في الشعر وحده تعود الأرواح
إلى حقولها المنسية
يولد حجر الروح مائيا وشفافا
تولد مرساة الروح
حدّثها عن عصافير الدوري تحت رذاذِ المطرِ المتواصل ، تتطايرُ حول الأشجار المعتمة ثم تعود وتحطّ عائدة إلى أغصانها مرّة بعد مرّة ، تتطايرُ وتعود كأنها لاتدرك أن الكونَ كله مطرٌ أبديّ يواصل زخاته ، وليس حدثا عابرا يحدث لمرة واحدة وينتهي .
الأرجح أنها لاتملك مكانا آخر تذهب إليه أو ذاكرة تتصل بأمكنة أخرى . الشجرةُ هي الكون كله . وعلى امتداد الشارع الغارق بالمياه والسياراتِ المتباطئة والمتوقفة ، وتلك التي بدأت تعتلي الأرصفة وتسير بضعة أمتار ثم تنغرس عجلاتها في حفر جانبية مهملة ، تراءت صورُ هذه الأكوان الصغيرة ؛ الأشجارُ خط طويل متمايلٌ في الريح ، وخلفه سماءٌ يخفف عتمتها ضوءُ غروب باهتٍ وأشباحُ عصافير صغيرة مبتلة تطيرُ وتعود مزقزقة إلى أعشاشها ثم تفرّ ، وهكذا في دورة لاتنتهي .
كانت الزقزقة وصوتُ المطر الشبيه بالنشيج وضوءُ الغروب الباهت ورائحة الإسفلت المبلول كلها في مخيلته حين بدأت تحدّثه عن قصائد الهايكو الشبيهة بقطراتِ ماءٍ تومض عالقة على أطراف شجيرة مندلينا خضراء منسية ، تتساقط قطرة قطرة . وهو يقرأها بعربيةٍ صافية ، تراءى لها وجهها في كل قطرةٍ بملامح مختلفة . مرّة وهي طفلة في غرفةٍ مهجورة من غرفِ البيت تصغي إلى خطواتٍ لاترى ، ومرّة وهي صبية تتعلق بأذيال أبٍ عائد من الحرب العالمية الأولى مع كهولته برائحةِ الأعشاب والعوسج والبارود بعد أن ترك كل هذا في أحلام غادرها ولم يعد يتذكرها إلا لماما ، ومرة وهي شابة تنتظر المساء الطيب الوديع القادم من حيث لاتدري إلى فراشها المترجرج في المرآة .
المرايا هي كل ما تذكرُ في هذا البيت الواسع المحتشد بخطواتٍ لامرئية كما كان الأمرُ في الماضي ، وكما سيكون في الأيام الآتية ، مرآة للقلقِِ ، ومرآة للانتظارِ ، ومرآة تذكّرها دائما أن وراء هذا الواقع واقعا آخر ، ضحكته أسنان من نعنع ، وإيماءاته ومضاتُ أقمار تتوالى طيلة الليل .
في الطريقِ إليها حدّث نفسه ، أن كلّ هذا حلمٌ لابد أن يقطعه حتى آخر فيافيه ؛ ستومض في جنباته أضواءٌ آتية من عصورٍ سحيقة مثلما تأتي أضواء النجوم التي تتشكل في هذه السماء ، وتنحني تحتها منحنيات الأرض وتنعطف باتجاه مدنٍ راجفة وساحاتٍ خالية ، وسيحتشد بأصواتِ جوقاتٍ موسيقية عالقة في أقبية قصور بناها رحالة رحلوا بلا عودة ، وفضاءاتٍ بين خيام تتوقد نيرانها حتى مطلع الفجر قبل أن يداهمها النعاسُ ، وشفاهِ نساءٍ غنين ذات ظهيرة للينابيع وعصافير الدوري قبل أن يتحوّلن إلى حجارةٍ في مواجهة الصحراء .
لابد أن عصافير الدوري ما زالت تتطايرُ ، أو طار بعضها إلى مكان آخر ، فالليلُ حلّ أخيرا ، وبدأ صوتُ المطر يفقد شفافيته ويتكاثف مع انتشار الليل في طرقات الحي المقفرة ، وتتسارع دقاتُ أنامله التي لاتحصى على زجاج الصالة ، طلبا ربما للقليلِ من الضوء الخافت ، والقليل من الراحة بعيدا عن الرياح التي بدأت تعصف به ، وأشباحِ الأشجار التي انفردت به قادمة من كل الاتجاهات .
كانا وحيدين ، سيدة ممتلئة في خريف العمر تذكر بشرتها البيضاء بمحظيةٍ منعمة في قصر عباسي بآلاف الغرف والممرات ِلانراه إلا في الحكايات ، وزائرٌ دعته بعد أمسيته الشعرية الأولى إلى بيتها للحديث فقط ، لمتعة الحديث عن قصائد تسمع بها لأول مرة ، قصائد تلمس قلبها لأول مرّة بأصابع من ماء وريحان على حد تعبيرها .
