– 1980
في المكان المزنّر بالجبال والسحرة وبنات آوى نشأتُ. وترعرعت على قصص الخرافة والأولياء الصالحين والمردة والشياطين. في ذلك المكان على كل قصة تريد أن تكون مقدّرة أن ترفس حدود الواقع والمنطق مجاورة للخرافة أو مجاوزة لها حدّ الأساطير.
كان ياما كان. تقول الحكاية إن الفتى ظهرت عليه سيماء الصلاح والنبوغ في علوم الشرع منذ طفولته المبكرة. حفظ أجزاء من القرآن على يد أبيه الشيخ. وحاز قسطا من علوم العربية في قريته النائمة في أحضان الجبل الوديع لا يزعجها سوى هدير الوادي من حين إلى حين.
في مسجد الإمام تبحّر الفتى في علوم الشريعة. واعتمر العمامة البيضاء. وكثيرا ما ناب عن شيوخه في تصدّر حلقة الدرس ورعاية المكان في غيابهم. في هذه الفترة أو قبلها بقليل زار الفتى معه والده صديقا من قرية؛ نصفها بدوي ونصفها حضري. أعجب كبار بجلده وقراءته للقرآن معهم بعد صلاة الفجر حتى مشرق الشمس. قالوا: «كان صوته عذبا مموسقا».
شبّ البلد وشبّ الفتى. ذهب مع الدفعة الأولى للدراسة بالخارج. تواترت على البلد أخبار تمرّده في تلك البلاد. قالو إنه لم يعد يلبس العمامة ولا يؤوي المصلين. تشطح أخبار أخرى تجنح نحو الخرافة. هذا الأخبار تقول إن الفتى ترك سنن الأسلاف. وتشتعل القصص والأخبار عن الفتى الذي تحوّل من الضد إلى الضد.
يكبر السؤال المكتوم في عقولنا. كيف حدث ذلك؟ وهل ما حدث أمر جيد أم سيء؟ بل وازدادت الرغبة في لقاء هذه الشخصية المختلفة أو الرغبة في قراءة انتاجها الذي كان لا يصل إلينا لاعتبارات كثيرة.
-1984
في المعهد الإسلامي درست المرحلة الثانوية. ومن عادات المعهد الكريمة هي أخذ طلابه إلى المحاضرات العلمية والدينية التي تتم في «نادي الشباب الجامعي» آنذاك، «النادي الثقافي» حاليا. كما كانت هناك حافلة راتبة تأخذنا إلى جامع السلطان قابوس بروي للاستماع إلى تفسير سماحة المفتي للقرآن الكريم كل يوم اثنين، من بعد صلاة المغرب حتى صلاة العشاء.
أخذتنا الحافلة إلى «نادي الشباب الجامعي». كانت المحاضرة قد بدأت عندما وصلنا. والمتحدث يقدّم قراءة لمشهد القصيدة العربية المعاصرة، مستعرضا بجمال أهم تجارب قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر، مشيرا من عبارة إلى عبارة إلى أن القصيدة العمودية انتهت وانتهى زمانها. أعجبتني طريقته في المحاضرة وإن لم استسغ أطروحته بانتهاء زمن قصيدة العمود. وما إن انتهى المحاضر من حديثه وفتح باب النقاش حتى برز شاب عماني آخر، بتمصيرة شرقية وسكسوكة وعينيين نجلاويين. قدّم هذا الشاب مداخلة جميلة وطيبة أثلجت صدري فنّد فيها أطروحة المحاضر، عبر تقديم نماذج شعرية معاصرة استوعبت التراث وأحسنت التجديد مثل محمد مهدي الجواهري من العراق وعبدالله البردوني من اليمن.
شعرت وأنا طالب الثاني الثانوي بفخر شديد وأنا أرى هذين الشابين العمانيين يتحدثان في الشعر والنقد حديثا لم أعهده يجري في بلادي. كان المتحدث الأول هو الأستاذ سيف الرحبي. والمتحدث الثاني هو الأستاذ أحمد الفلاحي.
