إعداد وترجمة: مها لطفي
قد يفترض القارئ أن عمل المترجم يتعلق قبل كل شيء بتوضيح معاني الكلمات ونماذج الجُمل، وهذا صحيحٌ جزئيًا. وبعد أن ينتهي عمل الترجمة بشكله المعروف، يجب أن يحاول المترجم أن يجعل أحد أهم الأسئلة التي تجعل هذه العملية مجدية، وهو: لماذا اخترنا هذا الكاتب بالذات؟
والطريقة التي نجيب فيها على هذا السؤال مهمة وأساسية في عملية فهم هذه الترجمة واستقبالها من جمهور القراء الواسع الانتشار. وفي هذا السياق، تأتي محاولتنا للإجابة عن «لماذا نترجم روبرت والسر؟».
قد لا يعتبر التماسك الأدبي أو الاهتمام بشخصه كتبرير أول، كافيًا؛ مع أن هذه الحجة قد تكون بحد ذاتها مغرية.
لنقل ببساطة إنّ والسر يجب أن يُقرأ مرة وأكثر، لأنّه نموذج خاص للكاتب الذي تُصنف أعماله تحت عنوان «السهل الممتنع». هذه الصفة الأكثر ندرة، تتبدى بشكل أوضح عندما يقرأ الإنسان نصوص روبرت والسر، ويفاجأ بأنها أصيلة ومتدفقة. ليس هنالك أي شيء مزيف أو متكلف في كلماته. نستطيع غالبًا أن نقرأ قطعة ونفهم ماذا يحاول الكاتب أن يفعل. وفي هذه الحالة، يدور النقد بشكل أساسي حول كيفية استطاعة الكاتب التعبير عما يريد بمهارة.
إن والسر يتحدى سلطة النقد لأنه يعيش خارج هذه العبارات كليًا. كلماته ليست كلمات فنان في مرحلة التمرين. إنه يصقل قدرته على التقاط العالم كما هو مفهوم من قبل عامة المجتمع. قراءة والسر تشبه أن تؤخذ بيدك لترى العالم على ضوء شمس جديدة كليًا، كما شوهدت وفُهمت من قبل واحد من العقول الفريدة في تاريخ الأدب الإنساني.
من مقدمة تعريفية لروبرت والسر – بقلم سام جونس 2008
البدايات
ولد روبرت والسر (1878 – 1956) في بييل / بيين (سويسرا)، في حدود اللغة التي تفصل بين المتكلمين بالألمانية عن المتكلمين بالفرنسية. ونشأ روبرت والسر يتكلم اللغتين. وكان للشاعر القديم مايكل هامبورجر رؤيا بأن أصل والسر السويسري ساعده في تشكيل أسلوب في الكتابة مميز عن الأسلوب الألماني المتداول، وقد تكون طلاقة والسر الفرنسية أضافت إلى ذلك.
عندما بلغ والسر الرابعة عشرة من عمره، عمل في أحد البنوك. إلا أنه بعد وفاة والدته بعامين، في العام 1894، اتجهت حياته نحو الفن. انتقل والسر مع شقيقه كارل إلى شتوتجارت حيث عمل كارل كرسام. بداية، تمنى روبرت أن يعمل كممثل، ولكن طموحاته استقرت على الكتابة. وعبر دائرة من الكتّاب حول مجلة «داي أنسل»، ظهرت أولى أعماله النثرية في العام 1899. كما نشر مجموعة من القصائد في نفس العام.
بدأ ظهور أسلوب خاص في 1901، فقد أكمل والسر كتابه الأول «Fritz Kocjer’s Essays». رواية ليس لها حبكة روائية، جاءت على شكل مقالات بقلم طالب مدرسي. وفي هذا الكتاب، تظهر بدايات نوع الاستطراد اللعوب والتساؤلات الذاتية التي نجدها في أسلوب والسر الناضج.
عندما يأتي الخريف، تسقط الأوراق من الأشجار إلى الأرض. في الحقيقة كان يجب أن أقول:
عندما تسقط الأوراق، فإنه الخريف. يجب أن أحسن أسلوبي.
ومع ذلك ففي المقاطع الأخيرة، نفس الصوت ينتمي ليس لواحد محدد المعالم كشخصية روائية، ولكن لواحد قد يكون مخطئًا بالنسبة للكاتب نفسه، كما هو موضح في الأدبيات الافتتاحية «تحت الزيزفون» (1928).
البلدة كانت جميلة وخيالية. كم هي موضوعة بإيجاز! هل نستطيع أن ندعو هذا كتابة أدبية؟
وفي سنوات متأخرة يصف كل كتاباته كالتالي «مقطعة تقطيعًا متنوعًا أو كتاب ممزق إلى أجزاء لذاتي».
وبعض هذه الأجزاء حتماً تبدو رغم كل صخبها، مثل نقل حي من حياته (ألم الأسنان 1917):
أذكر أنني أصبت مرة بألم أسنان حاد. وحتى أخدر الألم، ركضت نحو الحقول وزأرت هناك مثل الملك لير. في المنزل فكرت في أن أضرب نفسي في الحائط، وأثناء غضبي، أكسر بعض الكراسي الثمينة من فترة «بريديرميير»، ولكن هذا لم يكن وسيلة لإيقاف ألم الأسنان. بل على عكس ذلك المشكلة ساءت ساعة بعد الأخرى. في الليل مشاهد الرعب التي مثلتها أيقظت كل من في المنزل، كانت فضيحة. التناول المتوالي من الكونياك الفاخر ساعدني قليلًا فقط. ضربت وجهي بلكمات مثل سانشو يانزا عندما اكتشف ضياع حماره.
هذه الميزة تعطي لأعمال والسر نوعًا من الخفة الكوميدية وعنصر المفاجأة، ولكنها أيضًا جعلته عرضة للاتهام بالقذارة أو عدم الجدية. حتمًا، فإن نفس المناقشات التي أوحى بها والسر في أيامه استمرت الآن، كما هي مذكورة في هذا التقرير من قراءة عامة أخذت دورها مؤخرًا عن أعمال والسر:
إن تغيرات نبرة صوت والسر كانت مصدرًا لتعليقات واحد من الحضور، الذي تساءل إذا ما كانت نبرة والسر الصعبة التثبيت «نوعًا من المظاهر» أو هي «غبيّة» وتقر أنها للمظاهر.
