لـ سيرجي دوفلاتوف
ترجمة: خليل الرز *
تعارفنا أنا ويوري شليبنباخ في مؤتمر بقصر تافريتشيسكي، وعلى وجه الدقة في اجتماع رؤساء تحرير الصحف واسعة الانتشار. كنت أمثّل صحيفة “تروبوسترويتل”، وكان شليبنباخ يمثّل صحيفة مؤسسة السينما في ليننجراد التي تصدر، بأعداد كبيرة، تحت عنوان “كادر”.
قدّم نائب سكرتير منطقية الحزب تقريره، وقال في الختام:
– عندنا صحف يُحتذى بها، كصحيفة “زناميا بروجريسا” وهناك صحف متوسطة من طراز “أدميرالتيسا”. كما توجد صحف سيئة مثل “تروبوسترويتل”. وعندنا في النهاية الصحيفة الفريدة من نوعها “كادر”، وهي ضرب من الفانتازيا في انعدام الموهبة والضجر.
وكنت قد انحنيتُ بعض الشيء، على عكس شليبنباخ الذي انتصب بفخر. لقد شعر، في الظاهر، أنه مارق مطارد. بعد ذلك هتف بصوت مرتفع إلى درجة كافية:
– قال لينين يجب أن يكون للنقد أسباب!
– صحيفتك يا يورا أوطأ من أي نقد- أجاب نائب السكرتير…
في الاستراحة استوقفني شليبنباخ، وسألني:
– المعذرة، كم يبلغ طولك؟
لم أستغرب، اعتدت على ذلك، وكنت أعرف أن ما سيعقب ذلك حوارٌ لامعقول على هذه الشاكلة:
“كم يبلغ طولك؟ – مائة وأربعة وتسعين سنتيمتراً. – مؤسف أنك لا تلعب بكرة السلة، – ولماذا لا ألعب؟ أنا ألعب، – هكذا خمّنت…”
– كم يبلغ طولك؟
– متراً وأربعة وتسعين. وما في الأمر؟
– الحقيقة أنني أصوّر فيلماً سينمائياً للهواة، وأريد أن أقترح عليك دور البطولة.
– لا أملك مؤهلات التمثيل.
– هذا ليس مهماً، فالفاكتورا مناسبة.
– ماذا تعني بالفاكتورا؟
– المظهر الخارجي.
واتفقنا على أن نلتقي في الصباح التالي.
كنت أعرف شليبنباخ، من قبل، في القسم الصحفي. غير أن أحدنا لم يكن يعرف الآخر بصورة شخصية. كان رجلاً نحيفاً عصبياً ذا شعر طويلٍ وسخ إلى حدّ ما.
قال إن أجداده السويديين مذكورون في السجلات التاريخية. وكان يحمل، في محفظة للأغراض المنزلية، كتاباً لبوشكين في مجلد واحد- “بولتافا” ملفوفاً بغلاف للسكاكر.
– اقرأ- قال شليبنباخ بعصبية.
ودون أن ينتظر ردة فعلي صار يصيح بصوت نبّاح: بالنار صُدّ المتطوّعون، يسرعون، متداخلين، إلى الهباء. يهرب روزين عبر المضيق، ويستسلم شليبنباخ المتوثّب…
في القسم الصحفي كانوا يهابون شليبنباخ، فقد كان فظاً في سلوكه. ربما كان ذلك من أثر التوثّب الذي ورثه عن الجنرال السويدي. أما الهرب والاستسلام فما أحبّهما شليبنباخ.
أذكر بعد وفاة الصحفي العجوز ماتيوشين قام أحدهم بجمع المال من أجل الجنازة. وعندما توجه إلى شليبنباخ صاح هذا:
– ماكنت لأعطي روبلاً واحداً من أجل ماتيوشين الحي. أما من أجل الميت فلا أعطي خمس كوبيكات. فليدفن جهاز أمن الدولة مخبريه…
هذا في الوقت الذي لم ينقطع شليبنباخ عن استدانة المال من الموظفين، ثم إعادتها لهم مرغماً. وقد شغلت قائمة دائنيه صفحتين في مفكرته الصحفية. وعندما كانوا يذكّرونه بالدين، كان شليبنباخ يصرخ مهدداً:
– سوف أحذفك من القائمة إذا أضجرتني!
