غريزة البقاء
بين سعلة وأخرى فكر فعلاً أن يموت، «ثأراً» من حلمة ليست في مكانها تحت لسانه. لكن نَفَس السيجارة على القهوة – حصاة في بركة – ذكّره بحب الحياة. أنه لم يكمل المهمة التي كلّف نفسه بها بوصفه القدر، وأنه لا common sense أصلاً في هذا العالم.
ضيق النفس تعبير مناسب عن الشوق على كل حال. حيث الغرفة والشارع والمدينة، هذه الدنيا التي يرتديها كبدلة موظف مكره على الذهاب إلى العمل في الصباح، ليست سوى تمهيد لشيء يشبه الحلمة الناقصة. وآلمه أن الثأر بأي طريقة أخرى يستوجب الانتظار.
هكذا تعلم أن يستمرئ سعال السجاير عوضاً عن موته من ناحية، ومن ناحية أخرى عن العض والخنق وغرس الأصابع في ثدي صغير يعيد اكتشاف مكانته منذ التقاه: أن العبرة ليست بالحجم. ثدي مؤدب أمامه متسع من الوقت ليتعلم البذاءة، ويتأكد على طريقته من أن حلمته فعلاً هنا مكانها. لعله بعد معركة استقلال دامية، ذلك الثدي، أدرك أنه يحب الاستعمار.
سيستمرئ سعال السجاير تعبيراً عن شوقه أو استهانة بالدنيا. لكنه لن يموت الآن.
عيد ميلاد
هكذا يجب أن تبلغ الرابعة والثلاثين:
مفاجأة الضوء مع وجهها المتورد
يحكي لك عن الحزن.
بيتها أقل ألفة مما يبدو،
وهكذا يجب أن يكون في صباح
ليس سوى بقية الليلة التي انتصفت
بعامك الجديد.
لقد لعقتَ أورجازماتها بفرحة طفل
ينفخ الشمع على كعكته.
وها هي ترتّب، في غيابك،
السرير.
كالي
«ويا نارَ أحشائي…» – عمر ابن الفارض
-1-
عند الهندوس آلهة تقيء الثعابين،
تتكلل بالرؤوس المشجوجة (زيت شعرها
عجين الأمخاخ) وتفترش القبور الجماعية
على سبيل التنزه.
يعتقدون أن لا شيء يعطّل شرها
إلا شلال دم.
لو اقتربت من هذه الآلهة،
لو دخلت دائرتها،
لو جثوت أمام الأعضاء المبتورة
العالقة بذقنها،
سوف ترى فتحة
فمها أسفل عينيها،
محجري النار،
بئراً مبطنة بالسكاكين.
ورغم أنها في الأصل آلهة طيبة،
ترعى الزرع والعاشقين،
وليس هذا الرعب إلا صورتها الغاضبة
(لأن الآلهة عند الهندوس، سبحان الله،
لكل منهم أكثر من صورة،
ولكل صورة اسم)
الأفضل أن تصلي لها وهذا اسمها…
-2-
يا سيدة التقطيع والغواية،
محتاج أن أكون إلهاً، ولو لليلة،
محتاج أن أعيد خلق شخص واحد في هذه الدنيا
ليستقيم وجودي. وعندما أمتلك ذلك الشخص
كما تمتلكين الليل والمجاعة،
لن أكتفي بالوقوف في صف من المؤمنين
رأيته رؤى العين في نيبال –
كان أكثرهم فقراء لا يملكون ثمن الكبش أو اللاما
كذبيحة تليق بامتعاضك،
ولم تخرج الضحايا التي يحملونها
(ليدهنوا تمثالك بما تلتقطه أصابعهم
من غدران دمائها البطيئة)
عن بطة ممصوصة أو قطة نفقت في حادث سيارة،
قرد انقصم عموده الفقري إثر قفزة غير محسوبة
أو ديك أعمى يريد أن يصل إلى عرفه بمنقاره –
لن أكتفي بالوقوف في صفهم
وتأمُّل الرقاب الصغيرة تنكسر بين الأصابع.
سأكون من الصفاء والتجلي
بحيث أقدّم نفسي إليك صحيحاً وكاملاً
بلا خوف أو فجيعة.
يا سيدة التقطيع والغواية،
ليصير مخي عجيناً يحفظ أطراف شعرك من التقصف،
لتكون عظامي رماحاً تنشبينها في أجساد الأبرياء،
وقلبي «بونبونة» في فمك،
محتاج أن أكون إلهاً.
