سعد القرش*
الكائن الأسطوري الأزلي، المخلوق قبل آدم وذريته، الساري مع الدماء في عروقهم ومع الهواجس في ضمائرهم، محرّك شرور البشر إلى الأبد، لا يحظى في الثقافة العربية بجهد بحثي يُذكر لمثقفين يراكمون كتبا عن أشرار صغار ومشعلي حرائق تافهين. وبعد نشر كتاب «إبليس» لمحمود عباس العقاد، في خمسينيات القرن العشرين، يبدو أن إبليس تمكّن من أبلسة الباحثين، ترهيبا أو ترغيبا أو تلبيسا، فتركوه في حاله، واكتفوا بلعنات تتوالى على رأسه كل يوم، كلما تصدّى للخطابة واعظ من الهواة أو المحترفين. ولا يبالي إبليس بهؤلاء الفرحين بنظرية المؤامرة التي تعتمد التفسير الإبليسي للتاريخ، وربما استراح الباحثون العرب لهذه القسمة، فإبليس تنتظره نهاية موثقة في النصوص المقدسة، ولا داعي لإثارة غضبه الذي لم يأبه له الباحث الأمريكي ويتني س. بودمان في كتابه «شعرية إبليس.. اللاهوت السردي في القرآن»، وهو عمل فارق بين إطلاق الاجتهاد البحثي باتساع الرؤية هناك، وتوقّف مثل هذا الاجتهاد هنا؛ لقصور في الأدوات والخيال، أو خشية سياق عام يتربص بالمجتهد.
بدأ بودمان مشروع كتابه «شعرية إبليس.. اللاهوت السردي في القرآن» كمحاولة لفهم أشكال العدل الإلهي في الإسلام، ورؤية الإسلام للشرّ، ومدى تمثيل آيات القرآن للأبعاد المأساوية في الحياة، وعلاقتها بالقضاء والقدر، وتباين نظرة المفسرين والمتصوفة والفلاسفة والأدباء إلى إبليس، وتفرقة السرد القرآني المركّب بين إبليس والشيطان، على خلاف المنظور الإسلامي باعتبارهما شخصية واحدة، وإن بدا الأول (إبليس) صورة أولى سبقت ظهور الثاني (الشيطان)، فإن إبليس بشخصيته التراجيدية يتميز بأن له سردية قرآنية. وتشير خطيئة آدم إلى عدم عصمة البشر، ولكنها ليست «مصدرا للشر»، وليس مفهوم الشرّ أساسا في بنية العقيدة الإسلامية، على العكس من العقيدة المسيحية، إذ يبرز دور المسيح المنقذ المخلّص، ليمحو آثار الخطيئة الأولى. وإذا كانت مصائر البشر في العقيدة الإسلامية مقدّرة سلفا، فإن الإسلام «لا يخجل من الاعتقاد بأن الله مسؤول عن الشر في العالم كما تؤمن المسيحية بذلك أيضا… العقيدة المسيحية تخلق علاقة ألفة حميمة أكثر من علاقة الطاعة والخضوع كشكل مثالي للعلاقة بين الإله والبشر».
في كتاب «شعرية إبليس.. اللاهوت السردي في القرآن»، الذي ترجمه رفعت السيد علي وأصدرته منشورات الجمل في بيروت وبغداد، يرصد المؤلف قصة إبليس الواردة في سبع سور قرآنية، وتبدأ بإبلاغ الله للملائكة بخلق بشر من طين، فتخشى أن يفسد البشر في الأرض، ويطمئنهم الله، وينفخ من روحه في آدم، ويأمر الملائكة بالسجود له، فتستجيب إلا إبليس فيطرده الله، وقبل أن يغادر مملكة السماء يرجو الله أن يمهله إلى يوم القيامة، ويهدد بإضلال البشر عن الصراط المستقيم. وبكثير من التأمل، يتوقف بودمان أمام ثنائية إبليس والشيطان، فالأول «شخصية شديدة التعقيد… لا يشير القرآن إلى إبليس على أنه ممثل للشر.. على الإطلاق»، أما الشيطان فلم يصوره نص سماوي أو أرضي بأي قدر من التعاطف، وهو خصم البشر وعدوهم، «ولكنه لم يكن أبدا في القرآن مصدر قصة مثل قصة إبليس». ولا يوجد مصدر يفكّ التباس العلاقة بين إبليس والشيطان، ويجد بودمان حلا بالقول إن إبليس حينما طرد من الجنة، «أصبح بطريقة ما الشيطان».
