية لا يصحّ إلا مقروناً بنقد الوهابية وكذلك لا يستقيم نقد الوهابية معزولاً عن نقد الخمينية. وهو لا ينتقد مساوئ الخمينية كي لا يبدو ذلك من منطلق وهّابي؛ فكل نقد للخمينية يجب أن يرتبط ارتباطاً وثيقاً وعضوياً بنقد الوهابية، بحيث إنهما يصبحان ما يمكن تسميته “خميهابية” ليصبح هذا النقد نقداً لكليهما معاً، فهُما أداةٌ إيديولوجية سياسية واحدة لهدم المجتمعات العربية الإسلامية الموحدة وتفتيتها بصراعات مذهبية هي ليست من الدين في شيء، وهي من كل شيء في الجهل الفعّال ضدّ العقل الفعّال. الصراع القائم بينهما هو صراع سياسيّ لا ديني، والإسلام توحيد وليس مذهبية. على أنه ليس هناك عربٌ في هذا الصراع بل هناك أعراب لأن العروبة هي أيضاً توحيد، ويحقّ لكل عربي أن يختار الدين الذي يشاء أو أن يعتنق المذهب الذي يشاء، أو أن يكون فكره الديني مستقلاً عن كل مذهب ديني. والعروبة تعترف بحق العربي في اعتناق الفكر الذي يشاء، والحضارة العربية هي أصلاً ثمرة هذه الحرية، عبّرت عنها جميع الشعوب على اختلاف انتماءاتها العرقية والدينية واللغوية في إطار العروبة اللغوية والإسلام التوحيدي. والعروبة أكثر شمولاً من الدين لأنها تجمع ضمنها جميع الأديان. ولذا، فالعروبة ثقافة لا يمكن أن تبتلعها خمينية أو وهابية أو غيرهما من الإيديولوجيات المذهبية السياسية. العروبة وطن والوطن قبل المذهب الديني. والعروبة قبل الدين (السياسي) وهل يحق للوهابي أن يكون سنيّاً ولا يحق لليمنيّ أن يكون شيعياً أو زيدياً أو غير ذلك؟ ثم إن الحرب التي تعيث فساداً في العرب بين المسلمين “شيعة” و”سنة”، هي من العبث واللاعقلانية بحيث لو أنّها كانت حرباً بين “سيعة” و”شنّة” لبقي لامعناها على ما هو عليه تماماً، جهلاً وتخلّفاً. الإيديولوجيا السياسية تستند إلى دين، غير أن المفارقة هي أن الدين ينفيها لأنه جامع وتوحيدي وشامل للجميع بلا تفرقة (خلقناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا… إلخ) وفي قاصدة يقول: “الوطن هو جسد الدين: وتبعية المواطن لدولة تريد احتلال وطنه باسم الدين هي خيانة للدين والوطن؛ فتسليم (بالوعي) الوطن إلى آخرين بدعوى المذهب، يجعل الروح بلا جسد”.
يتحدّث بوبكري عن الفلسفة بوصفها «أسلوب حياة» ينزع إلى جدليات وتوترات، وكان الشاعر العُماني سيف الرحبي، رئيس تحرير مجلة “نزوى”، قد ذكر في مقالةٍ مطوّلة، الجزائري قادر بوبكري والمغربي رشيد صباغي، والجزائري علي بن عاشور… وغيرهم ممّن “لم يقعوا في إغراء الكتابة فظلوا مجهولين إلا لدائرة الأصدقاء. كلهم يملكون عمقا فلسفياً ورؤية مميزة للوجود والعالم”(17). وخصّ الرحبي في مقالته تلك، خصَّ قادر بوبكري بقوله: “اقتلعتَ جسدَك مثل كثيرين من صحراء الجزائر مُيَمِّماً نحو باريس؛ عانقتَ أشباح الأسلاف الآفلين من غير أمل ولا يأس؛ عدو الثنائيات أنت والاختزالات البلهاء. كم من الأزمنة وأنت تحرث المدينة أفكاراً ومدناً كأنما تطارد حلماً هرب منذ ولادتك في الصحراء ولن يعود إلا بعد الرحيل الأخير والموت. كم من الوقت مضى.. ثلاثون.. خمسون عاما.. وأنت ممتطياً حصانك الذي جمعتَ أشلاءه من قارعة الطرق لتمخر به ليلَ المدينة العصيّ ونهارَها. عاشرتَ الكتب أكثر من البشر وذهبتَ في نأي العزلة بعدما شاهدتَ القطيع يوغل في انحداره المقيت”(18).
في مسألة الجبر والاختيار يرى بوبكري “أن الإنسان، من غير التنازل لتلاعبية الألفاظ، هو: مسَخْيَر، أي مسيّر ومخير في آن.
