"قصيدة النثر العُمانية: الخطاب والسياق"، رسالة تقدّم بها الباحث: مبارك بن عيسى الجابري، لنيل درجة الماجستير في النقد الأدبي من جامعة نزوى بتاريخ: 22/12/2010م.
المشرفون على البحث:
المشرف الرئيس : أ.د ثابت الألوسي
عضو لجنة الإشراف : عبد المجيد بنجلالي
عضو لجنة الإشراف : طارق رمزي
لجنة المناقشة:
رئيس اللجنة : د.إسماعيل الكفري
عضو ممثل رئيس القسم : د.محمد الشحات
الممتحن الخارجي : د.سمير هيكل
نظرت هذه الدراسة في قصيدة النثر العُمانية بوصفها (خِطابًا) على النحو الذي حدّده مشيل فوكو ، حيث إن الحديث عن الخطاب عند فوكو يقودنا مباشرة إلى نظريته التي يمكن تسميتها بـ(سلطة الخطاب)، فالحديث عن الخطاب كما يراه يتضمن بالضرورة الحديث عن سلطة الخطاب ؛ لأنه يرى أن لكل خطاب سلطته التي ينتجها بنفسه، فهو شكل من أشكال الهيمنة التي تسعى القوى للاستحواذ عليها، وهو «ما نصارع من أجله، وما نصارع به، وهو السلطة التي نحاول الاستيلاء عليها.»(1)
إن فوكو يرى أن ثمة نوعًا من السلطة في كل الفعل البشري، كما أن المكان الأجلي لظهور هذه السلطة يكمن في الخطاب، فليس ثمة خطاب بريء منها، وإن ظهر هكذا ؛ ولذلك فهو يفترض «أن إنتاج الخطاب في كل مجتمع هو في نفس الوقت إنتاج مراقب ومنتقى ومنظم ومعاد توزيعه من خلال عدد من الإجراءات التي يكون دورها هو الحد من سلطاته ومخاطره، والتحكم في حدوثه المحتمل، وإخفاء ماديته الرهيبة.»(2)، وما كانت هذه المراقبة الشديدة وهذا التنظيم المفروض على الخطاب ليكونا لولا السلطة التي وجدت في الخطاب ومحاولة القوى المؤسسية الحد منها وتوجيهها الوجهة التي ترى فيها مصلحتها.
إن هذه النظرة الفوكوية إلى الخطاب هي التي تنتظمها الدراسة في نظرتها إلى قصيدة النثر العُمانية، مفيدةً في الوقت نفسه من المدرسة التداولية الحديثة التي أعادت السياق إلى الدرس النقدي، بحيث تم تطبيق النظرة الفوكوية في هذه الدراسة على قصيدة النثر العُمانية مربوطةً بسياقها العربي العام، أقصد قصيدة النثر العربية، بوصفها – أي القصيدة العُمانية – امتدادًا طبيعيًا للقصيدة العربية ؛ وعليه فإن قراءتها –في رأي الباحث – ينبغي أن تتم غير معزولة عن سياقها العربي، مع الإيقان بوجود تمايز طبيعي على صعيد بعض المحمولات التي تُمتح من البيئة.
هكذا إذن نظرت الدراسة إلى قصيدة النثر العُمانية (والعربية بطبيعة الحال) بوصفها خطابًا منتميًا لقوة مؤسسية افتراضية هي مؤسسة الحداثة الشعرية التي مثلتها مجلة شعر وتجمعها الشهير، حيث إن هذه المجلة كانت صريحة منذ بدء انبثاق قصيدة النثر العربية المؤطرة نظريًا أنها الخطاب الشعري الذي تتبنّاه، وكانت قد نظرت إلى نفسها على أنها القائمة على رأس التحديث الشعري العربي(3)، ومن هنا فقد قدّمت هي وأعضاؤها تنظيرات عديدة لصياغة الخطّ الذي افترضوا أنه ينبغي أن تسير عليه الحركة الشعرية العربية المعاصرة، وقد وجدت المجلّة في قصيدة النثر «المنجز الحداثي للمجلّة»(4) الذي كانت تبحث عنه، ومن هنا سترى هذه المجلة وتجمّعها أن خطاب قصيدة النثر العربية خطاب ينتمي إليها، ويخضع لتنظيراتها.