في المساء، بعد الاجتماع، هاتفني مرتين، هكذا دون سبب محدّد. كانت نبرته الذابلة توحي بصلة قربى متينة فيما بيننا، ومن ثم يمكن مهاتفة الصديق، حتى عندما لا تكون هناك ضرورة محددة لذلك.
– ضجر! – شكى شليبنباخ- ولا شيء يُشرب. أستلقي هنا على الديوانية في الوحشة، مع زوجتي…
وإذ أنهى المكالمة ذكّرني:
– سوف نناقش غداً كل شيء.
قضينا الصباح في القسم الصحفي. كنت أتحقق من مراجعة مادة، بينما كان شليبنباخ يحضّر عدداً جديداً، دون أن يتوقف عن صراخه العصبي:
– أين اختفى المقص؟ من أخذ مسطرتي؟ كيف تكتب “جمهورية جنوب- أفريقيا” متصلة أم عبر شخطة؟
بعد ذلك ذهبنا إلى الغداء.
في أعوام الستينيات كان بوفيه دار الصحافة من الأماكن التي تقدم خدماتها لدائرة محدّدة من العاملين. كانوا يقدمون فيه المقانق البقرية، المعلبات، الكافيار، المربى، اللسانات، السمك النادر. نظرياً كان البوفيه يقدم خدماته لموظفي دار الصحافة، بمن فيهم صحفيو الجرائد التي تنشر بأعداد كبيرة. أما في الواقع فكان بوسع أناس من الشارع أن يكونوا هناك. المؤلفون من خارج الملاك على سبيل المثال. وشيئاً فشيئاً لم يعد مغلقاً أمام أحد. وهذا يعني أن المواد النادرة فيه أصبحت أقل. وفي النهاية لم يسلم من الخيرات الماضية سوى بيرة جيغولفسك.
كان البوفيه يشغل من الطابق السادس القسم الشمالي كله، والنوافذ تطل على نهر فونتانكا. وكانت الصالات الثلاث تتسع لأكثر من مائة شخص في وقت واحد. سحبني شليبنباخ إلى فجوة، كانت الطاولة هنا مخصصة لشخصين، ومن الواضح أن الحديث سيكون سريّاً على وجه الخصوص.
طلبنا بيرة وشطائر، ثم بدأ شليبنباخ بصوت خفيض بعض الشيء:
– لقد توجهت إليك لأنني أقدّر الناس المثقفين. نحن قلّة. وبصراحة يجب أن نكون، بعدُ، أقلّ. الأرستقراطيون ينقرضون كحيوانات ما قبل التاريخ. لكنً، لنقتربْ من موضوعنا. لقد قررت أن أصوّر فيلماً للهواة. كفانا نعطي أفضل سني عمرنا للصحافة اللعينة. أرغب بعمل إبداعي حقيقي. وبالعموم سأبدأ غداً بالتصوير. ستكون مدة الفيلم عشر دقائق. وهو مصمم كفيلم هجائي لاذع. موضوعه على الشكل التالي. يظهر في ليننجراد شخص غريب غامض. يمكن بسهولة أن نعرف أنه القيصر بيوتر. بيوتر نفسه، ذلك الذي أسس بيتربورغ قبل مئتين وستين عاماً. والآن يحيط بالقيصر العظيم الواقع السوفييتي المبتذل. الشرطي يهدده بالغرامة. رجلان كحوليان يعرضان عليه المساهمة بزجاجة تقسم على الثلاثة. سماسرة يرغبون بشراء حذائه،عاهرات يعتقدن أنه أجنبي ثري، ومخبرو أمن الدولة يعتبرونه جاسوساً… وهلم جراً. باختصار سُكْر وفوضى في كل مكان. القيصر يصرخ من هول المصيبة- ماذا فعلت؟ ما الذي جعلني أبني هذه المدينة العاهرة؟!
ثم قهقه شليبنباخ بطريقة جعلت المحارم الورقية تتطاير. وأردف بعد ذلك:
– الفيلم سيكون، بتعبير لطيف، بعيداً عن السياسة. وسوف نضطر لعرضه في الشقق الخاصة. آمل أن يشاهده الصحفيون الأجانب، ما سيضمن له صدى دولياً. العواقب يمكن أن تكون غير متوقعة أبداً. ولذلك فكّر وأخبرني. موافق؟
– لقد طلبتَ الآن أن أفكّر.
