سعيد الريامي
كاتب ومترجم عُماني
تنفرد العلوم بتفاصيل كثيرًا ما يصعب فهمها على غير المشتغلين بها؛ ولا تكمُن هذه الصعوبة فقط في المعادلات الرياضية التي تؤسس لكثير من النظريات العلمية، ولا في المفاهيم أو الأفكار الكبرى التي تطرحها تلك النظريات، ولكن أيضًا في المفردات والتعبيرات التي عادةً ما ينحصر تداولها في الدائرة الضيقة للمشتغلين بكل علمٍ من العلوم، بحيث يجد من هم خارج تلك الدائرة صعوبة -تتفاوت درجتها- في فهم ما يُتداول من نصوص علمية فهمًا يمكّنهم من استيعاب -وربما مُساءلة- ما يُطرح من أفكار، وبالتالي المشاركة في الحوار الدائر داخل إطار تلك الدائرة؛ ما يخلق هوّةً -تتسع أحيانًا وتضيق أحيانًا أخرى- بين المشتغلين بالعلوم وعامة الناس. وفي الإنجليزية، يُطلق على هذه “اللغة” العلمية -المتعالية نوعًا ما- scientific jargon، والتي لم أجد مقابلًا لها في العربية أفضل من “الرطانة العلمية”، التي سأسمح لنفسي باستخدامها في أكثر من موضع هنا. وأحسب أن كل لغة من لغات العالم تستطيع أن تجترح رطانتها الخاصة بها في كل علم من العلوم التي يشتغل بها أهل تلك اللغة، وهذا هو واقع الحال فعلًا؛ فللناطقين بالإنجليزية رطانتهم العلمية، وللألمان كذلك رطانتهم، والإسبان والصينيين والروس، وغيرهم. حتى العرب، الذين -بالرغم من دعواتهم المستمرة بوازع وطني أو قومي أو ديني إلى تبني مشروع ينهض بالأمة عبر تعريب العلوم- نجد أن كثيرًا من هذه العلوم قد أوجدوا لها “رطانة علمية عربية” بالفعل؛ فالكيمياء والأحياء والفيزياء والرياضيات جميعها تُدرّس في المدارس وبعض الجامعات العربية باللغة العربية، ولا أشك أبدًا بأن المشتغلين بفروع العلم المختلفة من العرب لهم دوائرهم الضيقة التي يتواصلون فيما بينهم داخلها بتلك الرطانات.
يمكن القول إذًا -تجاوُزًا ربما- بأن الرطانات العلميّة هي لغات موازية للغات الأصلية، لكنها منبثقة منها، وهي لغات متعالية قليلًا، إذ ينحصر استخدامها في دوائر المشتغلين بالعلوم في كل لغة، لكن الأهم من ذلك كله هو أنّ هذه الرطانات هي اللغات التي تُدون بها هذه العلوم في كل لغة، ولذا، فنحن لا نجدها -خارج دوائر العلماء الضيقة- إلا في الكتب والمراجع والدوريات الخاصة بتلك العلوم. هي إذًا لا تُبارح الدوائر الضيقة تلك حتى وهي مكتوبة. وإذا كان المتداوَل شفاهةً من هذه الرطانات يتعدد بتعدد العلوم وتعدد لغات المشتغلين بها، فإن حجم المكتوب منه في كل لغة يتفاوت بحسب جهد كل فئة منهم في تقنين وتقعيد رطاناتهم، حتى تكون قادرة على احتواء العلوم التي يشتغلون بها في مراجع تُدرّس ودوريات تُتداول بين العلماء والدارسين في تلك اللغة؛ وقد فعلَت ذلك -بدرجات متفاوتة- جميع اللغات خاصةً تلك التي يشتغل أهلها بالعلوم اشتغالًا يتعدى تلقينها في المدارس والجامعات إلى المراكز البحثية الفاعلة، وإلى النشر العلمي المحكّم، الذي صار مقياسًا يُصنّف على أساسه الباحثون والعلماء؛ كالإنجليزية والألمانية والصينية والإسبانية.