وباعتماد الدراسة على هذا التوصيف لمجلة شعر وتجمعها فإنها –انطلاقًا من فوكو- قد رأت أن مؤسسة الحداثة الشعرية العربية هذه قامت من أجل حيازة سلطة خطاب قصيدة النثر بمحاصرته ومراقبته عبر طريقتين مهمتين : تحديد سمات الجمعية الخطابية المخوّلة بإنتاجه، وتحديد شرط بلوغ أي خطاب حدّ الدخول في حيّز «الشعر الحقيقي»، وهكذا سيتم إقصاء أي خطاب لا يخضع لهذين الإجراءين ويُمنع من الاتصاف بـ»الحداثة الشعرية».
أما بالنسبة إلى الطريقة الأولى فإن الدراسة قد ناقشتها في الفصل الأول تحت عنوان (السياق الثقافي للخطاب)، حيث وجدت الدراسة أن ثمة مجموعة سمات ثقافية يشترك فيها منتجو هذا الخطاب مكونين بذلك تجمّعًا منمازًا عن غيره، بحيث سيغدو هذا التميز بمثابة شرط الانتماء لهذه الجمعية الخطابية، وحدّها الذي يمنعها من التلاشي في غيرها، وقد تمثل ذلك في جملة سمات ثقافية تمتح من فلسفات غربية أهمها ثلاث مدارس هي : الرمزية والسريالية والوجودية، بحيث جرى في النصوص تمثّل جملة من النظرات الفلسفية لهذه المدارس، وقد استنتجت الدراسة هذا بالاشتغال على نصوص ثلاثة من كبار كُتّاب قصيدة النثر العُمانية، لتخلص إلى الجدول الآتي:
الشاعر
المدرسة
زاهر الغافري
سماء عيسى
سيف الرحبي
الرمزية
الشاعر الملهم المكافح
الموت المتربص
السخط على الواقع والملل منه
السريالية
المرأة الممجدة
الصور الغرائبية المتناقضة
عوالم الغرابة والدهشة
الوجودية
الثورة على القيم
القلق والعزلة
الصراع مع الواقع والصراع مع الآخرين
وهذه النظرات الفلسفية شائعة في خطاب قصيدة النثر العُمانية والعربية، على تفاوت لدى الشعراء في التركيز على بعضها دون الآخر، وقد افترضت الدراسة أن سبب هذا الظهور البارز للمدارس الثلاث (الرمزية والسريالية والوجودية) ربما يعود إلى:
– كون هذه المدارس (خاصة الرمزية والسريالية) لها وشيج صلة بتنظيرات قصيدة النثر، بما قدمته على صعيد الشعرية.
– أنها مدارس متقاربة زمنيًا نوعًا ما، وهي قريبة عهد من العصر الراهن، وهكذا فإن تأثيرها لا يزال مستمرًا على صعيد الواقع الأدبي العربي والغربي، نستثني من هذا الواقعية التي لا تنسجم تنظيراتها مع تنظيرات قصيدة النثر، وكذلك الدادائية التي لم تشكّل وقعًا أدبيًا قويًا مثل ما ستفعله تاليتها السريالية.
– أن ملامح هذه المدارس هي التي تبدو مشكّلة لروح الأدب الغربي الذي تم نسج قصيدة النثر العربية انبثاقًا منه، وتشرّبه كُتّاب هذه القصيدة.