يقول بوبكري: “ثورة سنة 1968 كانت بالنسبة إليّ حالة قدسية فعلا، بمعنى أنها مكّنتني من الشعور بكونية الإنسان وحالة غفران كامل للصفحات الاستعمارية من التاريخ العربي عبر الجزائر، بحيث إن الحل الذي كنت، كغيري، أبحث عنه، بدا لي أنه لا يمكن أن يكون إلا كونيا، كما أن “الشمس لا يمكنها أن تسطع في بيتي وحده”. وقد صاحب ذلك خبر وفاة ذلك المناضل الشريف الذي هو تشي غيفارا، وكان مناصرا للقضايا العربية العادلة في الستينيّات. واليوم، مرةً أخرى يغمز لنا التاريخ الآن سنة 2007، بأنّ أحد أهم الحلفاء التاريخيين للقضايا العربية العادلة هم هؤلاء المناضلون الشرفاء في أمريكا اللاتينية الذين لا يمارسون أي ابتزاز بشأن هذا التضامن، فهم لا يريدون الاستيلاء على الماديات العربية ولا يطالبونهم بالتخلي عن روحانيتهم”(19).
يقول بوبكري: “كان زلزال 1968، الثاني بعد زلزال سنة 1967، جسراً في ذهن جيل كامل، أقصد الجيل العربي الذي كان يعيش في أوروبا الغربية متأثراً أيضاً بأصداء سنة 1968 في أمريكا الشمالية، حيث نشأت أقوى حركة ثقافية بامتداداتها في عالم الموسيقى والسينما وتحريرها لطاقات الأفروـ أميركيين الذين شرفوا تاريخ أجدادهم عن طريق انتفاضات المناضل «مالكولم إكس» ثم حركة «الفهود السود» (الذين التجأوا فيما بعد إلى الجزائر”. فقد عاش قادر بوبكري أحداث 68 في باريس من داخلها، لا على هامشها، وعرف مختلف التيارات الفكرية التحررية التي ضلعت في تشكيل تلك الأحداث، فقد اطَّلَع مباشرة ومعايشةً على فكر مفكّري حركة “مبدعي الأوضاع” (les situationnistes) أمثال غي ديبور وراؤول فانيغيم، والسورياليين أمثال أندريه بريتون وجون شوستر(20)، والتروتسكيين أمثال كوهين بنديت، والجيفاريين أمثال ريجيس دوبري.. والعربي الوحيد الذي كتب بالفرنسية في مجلتهم مقالاً له صدى المعرفة والأسلوب هو مصطفى خياطي (من تونس) والمقال عنوانه “الكلمات الأسيرة” (Les mots captifs) » .
ويفسّر بوبكري أن “ثورة” في اللاتينية لها علاقة لغوياً بثورة (دورة) الأرض واكتمالها، أي اكتمال الدورة ré-évolution عَوْد الدورة يجدّد دورة إضافية أي تكميلية. في اللسان العربي هي مشتقةٌ قبل كل شيء ومتصلةٌ بعملية الثأر، وإلى درجة أن الشخص الذي يطلب بدم المقتول من أهله أو من ذوي القربى، فإنه يسمّى “ثائر”.
بوبكري اهتمّ في مرحلة ما بالرسم التشكيلي بأدوات مختلفة، ناف عدد لوحاته على أربعين رسماً، ومنها لوحة عن المتنبي، وقد أهدى هذه اللوحة إلى الرئيس شيراك، وهي اليوم معروضةٌ في متحف جاك شيراك الذي دُشِّن منذ زمنٍ قريب، مستوحاة من فلسفة المتنبي وتحديداً من قوله «هَوِّنْ على بصرٍ ما شقَّ منظرُهُ/ فإنما يَقَظَاتُ العين كالحُلُم» (وقد ترجم هذا البيت إلى الفرنسية مع اللوحة المهداة). ولأن بوبكري منهَمٌّ بالمتنبي على أنه فيلسوف أكاديمي، مثل المعرّي (وهُما “ليسا حكيمَين بالمعنى الشعبجي”، كما يقول بوبكري، وحين يتوقف بوبكري عن القراءة أو الرسم، يمارس هواية تكاد تكون فريدة: يُلقي بحبوب الأرزّ التي لا تخلو جيوبه منها لطيور الحمام وعصافير الدوري. وهو يفعل ذلك على شرفة منزله، حجرته الوحيدة، التي ليس فيها من الفخامة سوى أنها تُطلّ على برج إيفل، أو جالساً في أحد المقاهي، أو على مقعد في حديقة عامة، أو متسكّعاً في شوارع باريس التي يجوبها منذ حوالي نصف قرن! و”اجتيازاً” لذلك، يردّد بالفرنسية من نفسه وإليـ…ـها، ما كتبه ذات يوم: “Je ne suis pas un Homme comme les autres, je suis un autre comme les Hommes” (“لستُ إنساناً كما الآخرين، إني آخرٌ كما الناس”)!