وإذا كان تعدد اللغات عائقًا أمام تواصل الشعوب عمومًا، فإن “رطانات” العلوم -التي تتعدد بتعدد اللغات- هي الأخرى عائق؛ أولًا أمام تواصل المشتغلين بالعلوم من مختلف أنحاء العالم، الذين يجدون في التواصل فيما بينهم سبيلًا إلى توفير الوقت والجهد عبر تبادل الأبحاث ونتائجها مما يسارع في تراكم المعرفة ويجعلها متاحة لهم جميعًا. وثانيًا هي عائق أمام فهم العامّة من غير المتخصصين للعلوم وأثرها في سيرورة حياتهم اليومية، إذ إن تثقيف الشعوب علميًا من شأنه أن يخلق قاعدة شعبية علمية تنطلق منها النقاشات والسّجالات -ليس فقط مع الحكومات حول كثير من سياساتها العامة التي من المفترض أن تستند في الأصل على أسس علمية، بل كذلك بين الأفراد حول كثير من المسائل الفكرية لأجل تفكيك المسلمات وبناء عالم متجدد. ثم إن كثيرًا من مراكز البحث -في الدول الغربية خاصةً- تعتمد في تمويل أبحاثها على تبرعات أفراد أو مؤسسات عامة، تجعل المساهمة في رفع مستوى الوعي بالعلوم عبر إنشاء المتاحف والمعارض والحدائق العامة وغيرها شرطًا لاستمرارية التمويل؛ هذا بالرغم من أن بعض الدراسات أظهرت أن مستوى الاهتمام بالعلوم الذي يبديه الشارع عادة لا يتماشى مع حجم المعرفة العلمية المتدني لدى الناس عمومًا1.
ولأجل حلّ المعضلة الأولى، أي صعوبة التواصل بين الباحثين في العالم، كان من الطبيعي أن يركن هؤلاء في أنحاء العالم المختلفة -شاءوا ذلك أم أبَوا- إلى لغة مشتركة تكون وعاءً يقصدونه لنشر أبحاثهم أو الاطلاع على أبحاث أقرانهم. ومع أن النشر العلمي لا يقتصر على لغة دون غيرها -كما أشرت سابقًا-، إلا أن الملاحظ هو أن الإنجليزية صارت تتصدر اليوم لغات النشر العلمي؛ متقدمة بفارق كبير على لغات أخرى لها باع طويل في هذا المجال كالألمانية والفرنسية والروسية والصينية والإسبانية، حيث تشير دراسة نُشرت في مجلة Research Trends 2 إلى أن 80 % من المجلات العلمية المسجلة في قاعدة البيانات الشهيرة Scopus تنشر أبحاثًا باللغة الإنجليزية فقط، وأن العلماء في بلدان غرب أوروبا يفضلون استعمال اللغة الإنجليزية لنشر أبحاثهم على لغاتهم الأم. كما تشير نفس الدراسة إلى أن ما يُنشر بالإنجليزية من أبحاث عادة ما يكون في مجالات العلوم الطبيعية والتطبيقية كالفيزياء والرياضيات والهندسة، في مقابل اللغات الأخرى التي تنحاز أكثر إلى نشر أبحاث في العلوم الصحية وعلم النفس وعلم الاجتماع وغيرها من الإنسانيات. هذا فيما يتعلق بعدد الدوريات، أما كمية المادة العلمية المنشورة باللغة الإنجليزية في هذه الدوريات سنويًا على مستوى العالم، فتشير بعض الدراسات3 إلى أنها تصل أحيانًا إلى ما نسبته 98 % من مجموع البحوث في مجالات العلوم التطبيقية، وأكثر من 75 % من البحوث في العلوم الإنسانية4. وفي دراسة نشرتها مجلة طبية سويسرية في عام 20125، تَبيّنَ أن عامل التأثير (Impact Factor) -وهو مقياس لحجم الاستشهاد بمنشورات دورية ما في أحد العلوم-، تبين أن عامل التأثير للمجلات الطبية المنشورة بالإنجليزية خلال الفترة من 2001 وحتى 2010 كان أعلى بكثير عنه في المجلات الطبية غير الإنجليزية؛ ما يعكس تفوق مقروئية الدوريات الطبية الإنجليزية على غيرها من اللغات.