– 1995
كنت قد أنهيت لتوي دراسة الماجستير بعنوان» أبومسلم البهلاني شاعرا». هذه الدراسة التي خرجت لاحقا في كتاب مطبوع بعنوان «الشعر العماني الحديث، أبو مسلم البهلاني رائدا». عرّفني الصديق عبدالله الحراصي على الأستاذ سيف الرحبي عندما زرناه في مكتب المجلة القديم في مدينة السلطان قابوس. وفيما يشبه الفلاش باك عاد سيف إلى سناو وإلى صحبته للوالد في مطرح ومسقط وتذكر قصة البرتقال. أما عن موضوع دراستي فقد تفاجأت بأن هنأني عليه وقال: «اختيارك لأبي مسلم ضربة معلم». كنت أعتقد أن لا يستسيغ القصيدة العمودية لأي شاعر كانت. لكنني سأعرف لاحقا بعد قراءة شعره معرفته التراثية الدفينة وميله إلى الجذور وما يشكّل الهوية العمانية الحقة. قال رئيس التحرير: «عليك أن تحضر لنا مقالة مطولة عن دراستك لأبي مسلم البهلاني. إنه مؤسس. وعلى المجلة أن تفرد له مكانا يليق به».
تلا نشري لدراسة عن شعر أبي مسلم البهلاني نشر ترجمات مسلسلة لكتاب «مغامر عماني في أدغال أفريقيا». وقد وجدت الحلقات صدى طيبا داخل عمان وخارجها. وعندما طلب صاحب دار الجمل الشاعر خالد المعالي نشر الحلقات بكتاب يجمعها يصدر عن داره اعتذرت له قائلا: «إنه آن الأوان أن يكون للمجلة كتاب يخرج ملحقا بها. وكتابي هذا سيصدر ضمن هذه السلسلة». وكتبت إلى رئيس التحرير أحثه على تنفيذ هذه الفكرة. وقد استحسنها لتصبح مجرى جديداً يصب في ساقية مجلة نزوى.
استوعبت مجلة نزوى مجموعة جيدة من خريجي جامعة السلطان قابوس الذين انتظموا في السلك الأكاديمي بالجامعة. توزعت اهتماماتهم على التصوير والشعر والترجمة والتاريخ. وفي فترة قصيرة تضاعفت انتاجات جديدة ذات طابع أكاديمي وبحثي ممنهج. يغري هؤلاء الكتاب احتضان المجلة لهم فيتنافسون في العطاء. ويغريهم سيرورة المجلة في الأوساط الثقافية العربية في العالم العربي والمهاجر أيضا. كل واحد منهم عدّ نفسه سفيرا للمجلة. نأخذ معنا أعدادا منها للأصدقاء والباحثين خارج عمان.
– 2004
تتابع احتضان المجلة لأجيال متعاقبة من الكتاب العمانيين. أصبحت بلا منازع الرقم الأصعب في الثقافة العمانية وإلى حد كبير في الثقافة العربية. ديمومتها من الأمور الإيجابية التي ينبغي الإشادة بها.
ظلت الرؤية التي تسيّر المجلة واحدة أو هكذا تبدو من البعيد. أقول من البعيد لأنني لم أنشر بها منذ فترة طويلة. وذلك يتعلق بالرغبة في النشر العلمي المحكّم. ذلك أنني كأكاديمي لن أستفيد كثيرا من النشر في مجلة ثقافية مهما كانت سيرورتها وصيتها. وإذ تغلق المجلة عقدين من الزمان وتفتح ثالثا فإنه على المجلة أن تصوغ هيئة استشارية تدعم عمل الهيئة التحريرية الموجودة بالآراء والمقترحات، وتثبّت مشروع المجلة مشروعا وطنيا رائدا، حتى لا تمسي المجلة، يوما ما، خبرا من أخبار كان ياما كان.
————————————————-
محمد المحروقي