يستعين المؤلف بعلم السرد للتمييز بين إبليس والشيطان، ويرى أن إبليس لا يجسد مفهوم الشر، ويشارك في السرد كشخصية تراجيدية، «مركزية ومحورية… يطور شخصيته ويستجيب لتغير المواقف»، والشيطان لا يسهم في السرد، فهو ظل لشخصية أخرى، ممثل «يلعب دورا إلا أن ذلك الدور لا ينمو ولا يتطور. وهو تمثيل ثابت ومقيم لقوة الشر». ويوجد فرق بين القرآن والتفاسير وعموم الفكر الإسلامي عن إبليس، ففي القرآن اختفى أي ذكر لإبليس «في الحياة الدنيا للبشر»، ولكنه استمر في النصوص الإسلامية. وفي سورة (الحجر) مجادلة بين الله وإبليس: «قال يا إبليس مالك ألا تكون مع الساجدين؟ قال لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمأ مسنون. قال فاخرج منها فإنك رجيم. وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين». ويعتبر المؤلف سلوك إبليس متسقا مع «التفكير القويم والفطرة السليمة والمنطق. وهو يلوذ بالمعرفة التي اختصه الله بها… لم يفند الله ولم يدحض حجة إبليس. الله يرفض الكون الذي تخضع فيه الأحكام الإلهية للمناقشة العقلانية».
وتبعا لترتيب النزول، فإن سورة (البقرة)، «بإجماع من الباحثين الإسلاميين وغير الإسلاميين»، تضمنت آخر الروايات القرآنية لقصة إبليس، ولكنها أول ما يواجه القارئ حسب ترتيب السور في المصحف. وفي سورة (البقرة) تقول الملائكة إن المخلوق الذي يوشك الله أن يخلقه سوف يفسد في الأرض، «ويسفك الدماء، ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك. قال إني أعلم ما لا تعلمون». ويقول المؤلف إن الله «لم يدحض ولم يفند» ملاحظة الملائكة، وإن إبليس الذي لم يكن حتى ذلك الوقت قد أظهر فسادا «كانت لديه حجة منطقية لرفض إظهار التوقير والإجلال لذلك المخلوق الذي سينشر الفساد ويريق الدماء». وفي سورة (الأعراف)، قال إبليس لله بعد أن أجاب طلبه: «فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم»، فأقسم بإغواء الله له… هكذا كان إبليس التراجيدي ضحية قدرته على الإدراك وقوة حجته التي وهبها له الله، ورأى إبليس أن إبعاده «لا يتسم بالعدل ولا يتصف بالإنصاف».
وردت قصة إبليس سبع مرات في القرآن بشيء من الاختلافات. ويشير بودمان إلى إجابتين عن سؤال الله لإبليس لماذا لم يسجد لآدم؟ ففي سورة (الحجر): «قال يا إبليس ما لك ألا تكون مع الساجدين؟ قال لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمأ مسنون. قال فاخرج منها فإنك رجيم». وفي سورة (ص) إجابة مختلفة: «قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيديّ، أستكبرت أم كنت من العالين؟ قال أنا خير منه، خلقتني من نار وخلقته من طين. قال فاخرج منها فإنك رجيم». والصيغة الثانية قريبة من إجابة إبليس الواردة في سورة (الأعراف): «قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك؟ قال أنا خير منه، خلقتني من نار وخلقته من طين. قال فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها فاخرج إنك من الصاغرين». ويرى المؤلف أن قصة إبليس في السور السبع شرحها المفسرون كقصة مجمّعة، مدمجة بطريقة رأسية، وأن تمييز كل رواية عن أخرى يسهل حين «تقرأ أفقيا».
