[[ يعتبر أرماندو روميرو (1944) أحد شعراء كولومبيا البارزين في الوقت الراهن. كان شاعرا شابا ناشطا في ما كان يُعرف بـ«الحركة الطليعية» الشعرية الكولومبية التي برزت خلال الستينات من القرن الماضي. تنقل في أنحاء متعددة من أمريكا اللاتينية وأوروبا وآسيا ليختزن بذلك خبرات واسعة من الاطلاع على مجمل ما يحدث في الحركات الشعرية في العالم خاصة مع إتقانه أكثر من لغة أخرى غير لغته الأم. عاد إلى مدينته سينثناتي حيث يشغل كرسي شارلز فيليب، أحد أبرز شعراء كولومبيا خلال القرن العشرين والذي ما زال مجهولا عربيا، في الأدب الأمريكي اللاتيني في جامعة سينثناتي.
نحن ما نحن عليه؛ اثنان شيّدا
فردوسا بمِعْوَلِ هَدْم
عن القَتَلة
إلى روبيرتو سانشيز
(1)
تفوحُ رائحةُ ماشيةٍ وأرضٍ من الحشّاشين مع أنّهم يتقصّدون التجوال في سيّارات الجيب أو عرباتٍ سوداء، في العادة. عندما كان صبياً قاسَمَهم حُبّ التانغو الذي أبكاهُم بعاطفة متّقِدةٍ كلما أطال الوقوفَ ببوابة حانتهم، ضاع في رقّة الأوكورديون إلى حدّ الموت. ناشدَه أخوه الممتلئ ذعرا العودة إلى البيت، لكنهم ابتسموا، متواطئين، بأسنانهم التي لأحصنة: الوميض الذي في عيونهم يقابله، أبدا، وميض أسلحتهم.
(2)
ما من أحد قد قُتِل في حانة إل باخو على ما أعلم، مع أن القَتَلةَ قد شربوا خمرا رخيصا وغنّوا أغنيات رعاة البقر المكسيكيين ورقصوا التانغو حتى الفجر. لكنْ، في منزل دون ميغيل، حيث كانت شجرةٌ فاتنةٌ وحيث أعطوه لوزا بطعم السكّر في كلّ مرةٍ اشترى فيها شيئا لأمه، مات مقتولا الرجلُ المسكين الذي طلب ماء تلك الليلة، من فضلكم، مات وهم يطلقون النار من النوافذ جميعا.
(3)
لقد التهمَتْهُ كثيرا ضراوتُهُ في كل مرة سمع فيها القتلةَ كما لو خرجوا في مسيرةٍ يغمغمون وقد جلبوا العزلةَ. وإذا كان الوقتُ ليلا، جرجروا أقدامهم كما لو أنّهم عصيّ في مكنسة أُمِرَتْ بكَنْس الفناء. فقط، في الظهيرة تحدّتْ الشمسُ أسلحتَهم على طاولة الحانة. أراد أنْ يحشدَهم في صفٍّ ثمّ يأخذ مقلاعه ليقذفهم بحجر، لكنّ القَفْلَ المزدوج التي أغلقتْ به أمَّه الباب عليه أبقاهُ في البيت قبل العشاء،عندما كان حظرُ التجوّل يُمل عليه تلك العزلة التي بَقِيَتْ.
(4)
ذات ظهيرة في سِنثيناتي كنتُ أتحدثُ إلى (هاء) عن الناجين، ونتذكّر عامِلَ تليين القطن في مصنع النسيج، وماسِحَ الأحذية في بلازا دي كايثيدو، والعاهرةَ الدرداء التي كانت تُدعى ديفينا وترتدي تنورة قصيرة صفراء، وأولئك الآخرين من محامين وأطباء بكمّاشاتهم. صمَتْنا عندما فجأةً، ودونما توقّع، وصلت إلى المكان صرخاتُ القَتَلة.
(5)
عندما سمع صرخته، توقّف الأبُ عن القراءةَ: كان القَتَلَةُ قد استولوا على أحلامه. بحرصٍ ولطفٍ، حملوه إلى السرير، ثمّ قالت أمُّهُ: لا تقرأ المزيد بعد الآن لذلك الصبي، لقد قَلَبَتْهُ القراءةُ رأسا على عَقِب.