أما الطريقة الثانية التي اعتمدتها مؤسسة الحداثة الشعرية العربية لمحاصرة خطاب قصيدة النثر العربية ومراقبته فإن الدراسة قد بحثتها في فصلها الثاني تحت عنوان (شعرية الخطاب)، حيث تمخّض عن تحليل جملة من التنظيرات الريادية المؤطرة لقصيدة النثر العربية الوصولُ إلى القول بأن مؤسسة الحداثة الشعرية العربية قد اشترطت شرطًا محوريًا للخطاب المنتمي إليها ليكون قانونه الناظم الذي عليه جريانه، بحيث سيغدو التخلي عنه أو عدم الوصول إليه كافيًا لنبذ الخطاب من مملكة «الشعر الحقيقي»، وهذا الشرط/ القانون الناظم لهذا الخطاب هو «الغموض».
وبهذا، فإن الدراسة قد تجاوزت ذكر الخصائص التي أُعلن عنها عند بدء التنظير لقصيدة النثر لدى كلٍّ من أدونيس وأنسي الحاج نقلاً عن سوزان برنار؛ إذ إن تلك الخصائص (المجانية، والوحدة الموضوعية، والكثافة) ليست في نظر الدراسة تحديدًا يصرّح بالقانون المنظّم للشعر الذي تريده مؤسسة الحداثة الشعرية العربية، فالمجّانية – أي انعدام الغاية – ليست متحقّقة في هذا الخطاب، إذ سيتضح أن له غايته ومهمته، بينما الوحدة الموضوعية ليست مقصورة على قصيدة النثر وحدها، وإنما هي سمة عامة للشعر الحديث برمته، ولن يبقى حينئذٍ سوى الكثافة التي رأت الدراسة أنها السمة التي تتغيّاها لغة هذا الخطاب(5)، وعلى هذا فقد ارتكزت في بيان شعرية خطاب قصيدة النثر المُنظَّر له من قبل مؤسسة الحداثة الشعرية العربية على القانون الأساس الذي عليه جريان الخطاب الشعري لهذه المؤسسة، مبينةً – من خلال الاشتغال على جملة من النصوص العُمانية – الأدوات التي تم استخدامها لإخضاع الخطاب لهذا القانون.
وقد اصطلحت الدراسة – مفيدةً من دراسات سابقة- على الخطاب الذي جاء خاضعًا لشرط مؤسسة الحداثة الشعرية العربية بـ«القصيدة الرؤيوية» للعلاقة المتينة بين مصطلح «الرؤيا» الصوفي وبين قانون الغموض كما تم طرحه في التنظيرات التي قدمتها تلك المؤسسة، في الوقت الذي وجدت فيه الدراسة أن ثمة جملة كبيرة من النصوص العُمانية الموسومة بـ«قصائد النثر» جاءت متمردة على قانون الغموض هذا وشعريته، مجترحةً لنفسها – شأنها شأن بعض التجارب العربية – قانونًا جديدًا اصطلحت عليه الدراسة بقانون «التداول»، وقد خلصت بعد درس تلك النصوص إلى أنها قد اعتمدت على أداتي المفارقة القريبة وزمنية السرد لحفظ نفسها من التلاشي في اتجاهين متناقضين : القصيدة الرؤيوية، والخطاب اليومي، وقد اجترحت لها مصطلح «القصيدة التداولية».
وعلى هذا فإن لدينا نوعين من خطاب قصيدة النثر العربية والعُمانية قدمت الدراسة تحديدًا لملامحهما على النحو الآتي:
القصيدة الرؤيوية
القصيدة التداولية
منبنية على الرؤيا
منبنية على الرؤية
لغتها تنبني على الغموض
لغتها تداولية
الشاعر: نبي /ملهم /رائي
الشاعر مجرد إنسان مبصر
السعي لبناء عالم آخر ما ورائي
الاهتمام بقول العالم الواقعي
تعتمد على ثقافة نخبوية
ثقافتها هي الثقافة الجماهيرية
وفي الفصل الأخير من الدراسة تم النظر في حالة التلقي التي قوبلت وتقابل بها قصيدة النثر العُمانية والعربية، وذلك لأن الدراسة تنطلق من مقدمة منطقية مفادها أن الخطاب – أي خطاب – يفترض مسبقًا متلقيًا ما، حتى وإن كان هذا المتلقي هو الباث نفسه، إذ لولا هذا الافتراض ما تم إنجاز الخطاب وتحويله من وجوده الكامن إلى وجود ظاهر، وهو أمر يشمل حتى تلك الخطابات التي يصرح منتجوها أنهم لا يوجهونها نحو متلق ما، وإنما ينتجونها لمجرد الإنتاج فحسب، إذ أن فعل الإنتاج نفسه لا يتم وفق صورته العقلية إلا بتمرئي متلقٍ ما مفترضٍ له.