مثل هذه القراءة ربما تحقق إحدى غايات قصص القرآن عموما، ففي الآيتين 3 و111 من سورة (يوسف) يقول تعالى: «نحن نقص عليك أحسن القصص»، «لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب». ويرجح بودمان أن تكون تعددية العرض والأداء في سرد قصة إبليس دالة على وظيفة «السرد في الدعوة الإسلامية والخطاب الإسلامي… هل بإمكاننا أن نحدد أي نوع من التطور أو التباين والتغاير» على مدى ثلاثة وعشرين عاما نزل فيها القرآن؟ وأن قراءة قصة إبليس حسب تتابع نزولها، لا بترتيب السور في المصحف، يتيح للدارسين تتبع «الفكر الديني القرآني»، وبهذه القراءة الزمنية ستكون قصة إبليس في سورة (البقرة) آخر صيغة للرواية. ويوافق قول المستشرقة الألمانية أنجليكا نويفرت أستاذة الدراسات العربية والقرآنية بجامعة برلين الحرة إن رواية سورة (الحجر) أول ذكر لإبليس، وإن التتابع الزمني يجسد تطور الشعائر، فيبدأ بالتحذير من الجدل، ويرسخ علم الله بكل شيء، ويلخص التطور السردي لتحولات إبليس من السماوي المأساوي إلى الشرير الأرضي. وهكذا تمت «شيطنة إبليس».
قصة إبليس من «ميراث غني ومهيب ومبجل» تشترك فيه الديانات الإبراهيمية، و«الإسرائيليات» مصدر تفاسير مفسرين يتهمون إبليس بإغواء آدم وحواء في الجنة، ويعتبرون إبليس والشيطان كائنا واحدا، وقصة إبليس ترفض هذا الإدغام. وتتضمن خمس آيات متواليات في سورة (طه) ذكر إبليس والشيطان، في الآية 116 «وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى»، وفي الآية 120 «فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلّك على شجرة وملك لا يبلى». التحول من إبليس إلى الشيطان، في رأي بودمان، «غامض وملغز»، والسرد الصريح يستبعد أن تكون قصة الجنة هي قصة إبليس، إذ «لم تشمل آيات القرآن إبليس في قصة الجنة أبدا»، فالسجود يرتبط بإبليس، وخروج آدم يقترن بالجنة والشيطان. ويتوقف أمام آية سورة (الكهف) «وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن»، ويتساءل: «فإن إبليس إن لم يكن من الملائكة، فإن الأمر بالسجود لآدم لا ينطبق عليه. ولو كان من الملائكة، فكيف تكون له إرادة حرة ليعصي الله؟».
خطاب إبليس مع الله يدعمه المنطق والحجة، ويتسم بالتهذيب، فيقول «ربي»، فهل كان مصيره محكوما بقدَره في اللوح المحفوظ؟ ففي سورة (ص) يسأله الله: «ما منعك أن تسجد…»، والسؤال ينطوي على وجود قوة تمنعه، «وتجبره على أن يفعل أو ألا يفعل… مُنع من السجود». وفي تفسير الطبري أن الله وضع في إبليس عواطف وشهوات بخلاف بقية الملائكة. ويقول بودمان إن الطبري «رأى أن مجرد معرفة أن إبليس له ذرية (وهي عملية تقترن بها الشهوة والعواطف) فإن ذلك لا يعني بالضرورة أنه ليس من الملائكة، لأن الله اختصه هو بتلك الصفات. وهذا بالطبع يستحضر سؤال إن كانت إرادة الله اقتضت لإبليس أن يعصي أو خلقه بميول من الغرور والاستعلاء». وتكتمل مأساويته بيقينه بالفشل في تغيير إرادة الله، ولكنه «يسعى جاهدا ضد الحتمية الإلهية، ليؤكد على علو وضعه، لا وضعه الشخصي، بل وضع المنطق، والعدل والإنصاف». وأنهي مقالي معترفا بأن هذا الكتاب دلّني من جديد على الطاقة البيانية المتجددة في إعجاز القرآن.