أحمد برقاوي
يُنظر إلى منحوتة الجحيم لرودان 1840 -1917 كواحدة من أشهر المنحوتات، وهي مستمدة من فصل الجحيم في الكوميديا الإلهية لدانتي، في الجحيم يجلس المفكر على صخرة عارياً، ويسند وجهه بيده متأملاً، وفِي عام 1904 استقلّت منحوتة المفكر، ومع ذلك ظل المفكّر هو هو؛ لم يتغير شكله، ولم تتغير جلسته متأملاً عاريًا.
ويرسم جبران لوحة باسم المفكر، ومفكر جبران هو الآخر يجلس جلسة تأمل، ويسند وجهه بيده، وعيناه تنظران إلى اللامكان شارداً، ويرتدي لباسًا بنيّ اللون غامقًا، كلون الجدار الخلفيّ، وأمامه كرة لكنّه لا يحدق بها. فهل كان كل من رودان وجبران يعنيان مفهوم المفكر المختلف عن الفيلسوف والكاهن والأديب والشاعر؟ أم هما الاثنان، كانا يعنيان بالمفكر الإنسان الذي يفكر، كل إنسان يفكر؟
وديكارت عندما أراد تجاوز شكّه خلص إلى الحكم الواضح والمتميز بذاته: أنا أفكر إذًا أنا أكون. فكل كائن إنسانٌ إذا يفكر وقد تأكد بأنه موجود.
وحين أراد فيلسوف ماركسي سوفياتي في الثلاثينيات أن يصف لينين توصيفاً ماهويًّا، قال لينين مفكر.
ومفكر في العربية كلمة مستحدثة، ففي العربية المعلم، وقد أطلق العرب هذا الوصف على أرسطو المعلم الأول، وعلى الفارابي المعلم الثاني، وهناك العلامة والفقيه والعالم والفيلسوف، وهم كثير.
يشيع في ثقافتنا العربية مصطلح المفكّر، ولقب المفكّر، بعشوائية ومجازفة. على أنّ لنا في هذا قولاً من باب البحث والتعيين والتحديد.
ينحصر قولنا في ماهيّة المفكّر أولا وأخيرا، المفكّر في علاقته بمشكلات عصره وواقعه. وآية ذلك، أن المفكّر على خلاف الشاعر لا يستطيع أن يُقيم طلاقا بينه وبين الحقيقة أولا، أو بينه وبين مشكلات عالمه ثانيًا. فيما الشاعر قد يشتط به الشعر ليغدو بوحًا ذاتيّا صرفا. أو يتحوّل الشعر لديه إلى جمالية تخلق الإعجاب لدى المتلقي. لقد أشرنا إلى بعض صفات الفكر الملتزم في معرض حديثنا عن المسألة التي نحن بصدد فضها، إشارة عابرة وعامة، حين ربطنا بين المفكر والحقيقة، والمفكر ومشكلات واقعه. غير أنّ مفهوم المفكر يحتاج إلى تحديدٍ أدقّ،
ما المفكّر؟ قلنا ما المفكّر، ولم نقل من المفكر. لأن السؤال حين يبدأ بما فإنما القصد تحديد الماهيّة. أي ما ماهيّة المفكّر، بحيث يصدق التحديد على كل مفكّر، وعندما يصدق التحديد على كل مفكّر، فمن ليس مندرجًا في التحديد سنخرجه من دائرة المفكّر.
المفكر أولا: كل إنسان أنتج قولًا في المعرفة بوصفها معرفة بالحقيقة، بمعزل عمّا إذا كانت صحيحة أو خاطئة، حسبه بأنه انطلق من حبه للحقيقة، ويعتقد بحقيقتها حتى لو دحضتها التجربة فيما بعد. من هنا نجعل من معيار البحث عن الحقيقة استنادا إلى مناهج البحث معيارًا أول لتحديد المفكر.