في الواقع، فن والسر يظهر طبيعيًا لدرجة أن الإنسان يستطيع التخيل بسهولة أن والسر قد استغباه رأي مايكل هامبورجر من خلال المظهر منذ 1961 (منمنمات نثرية من التايمز الملحق الأدبي):
استخدم والسر وبرر لحرية الارتجال أكثر بكثير من كافكا، بالمخاطرة الواضحة المعالم أن يبقى غير متحيز لطبقة في الأدب، كما كان اختياره في المجتمع. الارتجال بمفهوم والسر وكافكا يجب أن يميز عن التجارب الذاتية الواعية لما هو طليعي رائد. وما هو مثير حول أكثر المبتكرين الحقيقيين في تلك الحقبة، بما فيهم جويس أيضًا، هو أن التزامهم بفن شخصي رفيع لم يتضمن ثورة ضد شرائع متعارف عليها، ولكن الرفض للأدب كمؤسسة ليس ثورة، بل هو منع فرض نفسه.
وفي قطعة نثر أخيرة («المساعي» 1928-1929) أدرك والسر المخاطر لمثل هذه المقاربة:
السؤال، الذي تقوم به لم يعد فنًا إطلاقًا، هل هو كذلك؟ أحيانًا بدا وكأنه يضع يده بلطف على كتفي… لو كتبت أحيانًا حول مغامرة، عن دافع، فقد تبدو هزلية قليلًا للناس الجادين جدًا، ولكنني كنت أقود تجارب في حقل اللغة، متأملًا أنها قد تحتوي على حيوية غير معروفة ما يسبب سعادة إيقاظها.
أربع مدن
تعتبر حياة والسر الكتابية وكأن لها أربعة وجوه، كل واحد يأخذ مكانه في مدينة مختلفة. أولًا: سنواته الأولى ككاتب، مركزها زيورخ (1896 – 1903)، ولكنها تتضمن في أوقات مختلفة إقامات قصيرة في شتوتجارت، برلين، سولوثون، ميونيخ، وروزبرج. ثانيًا: سبع سنوات عاشها في برلين (1906 – 1913) مع شقيقه كارل، الذي أصبح مصممًا مسرحيًا ناجحًا ورسامًا توضيحيًا. كتب والسر رواياته الرئيسية في برلين وكان نجاحه العظيم الأول. وبعد ذلك سقط مع أخيه وناشره بموت أحد المتبرعين له. عاد والسر إلى بييل (1913 – 1920)، يسكن بهدوء في غرفة في بيت للعمال الأجانب. بعض روائعه كتبت في هذا الوقت. في 1920 بعد أن انخفض دخله، انتقل إلى بيرن (1920 – 1928) برعاية شقيقته ليزا التي أوجدت له عملًا في أرشيف الكانتونات. فصل بعد وقت قصير من عمله في الأرشيف بسبب تعليق صفيق وجَّهه إلى رئيسه، ولكن لسعادته وجد سوقًا جاهزًا لنثره. سنواته في بيرن كانت مثمرة جدًا ونشر بشكل واسع. ومع ذلك تحولت حياته في بيرن، مع مرور الزمن، إلى فوضى – فقد سكن في 14 عنوانًا خلال سبع سنوات – والاكتئاب الذي عانى منه في بيرن كانت تصاحبه كوابيس مخيفة وهلوسات. (والدته كانت تعاني من مرض عقلي كما كان أخوه ارنست، وشقيق آخر انتحر).
حوالي عام 1924، وجد نفسه غير قادر على الكتابة بسبب ما سماه بشدة عضل في يده. عند هذا العام كتب معظم مؤلفاته بقلم رصاص، بنص ميكروسكوبي عّود نفسه عليه في 1917 بعد أن جرب ما وصفه بشد عضلي في يده كان يمنعه من الكتابة. وفي العام 1928، بعد أن تزايدت حالة اكتئابه العقلي، اقترحت شقيقته ليزا أن يخضع نفسه لمصحة في والداو للعناية به. «عند ذلك،» قال مؤخرًا لصديقة كارل سلينبج، «قمت بمحاولات فاشلة في حياتي. ولم أستطع حتى أن أصنع أنشوطة ملائمة. أخيرًا، ذهب الأمر بعيدًا لدرجة أن شقيقتي ليزا أحضرتني إلى المستشفى في والداو وأمام البوابة سألت: هل نحن نفعل ما هو صواب؟ صمتها قال لي ما يكفي. هل هناك خيار غير أن أدخل؟»
في العام 1933، أجبر والسر على الانتقال إلى مؤسسة في هيريساو، عندما قرر والداو التركيز فقط على المرضى الذين يحتاجون عناية أكثر. عند هذه النقطة توقفت كتاباته، وعندما سئل، كان من المفترض أن يقول:
« أنا هنا ليس لأكتب، ولكن لأكون مجنونًا». ومع ذلك، فإن بعض أفراد الهيئة الطبية قالوا إنهم كانوا يشاهدونه يخربش ملاحظات بعد الوجبات.
عبقرية روبرت والسر
يوم عيد الميلاد، عام 1956، استدعي بوليس بلدة هيريساو في شرق سويسرا من قبل بعض الأولاد الذين تعثروا بجثة رجل، تجمد حتى الموت، في حقل مغطى بالثلج. عندما اقترب البوليس من المشهد، أخذ بعض الصور الفوتوغرافية وأزاح الجثة.
وقد كان من السهل معرفة الرجل الميت، أنه روبرت والسر، عمره ثمانية وسبعون عامًا، فقد من المستشفى المحلي للأمراض العصبية.
كان روبرت والسر قد اكتسب، في سنواته الأولى، شيئًا من السمعة الحسنة ككاتب، في سويسرا وحتى في ألمانيا. بعض كتبه كانت ما زالت تحت الطبع. وقد كان له سيرة حياة مطبوعة. وبعد قضاء ما يقرب من ربع قرن داخل المؤسسات العصبية، فإن كتابته قد نضبت. المسيرات الطولية في الطبيعة – مثل تلك التي مات فيها – كانت ترفيهه الأساسي.
أظهرت صور البوليس رجلًا عجوزًا يلبس معطفًا وجزمة مرميًا على الثلج، عيناه مفتوحتان، وفكه مرخي. وهذه الصور ظهرت بشكل واسع (لم يراعَ الحياء) وأعيد نشرها في النقد الأدبي حول والسر الذي ازدهر منذ 1960.