حينئذٍ فإن هذا سيكون أوضح وقتَ يتخذ الخطاب شكلاً منظمًا بطريقة ما، إذ سيكون حينها واقعًا تحت سطوة جهة منظمة له، ويدل فعل التنظيم الذي تقوم به هذه الجهة على إرادة سيطرة على الخطاب، وليس منطقيًا أن تريد الجهة السيطرة على الخطاب لأجل الخطاب ذاته، وإنما لأجل فعل هذا الخطاب، سلطته بتعبير (فوكو)، والخطاب إنما يمارس فعله في المتلقي له، وعليه تكون سلطته، فالسيطرة على الخطاب وفق هذا التسلسل المنطقي مفضية إلى السيطرة على تأثيره في متلقيه، فثمة إذن متلقٍ له، وهو المعنى الذي تتخذه نظرة (فوكو) إلى سلطة الخطاب.
وهكذا تم درس حالة التلقي التي قوبل بها خطاب قصيدة النثر العربية بشقّه الرؤيوي من خلال النظر في الكيفية التي تلقّت به مجلة (نزوى) لقصيدة النثر العربية، والطريقة التي تُلقيت به مجلة نزوى عُمانيًا كحاضن لقصيدة النثر، ثم من خلال بحث كيفية التلقي الجماهيري العربي لقصيدة النثر، بحيث خلصت الدراسة إلى أن ثمة أزمة تلقٍ تواجهها قصيدة النثر العُمانية والعربية في علاقتها مع الجمهور، وسعت في الوقت نفسه إلى مناقشة أسباب تلك الأزمة كما تتجلى في الخطاب نفسه، وقد رأت الدراسة أن هذه الأزمة إنما تعكس في الحقيقة أزمة أمة بتمامها، إذ أن المنجز الشعري المعاصر هو في حقيقته فعل للعقل العربي الراهن، وهكذا فإن ما ينمّ عنه من ملامح وصفات إنما هي في مجملها ملامح وصفات لعموم العقل العربي، وقد رأت الدراسة أن المنجز الشعري العربي المعاصر إنما تمّ بصورة تعكس ما يعانيه العقل العربي من أزمة في تلقيه للخطاب، على أية صورة كان هذا الخطاب، أزمة تجلّت في تلقي الخطاب الشعري الغربي بعيدًا عن سياقه، بعيدًا عن إخضاعه لفعل المساءلة، وحينئذ ما كان من الجمهور العربي بوضعه الراهن الذي تكرّس فيه العرب كحالة ضعف وهزيمة إلا أن يقابلوا هذا الخطاب الشعري الجديد بالمعارضة تطبيقًا لفعل النكوص الذي استفادته الدراسة من محمد عابد الجابري(6).
الهوامش:–
1. فوكو، ميشيل، نظام الخطاب، ترجمة : محمد سبيلا، دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، 2007،ص9
2. نفسه، الصفحة نفسها.
3. ينظر : سالم أبو سيف، ساندي، قضايا النقد والحداثة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط1، 2005، ص 115-120، ص 155
4. نفسه، ص158
5. ينظر مثلاً : حسن، ناهض، القصيدة الحرة : محمد الماغوط نموذجًا، مركز الإنماء الحضاري، حلب، ط1، 2008، ص33-40
6. حول مفهوم «النكوص» ينظر :
– الجابري، محمد عابد، إشكاليات الفكر العربي المعاصر، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط2، 1990م، ص25-26
– الجابري، محمد عابد، التراث والحداثة، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط3، 2006م، ص25.