– إلى متى نفكر؟ وافقْ معي.
– ومن أين ستأتي بالأجهزة؟
– يمكنك أن لا تقلق بهذا الشأن. أنا أعمل في مؤسسة السينما في ليننجراد. كلهم هناك أصدقائي بدءاً من هربرت رابوبورت وانتهاء بآخر عامل إضاءة. الأجهزة تحت تصرفي. أنت تناسبني، فأنا لا أستطيع أن أستوثق على هذا الدور إلاّ من يحمل أفكاري. غداً سوف نذهب إلى الاستوديو ننتقي العدّة المناسبة. ونتشاور مع هربرت. ثم نبدأ.
قلت:
– يجب أن أفكّر.
– سوف أخابرك.
دفعنا الحساب وذهبنا إلى القسم الصحفي.
لم أكن أملك، في الحقيقة، مؤهلات التمثيل. مع أن والديّ ينتميان إلى الوسط المسرحي. والدي كان مخرجاً، وأمي ممثلة. وللحقيقة، فإن والديّ لم يتركا أثراً عميقاً في تاريخ المسرح. ولعل ذلك شيء حسن…
أما ما يتعلق بي، فقد وقفت على خشبة المسرح مرتين. الأولى عندما كنت في المدرسة. أذكر أننا مسرحْنا قصة “تشوك وغيك”، وقد اتفق لي أن لعبتُ دور والد عضو بعثةٍ إلى القطب لأنني كنت الأطول قامةً، وكان عليّ أن أخرج من أحراج التوندرا على زلاجتين، ثم ألقي مونولوج الختام.
كان التلميذ الكسول بروبوكوفيتش يعبّر عن التوندرا من وراء الكواليس. كان، بطريقة مسعورة، ينعق، ويعوي، ويزمجر كالدبّ.
ظهرت أنا على الخشبة، شاحطاً بوطي على الأرض، ملوحاً بذراعيّ. هكذا صوّرتُ المتزلّج على الثلج. وقد كانت هذه الحركة الإخراجية فكرتي، تماشياً مع الشرطية المسرحية.
للأسف لم يثمّن المشاهدون منهجي الشكلاني. لقد وجدوا أنني أزعر بعد أن سمعوا عواء بروكوبوفيتش وراقبوا حركاتي الغامضة- والزعران بين تلاميذ ما بعد الحرب كان عددهم كافياً.
استاءت الفتيات، وصفق الفتيان. وسارع مدير المدرسة وسحبني إلى وراء الكواليس. وفي النتيجة ألقت معلمة الأدب مونولوج الختام.
المرة الثانية التي تسنّى لي فيها أن أكون ممثلاً كانت منذ أربع سنوات. كنت أعمل حينها في جريدة الحزب الجمهورية، وقد تعيّن علي أن أكون بابانويل. وعدوني مقابل ذلك بثلاثة أيام عطلة، وخمسة عشر روبلاً.
وكانت هيئة التحرير قد نصبت شجرة عيد الميلاد لتلاميذ المدرسة الداخلية. وكنت، مرة أخرى، الأطول قامةً. ألصقوا عليّ لحيةً، وأعطوني قبعة، ومعطفاً من فرو الخراف، وسلة الهدايا، ثم أطلقوني إلى الخشبة.
كان المعطف قصيراً. ومن القبعة كانت تفوح رائحة السمك، وكدت أحرق اللحية حين أشعلت لفافة تبغ.
انتظرت حلول الصمت، وقلت:
– مرحباً أيها الأولاد الأعزاء! هل عرفتموني؟
– لينين! لينين! – صرخوا من الصفوف الأولى.
وهنا ضحكتُ، وسقطت لحيتي…
وهاهو شليبنباخ يقترح عليّ الآن دور البطولة.
كنت أستطيع أن أرفض طبعاً. ولكنْ، لسببٍ ما، وافقت. دائماً أستجيب لأكثر الاقتراحات غرابةً. ليس من باب العبث أن زوجتي تقول:
– إنك تهتمّ بكل شيء عدا واجباتك الزوجية.