ما دعي بجنون والسر وموته وحيدًا، وما اكتشف بعد وفاته في كتاباته السرية المخبأة، كانت الأعمدة التي بنيت عليها أسطورة عبقريته المهملة. وحتى الاهتمام الفجائي بوالسر أصبح جزءًا من الفضيحة. «أسأل نفسي» كتب الروائي الياس كنيتي في 1973، «أليس هنالك، من بين الذين شيدوا حياتهم الأكاديمية المترفة والآمنة والعادية على كاتب عاش في البؤس واليأس، أليس هنالك من يخجل من نفسه؟!!».
ولد روبرت والسر في العام 1878 في إقليم بيرن، الطفل السابع بين ثمانية أطفال. كان والده يعمل في تغليف الكتب، ويدير محلًا يبيع القرطاسية ولوازم الخياطة. في الرابعة عشرة من العمر، أخرج روبرت من المدرسة وتوظف في أحد البنوك، حيث قام بوظيفته بشكل نموذجي. ولكن، كونه كان يحلم بأن يصبح ممثلًا، دفعه إلى الهروب إلى شتوتجارت. أثبتت تجربته الوحيدة في عالم التمثيل فشلها الذريع: وقد رفض لأنه جامد ولا يستطيع التعبير. بعد تركه المسرح، قرر والسر أن يصبح شاعرًا. وأخذ يتنقل من عمل إلى آخر، كتب شعرًا، ونصوصًا نثرية، ومسرحيات قصيرة شعرية (dramolots)، لاقت بعض النجاح. وسريعًا ما أخذه ناشر يدعى انسيل فيرلاج، ناشر ريلكه وهوفماننستال، ونشر له أول كتاب.
في العام 1905، صمم والسر على تطوير عمله. فلحق بأخيه الكبير، الناجح في رسومه التوضيحية وتصميماته المسرحية، إلى برلين. حيث سجل في مدرسة لتدريب الخدم، وعمل لفترة قصيرة كرئيس للخدم في منزل ريفي (لبس كسوة أجاب عند دعوته «السيد روبير») . وعلى أي حال، فبعد فترة ليست طويلة، وجد أنه يستطيع تأمين مصروفه اعتمادًا على ما يدخله من الكتابة. ساهم في مجلات أدبية رفيعة المستوى، وكان مقبولاً في الدوائر الفنية الجادة. ولكنه لم يكن مسترخيًا أبدًا في دور المثقف المحافظ، فبعد أن يشرب بضعة كؤوس يصبح وقحًا وريفيًا وعدائيًا. تراجع، بالتدريج، نحو الانعزال من المجتمع في حياة قليلة الحركة في بيوت صغيرة. في مثل هذا المحيط، كتب أربع روايات، بقي منها ثلاث:The Tanner Children (1906)، The Factotum (1908)، و Jakob Von Gunten (1909). جميعها استقى مادتها من تجربة حياته الشخصية. ولكن فيما يتعلق بـ Jakob Von Gunten – أكثر رواية معروفة بين هذه الروايات المبكرة، وهي تستحق ذلك – ارتفعت هذه التجربة إلى حد مذهل.
«الإنسان يتعلم قليلًا جدًا هنا، يلاحظ جاكوب فون جونتون الشاب بعد اليوم الأول في مؤسسة بنجامينتا، حيث سجل نفسه كطالب. المعلمون يستلقون حول المكان كرجال أموات. هنالك فقط كتاب واحد «ما هو موت صبيان مدرسة بنجامينتا؟» ودرس واحد فقط «كيف يجب أن يتصرف الصبي؟» كل التعليم تقوم به السيدة ليزا بنجامينتا، شقيقة المدير. السيد بنجامنيتا نفسه يجلس في مكتبه ويعد نقوده مثل غول في حكاية خيالية. في الواقع فالمدرسة هي شيء من الاحتيال ومع ذلك جاكوب لا ينوي الاستسلام. بإسراعه بعيدًا نحو المدينة الكبيرة (لا يذكر اسمها ولكن بوضوح هي برلين) في ما يدعوه عاصمة صغيرة جدًا. لا يبالي إذا ما لبس الثوب الرسمي لبنجامينتا، ينهض مع رفاقه الطلبة وأيضًا يركب المصاعد نحو المدينة، مما يثيره ويجعله يشعر تمامًا أنه طفل وقته.
جاكوب فون جونتون يتكون أساسًا من المذكرات التي احتفظ بها جاكوب أثناء إقامته في المؤسسة. إنها تتألف من الأفكار حول التربية التي يحصل عليها هناك – تربية في التواضع، وعن الأخ والأخت الغريبين اللذين يقدمانه. التواضع الذي يعلمه البنجامينتاس ليس من التنويعات الدينية. يطمح خريجوهم بأن يخدموا رجالًا أو كبار خدم، وليس قديسين. ولكن جاكوب حالة خاصة، تلميذ لدروس تواضع لها نغمة عميقة خاصة.
«كم أنا محظوظ»، يكتب، «أن أكون قادرًا على أن أرى في نفسي أي شيء جدير بالاحترام والمتابعة! أن أكون صغيراً وأبقى صغيراً».
دعاية
البنجامينتيون هم زوج غامض، ومنذ النظرة الأولى زوج متنوع يضع جاكوب نفسه بمهمة اختراق غموضهم. يعاملهم ليس باحترام ولكن بثقة الولد الصفيق المعتاد على ممارسة الأذية من قبله وكأنها عمل خفيف الدم، يخلط الوقاحة بالصراحة في تحفيز النفس غير الصادقة ويقهقه على قلة إخلاصه، واثقًا من أن الصراحة سوف تخفف من سلاح النقد ولكنه بالحقيقة غير مهتم إذا لم تكن كذلك. الكلمة التي يريد إضافتها على نفسه، والتي يجب أن يضيفها العالم إليه، هي «عفرتة». العفريت هو روح شريرة. والعفريت هو شيطان ضئيل.
بسرعة استطاع جاكوب أن يكسب رفعة فوق البنجامينتاس. السيدة بنجامينتا تلمح بأنها مغرمة به، يتظاهر بأنه لا يفهم. إنها تظهر أن ما تشعر به ربما أكثر من إعزاز… إنه ربما حب. يجيب جاكوب بكلمة طويلة مراوغة مليئة بالمشاعر المحترمة. أُحبطت السيدة بنجامينتا، وشعرت بالانحلال والموت.
