( لغة الزمن فرار من الثلج )
عبر التفاصيل الثرية في ديواني «زيتها وسهر القناديل» والمنشور في أوائل التسعينات وديوان حديقة الزمن الأتي المنشور في أواخر التسعينات، تتجلى روح الشاعر الجميل حسن السبع خلال هذه الفترة الزمنية الطويلة نسبيا بين كل من الديوانين والتي ربما يبدو الاهتمام بها ألقا وحضورا مُكثفا لعنصر الزمن واللغة (المِعنى بهما) في النصوص أكثر منه زمنا موضوعيا وموقفا من واقعها المُعاش بكافة التفاصيل في كتابات الشاعر وشعراء الوطن العربي بصفة عامة، خاصة في ظل هذه المتغيرات على الساحة العربية والتي لا يمكن فصل الشاعر وأي كاتب عنها غير أن زوايا الرؤيا تختلف، وربما في الفترة التي تلت هذه النصوص زمنيا أيضا تجلت أزمات أعمق وأكثر أثرا في نفوس الشعراء والكتاب ولا يمكن فصل الكاتب عن زمنه الحادث به مجموع هذه المتغيرات غير أن هذه النصوص الولعة باللحظة الإنسانية ومن خلال موقفها من الزمن في تلك اللحظة الحاضنة لموقف الإنسان المُروع والمسكون بالكتابة الحبيبة الجميلة (اللؤلؤة) كما تتجلي هذه الروح كما يقول الشاعر
يا مساء الحنين للؤلؤة….. …….
.تكسر الأبد المتراكم فينا
نسافر في الحبر
في تعب القلب ………
إنه المتدارك
يطرق قلبي وأنت على شفتي القصيدة «
وحتى أريج المعنى المنثور كعقود الياسمين في ديوانه حديقة الزمن الأتي عبر تفاعل الزمن موضوعيا بتصوير النصوص والصورة الشعرية الهادئة البسيطة المكثفة بعمق اللحظة بكل ثرائها واحتفائها، والشاعر تشغله اللغة والشكل الفني لها وتجليتها في النصوص وتبقى من أهم الطموحات للنص في تفجيرها والتعامل مع طاقتها بصورها وبلاغتها وهكذا تتداخل أزمنة الكتابة ولغة المعنى ويبقى ذلك الواقع المهموم المؤرق، والمحمل بطاقة الشعر في انتظار لؤلؤة الحلم كي تخرج الوردة / في الليل/ في الفجر /في الصبح / في زمن تشتاق إليه الكتابة أو يشتاق إليها في أي وقت وكل الوقت، عبر تجارب ثرية متألقة وبديعة لتقديم رؤية فنية واضحة وعميقة ذات دلالة، وخلال تواصلي مع هذه النصوص الرومانسية وعبرها جميعا بداية من لقائي معها منذ أول نص قراءته ومنتهيا عند ديواني الشاعر لاحظت أن عنصر الزمن أو البنية الزمنية مرتكز أساسي لدى الشاعر وهاجس يسيطر على عناصره الفنية ويقيم معها حوارا دافئا كي يستأنس الزمن أحيانا، وينقله هذا الزمن نفسه للوعي الفني به أحيانا أخرى، محاولا الوصول إلى الدلالة وطرحها كي يعيد إنتاجها في النص ثانية بتركيز شديد، وهذه الدلالة التي تملك قدرا من الكلية باستخدام عنصرها الزمني له دورا فاعلا وحضورا دائما في كل النصوص وليس بعضها وذلك في ديوان زيتها وسهر القناديل خاصة ولا شك أن المقارنة بين الديوانين تفرض نفسها في كل الأحوال غير أنهما يسيرا معا في اتجاه واحد في النهاية وربما تنطبق مسألة البنية الزمنية على الديوان الأولى زيتها وسهر القناديل أكثر من الناحية الشكلية على الأقل، رغم عنوان الديوان الثاني وهو حديقة الزمن – أيضا- ..الأتي…. وأرق الزمن في الديوان الأول أرق اللحظات الزمنية الموضوعية لموضوع النص وفكرته أحيانا أو كمعادل موضوعي للخبرة الإنسانية وتماهي لحظاتها وتداولها في النص وكذلك الصورة الشعرية وتشكيلات البناء المختلفة حضورا حيا ومتسقا مع مكونات النص بعد ذلك .