زوجتي واثقة من أن الواجبات الزوجية هي قبل كل شيء أن يكون الزوج صاحياً.
باختصار، ذهبنا إلى مؤسسة السينما في ليننجراد. هاتف شليبنباخ شخصاً يدعى تشيبا في ورشة مستلزمات التمثيل، أعطونا إذنا بالدخول. كان المكان، الذي وجدنا نفسينا فيه، مليئاً بالخزانات والصناديق. شعرت برائحة الرطوبة والنفتالين. فوق رؤوسنا كانت مصابيح بضوء النهار تومض وترتعش. في الزاوية دب محنط يتراءى بلونه الأسود. وعلى طاولة طويلة قطة تمشي.
ظهر تشيبا من بين الستائر. كان هذا رجلاً في أواسط العمر يرتدي قميصاً داخلياً مخططاً وقبعة عالية، نظر إليّ طويلاً، ثم سألني:
– هل خدمت بالحرس؟
– وماذا في ذلك؟
– هل تذكر عازل العقوبة على نهر روبتشا؟
– وبعد؟
– وهل تذكر كيف خنق سجين نفسه بالسير؟
– أذكر شيئاَ من هذا القبيل.
– كان ذلك أنا. ظلوا ينبّهونني ساعتين من غيبوبتي، الكلاب…
ضيّفنا تشيبا كحولاً محلولاً بالماء. وأظهر، عموماً، أنه شخص خدوم. قال:
– خذ أيها المواطن القائد!
ووضع على الطاولة كومة كاملة من الأمتعة. كان بينها بوط أسود طويل، سترة قديمة الطراز بلا أكمام، عباءة، وبرنيطة. بعد ذلك طال تشيبا من مكان ما قفازين بأطراف مفتوحة. كتلك التي كان يرتديها هواة قيادة السيارات الروس الأوائل.
– والبنطال؟ ذكّره شليبنباخ.
أخرج شيبا من الصندوق بنطالاً مخملياً بشريط من القصب. لبسته بصعوبة شديدة، ولم أستطع تزريره عليّ.
– على القد- أكّد تشيبا- سوف تشدّه بخيط قوي.
وعندما توادعنا قال فجأةً:
– في السجن كنت أتشوق إلى الحرية. أما الآن فخضعت، وأحن إلى السجن. أي أناس كانوا: الرمادي، الفراشة، القاطرة!…
وضعنا الأمتعة في حقيبة، ونزلنا بالمصعد إلى عامل المكياج، أو بالأحرى إلى عاملة مكياج تدعى لودميلا بوريسوفنا.
بالمناسبة تلك كانت المرة الأولى التي ذهبت فيها إلى مؤسسة السينما في ليننجراد. ظننت أنني سأرى الكثير من الأشياء الشيّقة- الضوضاء الإبداعية، الممثلين المشهورين. الممثلة تشورسينا، على سبيل الافتراض، تقيس سروال سباحة مستورداً، وإلى جانبها تقف تينياكوفا، وقد استولى عليها الحسد.
وفي الواقع ذكرتني مؤسسة السينما في ليننجراد بديوان إداري ضخم. في الكوريدورات تنتشر نساء قليلات الجاذبية يحملن الأوراق. ومن كل مكان تنبعث طقطقة الآلات الكاتبة. أما الشخصيات اللامعة فلم نلتق بها. وأعتقد أن تشيبا كان الأكثر بهاء بقميصه الداخلي المخطط وقبعته العالية.
أجلستني عاملة المكياج أمام المرآة، ووقفت وراء ظهري لبعض الوقت.
– مارأيك؟ سألها شليبنباخ.
– من حيث الرأس ليس جيداً. وسط. أما المظهر الخارجي فمدهش.
وفي أثناء ذلك لمست لودميلا بوريسفنا شفتي، وجذبت أنفي، ولامست أذني.
بعد ذلك ألبستني باروكة شعر أسود. ألصقت عليّ شاربين. وبحركة خفيفة بقلم رصاص دوّرت خدّيّ.