السيد بنجامنيتا عدائي منذ البداية نحو يعقوب. اخذ يناور لدرجة كي يصبح الولد صديقه، ويترك خططه ويأتي معه متجولًا في العالم. بداية، يرفض جاكوب: «ولكن كيف سآكل يا مدير؟ …. إنها مسؤوليتك أن تجد لي وظيفة محترمة. كل ما أريده هو عمل ما.» ومع ذلك فعند آخر صفحة في مذكراته يعلن أنه غير رأيه: سوف يرمي قلمه بعيدًا ويذهب إلى الغابة مع السيد بنجامينتا (والذي يجيبه الواحد: حفظ الرب السيد بنجامينتا!)
كشخصية أدبية، جاكوب فون جونتون لا سابقة له. في السعادة التي يشعر بها عندما ينتقد ما به، فهو به شيء من شخصية دوستويفسكي الرجل المخفي تحت الأرض، وفي خلفه ما لدى جون جاك روسو بالاعترافات. ولكن – كما قال أول مترجم فرنسي، مارتي روبرت – فهنالك في جاكوب، أيضًا، شيئ من بطل القصص التقليدية، في الولد الذي يتحدى قصر العملاق وينتصر ضد كل الأعداء. في بداية عمله أعجب فرانز كافكا بعمل والسر (يسجل ماكس برود عن السعادة البالغة التي كان كافكا يقرأ بها مخطوطات والسر الفكاهية بصوت عالٍ).
إن بارنباس وخيرنماياس مساعدي كافكا في البحث والمعروفين بالمساعدين الشيطانين في وضع العوائق في «القصر» وضعا جاكوب كنموذج مبدئي لهم.
في كافكا يعثر القارئ على أصداء نثر والسر، بتخطيطه النحوي الواضح ومفارقاته العرضية بين الرفيع والوضيع، وبمنطقه المخيف المقنع بمفارقته. هنا جاكوب في حالة تفكير تأملي!
نحن نلبس ثيابًا موحدة. الآن لبس الملابس الموحدة على التوالي يحقرنا ويرفعنا ونبدو كأننا لسنا أحرارًا، وهذا ربما عار علينا. ولكن نحن نبدو لطافاً في ثيابنا الموحدة، وهذا يضعنا على مسافة من العار العميق للناس الذين يسيرون حولنا في ملابسهم الخاصة بهم ولكن الممزقة والقذرة. بالنسبة لي، مثلًا، أن ألبس ثوبًا موحدًا يسعدني لأنني لم أكن أعرف، قبل ذلك، ماذا سألبس. ولكن في هذا، أيضًا أنا غامض لنفسي في هذا الوقت.
ما هو غموض جاكوب؟ كتب والتر بنجامين قطعة عن والسر هي الأكثر تأثيرًا لأنها مبنية على دراية غير كاملة بكتاباته. اقترح بنجامين أن ناس والسر مثل شخصيات قصص خرافية، وبمجرد أن تصل الحكاية إلى نهايتها، تستحيل إلى الشخصيات التي عليها أن تعيش في العالم الحقيقي. هنالك شيء ممزق، لا إنساني، ومزيف بلا شك، حولها. وكأنهم، قد أنقذوا من الجنون (أو من نوبة سحر)، يخطون بحذر خوفًا من السقوط مرة ثانية فيها.
جاكوب شخصية فريدة من نوعها. والهواء الذي يُستنشق في مؤسسة بنجامينتا نادر، يكاد يصل إلى مرتبة المجازي. ومن الصعب أن تفكر فيها كممثل لأي عنصر من عناصر المجتمع. ولكن في تهكمية جاكوب حول الحضارة وحول القيم بشكل عام: ازدراؤه لحياة العقل، ومعتقداتها المبسطة حول كيف يعمل العالم حقًا (أنه يدار من قبل الأعمال الضخمة لاستغلال الرجل القليل الحال). رفعه الخضوع لأقصى الفضائل، استعداده لينتظر كل وقته نداء القدر، ادعاؤه أنه مرسل من أجداد نبلاء مقاتلين (عندما تشير أصول الكلمة التي نشير إليها (Von Gunten) «من الأسفل – تقترح شيئاً آخر)، مثل سعادته في الأجواء الذكورية للمدرسة الداخلية وسعادته في المقالب الخبيثة – كل هذه المظاهر، مأخوذة معًا، وتشير متنبئة نحو البورجوازي الصغير الذي في أوقات الاضطرابات الاجتماعية الكبيرة سوف يجد قمصان هتلر البنية جذابة.
لم يكن والسر كاتباً سياسياً بشكل علني. ومع ذلك فإن تعاطفه مع الطبقة الذي جاء منها، طبقة أصحاب الحوانيت والكتبة والمدرسين كان عميقًا. قدمت له برلين فرصة واضحة ليتنصل من أصوله الطبقية وينضم، كما فعل شقيقه، للمثقفين العالميين الذين لا طبقة لهم. وقد رفض هذا العرض واختار بدلًا منه أن يعود إلى معانقة سويسرا الريفية. ولكنه لم يفقد رؤية – حتمًا، لم يسمح له بأن يفقد رؤيته – لغير المتحررين، الملتزمين، المتعصبين من طبقته، والذين يصدر تزمتهم تجاه أناس مثله، حالمين ومتشردين.
إعلان
في عام 1913 ترك والسر برلين ورجع إلى سويسرا «مؤلف يُسخر منه وغير ناجح» (ما يقوله هو تعبير عن الاستخفاف بنفسه). أخذ غرفة في فندق معتدل في مدينة بيل الصناعية، بالقرب من شقيقته وخلال السنوات السبع التالية حصل على حياة غير مستقرة وهو يشارك في صفحات التسلية – مخطوطات أدبية – للصحف.
وفيما تبقى كان يقوم بمسيرات طويلة في الريف، وكان يقوم بمهامه في الحرس الوطني. في مجموعاته الشعرية والنثرية القصيرة التي استمرت في الظهور، توجه أكثر فأكثر إلى الأراضي السويسرية المجتمعية والصناعية وكتب روايتين أخريين. المخطوطة الأولى «تيودور»، فقدت من قبل الناشر، الثانية «توبولد»، اتلفت من قِبَل والسر نفسه.
