إسحاق الخنجري *
أعرف
أنك لا تدرك معنى الذكريات
أيها الموت
أنت فقط
ترفع السهام الملتهبة عاليا
وتطلقها
دون أن تدري
أنك تصيب أحلاما كثيرة
مأخوذة بغناء النوارس والبحر
فلاح يردد خلف العصافير
أغنية القرية الخضراء
مبتهجا بأنسامها
ويسقط فجأة
سفينة
فاتنة المدى والمحيطات
حاملة في جنباتها
عشاقا ونبيذا
وزهورا وفراشات
وهدايا من الذهب
وطيورا بحرية وغرباء
وتسقط فجأة
قط بخفة النسر
يتسلل إلى البيت
يوشك أن يأكل قليلا من المائدة
ويسقط فجأة
مصباح
في يد راهب عجوز
يقف على منحدر
يتأمل حدائق الظلام
ويسقط فجأة
جسر بين جبلين
يعبر فيه الفقراء والمشردون
وأبناء السبيل واليتامى
وقوافل الغجر المهاجرين
ويسقط فجأة
فتاة في أعماق الليل
تنظر إلى قمر
ترسم فيه عاشقا أنيقا
وتسقط فجأة
أب ساهم في النجوم
يضاحك أولاده
أستطيع أن أقطفها كلها
ويسقط فجأة
عازف جيتار
يحمل في قلبه
مباهج الثلج والمسافات
والذين عبروا إلى أحلامهم
ويسقط فجأة
أم على عتبة الباب
تنتظر ابنها الوحيد
يعود من المدرسة
كي تحدثه عن جمال خطواته
والياسمين الذي تراه
كل يوم في المرايا
وتسقط فجأة
من أنت أيها الموت
من أنت
ماذا يلمع في عينيك
خنجر الصمت
أم زهرة الرحيل إلى القيامة
ترصدنا واحدا واحدا
ونحن لا نرصد شيئا
سوى الأيام الحالمة
نراك على بعد
وترانا على مقربة
لم نفكر مطلقا أننا طرائد
وأنك لست مطرا رحيما
لم نفكر يوما
أنك من سلالة الأشجار الشوكية والجدران
أيها الجارح المتمرد
الطليق في القسوة
الساحر الغريب
اللاهث خلف النهايات
الغامض
المتشرد
السادر كقوس قزح
الملك المتحجر
المغني الذي فقد أغنياته في العاصفة
الحاقد شاعر الجثث والغربان
القبطان الأعمى
وجه الصحراء في الرياح
الصامت الثائر
الظل الذي يتبع الفراغ
التائه بلا بوصلة
القنفذ الحبشي
الصوت الهادر للرمال
نديم الثعالب في مغارة بعيدة
الصدى
كهف المتاهات
المراوغ مثل الأرنب البري
فزاعة الغابة المهجورة
الحكاية السوداء
هذا أنت أيها الموت
فقدنا أحبتنا
جرتنا الشواهد الحجرية
إلى طرق المراثي
ومات فينا
ما نراه من أجراس وحدائق
فقدنا أحبتنا
تلاشت خيولهم في الغياب
وما تبقى منها
عدا صهيلها الذي يملأ المكان
فقدنا أحبتنا
وسقطنا واجفين
أمام هذا الزمن الطائش
زمن الذين لا يرهفون السمع
إلى أحاديث النخل
ووشوشات الغدران
فقدنا أحبتنا
الأماكن تغيرت
أضحت خاوية كالتماثيل
يقطنها النمل
وتغزوها الأساطير
فقدنا أحبتنا
كانت أرواحهم البيضاء
تحدثنا عن العشب
كلما قست علينا الأيام
وأرهقنا الضباب
فقدنا أحبتنا
وكبرنا فجأة على العالم
لم نعد نعشق الطائرات الورقية
ولا الركض بين المد والجزر
ولا مطاردة الوعول في البراري
ولا الذهاب إلى الينابيع
فقدنا أحبتنا
خطانا ذبلت في الدموع
وأصبحنا بلا ملامح
ننام على وهم
ونصحو على سراب.
فقدنا أحبتنا
ولذنا بالأغاني العاطفية
في قلوب الأمهات
علنا نعود ثانية
إلى بيتنا الحميم الذي فقدناه
من شدة الألم.