في الديوان الثاني للشاعر عماد أبو صالح تتجلى الملامح الرئيسية لذاته والخصوصية لابداعه. فالوصف عنده لا ينطوي على ما عهدناه فيما يسمى بشعر "الحداثة" أو قصيدة "النثر" فحسب بل نحن أمام تحديث التجربة الشعرية أيضا واثبات موقفه منها أو فيها بإبراز التناقضات بين حله وواقعه أو باستخدام ما يشبه التقطيعات السينمائية للقطات في كثافتها وصراعاتها التي اختار لها ابطالا من نفس البيئة الريفية، واعادة تشكيل مفردات هذه البيئة التي اختلفت عن الديوان الأول (2) ولكنها تؤكد في الحالتين ملمحين أساسيين في شعره. السخرية من عموم الأشياء، والذاتية التي تجعله يستشعر الكلمة وتوظيفها الصحيح في بناء فن يشبه حالات السرد القصصي في بنية نصية مختلفة ومبتكرة…. في الديوان الأول كان الفرد في العالم كله هو موضوعه سواء أكان من منظور محايد أو في شحنات شعورية رافضة يغلب عليها حلم التغيير
تتنوع ما بين استكشاف الذات – الوطن – الحبيبة – الشارع ولكنها تتفق في خاصية هذه الذوات الأصيلة وهي القهر.
… أما الديوان الثاني.. فنستطيع فيه أن نقف على أبجدية هذه الذات في مهدها -الريف – في لغة وتناول يحمل مدلولات عميقة جدا وبتجربة حديثة للموضوع ذاته وكأننا أمام رؤية الحياة البدائية عنده والتي يرى القاريء الممعن للديوان انها غير مأهولة وصفيا وأنه يدخلنا باسهاب في عالم خاص يقترب فيه من التصوير الدرامي، الحواري بلا تكلف بل تأتي الصور وجدانيا في طواعية.. وقد تبدو هذه الطريقة التي ينهجها «عماد أبو صالح» لأول وهلة بسيطة ولكنها على عكس هذا تستلزم جهدا مبذولا في فعل الكتابة فكل نص هو حالة ونسيج وحده ويظل نمرض القصيدة عاديا ومألوفا بالنسبة لنا حتى يفجر الشاعر رؤيته للنص الشعري بمفارقة ما تحرك العاطفة تجاه هذه الذكريات التي عاشها طفلا وأدركها محللا ناضجا في شكل فني وشعرية عالية فبطل القصيدة واحد ومفرداته الانسانية واحدة.
«ليلة الدلتا» عنده ضفادع تعزف نفس اللحن الليلي..وناموس.. وخفراء وأطفال -هو منهم – مذعورون من التهديد والوعيد.. وبنات مقهورات تحت وطأة العادات والتقاليد.. ونسوة طائعات -منهن أمه وأخواته – يخفين مللهن من الحياة فالضغوط والفقر والقهر تنحت شعار الواجب والسترة.. يتحدث عن «القلوب الخشنة» التي تعمل في الأطفال روح الرجال فيفقدون براءتهم في ثانية واحدة ليظلوا نادمين عليها طوال العمر في رحلة بحث.
تتجه قصائد الديوان في معظمها الى الدخول في عالم المرأة فنرى الأم التي يفقدها حية أو ميتة.. فالفقدان يتم بقوى مسيطرة على كيان يتفتت في خدمة الأفواه والأشياء والكائنات حتى كأنه يحسد الأوزات المحظوظات برعاية متفردة ووقت أطول.. ونرى الأم رمزا مباشرا وصريحا للصغيرات والفتيات والنساء جميعهن في هذه البيئة ولكن تستمر رؤية الشاعر الخاصة في توفيقه مزج الرمز بسرد الحالة في علاقات متمايزة دافئة وموجعة مع أشيائهن الخاصة وعالمهن الذي لا يتخطى حوائط البيوت الطينية أو الريفية والمفارقة الصارخة بأن هذا العالم وهو ملك خاص بهن رغم كل شيء يأخذهن في طقوسه حتى بعد الموت وممارسة نفس المهام الخاصة بالمرأة.
وفي مغامرة أخرى ومميزة يجعل من قاموس المرأة الريفية خلفية شعبية تتأثر وتؤثر في الجو العام للديوان فيذكر في عناوين بعض القصائد..
طاسة الخضة، «رقية»، حمى الدقيق».