فتكتفي بحضورها الكلي ولا نستطيع أن نفهم دلالتها إلا في نهاية النصوص ككل
كما في قصيدته الجميلة الثرية انطفاءات اللون الأبيض يقول :
ينسج المنفي من الوقت تفاصيل كفن
ليغيب السوسن المكسور في الصمت
ومن غير وطن زمن يعبر هذا الأفق
أم ظل مسجى في الزمن
هكذا تبقي اللغة الزمنية بمكوناتها وحضورها الفاعل طوال الوقت
غير أنها لم تتعد هذه اللحظات فتبقى في مكانها مرصودة زمنيا وواقعا معاشا ومحاكاة فنية في النص دون أن تتخذ شكلا في واقع النص أو تفاعلا مستقرا مع بنيته وصوره، لتصبح موقفا من الزمن محقق الوجود أو تتحول إلى الموقف العام غير أنها تكتسب هذه الخبرة والميزة بعد ذلك في الديوان الثاني ببساطة وألفة وتصبح أرقا مثل سابقه، لكنه- النص – هنا يحمل هموما كثيرة ويضيف للنص بُعدا آخر نابضا بزمن الكتابة وتصمت العبارة قليلا، وتصمد موضوعيا لتنقل إلينا هذه الخبرة الزمنية بعمومية أكثر وبموقفها الصارم من الزمن ، مع تراكم الخبرة الإنسانية وتدفقها يصبح الأرق الزمني ليس أرق اللحظة فحسب. صار الزمن موقفا من اللحظة والموضوع وباقي العناصر، الزمن فاعلا بكامل العناصر في التجربة الشعرية والتشكيل والبناء كما في قصيدته الجميلة القرين وهو يقول:
وابتدأت اليوم بالفوضى وطلقت السكينة والوقار
بيدين فارغتين إلا من ضجيج الحبر
يأخذني لشقته التي….. لصباحها لون المساء
ولليلها طعم النهار
هكذا الزمن موصوفا تغيره وكنهه وكونه أيضا ومجموع متغيراته هي حصيلة الدلالة والتي تُفهم في نطاق النص ككل، وربما في نطاق الديوان كله ليس كمعنى مُكتمل بل إيحاء تنيره وتقدمه الصورة الشعرية عبر فضاء النص وعبر تشكيلها الموحي ويبدو اهتمام الشاعر بهذا الأرق غاية في الأهمية بشكل واضح وجلي في معظم النصوص أو كل النصوص في ديوان زيتها وسهر القناديل حيث يظل الزمن الموضوعي هاجس الشاعر يشف من خلف الصور والكلمات وبشكل مباشر في أحيان أخرى ضمن العناصر الفاعلة والمُحركة للنص راصدا هذا الزمن في كل المرات التي يدخل فيها للنص أو يرغب في الدخول إليه كحلم وكرؤى، ويرى الكتابة نفسها موقفا من الزمن ضمن الفاعليات الأساسية في كتابة الشعر خاصة كما في نصه الجميل أزمنة اللوعة، كي يحدث تقسيما ليس عفويا بالطبع لليوم مُحددا بالزمن مطروحا على الذات التي مثلته (اليد الفارغة)
ويقسم النص إلى مواقف زمنية فجر ضحى ظهيرة عصر ليل ، راصدا التغيرات والتوجهات بشكل ثرى للدلالة وكيف تتبدى البنية الزمنية وتبقى في مواجهة الواقع المتأزم كي تستيقظ الحقيقة العارية في الضحى غير أنها في النهاية تهاجر في الصمت، محققة انتصار الغموض . والغياب في الرغبات المصادرة … ويبدو الزمن تكوين مدخل أساسي للنصوص وأساس تحركها الواعي عند الشاعر، ومن بين الأدوات الفنية في جانب أخر منه التي تسيطر على أجواء النص وتحيله إلى مساحة مُتخيلة خاصة الصورة الشعرية بتشكيلاتها التي تتحرك خلال هذه المساحة الزمنية بالمفارقة مع الذات أحيانا أو المكان في أحيان أخرى ومستعينا بصور جميلة التراكيب سهلة الإيقاع متناغمة تتهادى فيها الجمل الشعرية كأمواج تتراقص بشكل متواز .. وفرح الذي يعبر الماء
غير أنها تتسمم بالحيادية في الديوان الأول وتنحاز للذات في الديوان الثاني أن ذلك يتجاوز فضاء النصوص من حيث قدرتها على توليد نسق مميز وتلك العلاقة العضوية التي توافقت فيها الألفاظ مع دلالة طرحها وأصبحت عنصرا من نظام النص إلى جانب الموسيقى والإيقاع الداخلي من حيث التركيب اللغوي والتكرار والتوزيع والاعتماد على جرس بعض الألفاظ، فالصورة الشعرية سهلة الفهم، عميقة المعنى بعيدة عن الإغلاق أو الوقوع في الغموض ولكنها خارجة للتو من أجواء الرومانسية التقليدية المحلقة في ديوانه الأول رغم تزايد الاهتمام بتراكم الصور والمفردات الذهنية إلا أنها مليئة بالمشاعر الجياشة والحلم الرومانسي.