يتضح من هذه وغيرها من الدراسات تفوق اللغة الإنجليزية على باقي اللغات في مجال النشر العلمي، فهي لغة العلم في عصرنا بدون منازع، رغم أن التقديرات تشير إلى أن المتحدثين باللغة الإنجليزية لا تتعدى نسبتهم 15 % من مجموع سكان العالم، وأن الذين يعتبرون الإنجليزية لغتهم الأم تصل نسبتهم إلى 5 % فقط من سكان العالم6. ويدور جدل واسع في الأوساط العلمية حول أحقية الإنجليزية في هذا التفوق، والأسباب التي مكنتها من تبوُّء هذه المكانة، ويتسع الجدل ليشمل التحديات والمصاعب التي يواجهها العلماء غير الناطقين بالإنجليزية عند محاولتهم نشر أبحاثهم أو التقدم للحصول على منح تمويلية لأبحاثهم من الشركات والمؤسسات الممولة7.
ولا يعود تفوق الإنجليزية في مجال النشر العلمي إلى تفوقها كلغة في مقابل اللغات الأخرى، بل إلى أسباب تتعلق بهيمنة الثقافة الناطقة بالإنجليزية -الأمريكية على وجه الخصوص- على باقي الثقافات خاصة في الفترة التي أعقبت الحربين العالميتين الأولى والثانية وما ترتب عليهما من تهميش لألمانيا وروسيا مثلًا. فمنذ ستينيات القرن المنصرم، تقلصت نسبة ما كان ينشر بالفرنسية والألمانية والروسية من 40%8، لتصل إلى أقل من 5 %. في المقابل، فإنّ عدد خريجي شهادات الدكتوراه في الولايات المتحدة الذي كان في عام 1902 293 شخصًا، وصل في عقد التسعينيات إلى 30000 سنويًا، جميعهم يكتبون وينشرون بالإنجليزية بصفة دائمة9. ثم إن الإنجليزية -بالإضافة إلى كونها لغة النشر العلمي- هي أيضًا اللغة الأكثر انتشارًا بين الأفراد في جميع دول العالم، وهي لغة التخاطب المشتركة في المطارات، والبريد والمؤتمرات ومؤسسات المال والأعمال وغيرها من المجالات. كل ذلك في مقابل البطء الملحوظ في تحديث المصطلحات وتراجع عمليات رفد المخزون اللغوي لدى اللغات الأخرى.10
لا جدال إذًا في تفوّق اللغة الإنجليزية في مجال النشر العلمي، لكن لا جدال كذلك في أن الإنجليزية اليوم هي ليست اللغة الأم لأغلب الذين يمارسون البحث والنشر العلمي في العالم، وأن نسبة كبيرة من هؤلاء -بما في ذلك مواطنو الدول الأوروبية وأمريكا الجنوبية- لا ينشرون أبحاثهم باللغة الإنجليزية إلا مضطرين رغبة منهم في الانتشار بعد أن صارت الإنجليزية هي لغة التخاطب المشتركة داخل المجتمع العلمي العالمي. لكن الإنجليزية هي -حتمًا- ليست لغة الممارسة البحثية، التي لا تحتاج في الأصل إلى لغة تخاطُب موحّدة بقدر حاجتها إلى بيئة بحثية مناسبة، ترفدها بالمال مؤسسات -عامة وخاصة- تؤمن بقيمة العلم، وبأهمية البحث العلمي كدافع نحو التنمية، وكمجال استثماري مربح، وتديرها عقول متسائلة، مدفوعة بالفضول إلى معرفة كنه الظواهر والعمليات الكونية من حولها، ثم إلى إتقان لوسائل البحث الرصين وطرقه المقننة في إجراء التجارب وتدوين الملاحظات والنتائج، ثم استخلاص القواعد والقوانين اعتمادًا على حسابات إحصائية ورياضية.