أما عن تفصيلات القصائد فهي لازمة تتكرر في الديوان باكمله.. من قصيدة "طيبة وسيمهلها يومين " والتي يتحدث فيها عن "عزرائيل" الذي ذهب في مهمته لقبض روح الأم والتي تدور فيما يشبه "الكوميديا السوداء" -بلغة السينما- شديدة السخرية..
ستقدم له فطيرة وكوب شاي
"ثم تسحبها –بخجل_ بعد أن تتذكر أنهما بدون
سكر مطلقا"
دون ان تقترض –من الجيران_ طبقا واحدا
إن زوجخا ما كان ليفتح بيتا
لو لم يبع خاتمها "الكليوباترا.."
وستشتم له أم طارق
ثم تقف فجأة وتقول:
"بعد إذنك يا عزرائيل سأرش القمح للدجاجات..""
يُه:
"كيف استقبل وحدي –هكذا رجالا غرباء؟!"
نتأمل كلمة «يُه» وهذا التوظيف.. بل اننا نكاد ندرك مشهد خبطة الصدر وملامح الوجه والشهقة والشردة التي تستلزم الموقف بالضرورة ذهنيا.. أما وجدانيا فنحن أمام
الفطرة وحكم العادة والعفوية الشائقة حتى اننا نرى فضفضة في مضايقة عادية تنسى فيها الضيف – عزرائيل – ولحظة القبض -قبض الروح – تلك الموحشة والتي تحمل كنه سر الموت الذي يأتي في لحظة خاطفة.. وتركن لاسر الواجب والالتزام وهي الهم الوحيد لها..
ومن قصيدة «متربعين داخل قلبي… ويجزمهم».. تكون الصور شمولية أكثر.. ويبدأها بصورة بيئية متأصلة بالريف شديدة الخصوصية بعاداته وهي "تحنين " ضروع البقرات لتدر اللبن ثم تبدأ في سرد حكاية هذه الأيدي من جهات أخرى.
أيديهم التي تحنن بلمسة – ضروع البقرات.
فيشخب لبنها في الطواجن
التي تقنع الشموس الصغيرة
الهاربة في الأجساد النحيلة
بأن تحج الى أمها في السماء
التي توزع الطعام –دون أن تسر اليمنى لليسرى-
على الفقراء وأهل الخطوة في الموالد.
التي تبتسم –في الخفاء- تحت المناديل
في أيدي عرسان بناتهم المتصببة عرقا
وهي تحاول التوقيع على العقود
تلك الأيدي نرى حقيقتها من وجهة أخرى تتعلق بالجبروت والسلطة والمرأة التي هي محور الديوان غالبا.
وهي تحاول التوقيع على العقود
المرتعشة بمذلة حقيقة –وهي تكرر كذبها على الله في
الدعاء
كان لابد ان تلطم وجوه الزوجات
– من وقت لآخر –
– كي لا تنسى رجولتها..
الشاعر يحمل تعاطفا مشوبا بالحذر تجاه مجتمعه فهو شديد الحب له وهو شديد السخط على أوزاره من الأخطاء الكبيرة وحتى اقل الهفوات.. وبما كان هذا أرقى أشكال التعبير عن هذا احب ومن الطبيعي ان تحمل مفرداته طبيعة المكان فنحن نألف الكلمات في مواضعها ومقام احوالها..
شوال – هباب – تحنن – سأطوح – حطب القطن – طاجن اللبن – الشيلان.. وغيرها
ملمح اخر يظهر لنا بوضوح قصائد الديوان هنا الرحيل الى «ماوراء» بشغف واجتهاد وجرأة تنير لنا فرصة التعاطف دونما.امتعاض للتأمل في محاولته الطامحة الى محاورة الغيبيات وفك طلامسها فما عدنا نميز هل نحن امام افكار شاعر يسعى لقراءة كتاب الموت متخيلا في تفسيره لبعض الصور ام امام افكار طفل تستدرجه –كما يحدث عادة- براءة الادراك وطزاجة الفضول الى السؤال الملح عن الجنة والنار.. والحساب والملائكة.. والعذاب ودود القبور.. هذا السر الدائم المحير.. الشاعر يقتحم هذه الزاوية في بعض النصوص مستندا لحرية التناول والتي تغلب عليها الرؤى الساخرة ويتعدى ذلك من تركيبة النص وفنيته الى العناوين التي كثيرا ما نجدها ثنائية مزدوجة كأنها حوار درامي موضوع بين قوسين..
قلوبهم خشنة (لم يحكمها الحب)
دم المدرسة (كنت أكتب به)
البطل (أو كيف تطعم الدود بأمك..!)
