من جهات شتى، وعبر بنى مختلفة تنشأ شعرية العبارة في قصيدة «لست ضيفا على أحد»، في الديوان الذي يحمل عنوان القصيدة للشاعر قاسم حداد والصادر عن بيت الشعر إبراهيم العريض ومركز الشيخ إبراهيم آل خليفة والمؤسسة العربية للدراسات والنشر في طبعة أولى، سنة 2007، حيث تقع القصيدة بين الصفحتين 99 و102.
سندرس بعض الخصائص الفنية والأسلوبية في هذه القصيدة انطلاقا من بنية المشابهة وبنية الطباق وبنية النفي، مستخلصين ما تؤديه من معان أولى ومعان ثوان.
إنّ قارئ القصيدة يعثر بيسر على الرغبة في نقل جوّ ملؤه الحركة، ولكنها حركة تظل خارج ذات الشاعر؛ حركة مادّية توازي حركة نفسية معتملة في وجدان الشاعر.
فلازمة الفعل المضارع الدالّ على الحركة (تأتي…)، حيث تنشئ القصيدة عالمها عبر مكوّنات تلامس الحواس الخمس مجتمعة:
البصر
شارع كودم
مسارب الضوء
الظلال الكثيفة
بأضوائه
الثلاثة
حوافّ
الرصيف
خضرته
أوراق صفراء
السمع
الأراكيل
نحاس
الطواجن
الموسيقى
بصناجاته
الشمّ
بعطرها
البهار
بالتوابل
مثل
عطر
الغابات
الذوق
القهوة
الأرز
اللمس
يحرك
أعضاءه
ما نستنتجه من هذه التراكيب والتجميعات المتنوعة لمختلف الحواسّ، أنّ العالم الذي تنشئه القصيدة هو عبارة عن مزيج، لا هو شرقي وإن اشتمل على مكوّنات شرقية، ولا هو بالغربي وإن احتضنه إطار غربي.
فالشاعر يولّد عالما متشظيا تختلط فيه زوايا النظر، كأنما جمعته ذاكرة مشتتة، لا بفعل حادث عنيف ولكن بفعل تداعٍ شعري يدّعي العفوية، ويعبّر عن القلق وعن النفور من الجاهز وعن شهوة صناعة المُغايَرة ونقض المسافات.
* بنية المشابهة:
تقوم عبر ثنائية التشبيه والاستعارة، ويكن عرض أهمّ التشبيهات في هذا النصّ كما يلي:
المشبه
التوابل
شارع كودم
المشبه به
عطر الغابات
سفينة عظيمة
أداة التشبيه
مثل
مثل
وجه الشبه
النفاذ
الغرور
إنّ هذه المكوّنات التخييلية تبيّن فكرة الغربة، فالشاعر يستحضر التوابل (وأصلها من الشرق) ويشبه الشارع البرليني بسفينة (وما تدلّ عليه من رحيل)، فنفس المتكلم تحدّثه في لا وعيه بالرحيل وتذكّره بأنه طائر مهاجر عليه أن يتذكر كلّ حين وقت العودة… وتذكره هذه النفس بمكوّنات عالمه الأصلي (الشرق): الأرز البسمتي، فمعلوم أنّ هذا الطعام هو غالب قوت أهل المشرق، وما استحضاره في البيئة الألمانية إلا حنين وضرب من النوستالجيا التي تعصف بوجدان الشاعر.
ويقوم نظام الاستعارة في هذا النص على تشخيص ما هو جامد وإكسابه متعلقات العاقل:
– في غرفة تئن أرضها مصقولة تحت عربات أحلامي.
– بيت هارب من منخفضات الريح
– بيت يختار العزلة
– نافذة تطل مواربة
والملاحظ أنّ جميع هذه النماذج قد تعلقت بالمكان، حيث نسب الشاعر الأنين إلى الغرفة والهروب واختيار العزلة إلى البيت والإطلالة للنافذة.
قد تكون هذه الاستعارات المكنية إشارات إلى الإنسان الذي فقد شعور الراحة في هذا المكان، فتعاطف معه المكان بأن تبنى ألم الإنسان وهروبه وعزلته.
* بنية الطباق
تبرز في هذا النصّ طريقة لافتة في الجمع بين المتناقضات:
بيت يختار عزلة الطابق الرابع
مرصودا بدرج باهت تزخرفه مساقط ضوء شحيح
في حضن عُتمة مُترفة. (ص102)
أن يتعايش الضوء والعُتمة، أمر ليس بدعا في التصوير الشعري، الذي يقوم بنقض مبدإ الهوية المنطقيّ. فإذا بالشاعر المُخيِّل يُنيطُ بالعُتمة دورَ الأمّ التي تحتضن صغيرها.
ولعلّ هذه المفارقة القائمة على الجمع بين الضوء والعُتمة تزداد بالرجوع إلى الصفتين:
ضوء ـــ عتمة
شحيح ـــــ مترفة
وبذلك تصبح المفارقة مركّبة على مستوى الموصوف وعلى مستوى الصفة، وهذا التبئير ينسجم مع معنى الوحشة الراسخ في أعطاف القصيدة:
لا أحد يمنع وحشة البيت
فكأنها قدر مُسلَّط على مصير الشاعر.