بعد الحرب العالمية تذوق الجمهور لنوع الكتابة التي اعتمدها والسر كدخل له، الكتابة التي كانت مصدر مرحٍ أو فنًا جميلًا بدأ يخفت ألقها. بدأ يفقد التواصل مع التيارات في المجتمع الألماني الواسع، أما بالنسبة لسويسرا فجمهور القراء هناك كان صغيرًا جدًا ليدعم أحدا من الكتاب. رغم تفاخره بقدرته على التقشف كان مضطرًا لإغلاق ما دعاه بـ «ورشة عمل لكتابة النصوص النثرية». بدأ يشعر أكثر فأكثر بالضغط النفسي بنظرات جيرانه المنتقدة، بحاجته للاحترام. انتقل إلى بيرن إلى مكان في الأرشيف الوطني، ولكن خلال شهور تم صرفه من عمله لعدم الالتزام. انتقل من مسكن إلى آخر وشرب بكثافة. عانى من قلة النوم، سمع أصواتًا متخيلة، عانى من كوابيس ونوبات توتر، ولما حاول الانتحار، فشل لأنه – كما عبر عن ذلك باعترافه – «لم أكن أستطيع أن أصنع مشنقة ملائمة».
أصبح من الواضح أنه لم يعد يستطيع العيش لوحده. كانت عائلته في تغيرات ذلك الزمان ملوثة. والدته كانت تعاني من اكتئاب مزمن، وأحد إخوته حاول الانتحار والآخر مات في مستشفى أمراض عقلية. اقترح على شقيقته أن تأخذه عندها، ولكنها كانت ترفض ذلك. ولذلك فقد سمح لنفسه أن يكون في مستشفى الأمراض العصبية في والداو. «مكتئبًا بوضوح ومحبطًا بشدة». كان نص التقرير الطبي يتهرب من الإجابة على التساؤلات حول كونه مريضًا في الحياة.
في تقييمات أخرى يرفض أطباؤه فكرة أنه يعاني من أي شيء، حتى يحثونه على محاولة الحياة في الخارج ثانية. وهو اختار أن يبقى. في 1933 نقلته عائلته إلى المصحة العصبية في هيريساو، حيث كان مرتبطًا بالدعم الاجتماعي. هناك كان يشغل وقته بأعمال روتينية مثل لصق أكياس الورق وتنقية الفاصوليا. بقي محافظًا على قواه جميعها. تابع قراءة الصحف والمجلات الشعبية، ولكن بعد 1932 لم يعد يكتب «أنا هنا ليس لأكتب أنا هنا لأكون مجنونًا». قال لأحد الزوار. كما قال مضيفًا، «وقت الأدب انتهى». (مؤخرًا ادعى أحد المدرسين أنه رأى والسر يعمل في الكتابة. وحتى لو كان هذا صحيحًا، فليس هنالك أي أثر للكتابة باق من فترة 1932).
(أن يكون كاتبًا) كانت صعبة جدًا على والسر ولو بأكثر الأمور بدائية. فهو لم يستخدم آلة طباعة، ولكنه كتب بيد واضحة حسنة الشكل، كانت مدعاة للكبرياء.
النسخ التي بقيت – نسخ بسيطة عبارة عن نماذج من فن الخط. كانت الكتابة على أي حال، أحد المظاهر حيث ظهرت الاضطرابات العصبية بوضوح. في بعض الأوقات في الثلاثينيات (والسر غير متأكد من التاريخ) بدأ يعاني تشنجات نفسية وجسدية في يده اليمنى التي فسرها هو بكراهية قلم الحبر كأداة. كان باستطاعته أن يتغلب عليها فقط عن طريق ترك قلم الحبر جانبًا، واستبداله بقلم رصاص.
كان استخدام القلم الرصاص مهمًا بشكل كاف لوالسر ليدعوه «أسلوبي في القلم» أو «طريقة القلم». والذي لا يذكره هو أنه عندما اتجه نحو الكتابة – بالقلم غيَّر كتابته بشكل جذري. عند وفاته ترك وراءه نحو خمسمائة من الصفحات مغطاة بنصوص ميكروسكوبية بقلم الرصاص من الصعب قراءتها لدرجة أن الوصي على أعماله اعتبرها في البداية مذكرات برموز سرية. في الواقع لم يحفظ والسر مذكرات. ولا كان النص له رموز: إنه ببساطة كتابة يدوية لها العديد من المتغيرات التي ليست دائمًا ممكنة. كانت كتابات والسر العديدة الأخيرة بهذه الكتابة بأقلام الرصاص لوحدها، بما في ذلك روايته الأخيرة The Robber (أربع وعشرون صفحة من الكتابة الميكروسكوبية، و141 صفحة مطبوعة) جاءت إلينا.
أكثر إمتاعًا من النص نفسه هو السؤال عن ما الذي حققته «طريقة القلم» وجعلته في متناول والسر ككاتب ولم يحققه قلم الحبر الجاف بعد الآن (هو ما زال يستعمل القلم الجاف لبعض النسخ النظيفة وكذلك عند المراسلات). الجواب يبدو هو أنه كما يفعل فنان في عصاه الفحمية بين أصابعه، احتاج والسر ليحصل على حركة يد ثابتة، متناغمة تتحرك إلى الأمام قبل أن يستطيع أن ينزلق نحو إطار عقلي حيث يستغرق في الخيال والحلم فيؤلف وتتدفق أداة الكتابة بنفس الشكل. في مقطع عنوانه «مدونات قلم رصاص» بتاريخ 1926-1927، يذكر «السعادة الفريدة» الذي تغدقها عليه طريقة قلم الرصاص. وقال في مكان آخر، «إنها تهدئني وترفع معنوياتي».
نصوص والسر لا يقودها المنطق ولا السرد ولكن الحالة النفسية، الخيالات، وما يتبع ذلك: ما يتعلق بالمزاج فهو كاتب مقالة أكثر منه مفكرًا أو راوي قصص. القلم الرصاص والنص الاختزالي الذي اخترعه سمح لحركة اليد الهادفة غير متقطعة، والحالمة مع ذلك، والتي أصبحت لا بد منها في حالة الخلق هذه.
أطول أعمال والسر الأخيرة (The Robber السارق) كتبت في 1925-1926 ولكن فكت رموزها وطبعت فقط في العام 1972. القصة خفيفة لدرجة أنها لا مادة لها. هي تتعلق بالتشابكات العاطفية لرجل في منتصف العمر يعرف بالسارق، رجل لا عمل له ولكن يتمكن من العيش على أطراف المجتمع المهذب في برلين على أساس ميراث متوسط.
