نبيل ياسين
عزلةٌ في الكون
ابقَ في عزلتِك أيها السيد
أيها الشاعر الأبديّ
ابقٓ بين الزمانِ وبين الضوءِ الهلاميِّ الخافت
كلُّ تلك الجسورِ الطويلةِ المحدبةِ التي عبرتها
توقفتْ
فالجسورُ ليست سوى زمانٍ تجمد فوقَ الأنهار
أما البلادُ فليست سوى احتضارٍ للأزهار
وخفقةٍ لأجنحةٍ تنثر ريشَها الصلبَ كريشِ النسور
ابقَ بعيدًا عن الطريق الذي يمر به سابلةُ الزمان
فأنت تمضي واحدًا وحيدًا في طريقِ الرماد
تمضي الى أفُقٍ لاينتهي حتى تصلَ حافةٓ الكون
الكونِ الأحدبِ ،الكونِ الذي ينحني مع الزمانِ في فيزياءِ العدم
فانظرُ إلى القاعِ الذي لا ينتهي ولا يُرى
حيث يعملُ الأمواتُ ثماني ساعاتٍ في اليوم في حفر خنادقِ الجحيم
ويرتاحون ثماني ساعاتٍ أخرى
يقضونها في محوِ ذنوبِهم على الصخور،
وينامون الساعاتِ الثماني الباقية
في سكونٍ عميقٍ لا يُرى
ينامون دون حلمٍ أو رؤيا
أنظرُ إلى القاعِ ، القاعٍ ِالذي ينتهي إلى ظلمةٍ لا تتلاشى
فيغريني بإطلاقِ صرخةٍ
صرخةٍ طويلةٍ تتخطى المكانَ وأعماقَه اللامتناهية،
لتصلَ إلى المكانِ الذي يبدأ فيه الصدى
الصدى الذي يتحول إلى ذراتٍ
ينفجر بعدها الكونُ إلى شظايا
لأظلَّ معلقًا على قطعةِ الصخرِ الوحيدة
التي بقيت في الفراغ الهائل
بعد انفجار الكون
أعُدّ أيامي
كل يوم أعدُّ أيامي
مثل البخيل الذي يعد نقوده
هو يزيد نقوده
بينما تنقص أيامي
لكني أكثر سعادة منه
فأيامي مختلفة، يوم للتأمل
ويومٌ آخر لزراعة الزهور
وثلاثةُ أيامٍٍ أحدق في الكتب لأختار واحدا،
وأطيل النظر بالصفحة البيضاء، لأبدأ بمعاناة الكتابة،
أما اليوم الثالث فأفتح فيه باب التاريخ، لأدخل وأسير فيه حتى الألف الثالثة قبل الميلاد
أرى الآلهة وأرى الملوك- أنصاف الآلهة
أرى گلگامش نصف الإله وأمه الإلهة ننسار،
أحاول إصلاح ذات البين بين عشتار وتموز
وأدقق في واجبات الآلهة والملوك
وأتابع مسؤوليتهم عن زراعة الخس والرشاد
وجريان المياه في الترع والأنهار والحقول.
يومٌ أتخلى فيه عن الذهاب إلى المدينة من أجل الفلاسفة
فيصيبني الإرهاق في آخر الليل، فالفلاسفة متعبون
فهم يتفوقون على الفقهاء في تأويلاتهم وشغفهم بالميتافيزيقا
ذلك اليوم الذي أذهب فيه إلى المقهى صباحا،
حيث يعيد لي فنجان القهوة لذة الحياة
مع الكتابة على وقع الرشفات،
المقهى الذي يجعل الحياة نوعا من المكان المألوف
حيث الناس يختلفون كأنهم أصناف من الحيوات الملتصقة بالجدران
يومٌ أترك للمخيلة الحرية، لكي تمضي إلى ما تريد
تتجول في طرقات العالم، وفي دهاليز الروح
تفكر بما لا يفكر به الآخرون فتصنع الفرح والألم
رؤيا الحيرة
كأننا نتكئ على الحافة الحادة للكون
ننظر إلى الأعماق السحيقة، ونتساءل أين الأزرق؟
فلا لون للسماء ولا للمياه
الفراغ يحيط بكل شيء وصرنا نفتقد الطيور حيث لا طيور ترى من الحافة المدببة،
بينما أطلال العالم بعيدة ووحيدة
نسمع الصدى المبحوح لأنّاتٍ وحشرجاتٍ لما تبقى من الحيوات المتناثرة في الزوايا البعيدة
الكون خالٍ، ووحيد مثل روح.
والمسافرون الغرباء يهيمون على وجوههم بدون محطات ولا إشارات
لا يتوقفون إلا لرؤية السراب
أديرة مهجورة على الحافة الأخرى للكون
أديرة بجدران مليئة بكتب حجرية
وألواح من الغيب والآلام
والظلمة الواسعة تزحف
على ما تبقى من نور ضئيل
فألجأ إلى لعبتي المفضلة
أغلق عيني لأترك للهالة الجهنمية أن تأخذ مداها وتتسع
أبصر ذلك اللون الغارق باللهب
كأن مجرات تشتعل وفردوسا يحترق
تتجمد الحياة في عمق الهالة الجهنمية بانتظار انشطار العالم
ليتحجر. العواء الوحيد
لبشر لم يكونوا في الوجود
بلد بين نهرين
بلدٌ يتشظى
محترقًا يومًا ، مطعونًا في يومٍ آخر
مقتولًا أو مختطفًا في اليوم التالي
من يحرقه
من يطعنه، من يقتله، من يخطفه؟
مجهولٌ نعرفه، ونشخصه،
نعرف كلَّ ملامحِ وجههِ
نعرف خنجرَه ، ورصاصَ مسدسِه،
ونفكر أن نشتمَه وندينَ جرائمِه
لكن
لا قاضيَ يقضي،
لا شاهدَ يشهدُ،
لا شكوى
غير الشكوى لله، مؤجلةً حتى يومِ قيامتِنا
بلدٌ يقتله العابرُ والغازي ،
ويكفنُه أهلُه
منتظرين غريبا أن يدفنه بدلًا عنهم
رؤيا الشقاء
كتفي لم يعد يتحمل المزيد من الموتى
فكتفي ميت هو الآخر
وآخر جثمان حملته
هو جثمان العالم
وقبله كان جثمان الوردة
ما نحن إلا غيوم تبددها الريح
وأجنحة تحمل طيورا مثل مالك الحزين
ما نحن فاعلون إذا ارتطمنا بالجدار
وسقطنا على كومة من حجر
بانتظار من يجبّر أجنحتنا ويتركنا على قارعة الطريق
بعيدا عن الغابة
أو ضريح الآلهة