ولعلّ بنية الطباق وعملية الجمع بين المتناقضات ممّا يعزّز اللّب الرومنسيّ للقول الشعريّ عموما، ولنصّ قاسم حدّاد خصوصا. فالشاعر كائن يتحسّس مواطن المفارقة ليُعلنها وليرفع ذكرها، شدّا للانتباه وإعلاما للورى بهشاشة كينونتهم في هذا العالم..
ولعلّ بنية النفي والسلب في هذه القصيدة يمكن أن تشرح هذا المعنى أكثر من غيرها.
* بنية النفي
ظهر أسلوب النفي والسلب في هذه القصيدة وفق أكثر من طريقة. فانطلاقا من العنوان «لست ضيفا على أحد»، مرورا باستعمالات أخرى لأدوات النفي، نجد غزارة وتنويعا في هذا الأسلوب:
– لا تُحصى، ص99
– لم أطلب، ص101
– لا أحد يمنع وحشة البيت، ص102
– لئلا تصدّ نسمة متعبة، ص102
– فليست الشرفة غير وريقات صفراء، ص102
– برلين غير مكترثة بي، ص101
طبعا لا ننسى اللازمة في العنوان، وفي مقاطع القصيدة، حيث تكررت عبارة (لست ضيفا على أحد) سبع مرات، باحتساب العنوان، وثامنها عنوان الديوان.
وهذا النفي – كما أشرنا إلى ذلك – يتناسب مع معنى الوحشة والغربة الذي ينسلّ بين سطور النصّ عاكسا ما عاشته نفسية الشاعر من حالات اغتراب روحيّ، في جوّ غربيّ، صامت، وكأنّ لسان الشاعر يقول:
إني لأفتح عيني حين أفتحها *** على كثير ولكن لا أرى أحدا
فهذا «النهر» من البشر، على حدّ تعبير قاسم حداد، على الرغم من حركيته وما تشير إليه استعارة النهر من الحيوية والتدفق…، فإنه إنما يعزز وحدة الشاعر وغربته وشعوره بالاختلاف والعزلة.
فكأنّ الذات المتكلمة في القصيدة قد انطوت على نفسها واعتبرت الآخر هو الجحيم، بالمعنى السارتري (نسبة إلى جون بول سارتر) الوجوديّ (على الرغم من التخفي وراء استعارة مائية (النهر»، فقفلت أبواب الارتباط معه…
ولعل معنى الضيافة وقيمتها – ذات الأصول الثقافية العربية، كام هو شائع في التصوّر العامّ – لا يجدُ إحدى صوره الممكنة لا في الكلّي (مدينة برلين) ولا في الجزئيّ (شارع كودم)، حيث لم ينسب إليهما الشاعر أيّ عبارة أو إشارة تدلّ على الإكرام أو الحفاوة أو التلقي، أو القبول الحسن… الكلمة الوحيدة الدالة على الحميمية أطلقها المتكلم على العُتمة التي أصبح لها «حضن».
وبذلك يصبح الشاعر مقيما وفق ثلاث حركات:
1/ حركة نفسية مضطربة قوامها النوستالجيا والشعور بالاغتراب.
2/ حركة واقعية قوامها الرتابة والعمل والنظام.
3/ حركة محتملة: تُعبِّر عنها أفعال المقاربة (مستعيدا مجدا يكاد أن يذهب) (وعطايا النوم رحلة مشتهاة تكاد أن تغفو)… وخصوصا تعبّر عنها كثرة تراكيب المفعول لأجله (لأرقب رشاقة….، لكي ينثال الذهب،… لكي أنال الحرية كاملة،…لئلا تصدّ نسمة متعبة،…)
وهذه الحركة الأخيرة مشتقة من الحركة الأولى، بل هي امتداد لها وتعيش على هامش الحركة الثانية مستقلة ومتخارجة عنها.
ثمة معان ضمنية تؤشر عليها هذه الحركة الأخيرة من أهمّها معنى القيد، فعندما يطلب الشاعر الحرية، يدلّ ذلك على واقع القيد. فالقصيدة جدل بين واقع موجود (القيد، العزلة، الغربة) ومستقبل منشود (الحرية، الاندماج، العودة إلى الوطن)…
هذا فضلا عن حضور طاغ نسجّله لمفردات ذات طابع معياريّ أخلاقيّ:
* الغرور: (الشاعر المغرور، مغترّا مثل سفينة)
* الطغيان: (لفرط أبواق مشجعي الكرة الطغاة)
وهي معان سلبية تجثم على النفس وتزيد وطأة إحساس الشاعر بالغربة.
لقد مثلت هذه القصيدة – عبر مظاهرها الأسلوبية المشروحة – فضاء لإخراج الاغتراب النفسيّ من خطاب مكشوف إلى خطاب يتسلل لواذا خلال الكلمات ويجنح إلى التظلل خلف الصور، فيتراوح بين الإيهام والبيان، دون أن يسقط في بؤرة التصريح بالكامل أو يقف على حافة التلميح.
ولعلّ تجربة حياة قاسم حداد في برلين الواقعية، قد ألهمته تجديد نفَسه الشعري، عبر تفاعلات المكان والزمان، بحيث تقمّصت شعريته أبعادا أخرى، أسهم السفر وتجربة التخوم وعِشرة مع الألمان، في بلورتها على هذا النحو الذي جاءت عليه قصيدة «لست ضيفا على أحد» وديوانها
صــابـر الحباشـــة
أكاديمي تونسي يقيم في البحرين.