بين النساء اللواتي يلاحقهن السارق، نادلة تدعى إيديث. بين النساء اللواتي يتبعنه بصورة أقل، السيدات المتنوعات واللواتي أردنه إما لبناتهم أو لأنفسهم. ينتهي الحدث في مشهد حيث يصعد السارق إلى المنصة، وأمام عدد كبير من المتجمعين يعنف إيديث لتفضيلها منافسًا دونيًا عليه. تفقده إيديث تفكيره ويطلق رصاصة من مسدسه، فيجرحها قليلًا. تنتشر الثرثرة المرحة. وعندما يهدأ الغبار، يتعاون السارق مع كاتب محترف ليخبر جانبه من القصة.
لماذا كان «السارق» اسمًا لهذا الشجاع الخجول؟ تشير الكلمة، حتمًا، إلى اسم والسر الأول. غلاف ترجمة مطبعة جامعة نبراسكا يشير إلى هذا الموضوع. إنه يستنسخ لونًا مائيًا بريشة كارل والسر شقيق روبرت. في سن الخامسة عشر يلبس كبطله المفضل، كارل مور في مسرحية شيلر «السارقون». السارق في رواية والسر للأيام العصرية هو، للأسف، ليس بطلًا. إنه سارق، ينتحل «بالغيرة» أكثر منه قاطع طريق، هو يسرق أكثر ما يسرق عواطف الفتيات وصيغ القصص الشعبية خلف Robert/Robber (الذي سوف أدعوه R) يتقمص شخصية ظلالية، المؤلف الأسمى للكتاب – الذي يتعامل مع R الآن وكأنه الحامي، مرة كمنافس ومرة كمجرد لعبة ندور بها من حالة إلى حالة. إنه ينتقد R (بطريقة متابعة أمواله بشكل سيئ. في التصاقه بالفتيات العاملات وبصورة عامة كونه محتالًا لا يمكن الوثوق به، سارق في وضح النهار أو متسكع أكثر منه مواطنا سويسريا متمتعا بالحكم الذاتي). ومع ذلك، فهو يعترف: عليه أن يحافظ على إدراكه لما حوله حتى لا يخطئ بين نفسه وR. في الشخصية هو يشبه R كثيرًا، يسخر من نفسه حتى وهو يمثل عاداته الاجتماعية. بين الفترة والأخرى له نوبة من العصبية حول الكتاب الذي يكتبه أمام أعيننا – حول تقدمه البطيء، وتفاهة محتواه، وفراغ شخصية بطله.
بشكل أساسي «السارق» ليست سوى مغامرات كتابية تكمن جاذبيتها في التفافها واستدارتها بالاتجاه، وبتناولها التهكمي لمعادلات اللعب الغرامي، وباستغلالها المضطرب الخلاق لمصادر اللغة الألمانية، وشخصية مؤلفها المضطربة بسبب تعدد خيوط الرواية التي عليه أن يتعامل معها فجأة حيث أن القلم في يده يتحرك. وهو يذكرك أكثر ما يفعل بلورنس ستورن، الأكثر رقة، الأخير، دون الشبق والازدواجية.
النتيجة البعيدة التي تنتجها الشخصية المسيطرة المنشطرة بعيدًا عن الذات R، وبأسلوب حيث العاطفة مغطاة بغطاء محاكاة ساخرة تسمح لوالسر أن يكتب متحركًا مرة تلو أخرى، حول ذاته (أي R’s) التي لا يمكن الدفاع عنها على أطراف المجتمع السويسري.
كان دائمًا… وحيدًا كحمل صغير ضائع والناس تلاحقه لتساعده على تعلم طريقة معيشته. أعطى إحساسًا بالضعف. كان يشبه الورقة التي يضربها الولد الصغير بعصا من على غصنها إلى أسفل، لأن فرادتها تجعلها ظاهرة. وبكلمات أخرى، فهو يستدعي الاضطهاد.
وكما علق والسر، بنفس السخرية، ولكن بنفس الشخص. في رسالة من نفس الفترة الزمنية: «أحيانًا اشعر أنني أكلت، أي أقول أنني استهلكت نصفي أو كلي، بحب واهتمام وفائدة مواطني الممتازين».
«السارق» لم تكن مجهزة للطبع. في الواقع لم يذكر والسر وجودها في أي من محادثاته المتعددة مع صديقة والمحسن إليه كارل سيليج. إنها ترسم أحداثًا من حياته بالكاد مخفية، ومع ذلك تتضمن جانبًا واحدًا من والسر. بالرغم من أن هنالك مراجع تشير إلى أصوات اضطهاد، وبالرغم من أن R يعاني من أوهام المراجع (فهو يشك في المعاني الخفية، مثلًا، في الطريقة التي ينفخ فيها الناس أنوفهم في حضرته)، فالجانب الأكثر كآبة والمحطم نفسيًا يبقى بعيدًا بشكل مجسم خارج الصورة.
إن قصة «السارق» بتآلفها ومعاصرتها رواية جويس «يوليسيس»، ومع الأجزاء الأخيرة من قصة بروست Rocherche، لو صنعت في 1926 لكانت أثرت في سياق الأدب الألماني الحديث، مفتتحة وحتى متآلفة مع موضوع مغامرات الكتابة أو الأحلام الذاتية أو الخط الذي يكتبه الحبر (أوالقلم) الذي يخرج من اليد التي تكتب. ولكن ليس هذا ما حصل. بالرغم من وضع خطة لتجميع كتابات والسر قبل موته، كانت الأجزاء الأولى لمجموعات مدرسية مجمعة ظهرت عام 1966، وبعد أن بدأ يلحظه القراء في انكلترا وفرنسا حصل على انتشار واسع واهتمام في ألمانيا.
الآن يقيّم والسر بشكل كبير على أساس رواياته. رغم أن هذه تشكل خُمس إنتاجه الأدبي ورغم أن الرواية كما تعرف لم تكن نقطة قوة (الروايات الأربع التي تركها تعتبر روايات قصيرة (Novella). وهو يشعر براحة في أعماله الروائية القصيرة: قطع مثل: Kleist in Than (1913) و Helling doy (1914) تظهره في أحسن إنتاجه.
هل يعتبر والسر كاتبا عظيما؟ إذا ما قرر واحد أن يدعوه عظيمًا، قال كانيتي، لأنه ليس هنالك لقب يرافق شخصه كلقب العظمة. في أواخر شعره كتب والسر:
لا أتمنى لأحد أن يكون أنا
فأنا فقط قادر أن أتحمل نفسي
أن أعرف الكثير وأن أرى الكثير
وأقول لا شيء، فقط، حول لا شيء
شقيق كافكا التوأم الأقرب إليه (Oct 2012)
إن رواية روبرت والسر القصيرة «المشوار» أول عمل للكاتب يخرج باللغة الانكليزية وهو الوحيد الذي ترجم له وهو مازال حيًا.