والسؤال الذي يطرح نفسه -بعد كل ما سبق- هو: هل سيغير تعريب العلوم الذي ينادي به الكثيرون -رغم أهميته- واقع الحال في العالم العربي ما لم تتحقق الشروط الأخرى اللازمة للنهوض بالعلوم وبالبحث العلمي؟ من الملاحظ أن هناك خلطًا واضحًا عندنا بين متطلبات مرحلة تدريس العلوم في المدارس والجامعات، وتلك التي تخص البيئة المناسبة لممارسة أو امتهان البحث العلمي. فالأولى سهلة التنفيذ مقارنة بالثانية، وهو الحاصل فعلًا في جميع بلدان أوروبا التي تدرس العلوم بلغاتها، بل هو حاصل كذلك في المدارس وعدد من الجامعات العربية، حتى إن الجامعات السورية تدرّس الطب باللغة العربية، ولم يقف ذلك عائقًا أمام تحصيل معارف خريجيها الطبية أو ممارستهم العملية، لكن من الواضح كذلك أنه لم يميزهم عن باقي الأطباء العرب من غير الدارسين بالعربية. إن المشكلة لا تكمن في تحصيل مبادئ العلوم، بل في مواصلة العمل باللغة العربية -أو أية لغة أخرى- خاصة إذا ما اختار خريج العلوم عمومًا الانخراط في البحث العلمي الرصين؛ أو اختار خريج الطب التخصص، هنا يجد الباحث أو الطبيب نفسه مضطرًا إلى الرجوع إلى المصادر أو المؤسسات الناطقة بالإنجليزية تحديدًا، للدراسة بشكل عام، وللنشر ومتابعة مستجدات العلوم بشكل خاص.
وإذا كانت هيمنة الإنجليزية على النشر العلمي، وعلى الدراسة العلمية التخصصية أحيانًا هي واقع الحال في عالمنا المعاصر عمومًا، فإن كثيرًا من الدول -في مناطق مختلفة من العالم- قد قللت من هذه السطوة، والبعض الآخر حيّدها تمامًا في مراحل تدريس العلوم وممارستها العملية؛ من خلال تهيئة البيئات المناسبة لغويًا وماديًا وتشريعيًا. أما الدول العربية فما تزال -إلى حد ما- غير قادرة على ذلك. وكان مجلس وزراء الصحة العرب قد اتخذ قرارًا عام 1980 بتعريب العلوم الصحية في الجامعات العربية، إلا أن تنفيذ ذلك القرار لم يتم، بل إن المؤسسات التعليمية التي حاولت تنفيذه -ككلية الطب بجامعة الجزيرة في السودان- اكتشفت حجم ونوع الصعوبات التي يمكن أن تواجه تنفيذ مثل هذا القرار11؛ فرغم سهولة التواصل العام بين الطلبة وأساتذتهم، إلا أن عدم توفر الكتاب التدريسي المنهجي، وعدم توحيد المصطلحات، وافتقار المكتبات العربية إلى المراجع الطبية، كانت من أهم الأسباب التي أفشلت المشروع. ومن هنا يتضح كيف أن حل الجانب الذي بدا سهلًا في عملية تعريب العلوم لم يتحقق في عالمنا العربي رغم المحاولات الجادة؛ فمن الواضح أن فصل العلوم عن لغتها السائدة حاليًا، وهي الإنجليزية -في ضوء التردي الواضح للبيئة العلمية العربية- سوف ينعكس سلبًا على واقع البحث العلمي العربي الهزيل أصلًا، حيث سيتسبب في عزل المجتمع العلمي العربي، وتأخره عن مسايرة ومتابعة المستجدات العلمية المنشورة في غالبها بالإنجليزية.