ولما كانت الحقيقة بحثًا عن مشكلة أو مسألة، فإن المفكّر هو الذي يكشف عن المسألة أو المشكلة تحليلًا وتركيبًا، ويفترض حلًّا لها، ويسعى لجعل فرضه معرفة عامة، وهذا ثاني معيار نقيس عليه المفكّر من غير المفكّر.
وإذا كان المفكّر هو المنتج للمعرفة، وذو العلاقة بالحقيقة، والكاشف للمشكلة ولحلّها؛ فالشرط الضروري لتحقيق فعل المفكّر هذا هو الحرية. وهذه صفة ثالثة للمفكّر. المفكر حر، ولا يصدر وعيه إلا عن عقل حر.
ما علاقة هذا كله بمفهوم المفكّر؟ وبخاصة إذا كانت صفة الحريّة صفة ضرورية من صفات المفكّر.
للإجابة عن هذا السؤال؛ لا بد من أن نعود إلى المفاهيم الثلاثة التي تميز المفكّر: الحقيقة، المشكلة، الحرية.
فالحقيقة قول خطاب كاشف للواقع والماهيّة. وحسب المفكّر الاعتقاد بذلك، كما قلنا، لأن الحقيقة التي يسعى لكشفها المفكّر هي حقيقة بالنسبة إليه أولا، ثم يجعل منها حقيقة يطلب من الآخرين الاعتقاد بها. فالمفكّر بهذا المعنى ملتزم بمطلب الحقيقة.
أما المشكلة فهي التي تجعل المفكّر يفكر بموضوع ليس معطى مباشرة على أنه موضوع واضح، أو هو موضوع مرتبط بحياة البشر الذين ينتمي إليهم. فليس للمفكر إذن مشكلة خاصة به، ذاتية؛ وإنما مشكلاته هي مشكلات العالم المعرفية والوجودية، وقد غدت مشكلته الخاصة. فهو إذن ملتزم بالضرورة بعالمه الذي يغص بالمشكلات.
وعندما نحدد المشكلة بارتباطها بهموم البشر الحقيقية؛ فإننا نميّز بين المشكلة الحقيقيّة والمشكلة الزائفة؛ لأنّ تمييزاً كهذا يقودنا فيما بعد إلى التمييز بين المفكّر الأصيل والمفكّر الزائف.
المشكلة الحقيقية هي تلك التي تنشأ من تناقضات المعرفة بالعالم. والانتقال من اللاّمعروف إلى المعروف ليس بعد مشكلة، فهذه حركة المعرفة، ولكن عندما تنشأ لدينا معارف مختلفة ومتناقضة حول ما كان غير معروف عندها تنشأ المشكلة.
إذن المشكلة الحقيقيّة، هي واقعة معرفيّة، اجتماعيّة، تاريخيّة، إلخ. وقد نشأت حولها معارف متنوعة ومتناقضة.
فعندما نقول مثلاً: التبعيّة مشكلة حقيقية؛ فإنما نقصد تلك العلاقة غير المتكافئة بين العرب والغرب، والإجابات متنوّعة حول أسباب هذه التبعيّة، كما هي الإجابات متنوعة حول حلّها.
فأول شرط لاعتبار المشكلة حقيقيّة هو أن تكون واقعيّة وموضوعيّة، وذات علاقة بمصائر البشر.
وعندها يكون المفكّر هو الذي يتناول مشكلات من هذا القبيل. أمّا المشكلة الزائفة فهي التي ليست ثمرة واقع موضوعي، ولا يمكن الإجابة عنها أصلاً. إنها تصوّر لمشكلة.
والأخطر هو تحويل المشكلة الحقيقيّة إلى مشكلة زائفة، كأن نحوّل المشكلة الفلسطينية التي هي مشكلة شعب طُرد من وطنه بفعل حركة عُنصريّة استعماريّة صُهيونية، إلى مشكلة حول من هو أحق بفلسطين، العرب أم اليهود مثلاً.