برنوفسكي، التي ترجمت العديد من أعمال والسر بما في ذلك كتاباته المنمنمة المشهورة (والتي اعتقد الجميع لفترة طويلة أنها كتبت بقواعد صعبة الفهم) وحاولت برنوفسكي أن تتابع التغيرات التي أحدثها والسر بإعادة ترتيبها وبإضافة أو تخفيف ما كان يرغب والسر نفسه القيام به بعد مراجعاته الدقيقة لها. وتقول برنوفسكي في المقدمة إن الكاتب السويسري أخذ على عاتقه هذه التبديلات «من أجل تخفيف الانقسام بين البطل الكاتب والبطل الذي يتسكع».
ربما تكون القضية هي قضية تخفيف الانقسام على أي حال أكثر منها دوزنة نموذجية لدقة ما لغموضها – لأن هذا الغموض بشكل خاص أساسي جدًا نحو الكتاب الغريب. وكما تعلق برنوفسكي «المشوار» كوميديا استطرادية مزنرة بالظلام ويظهر عمقها تدريجيا فقط عندما يتابع الواحد تسكع الراوي.
في بداية القصة، يطير الكاتب من غرفته الكئيبة والورقة الفارغة الملقاة على مكتبه ليستقر في مسيرة عبر البلدة السويسرية الريفية وضواحيها البسيطة. وهو في تجواله يقابل أستاذًا كبيرًا ذا مكانة كبيرة وسلطة شخصية لا جدال فيها، الذي يملك فما مقفولًا إقفالًا تامًا كما يقتضي عمله القضائي… بائع كتب يقدم له عند الطلب عملًا خارقًا له معجبون عالميون من الأدب المعاصر والذي يتركه بقلب بارد خلفه… موظف في البنك يبلغه أن مجموعة من المستفيدين أضافوا إلى حسابه كمية لا بأس بها « تخفيف من طبيعة لطيفة « هو بأمس الحاجة إليها… لوحة مخبز تحثه على التوقف في سيره، ساخط على رؤية «مثل هذا النقش الذهبي البربري والذي يؤثر في ما يحيطنا من دائرة جشع وحب للمال واختزانه وتخشين للروح»… وامرأة يبدو أنها كانت ممثلة سابقة وهو يثق بأنها كانت معادية للعالم وله، وغريبة عن الاثنين التي يودعها سريعًا بلباقة متناهية الدقة (…) وكأن لا شيء قد اتضح بتاتًا.
وبينما هو يغادر البلدة بطريق ريفية ويتابع طريقه «كمتسكع» من نوع أفضل، متشرد نشال، خالي شغل … «صايع»…
فجأة ينزل على الكاتب شبح/ رواية والسر، العملاق توم زاك يقطع الطريق من أمامه، متشرد يخرج من عينيه ويتفطر لمعانًا من الحزن من العالم السفلي والعالم العلوي، وألم لا يوصف يخرج من حركاته المتراخية المتعبة دون زيادة ينظر إلى الخلف. يسير الرواي عند والسر إلى الأمام وبسرعة يصادف فتاة شابة تغني… يبتهج، يسمع صوتها الرقيق، يهنئها بحماس عندما تنتهي، ويحثها على أن تحافظ عليه باهتمام من العبث وتشويه التعب غير الناضج بسبب سوء التفكير والإهمال. لأنه سيكون متوقعًا منها أن تغني لربح أكثر يوميًا. ثم ينطلق نحو منزل السيدة فراو ايبي التي تقدم له غذاء شديد السخاء وبطريقة سوريالية، وتتابع الضغط بالطعام على شخصه الخائف حتى بعد أن يصل إلى الانفجار، مؤكدة له أنه لن يترك هذه المائدة قبل أن يأكل ويزيل كل الذي قطعته أو سوف تقطعه من أجله. يتابع طريقه لإرسال رسالة بالبريد « لشخصية قيادية مؤثرة» يكتب لها هجومًا لاذعًا من بضع صفحات، تعلم فيما بعد أنها تؤدي إلى محاولة انتحار احترافية.
«أنت لا تحافظ على كلمتك. تجرح دون إعادة التفكير بفضائل وسمعة من يتفاعلون معك. تسرق بلا حساب حيث تتظاهر أنك تقوم بإحسان». ثم يتابع السير نحو خياطه المتمرد الذي يقتنع بعظمة مهارته التي لاشك فيها، كما وأنه ممتلئ بالإحساس بكفاءته. عليه أن يقيس بدلة، يتوقع أن تظهر مجموعة من الأخطاء والعيوب. سترة جعلته يبدو مثل الأحدب و»عمل بائس، مضحك مخيف غبي من فن تفصيل البناطيل» التي عندما تكون معًا تحدث شيئًا حقيرًا مؤسفًا، تافهًا سخيفًا ودونيًا.
وهنا، في آخر ما قدم توماس برنارد، فشتائمه المرحة يلتقطها العقل والنسخة الأصلية من Der soaziergang تجعل الأمر واضحًا، بأن تأثير والسر على برنارد كان مؤكدًا في تطور صوت المؤلف الصغير الذي لايضاهى، وتكوينات والسر القواعدية المعقدة وتتالي الأزمنة، وثرثرته المرحة المنمقة المستحدثة الإقليمية المهووسة تولد لغة منمقة بحيث يتداخل الفكاهي مع المأساوي التافه مع الذي ينفطر له القلب ويصبحان متلازمين بحيث يصعب التفريق بينهما.
إن كتابة والسر بحرفية بالغة تغلف السخرية بمحو الذات، والعكس بالعكس يظهر هذا بشخصية الشاعر/ والكر الرث المظهر الرفيع التهذيب الذي يسيل على التنافر والمجاملة بإفراط وقلق مفصل في لغة تكاد تكون هلوسة بارعة. ومناجاة الراوي تظهر ارتباكًا اجتماعيًا فيما يصعب عليه التحرك ضمن مجتمعه بدون أذى. وضعه الأساسي التعرض للخوف، وكتاباته هروب إلزامي من ذلك الخوف.