آباء غائبون
كنت أحسب المرأة التي حملت مني هي التي أنجبت. ولأن هذا يحدث في المنام نسيت أن هناك أخرى سبقتها في الترتيب. فجأة وجدتني جالساً مع الأخرى هذه وهي لا تشبه نفسها في الواقع. خيل لي أنها هي التي ظنني أصدقائي أتكلم عنها يوم أخبرتُهم بأن لي ابناً لم أره. لكن طوال جلستنا، لم أصدّق تماماً أنها أم ابني. عبثاً حاولت أن أتذكر من أي زاوية ولجتها ولم أتعرف على ملامحها بيقين. لذلك عاق فرحتي بتسامحها الخرافي انقباض. لا وعي عندي بأنني أحلم. ورغم أنني بدأت أتلمّس علاقة حميمة ببني آدم يشبهني عنده ثلاث سنين، ممتناً لأن غيابي لم يجعل عند المرأة التي أنجبته ضغينة، ظل الانقباض يشتد. عندما أفقت تذكرت فادي يعلّق على لقائه الكارثي بامرأة لم يتخلص من حبها: «حصل الشيء». وحزنت من أجل آباء العالم الغائبين.
أكلة لحوم البشر
ذَكَري على الأرض بين قدميها.
بعد يومين – تقول لي، راجية أن لا ألفت إليه انتباه الخادمة – ستكون الخادمة نفسها هنا من جديد. لا، لا، لن تكنس ذكرك. فقط لا يجب أن تراه.
فجأة يخرج عِرق نافر من جانب ذكري. كدودة مستميتة يشب على كعبها. يحاول أن يتسلق ساقها.
سيكون هناك أطفال – تُواصِل، وأنا أحاول أن لا أنظر إليه – وزوج هو أبوهم، وأب صار جداً فخوراً، لم لا؟
وكعادة البيت الذي لا أحسني غريباً عليه رغم كل شيء – فكرت – ستصخب الأركان بأشخاص أفهمتني أنهم أصدقاؤها. أنهم بريئون وضروريون. ومثل اخوتها المدعوين إلى وليمة بدأت الخادمة في تجهيزها، لن يدوسوا على ذَكَري. فقط لا يجب أن يروه.
لكنني رغماً عني أرى العِرق النافر. كدودة مصممة على الحياة، يتشبث بالكعب. ببطء مميت يحاول أن يتسلق ساقها.
السلسلة
قلتِ إنك لست «زيّهن»،
إنك لن تتركيني إلا في حضنك
أو قتيلاً. بالله عليك ماذا كان
يمكن أن أفعل، حتى لا تصيري
حلقة في السلسلة
بحيث أكف عن لقائك
وأنت على بعد كيلومترات
وأمشي في الملاعب
المشتركة
خائفاً من رؤيتك؟
أخطاء الملاك
ماذا ظننتَه سيفعل بعد كل هذا الوقت، الملاك الذي ظهر لك وانتظر أن تتبعه… كيف لم تقدّر عمق ألمه السماوي وأنت تبتعد عن الجبل الملعون كل يوم خطوة، تجرجر حقائبك المثقلة بلحمه على ساعات تجري إلى ما لا نهاية بين ساقيه، وتهزأ إذا ما نهاك تليفونياً عن الكبرياء؟ الآن وقد أصبح الملاك بُخاراً، كسبتَ ما أراد أن يضيّعه عليك. لكن ما الذي فضّلتَه على الخسارة؟ قرية هجرتْها نساؤها؟ خادم يسرق من البيت؟ نجمة مدارها عقد سيصدأ حول رقبتك؟ لعلك ظننته يظهر من جديد، أو نسيت أن في بطنه دَمَك. يا كافرْ، كيف ستحلّق الآن؟
عن قصيدة سركون بولص من ديوان «حامل الفانوس في ليل الذئاب»:
«يظهر ملاك إذا تبعتَه خسرت كل شيء، إلا إذا تبعته حتى النهاية… حتى تلاقيه في كل طريق متلفعاً بأسماله المنسوجة من الأخطاء، يجثم الموت على كتفه مثل عُقاب غير عادي تنقاد فرائسه إليه محمولة على نهر من الساعات، في جبل نهاك عن صعوده كل من لاقيته، في جبل ذهبت تريد ارتقاءه! لكنك صحوت من نومك العميق في سفح من سفوحه، وكم أدهشك أنك ثانية عدت إلى وليمة الدنيا بمزيد من الشهية: الألم أعمق، لكن التحليق أعلى».
يوســف رخـــــــا
شاعر من مصر