وإلى جانب معضلة التواصل بين العلماء في العالم، والتي حُلّت بتوحيد لغة النشر العلمي، فإن للرطانة العلمية -كما أشرت سابقًا- معضلة أخرى، وهي أنها تقسم الناطقين داخل اللغة الواحدة إلى قسمين؛ قسم راطن بالعلوم، وهم العلماء والمشتغلون بالعلوم، وآخر غير راطن بها، وهم عامة الناس. وقد تنبه الكثير من الدول -الغربية خاصة- إلى أهمية تضييق هذه الهوة عبر تثقيف العامة علميًا؛ لما لذلك من أثر في توسيع دائرة خياراتهم الحياتية، ومواكبة هذه الخيارات للاستراتيجيات العامة للحكومات؛ فانتشرت في الغرب المؤسسات العامة والخاصة التي تُعنى بذلك؛ كالمتاحف والمتنزهات والأندية العلمية وغيرها. وظهرت في الأوساط العلمية فكرة تبسيط العلوم ونقلها للعامة، حيث ساهم العلماء أنفسهم في إخراج العلوم من سجن رطاناتها المتعالية، وحساباتها المعقدة إلى بساطة اللغات المتداولة بين العامة؛ حتى يتمكن هؤلاء من فهم الأفكار والمفاهيم العلمية الكبرى، دون الحاجة إلى الدخول في التفاصيل، فتصدى لذلك علماء من العيار الثقيل في شتى فروع المعرفة، واللغة الإنجليزية -مثلًا- تزخر بالكتب العلمية التي حاول كتابها -وهم رواد في علومهم- نقل معرفتهم العلمية إلى العامة بلغة مبسطة مفهومة. وقد لاقت هذه الكتب منذ صدورها قبولًا منقطع النظير لدى القراء من العامة، وتصدرت قوائم الكتب الأكثر مبيعًا في المكتبات لفترات طويلة، وما تزال تحتفظ حتى الآن بأهميتها، وذلك لما تبثه من دهشة وما تشبعه من فضول لدى القراء، كان في السابق حكرًا على العلماء. ففي علم الفلك والفضاء -مثلًا- تتصدر القائمةَ كتبٌ لعلماء من أمثال كارل ساجان وستيفن هوكينج ونيل ديجراس تايسون، وفي التاريخ الطبيعي وعلوم الأحياء هناك كتب تشارلز داروين وجاك كوستو ويوفال نوح هراري وريتشارد دوكينز وغيرهم، أما في الفيزياء فتتصدر القائمة كتب ريتشارد فاينمان وستيفن هوكينج وليزا راندال وكارلو روفيللي وغيرهم. والقائمة تطول وتتسع وتجدد سنويًا، لتشمل كتبًا لآخرين من المهتمين بشتى فروع العلوم، تُرجمت إلى عشرات اللغات ولاقت من النجاح والقبول ما لاقته بين قراء لغاتها الأم، وهنا تبرز أهمية دَور الترجمة العلمية التي يبدو الهدف منها -خاصة في عالمنا العربي- أكثر واقعية وأقرب إلى التحقيق من تعريب العلوم. فالترجمة العلمية في الأساس مشروع فردي محدد في المكان والزمان، أما التعريب فهو مشروع قومي نهضوي لا يتحقق إلا بتضافر جهود الأمة مجتمعة، ولابد كذلك أن يكون مشروعًا مستمرًا غير منقطع. لكنه -والوضع هكذا- مشروع حالم لا يتعامل مع الوضع العربي الراهن بواقعية؛ فنحن أمة لا تسهم بفاعلية في الإنتاج العلمي والمعرفي، وذلك لأسباب تاريخية لا علاقة لها باعتمادنا الإنجليزية لغةً للعلوم؛ أي أن مجرد انتقالنا إلى العربية لن يحقق لنا النهضة العلمية المرجوة. ثم إننا لم نختر -لا نحن ولا بقية العالم- الإنجليزية وعاءً لغويًا للعلوم، بل هي التي فرضت نفسها لأسباب لا تتوفر حاليًا للغات أخرى يشتغل أهلها بالعلوم بنفس القدر الذي يشتغل به الناطقون بالإنجليزية، ناهيك عن توفرها للعربية. ومن هنا فإن الترجمة العلمية -وأقصد بها ترجمة الكتب التي تُعنى بالنظريات والمفاهيم والأفكار العامة للعلوم بدون الدخول في التفاصيل الدقيقة- أولى بالاهتمام من تعريب العلوم الأكاديمية في وقتنا الحاضر، فهي -علاوة على سهولة التعاطي معها مقارنة بالتعريب- تُشبع نهمًا معرفيًا متناميًا لدى عامة الناس، أوجده الانفتاح الحاصل في العالم بسبب توفر وسائل نقل المعرفة، وبالتالي تُسهم في نشر