ومن ضمن المعجبين بروبرت والسر كان روبرت موسيل، هيرمان هيسه، ستيفان زفايج وفرانز كافكا، حتما بعد بضع سنوات. مارتن والسر (الذي لا علاقة له بالكاتب السويسري) كان يدعوه «التوأم الأقرب إلى كافكا».
في العام 1929 في مقالته عن روبرت والسر أكد والتر أن كل ما كان على الكاتب أن يقوله كان مغلفًا بشكل رئيسي بأهمية الكتابة نفسها:
«في اللحظة التي يمسك بها القلم في يده، توقفه حالة من اليأس. وكل شيء يبدو ضائعًا بالنسبة له. شلال من الكلام ينسكب إلى الخارج متضمنًا في كل جملة الهدف الوحيد لتقديم ما سبق ونسيناه، وهذا «العار»، «هذه الملاحقة، الغباء الفني»، يتحول إلى أكاليل من اللغة بأفكار تتدفق منها على شكل «نشال مشاغب وعبقري مثل الأبطال (……) الذين يخرجون من الليل عندما يكون في أشد السواد حلكة». تومض في هذا السواد على أية حال، مصابيح هزيلة من الأمل.
ومع ذلك فإن الأمل الذي يشع إلى الأمام في لحظات المعرفة الذاتية يتجاوز هذا، والنغمة التي يصفها والسر هي أي شيء إلا أنها هزيلة. وعلى عكس ذلك، أنها سمو يشعر به الكاتب عندما يصل إلى السمو في تفاصيله الدقيقة في حياة كل يوم. وبينما يمر الرواي عبر الريف اللطيف، يصل إلى حالة من الانتشاء يجد فيها علاقة شبه مقدسة مع الحاضر.
«شعرت أن أحدهم كان يدعوني باسمي، أو كأن واحدًا كان يقبلني ويطيب خاطري (…..)
روح العالم فتحت، وتخيلت أن كل ما هو خبيث مقلق ومؤلم كان على وشك الزوال (…..).
كل ذكر للمستقبل بهت، وللماضي ذاب. في الحاضر المتلألأ أنا نفسي تلألأت (…..) العالم الداخلي (……) في ضوء الحب الحلو، أعتقد أنني كنت قادرًا على التعرف عليه أو المفروض أن أحس به – وذلك لأن عالمي الداخلي هو العالم الوحيد الذي يبقى حقيقة.
ومع ذلك فـتوم زاك، العملاق المعدم الذي اجتاز ممر الراوي قبل وقت قصير، هو حتمًا صورة مرآة للكاتب، الذي لوح بالمصير المخبأ له. لا يسع الإنسان إلا أن يبقى متسائلا ما هو التأثير الذي تركه – وهو قد أمضى آخر 27 عامًا من حياته في مصح – على الأدب الحديث (أو حتى التاريخ الأوروبي)، لو كانت كتاباته قد لاقت جمهورًا أوسع.
وفي تعليق قد يكون قناعة ساذجة في تأثير الأدب على إنقاذ الإنسانية من كوارثها، أكثر من انعكاس المسافة غير الموصولة بين حساسية والسر الفريدة والأجواء الثقافية التي دارت خلال ظهور ألمانيا النازية وفيما خلفته الحرب، فإن هيرمان هيسه ادعى مرة أنه «لو كان الشعراء أمثال روبرت والسر يمكن تعدادهم بين المثقفين الطليعيين، فلم يكن لتكون حربًا. لو كان له 100000 قارئ لكان العالم مكاناً أفضل.
في مقالته «Le promeneur solitaire « يصف سيبالدي صعوبة تصنيف والسر. فمن جهة كان مظلومًا بتأثير الظلال، ومن ناحية أخرى بالود الذي يشع من حوله. ألف أعمالًا فكاهيةً لمجرد يأسه من الحصول على نثر صعب المنال، يتبارى مع صور متحركة وأشكال سريعة الزوال.
ما يخصه هو، كان بمثابة كتب مستمرة تخلو من النفس التي قد تكون مخفية خلف مجموعة منسقة من العابرين. كان يكتب تقريبًا نفس الشيء، ومع ذلك لا يكرر نفسه.
يشير سيبالدي أن كتابة والسر كانت تتجه نحو تصغير جذري واختصارات منذ البداية، بينما تستعرض في نفس الوقت نزوعًا مناقضًا إلى التفاصيل الموصوفة بدقة الزخرفة العربية المتلاعبة. وبالعودة إلى قسم من كتاب والسر التي وجدها توًا بشكل خاص ذات معنى يكتشف سيبالدى أيضًا طبقة أخرى من المفارقة في عمل الكاتب السويسري، إيجادها كان صعبًا وإدراك ما هو الذي التقط اهتمامه، وحتى هذا، الطبقة العميقة من التقدير تتحول إلى شبح يذوب أمام عينيه المحتارتين.
عبر «المشوار»، يتطابق المشي مع حركة الكتابة مع تلاوة قصة، وهي أيضًا تساعد في تشتت الانتباه عن القضية الأساسية الذي يتناولها والتي تصبح واضحة في الصفحات الأخيرة من الكتاب. وهكذا تصبح الكتابة وسيلة للهروب من الحياة، وأسلوبها يتابع التأجيل. وأكثر من ذلك، بالإضافة إلى نشوة والسر العميقة بالطبيعة وتمارينه في المشي لمسافات طويلة والتي مارسها طوال عمره، هنالك مؤشرات متعددة بأن معظم -إذا لم نقل كل- مقابلات الراوي هي رمزية لشيء أكبر من رسومه الكاريكاتورية الذكية. ما تقترحه بداية «المشوار» إذًا ليست الرواية التي يصلنا المضمون المستمر الذي توحي به، ولكنها استعارة رمزية… مسلسل من المقالات القصيرة الموصولة مع بعضها لتشكل القوى الخارجية التي تسود على وجود الكاتب.
السلطة الأكاديمية الجامدة، والحقيقة المظلمة أن الأدب الذي له أكبر سوق ناجح هو أيضًا الأدب الذي له أكثر المعجبين، الاهتمامات الخانقة لجمهور من المحسنين الجهلة، ضرورة البقاء مجاملًا لرجال السلطة الذين يحتقرهم كليًا، هي بعض المقاييس الاجتماعية التي يضطر الكاتب على التحرك ضمنها. بالنسبة لوالسر، تقلبات السوق والرأي العام وسلطة النقاد والأكاديميين، أصبحت أعمدة قفص عزلته حتمًا عن ممارسة عمله.