– غير معقول! – افتتن شليبنباخ- قيصر نموذجي! نسخة من بيوتر الأكبر…
ثم لبست أمتعتي، وطلبنا سيارة أجرة. مشيت في الأستوديو ببذلة جلالة الامبراطور. وكان القليل ممن لاقونا يسترقون النظر إليّ.
مرّ شليبنباخ بواحد آخر من معارفه، فأعطانا صندوقين أسودين مليئين بالأجهزة، مقابل المال هذه المرة.
– كم؟ سأل شليبنباخ.
– أربعة وإثنا عشر- كان الجواب.
– لكنهم قالوا لي إنك حوّلتَ إلى النبيذ المز.
– وأنت صدّقتهم؟…
في سيارة الأجرة صار شليبنباخ يشرح لي:
– يمكنك أن لا تقرأ السيناريو. كل شيء سيقوم على الارتجال، كما يفعل أنطونيوني. القيصر بيوتر يظهر في ليننجراد المعاصرة. كل شيء هنا بالنسبة له مقزز وغريب. يدخل في مخزن لبيع المأكولات. يصرخ: أين الحفش الصغير، والعسل، وعرق اليانسون؟ من دمّر الدولة العظمى، البوسرمانيون؟… وهلمّ جراً. نحن الآن في طريقنا إلى جزيرة فاسيليفسكي. عفواً، هل نتخاطب بصيغة الجمع؟
– بصيغة المفرد طبعاً.
– سوف نذهب إلى جزيرة فاسيليفسكي. تنتظرنا هناك بوكينا مع السيارة.
– من هي بوكينا؟
– وكيلة نقل من مؤسسة السينما في ليننجراد. عندها ميكرو باص حكومي. قالت إنها ستكون هناك بعد نهاية عملها. امرأة مثقفة جداً. لقد كتبنا السيناريو معاً، في شقة أحد المعارف… باختصار، نذهب إلى جزيرة فاسيليفسكي، ونصور المشاهد الأولى. القيصر يتحرك من شارع ستريلكا إلى جادة نيفسكي. هو في ذهول. ولا يكفّ عن تمهيل خطواته، متلفتاً من حوله. هل فهمت؟… ارتعبْ من السيارات. أُنظرْ ملياً إلى الشاخصات. تجنّبْ أكشاك الهواتف مذعوراً. إذا اصطدم بك أحد بالمصادفة، استلَّ سيفك. قاربْ ذلك كلّه بشكلٍ خلّاق…
كان السيف مستلقياً على ركبتيّ. نصله مقصوص، فلا يمكنني أن أجرّد منه سوى ثلاثة سنتيمترات. وكان شليبنباخ يومئ بيديه باهتياج. أما السائق فقد ظلّ رصيناً تماماً، حتى إذا وصلنا سأل بمودّة:
– يارجل، من أي حديقة حيوانات قد هربت؟
– شيء لا يصدّق! – صرخ شليبنباخ- لقطة جاهزة!
خرجنا من سيارة الأجرة مع الصناديق. عند الرصيف المقابل كان يقف ميكروباص. وعلى مقربة منه كانت تحوم فتاة ترتدي الجينز. لم يثر شكلي اهتمامها.
– غالينا أنت رائعة!- قال شليبنباخ- سوف نبدأ خلال عشر دقائق.
– مصيبتي أنت!- ردت الفتاة.
بعد ذلك انهمكا بالأجهزة طيلة عشرين دقيقة. وكنت أتمشى بمحاذاة مبنى المتحف السابق للأدوات القديمة، وكان المارة يتفحصونني بفضول.
هبت من نهر النيفا ريح باردة، الشمس لم تكفّ عن الاحتجاب وراء الغيوم.
أخيراً قال شليبنباخ- جاهز. صبت غالينا لنفسها من ترمس قهوة. وقد أصدر غطاء الترمس صريراً يقشعر له البدن.
– إذهب إلى هناك- قال شليبنباخ- عند الناصية. عندما ألوّح لك بيدي تتحرك بمحاذاة الحائط.
قطعت الطريق، ووقفت عند الناصية. في غضون ذلك تبلل بوطي بالماء تماماً. كان شليبنباخ يتمهّل طيلة الوقت، لاحظتُ كيف قدّمت غالينا له كوباً، وأنا أمشي بحذاء مبلل.