وتظل حرية المفكّر الأكثر تعقيدًا. فالقول من حيث المبدأ أن المفكّر حرّ، تعني أنه حرّ التفكير. ولكن عندما ربطنا تفكيره بالحقيقة والمشكلة الأصلية فإننا، عمليًّا، قد وضعنا حدودًا لحريّته. فهل هذا الوضع سلب لحرية المفكّر؟
الجواب لا. لأنّ الحرية لا تتناقض مع مطلب الحقيقة، ومطلب العلم. وإلا صار المفكّر حرّاً في قول لا علاقة له بالحقيقة، وليس هاجسه هاجساً أصيلاً.
من هنا جاء التمييز بين المفكّر الديمقراطي والمفكّر الذاتي عند غرامشي، فالمفكّر الديمقراطي هو الذي يجعل من مشكلات عالمه الحقيقية مشكلات شخصية. وعندها يتكامل مفهوم الالتزام، التزام المفكّر بما هو أصيل من المشكلات، وبما هو هاجس حقيقيّ، فنحن لا نعتبر أن ذاك المتحرر من مطلب الحقيقة والعلم مفكّر، سمّه ما شئت، إلا مفكّرًا.
استنادا إلى تلك الأطاريح الطويلة والضرورية نصل إلى النتيجة الآتية: إن المفكّر، عموماً، والمفكّر العربي نتيجةً، هو المرتبط بالضرورة بالحياة الراهنة المليئة بالمشكلات المتعلقة بمصير البشر، المشكلات التي لا تترك لأحد أن يفكر خارجها إن هو حدد مهمته كمفكّر أمّة أو مفكّر إنسانية أو مفكّر قضيّة. حسبنا أن نورد المشكلات الراهنة للعرب أمام المفكر: التبعية، التأخر، التخلف، الدولة، السلطة، التمزق، الهوية، فلسطين، التجزئة، النقد، الحرية الديمقراطية.. الخ
إن أمّة بحجم هذه المشكلات تحتاج إلى مفكّر ينتج المفاهيم قولاً واحداً، لا إلى مفكّر يزيّف المشكلات، أو يخلق مشكلات لا علاقة لها بمصير مجتمعه وأمّته.
عندها باستطاعتنا أن نقول دون أن نشعر بتأنيب ضمير إن رهطاً ممن يكتبون الآن عن العرب بعقول لا تبحث إلا عما يحقّق مصالحها الذاتية بتجميل الواقع الخرِب ذاته، ما هم إلا جزء لا يتجزأ من حالة الانحطاط التي يسعى البشر التائقون إلى الحرية لتجاوزها.
وإن الظهور العلني لمثقفٍ مدافعًا عن الاستبداد، ومبجّلا الحاكم المستبد لهو أخطر بكثير من الاستبداد والحاكم المستبد. إن شخصاً يقوم بحفظ ما قاله الغرب ثم يقوم باجتراره لا ينتمي إلى عالم الفكر أصل.
إن هناك سؤالاً مهمًّا يجب أن يطرحه المتلقي على من يحمل صفة المفكر ألا وهو: ما هي مشكلته التي تحمله على التفكير، وما المفهوم أو المفاهيم المركزية التي يتحرك بها؟
وإذا كان المتلقي، بعامة، يستهويه الكاتب الاستظهاريّ الذي يلبس لبوس الناقد، فهذا الاستظاهري مهما أصابه من شهرة عند المتلقين؛ فإن الضجّة التي يثيرها، لن تبقى طويلاً في عالم الفكر.
فالمفكر المتمرّد ليس هو الذي ينبري لمقارعة الآخرين بقلم خالٍ من الأساس المفهوميّ الذي يخوض معركته مع الآخرين، بل على العكس، هو الذي صاغ طريقه المفهوميّ، وراح يجعل منه منصة لرؤية العالم والتمرد عليه.
وما قيمة المفكّر إذا لم يكن متمرّدا على عالمه بوعيٍ جديدٍ، ومن أجل عالمٍ آخر متجاوز؟ ما قيمة المفكر المتمرّد معرفياً دون عدة مفهومية أبدعها أو طوّرها؟
وبخاصة إذا كان الواقع ذاته ينطوي على إمكانية العالم الأفضل.