ورغم استخدام أساليب الحكى والجمل الفعلية المُكثفة الموحية بألق عن لحظات بعينها تُحكى داخل هذه المساحة الزمنية التي يمنحها الشاعر في صوره وتراكيبه الشعرية لليومي المعاش أو المُتخيل في كل الأحوال، ومحاولة رصد الوقائع التي تركز بالأساس على لحظات مختلفة واستفادة الشاعر من آليات القص وإدخال الحكاية أحيانا ضمن العناصر وتتجلى التشكيلات الشعرية ثرية الدلالة مُتوهجة ونابضة لحصار الواقع المعاش ولهذه الدائرة الحصارية -حصار الواقع وحصار الذات في موقفها من الزمن ،تمضى هذه النصوص (لؤلؤة الوقت – أزمنة اللوعة – التفاتة إلى الثواني الحية – دفء) وغيرها التي تكشف توجهها من العنوان إلى موقف محدد من الزمن.
وفي قصيدته دفء يقول الشاعر حسن السبع:
التفت إلى الساعة الحائطية
كانت تعد الثواني لاهثة في المساء
كم أضعنا من الوقت سيدتي
عند باب الشتاء
فاتنا أن للدفء حرفين حاء وباء )
يظل الزمن يحرك جمال هذه النصوص
والألفة والروح المعذبة الحيرى ضمن التفاصيل
الذات التي تتمحور في العالم لكنه الق وبريق وقت زمن ولاشك مُورق مثل قصيدته
من رآه يمر
(من هجير الظهيرة يستل قامته ثم يمض خطى شاسعات المروج بقول له الضوء
« سر مثل رمح ولا تنكسر» تقول له الأمنيات «اقترب ..كي تمر» يمر
وكان المدى مثل قيلولة الكهف تجتر ساعتها
وخيوط الضياء التي تسلل من كوة الحلم تغتالها عتمة الوقت ثم تمنحها للخماسين تنثرها
في سبات الجهات.)