أخيراً لوّح شليبنباخ بيده، وقد حمل الكاميرا كما لو كانت حربةً، بعد ذلك قرّبها من وجهه.
أطفأت لفافة تبغي، وخرجت من وراء الناصية، متجهاً إلى الجسر. تبين لي أن المشي يكون مربكاً عندما يصوّرونك. بذلتُ جهدي لكي لا أتعثّر. ثم أمسكت برنيطتي عندما هبت الريح.
فجأةً بدأ شليبنباخ بالصراخ. لم أسمع بسبب الريح، توقفتُ، ثم قطعت الطريق.
– ما بك؟ سأل شليبنباخ.
– لم أسمع.
– ما الذي لم تسمعه؟
– صراخكم.
– بالمفرد وليس بالجمع.
– بماذا صرخت بي؟
– صرخت- عظيم! ولا أكثر من ذلك، هيا عد مرة أخرى.
– هل ترغب بالقهوة؟ سألت أخيراً غالينا.
– ليس الآن- أوقفها شليبنباخ- بعد الإعادة الثالثة.
خرجت مرة أخرى من وراء الناصية. ومن جديد اتجهت نحو الجسر، ومرة أخرى صرخ شليبنباخ بشيء ما. لم أعر ذلك اهتمامي. وهكذا مشيت حتى وصلت إلى الحاجز، وفي النهاية تلفّت من حولي. كان شليبنباخ وصديقته جالسين في السيارة، عدت أدراجي بسرعة.
– الملاحظة الوحيدة- قال شليبنباخ- هي أن تقوم بالمزيد من التعابير، عليك أن تندهش من كل شيء، وتنظر بذهول إلى الشاخصات ولوحات الإعلانات.
– لا توجد هناك لوحات إعلانات.
– ليس مهماً. سوف أجري عملية مونتاج لكل شيء فيما بعد. المهم- الدهشة، تمشي ثلاثة أمتار، ثم تضرب كفاً بكف…
وبالنتيجة جعلني شليبنباخ أعيد المشهد سبع مرات. تعبت جداً، البنطال زحل تحت السترة القديمة. والتدخين غير مريح بالقفازات.
لكن العذاب انتهى أخيراً. ناولتني غالينا الترمس. بعد ذلك ذهبنا إلى شارع تافريتشيسكي
– يوجد هناك كشك بيرة- قال شليبنباخ- بل أكثر من واحد أعتقد. حوله يزدحم الكحوليون. سيكون المشهد رائعاً. ملك بين الحثالة…
كنت أعرف هذا المكان. كشكان للبيرة بينهما مشرَب، ليس بعيداً عن المعهد المسرحي. والسكّيرون هناك كثيرون فعلاً.
أدخلنا الميكروباص في بوابة، وفي المكان نفسه تمت التحضيرات كلها.
بعد ذلك همس شليبنباخ بحرارة:
– التشكيل الحركي بسيط. أنت تقترب من الكشك. تنظر باستياء إلى هذا الحشد كله، ثم تلقي خطاباً.
– ما الذي ينبغي عليّ قوله؟
– قل أيّ شيء. لا أهمية للكلمات، الأهم تعابير الوجه، الحركات…
– سوف يظنونني أبلهاً.
– هذا شيء جيد. قل ما تشاء. واسأل عن الأسعار.
– عندئذ سيعتبرونني أبلهاً حتماً. من لا يعرف الأسعار؟ بخاصة سعر البيرة.
– في هذه الحال اسألهم: مَنْ الأخير في الطابور؟ حرّك شفتيك فقط، وأنا سأجري عملية مونتاج فيما بعد. النص سوف يسجّل لاحقاً على شريط التسجيل. باختصار، تصرّفْ!
– إشربْ لتصبح أكثر جرأةً – قالت غالينا.