العمّة شينكا
إلى أنطونيو ثيبارا
لم أتحدث إلى العمة شينكا أبدا، لخوفٍ من صمتها. أتذكّرُ تلك الموجاتِ الطويلةَ من الدخان تأتي من آخِرِ غرفةِ النوم، وتواجه إحداها الفناءَ المرصوفَ؛ حيث غلَّةُ تَبْغِها الرخيص. لقد دخّنَتْها هناك في العتمة مثلما يؤدي شخصٌ ما تحيّةً لا تنتهي. لا أعرفُ ماذا يشبُهُ جهيرُ صوتِها لأنها لم تتحدث إليّ بكلمة واحدة أبدا، لا في رقّةٍ ولا في غضب. أتذكّرُ ثيابها السود وحذاءها الرثّ من السير لا أعلم إلى أين. ما من أحدٍ أخبرني بما كانت تفعل العمّة شينكا في الآحاد، أو ما إذا كان لديها غراميّات سريّة وعاطفةٍ عنيفة ٍ ولقاءات عَرَضية. ماذا فعلتْ عمّتي شينكا، فيما تجلس وحيدةً في الفناءِ المرصوف؟ عندما مرّتْ مساء بغرفة المعيشة، حيثُ العائلةُ كلُّها سوف تلقتي لتستمع إلى أغنيات بيدرو إنفانتي تركتْ عمّتي شينكا حشدا من الرماد والنفايات كما لو أنّه يتفسّخُ ببطء. لكن، ما من أحدٍ لاحظ هذا، أم أنّه كان بوسعي أنا فقط أنْ أفكّ مغالقَ تلك اللطَخات التي تركتْها في الفراغ؟ قالوا ماتت وقد تقلّصَتْ كلّها، مثل حمامةٍ برّية، ومعها دفنوا صمتها ذاك.
سكَّر على الشفاه
من زوجة صاحب المتجر إلى كونشيتا حمراء الشعر، ومن يسوع الحذّاء حتى روبيتو مدير المدرسة، جميعا دون استثناء، صحوا من نومهم وعلى أطراف ألسنتهم قِطَعٌ من السكّر. فقط، الوحيدون الذين أدركوا ما حدث، بطريقة أو بأخرى، كانوا هم أنفسهم الذين تبادلوا القُبَلَ صباحا.
نحن الاثنان
أنت لا تستطيع قَذْفَ قطعةِ نَقْدٍ معدنيةٍ إلى صورةٍ وكتابةٍ في الوقت نفسه وعلاوةَ على ذلك أنْ تقيسَ حُسْنَ طالعِكَ في الهاوية. ثمةَ مكانٌ واحدٌ ثمةَ مكانٌ واحدٌ إذا دخلنا أو خرجنا منه، نذهبُ إلى المكان عينه. يقولون تحيا هناك كائناتٌ، الواحد منها يختلف جدا عن الآخر حدَ أنّه لا قعرَ لأيٍ منها، إنهم صَقيلونَ وينظرون إلى بعضِهم البعض دون نظر؛ دون أنْ يُلاحظوا أنهم الحصيلة النهائية لنظرة أخرى. نظرتُك إلى رقصي منفردا تمنح وجوده معنى، أنتَ، يا مَنْ عبرْتَ الحدودَ الأخيرةَ؛ وأنا، الذي تَبِعْتُ جسدَكَ كي أُمسِكَ به في بيتي. لا يستطيعُ أحدهُم القولَ دائما: نحن ما نحن عليه، نحن الاثنان اللذان بَنَيا فردوسا بمِعْوَلِ هَدْم.
طفولتي
أنا أيضا كنتُ طفولتي حاضرا حين اختفت فتي. صُحبةَ بُقْجَةٍ متفخةٍ بالصلوات وسوط محفوف بالصفير عبر تلك الطريقَ إلى حيث كان ينبغي عليّ أنْ أجُرّ حجارتي أو أبحثَ عن خنفساء. لم تتحدث عن أزهارَ البيغونيا الزرقاء وليس النباتات الأخرى التي في الفناء، لقد مَضَتْ بعيدا، إنّها تتسلّقُ سُلَّما إلى سقفٍ ذي قِباب. تابَتْ عن اللمحةِ الماكرةِ إلى نهدَيّْ ابنة الجيران، وحطّمتْ السيجارةَ قُبالةَ واحدةٍ من ساريات المنارة. لم تكنْ طفولتي طويلةً هناك بعد، حين جاءت سيّارة الحرس تبحث عنها.