هذا الجدول يوضح هذا الموقف لحصر مجموعة من القصائد وكيف أنه لم يبق نصا في الديوان دون المرور من خلال الزمن أو عبر ذلك الوقت الفاعل في النص وله دور أساسي كي ينهض في بناء هذه النصوص
القصيدة
النص
شهرزاد
وطن إنما من ثوان قصار
الثواني تجدد إيقاع رقصتها
غياب
كانت تطرز لي الوقت
في رحلة من حرير ومرمر
التفاصيل واحتمال الياسمين
احتمال ألتقي شفتين يبدأ
منهما زمني
التفاتة إلى الثواني الحية
واذكر فيض تلك الثواني
الجدار
وقلت في أقل من دقيقة واحدة
دفء
التفت إلى الساعة الحائطية
كانت تعد الثواني لاهثة
أزمنة اللوعة
فجر
ضحى
ظهيرة
عصر
فوضى
عاشق ينتظر الأعتاب عامين
فرس المضمار الأتي
آن لنا أن نعيد إلى الوقت أسماءه
مكابرة
فهل يبدد العالم وقته سدى
وهذه القصائد على سبيل المثال بينما لا يمر نص دون المرور على الزمن في كل قصائد الشاعر يبقى هذا الهاجس الزمني أرق في النص خاصة في ديونه الممتع زيتها وسهر القناديل ويتجلى إمكانيات هذا الزمن بعد ذلك منذ العنوان في الديوان الثاني حديقة الزمن الأتي ويظل الزمن يحرك جمال هذا النصوص والألفة والروح العذبة الحيرى في ذات الوقت وهى تتمحور حول العالم والواقع المأزوم حين يقول :
(فجأة ينهمر الأمس تلوحين
فأبقى في مهب الأمنية
فجأة يبتكر القلب جناحين وقنديلا ودربا
وتصيرين هنا في ثانية أحتفي
باللحظة الملأ شموعا
وأباريق وشعر وقطوفا وانية فجأة ينتحر الورد تغيبين
وتبقى الأغنية )
ويبقى النص (الكتابة) هي كل الجمال هو الإبداع، البحث المستمر والشاعر يحكم نصوصه ببنيات قصصية ويعتمد على مساحات من الحدس والحلم ولا يكتفي بما هو أمامه من مكونات للصورة أو تراكيب جاهزة معروفة الدلالة انه يبتكر صور جديدة يفضل أن يكون الأولى في عالمها ويُضمن في كل من الديوانين نصوصا من الشعر العمودي ويبقى باقي الديوان على أساس الشكل الفني للشعر الحر ليحمل الموقف من المعنى (أريج المعنى) وهو الموقف الثاني الذي يشغل الشاعر في النصوص، اللغة أو تشكيل اللغة في النص وهو حائر في وضع المفردات وتفجير طاقتها ومنح المزيد من إمكانيتها . لتبقى هي الحزن الشفيف المورق شجرا من الأحزان عن العمر الزمن مرثية الألم (بين مبتدأ الوردة وخبرها غابة من الأشواك) هكذا يقول الشاعر وتدور هنا الرموز الشعرية في أنساق مُختلفة يصنع الشاعر منها جدائل من ذهب ويلفها على لغته نعّيها ونفهمها ببساطة وهدوء وروعة مع الصورة الشعرية الهادئة
كما في نصه «دندنات» أو «مناخات شرقية» لقد صارت اللغة هاجس يهم الشاعر طوال النصوص وعبر معظمها بجمالها ودهشتها وعذريتها أحد مفاتيح النص تحولت في الكتابة إلى موقف فاعل ومتحقق ذاتا
(مر عامان من التسويف والحذف
من المبنى للمجهول والممنوع من الصرف
بمنفي الذاكرة مر عامان
ولم نعثر على المسكوت عنه
في سياق الثرثرة )
الموقف من الكلام من المعنى اللغة متحكمة في مجريات الأمور وضمن عناصره ومشاعره وحياته كلها أصبحت البنية الشعرية ضمن عناصر التشكيل النفسي للشاعر ولجو النص الشعري إنها موقف من العالم والشعر والحبيبة والذات اللغة المحتفي بها كالزمن تماما والمدربة كنظام دلالي يضيء ويوحي ويستمر في فعل الكشف الدقيق عن محتويات النص، بعناصره في هذه النصوص الشعرية البديعة مع فهم مستمر وواضح لعوالم النص بحيث يرتبط هاجس اللغة
بمفردات الصورة ويبقى ضمن تفاصيل النص وحيرة الشاعر ومشاعره الفياضة وهى أساسا تترابط معها باقي أجزاء النص ويضمها رباط واحد كي يبرز جمالها وكونها الذي يربطه الشاعر بالنص (غير أنى اكتشفت أنها في الكلام الذي قد تعذر) هكذا يقول….
مع احتفاء اللغة وعالمها الثرى تطل الشعرية العذبة واللحظة المعدة خصيصا للكتابة، هذا الشجن المؤرق والروح المعذبة الأليمة والصورة الفنية الشفافة المتألقة حين تمر فوق الزمن كي تتجادل وكي نصل إلى أريج المعنى وتعري المفردات من حقيقتها تاركة المسكوت عنه والذي لم نقله
(مادام كل همنا التنقيب عن بعض حروف العطف والعلة والإشارة
ماذا سيبقى عندنا من جوهر العبارة) .
حسن السبع الشعرية
تقديم: أشرف الخريبي
كاتب من مصر