ثم جلبت زجاجة فودكا. صبت لي في كوب قهوة. لم تزدد جرأتي. خرجت مع ذلك من السيارة. كان عليّ أن أمشي. كان الكشك المدهون باللون الأخضر يقع على الناصية بين شارعَيْ بيلينسكي وموخوف. وكان الطابور ممتداً على طول المساحة المزروعة بالعشب حتى مبنى مؤسسة تجارة الأغذية. كان الناس يتدافعون بالقرب مقدمة الكشك. ثم تقلّ بعد ذلك كثافة الطابور. وفي نهايته يتشرذم إلى عشرة أشخاص متجهّمين منغلقين. كان الرجال يرتدون الجواكيت والبلوزات الدافئة. يقفون بهيئة حازمة ولا مبالية، كما لو أنهم أمام قبر شخص غريب. بعضهم كان يمسك بالتنكات والأباريق. كانت النساء قليلات في الحشد، خمس، أو ست. كنّ يتصرفن بضجة أكبر، وصبر أقل. إحداهنّ صرخت بكلمات غامضة:
– اسمحوا بالمرور احتراماً للأم العجوز!
بعد أن يصل الناس إلى غايتهم كانوا يتنحون جانباً، وهم يتذوّقون النعمة، فيما تتطاير الرغوة الشهباء على العشب.
كل منهم كان يحمل في داخله حريقه الخاص الصغير. وبإطفائه كان الناس ينتعشون، يدخنون، ويبحثون عن فرصة للبدء بالحديث.
كان الناس الذين مازالوا يقفون بالطابور يستفسرون:
– البيرة عادية؟
فيأتي الرد:
– كأنها عادية…
كم من هذه الأكشاك في روسيا؟ فكرتُ، كم من الناس يموتون كل يوم ويولدون من جديد؟
شعرت بالخوف، وأنا اقترب من الحشد، من أجل أي شيء وافقت على هذا كلّه؟ ما الذي سأقوله لهؤلاء الناس المنهكين المتجهّمين أنصاف المخبولين؟ وما حاجة أي منهم إلى هذا الحفل التنكّري الغبي؟!…
التحقت بذيل الطابور. رجلان، أو ثلاثة رجال، نظروا إليّ دون أيّ فضول، أما الباقون فلم يلاحظوني ببساطة.
أمامي كان يقف شخص ذو هيئة قفقازية يرتدي سترة عامل في سكك الحديد. إلى يساري شخص رث الثياب في خفّ قماشيّ محلول الرباط. على بعد خطوتين عني مثقف كسر عود الثقاب، وهو يشعل سيجارته. وكان قد حشر حقيبة يد رقيقة بين ركبتيه.
أصبح الوضع يزداد سخفاً. الكل صامتون، لا يتعجّبون. لا يطرحون عليّ الأسئلة. أي أسئلة يمكن أن تُطرح؟ عند الجميع مشكلة واحدة- أن يشربوا ليصحوا.
ماذا أستطيع أن أقول لهم؟ هل أسألهم- من الأخير في الطابور؟ أنا الأخير في الطابور.
بالمناسبة لم يكن عندي نقود، بقيت النقود في بنطالي البشري الطبيعي.
نظرت إلى شليبنباخ. كان يلوّح بقبضتيه من البوابة، يعطي أوامره. من الواضح أنه يريد مني أن أتصرف وفقاً للخطّة، أعني أنه يأمل بأن يخبطوا رأسي بكؤوس البيرة.
كنت واقفاً، ثم بدأت أتحرك باتجاه الكشك بهدوء.
سمعت عامل سكك الحديد يقول لأحدهم:
– أنا أقف وراء الأصلع، القيصر يقف ورائي. أما أنت فدورك في الطابور يأتي بعد القيصر.
ثم خاطبني المثقف:
– المعذرة، ألا تعرف شيرداكوف؟
– شيرداكوف؟
– ألستَ دولماتوف؟
– تقريباً.
– سعيد بذلك. أنا مدين لك بروبل. ألا تذكر عندما انصرفنا من عند شيرداكوف في عيد رجل الفضاء؟ تفضّل!
لم يكن عندي جيوب، دسست الروبل المدعوك في القفاز.
لقد كنت أعرف شيرداكوف بالفعل. اختصاصي بعلم الجمال الماركسي اللينيني، أستاذ مساعد في المعهد المسرحي. وزائر متكرّر للمشرب هنا…
– بلّغه تحيتي إذا التقيته- قلت.
وهنا اقترب منّا شليبنباخ. وراءه كانت تتحرك غالينا مبهورة الأنفاس.