رقية (خطة لأجل الصغار)
أبي بكى فعلا (أنا تفرجت عليه)
تلقائية (معرضها الأول احترق)
ولنرى النماذج التي روت عن الموت.. والبطلة الأم… أو الأم والأب معا.. وبعض القصائد ومشهد الجنائز نفسه.. قصيدة «سكر» يقول :
جسدها الذي سيدفن ويختلط بالتراب
لني ينبت تفاحة
أو وردة
سينبت صبارة مسكرة..
قصيدة خلافات عائلية..
ستكون راقدة – مازالت على جبينها الأيمن
ابتسامتها مقشرة على التراب بجوارها
عندما يدخل أبي
معطرا في كفن صوفي
ستلملم كفنها حول صدرها جيدا
ثم تنهره بعينين متدليتين وتقول:
"لماذا لم تفض الليلة عندها أيضا؟!"
وربما تقذفه بجفنه ديدان شرهة
أو تترجى الملاكين – اللذين صارا صديقيها ليحاسباه بشدة
إلا أنها حين تذرف أول دمعة
تذكره بالشهادتين… ثم تفك رباط كفنه الضيق
وتضع قدميه في حفرة دمع. ساخن
وتمنحه "مخدة" تراب مريحة..
يستعيض الشاعر في تبادلية رمزية أيضا بالتشبيهات ففي قصيدة "محراث تآكلت أسنانه" نجد أن هذا المحراث – الأب، وفي "ليلة الدلتا" نجد أن الكلب الذي ينبح ليقتل الوقت – الذات الانسانية في هذا العصر، ليلة الدلتا تبدو كالصور غير المرئية لتعب
الريف أو حقيقته في نظر الشاعر والتي تبعد عن الخضرة والماء والوجه الحسن الى لب لا يخلوهن القبح الذي يرفضه دائما
وفي «حمى الدقيق» النساء إما ملائكة بيضاء ساعة الخبيز ونثار الدقيق يكسو ملابسهن أو أشباح في ملابسهن السوداء حينما يتلقين الاهانة بالضرب من أزواجهن.
وفي "تلقائية" الكعك المنقوش = الوجه الجميل الحي في يوم المرأة الريفية… وقد يعد البعد الجمالي الوحيد في هذا اليوم المثقل الحافل بالأعباء والضغوط.. انها تخاف أن يفسد أحدهم لوحتها بالأكل أو أن تفسدها هي بالحرق في الفرن أثناء خبزها.
إضاءة أخيرة:
.. الملامح التي تميز ديوان «عماد أبو صالح » الثاني
أ – السخرية القاتمة ب – الذاتية
جـ- درامية القصائد والعناوين د- النصوص التي تحور الغيبيات
وقد كان موفقا فيها بشكل ملحوظ.. ولم يلجأ الى الغموض والاختيار والتنقيب عن الكلمات والتعبيرات المركبة أو المعقدة لاثبات وجهته في ابراز هذه الملامح العميقة..
فجاءت على نحو من التلقائية والعمق في رأيي أن هذا يستلزم جهدا أكبر في ولادة النص وتكوينه..
.. لم يكن اختيار العنوان «كلب ينبح ليقتل الوقت ».. اعتباطيا.. بل هو محور يقين الشاعر في ديوانه فالانسان الرافض.. الساخط على الاوضاع. الرامي لتواجد يحترم ذاته من أجله والمصطدم دائما بأنه ومن يؤمنون معه بنفس المباديء نفر قليلون لم يصبح أمامه إلا الصياح في فراغات تهدر كل أحلامه وطموحاته الجادة للتغيير.. وصار كمفردة بلا معنى وسط ركامات الأخطاء.. ككلب ينبح بلا طائل إلا اجتياز محنة الزمن.. وقتل الوقت وهي فكرة سوداوية.. شديدة القتامة من قصيدة «اندلقت من قطرات فصنعت النجوم»
تحبس طاجن اللبن في غرفة المعيشة
ثم تربط المفتاح في طرف طرحتها
وتجلس أمام الباب
ولما كنا – نحن الأطفال نلح عليها بأننا جوعى.
توهمنا
– وهي تذرف دموعا حقيقية
بأنه غافلها… وفر من الشباك
ليشتغل قمرا في المساء
الهوامش:
1- كلب ينبح ليقتل الوقت – الديوان الثاني – صدر على نفقة المؤلف – يوليو 1996. وفاز في استفتاء أحسن ديوان لعام 96 بمصر.
2- امور منتهية أصلا –الديوان الأول على نفقة المؤلف- يوليو 1995.
وفاء محمد ابوزيد (شاعرة من مصر)