المعرفة العلمية، وربما في ترسيخ التفكير العقلاني المنطقي الذي يشكّل قاعدة مهمة لقيام نهضة علمية. وأفضل هذه الكتب هي تلك الرصينة التي كتبها العلماء أنفسهم في شتى فروع المعرفة، ذلك لأن هؤلاء -أولًا- هم أعلم الناس بتلك العلوم، وثانيًا لأنهم أرادوا بكتابتها تبسيط العلوم وتقديمها بأسلوب يمكّن العامة من فهمها. وقد كنتُ ولا أزال من المهتمين بقراءة الكتب العلمية التي تشرح نظريات التاريخ الطبيعي والأحياء والفيزياء النظرية والفيزياء الفلكية، إلى جانب اهتماماتي المنبثقة من تخصصي العلمي في الكيمياء الحيوية الطبية، أو ما تبقّى عندي من اهتمام بعد سنوات الدراسة بعلم النفس التحليلي، وأستطيع القول بأن كتبًا من أمثال ما كتبه في الفيزياء -مثلًا- ستيفن هوكينج أو ريتشارد فاينمان أو كارلو روفيللي أو ليزا راندال هي من أكثر الكتب التي قرأتها إمتاعًا. ويجدر التأكيد على أن ترجمة كتب كهذه ليست بالأمر الهين؛ فبساطة اللغة التي كُتبت بها تقابلها صعوبة الأفكار التي تتطلب درجة من التمكن العلمي واللغوي لدى المترجم تؤهله لتقديمها في ذات القالب السهل والممتع الذي قدمها فيه الكاتب. ولذا فإن الترجمة العلمية -في نظري- لابد أن يتصدى لها مشتغلون بالعلوم أو دارسون لها، ممن يمتلكون مهارات لغوية تمكنهم -ليس فقط من صياغة الأفكار العلمية وتقديمها بأسلوب لغوي سهل- ولكن أيضًا ممن يمتلكون القدرة على البحث في الكتب والمراجع العلمية لأجل التحقق من فهمهم ولأجل اجتراح وصياغة مصطلحات عربية ملائمة، وهي معضلة أخرى كبيرة تواجه المشتغلين بالترجمة العلمية؛ إذ يفتقر الفضاء العلمي العربي إلى معاجم علمية موحّدة في غالب الأحيان، وإن وُجدت فإنها غالبًا ما تكون محدودة في شموليتها، أو تفتقر إلى دقة التخصص، أو قديمة تجاوزها ركب الحراك العلمي الحاصل في التخصص.
وخلاصة القول هي أن تعريب العلوم -الذي يهدف دعاته إلى التحول من الإنجليزية إلى العربية في عمليات تدريس العلوم والاشتغال بالبحث والنشر العلمي- غاية بعيدة المنال -في اعتقادي-، وهو مشروع مشكوك في أهميته، المستمدة -افتراضًا- من قدرته على تحقيق ثورة علمية عربية، في ظل الأوضاع العربية الراهنة. بل إني أعتقد جازمًا بأن تعريب العلوم هو في الأصل نتاج للنهضة العلمية وليس العكس. لكن هذه النهضة لم تتحقق شروطها عندنا بعد.
أما الأكثر إلحاحًا وأهمية من التعريب فهي الترجمة العلمية التي تُعنى بالتثقيف العلمي؛ والتي تكتسب أهميتها من كوننا شعوبًا مستهلكة للمعرفة العلمية لا منتجة لها، ما يجعلنا في حاجة دائمة إلى جسر الترجمة الذي يصلنا بمصدر تلك المعرفة. هذا إلى جانب أهمية الوعي العلمي في مقاومة اللاعلمية المتفشية في الأوساط العربية عمومًا.
الهوامش
1 – Durant, John R, Evans, Geoffrey A, Thomas, Geoffrey P. The Public Understanding of Science, Nature, Volume 340, 1989, p (11-14).
2 – van Weijen, D. The Language of (Future) Scientific Communication, Research Trends, Vol 1. Iss. 31, Article 3.
3 – Gordin MD. Scientific Babel. Scientific Babel. 2015.
4 – AILA Review, Volume 20, Issue 1, Jan 2007, p. 53 – 71
5 – https://doi.org/10.4414/smw.2012.13572
6 – https://doi.org/10.1091/mbc.e12-02-0108
7 – https://doi.org/10.1371/journal.pone.0238372
8 – Deng, Boer. English is the Language of Science, Slate, Jan 6, 2015, p.
9 – Ibid
10 – https://doi.org/10.1075/ttwia.62.03amm
11 – http://repo.uofg.edu.sd/handle/123456789/3260