في هذه الأثناء كنت قد اقتربتُ من الهدف تقريباً. وكان حشد الناس قد أصبح متراصّاً. كنت محشوراً بين عامل سكك الحديد، وصاحب الثياب الرثة، وكانت نهاية سيفي ترتكز على ورك المثقف.
صرخ شليبنباخ:
– لا أرى التشكيل الحركي! أين المشكلة؟! عليك أن تثير عداوة الجماهير الشعبية!
تنبّه الطابور. الرجل الحيوي صاحب الكاميرا بعث في الناس الانزعاج والقلق.
– المعذرة- قال عامل سكك الحديد لشليبنباخ- ليس مكانك هنا!
– أنا هنا أنفّذ واجبي الوظيفي- ردّ شليبنباخ بوضوح.
– الكل ينفّذون- تناهت من الحشد.
تنامى السخط. أصبحت الأصوات أكثر عدائيةً:
– يأتي إلى هنا عجائز مختلفون، مهرجون…اللعنة!
– يصوّرونك، وبعد ذلك- إلى اللوح…
بمعنى” أنهم ينغّصون حياتنا…”
– الناس، يمكن القول، يشربون ليصحوا بشكل مهذّب، أما هذا فيتظاهر بالجنون…
– مكان آكل لحوم البشر هذا في وعاء البراز.
اندفعت طاقة الناس إلى الخارج. وشليبنباخ، هو الآخر، غضب فجأةً:
– بذّرتم روسيا على شرب الخمر يا سفلة! أضعتم ضمائركم تماماً! ملأتم عيونكم بالفودكا منذ الصباح الباكر!…
– كفى يا يوركا! لا تكن معتوهاً، إمشِ يا يوركا!- بدأت غالينا تقنع شليبنباخ. لكنه عاند، وفي هذا الوقت جاء دوري في الطابور، استللت الروبل المدعوك من القفّاز. سألتً:
– كم كأساً أطلب؟
أصبح شليبنباخ هادئاً فجأةً، وقال:
– لي كأس كبيرة مع التسخين. ولغالينا كأس صغيرة.
أردفت غالينا:
– أنا لا أتعاطى البيرة، لكنني أشرب بكل سرور.
المنطق في كلماتها كان قليلاً.
أحدهم بدأ يتذمّر، صار الرجل رث الثياب يشرح للمتذمّر:
– القيصر كان واقفاً في الطابور، أما هذا الشاذّ الذي يحمل الفانوس فصديقه، إذاً كل شيء قانونيّ!
أثار الكحوليون لغطاً لدقيقة ثم هدأوا.
نقل شليبنباخ الكاميرا إلى يده اليسرى. رفع الكأس:
– نشرب نخب نجاح فيلمنا القادم! الموهبة الحقيقة تفتح لنفسها طريقاً ذات يوم.
– فزّاعتي أنت!- قالت غالينا…
عندما رجعت بنا السيارة إلى الوراء من البوابة، قال شليبناخ:
– يا لهم من بشر! هكذا هم الناس! لقد أصابوني حتى بالرعب. كان شيئاً من قبيل…
– معركة بولتافا- أكملتُ أنا.
لم يكن مريحاً تبديل الألبسة في الميكروباص. أوصلاني إلى البيت بثياب السيد الامبراطور.
في اليوم التالي التقيت شليبنباخ بالقرب من صندوق قبض الأجور، أخبرني أنه يريد أن يشتغل في مجال الدفاع عن الحقوق، وبهذه الصورة قد توقف تصوير فيلم الهواة.
الثياب المسرحية ظلت عندي بعدئذ مدة عامين. السيف استولى عليه صبي من الجيران. البرنيطة جعلناها مسّاحة للأرض. السترة قديمة الطراز لبستْها تحت معطف خفيف المرأةُ المتطرفة ريغينا بريتيرمان. ومن بنطال المخمل فصّلت زوجتي تنورة.
قفازات السائق أتيت بها إلى المهجر، كنت واثقاً أن أول عمل سأقوم به هو أن أشتري سيارة، غير أنني لم أفعل ما أردت.
كان عليّ أن أتميّز بشيء على الخلفية العامة! فلتعرف فورست-هيلس كلها “دوفلاتوف، ذلك الذي لا يملك سيارة.”!