قالتْ تقدم نفسها ، وهي تردّ طرفي فستانها المخرم على ساقيها البيضاويين ، انها نصفان ؛ نصفٌ من تلك السلالة الضائعة التي أقامت ممالك في أواسط آسيا في القرون السالفة ، ونصفٌ من تلك السلالة التي خرجت من الصحراء برفقة صقور وسبايا محلومٍ بها وظلالِ قصورٍ وارفة تسننها أطراف سعف النخيل .
وقال من دون أن ينظر في عينيها ، أنه واثق من أن هذه البلاد الموصوفة تترامى على الحافات دائما ، حافات المياه والرمال ، وحافات نسور القوقاز ، وحافات عاج الفيلة الأفريقية المتروكة في السهوب تنهشها الجوارح ، حافات تورثنا القلق وسواد العينين ورائحة المجامر بعد سقوط المطر .
وضرب قلبه فجأة رنينٌ حزين ؛ رنينُ أوتار سيتار رآه في معبد هندي تتردد فيه أصوات المصلين :
« لو كنتِ آنذاك معي ، لتبينتِ عصافيرَ سجينة في عيني عازفِ السيتار، ولكنتُ تبنيت ُ في ساقيكِ ارتجافة الشهوة ، ولخرجنا هاربين معا تلاحقنا لعناتُ المصلين وسهام الخدم وصراخ الفيلة «
« أهذه قصيدة هايكو أيضا ؟ أظنكَ قلتَ أنها لاتتجاوز السطور الثلاثة . لماذا هذا الهرب ، لماذا هذه اللعنات . أنا أصدق حكاية هذه الرقصة ، وربما عيني العازف النهمتين .. أما البقية .. ! »
« صحيح ، سطور ثلاثة ، ولكن البقية حروفٌ ممحوة ، يخطر ببالي أحيانا أن أتفقد آثار ما قد يكون محاه الشاعر ، آثار هذين الهاربين مثلا ، لابد أن الهايكو الأصلية كانت عصافير سجينة وارتجافة ساقين وما بينهما رنين أوتار سيتار . هل حدث شيء بعد ذلك ؟ لاأدري ، ولكن لهذا المطر حافة تفتح مخيلتي على ما حدث بعد ذلك حين توقف الرنينُ وتوقفت راقصة المعبد فجأة ، وتبادل المصلون النظرات ، لابد أن شيئا حدث وأومأتْ إليه القصيدة»
« ربما حدث هذا فعلا في ذلك اليوم .. أو ماذا أقول ؟ في عتمة ذلك الخيال التي توقف أمامها الشاعر ولم يجرؤ على الدخول ..»
وضحكتْ ، فلمس في ضحكتها تلك الحشرجة التي لم تغادر سمعه منذ أن كانا يتسلقان الجبل القوقازي ، ويشرفان لاهثين على قرية نائمة تحت غبش صباح لااسم له . ولفتتْ نظره شجيرة صنوبر صغيرة ، بونساي ، في أقصى الصالة تسلط عليها ضوء مصباح كهربائي ، فوق شكل بيضاوي من خزف أسود لامع . وقبل أن يسألها عنها ، أضافتْ صاغية إلى صوت المطر :
« من يعرف ماذا يحدث في الجانب الآخر من المرآة ؟ لو كنتَ في غرفتي قبل سنوات لرأيتَ كم مرآة حطمتُ ، ولسمعتَ صراخي في غرف هذا البيت وأنا أتنقل من غرفة إلى أخرى ، إلى أن أصل إلى بوابة الحديقة الخالية إلا من شجرة مندلينا باقية تذكرني كلما بكيتُ بكل ما مضى . حين كان يتساقط المطر ، مثلما يتساقط الآن ، كنتُ أخرج وأتجوّل هناك مبتلة أتنفس بعمق عبقا يصعد من التراب والعشب ، فيملأني شيءٌ ما ، يهمس بي من كل الجهات ، أنا هنا .. أنا هنا .. وأدركُ أنه موجودٌ في رائحة شجرة المندلينا يبكي مثلما أبكي»
ونظرتْ في عينيه مباشرة :
« أنت لاتؤمن بمثل هذه الأمور ، ولكن هذا هو مايحدث معي كلما تساقط المطر ، وبدأ يتصاعد نشيجٌ مكتوم من كل الجهات . الكونُ كله ينشج من أجلي ، فأقف مبهورة ، ليس بيني وبينه إلا مابينك وبين خيالك في مرآة . يبدو أنني أنتقل في تلك اللحظاتِ إلى الجانب الآخر من العالم .. قد لاتؤمن ، ولكن هذا مايحدث»
صرف نظره عن شجيرة البونساي .
وفكر أن لديه هو أيضا أشياء غريبة يقصها . في تلك الأمسية الشعرية ، وقبل أن يصل إليها ، وحتى مع وجود عشرات الوجوه ، كان جوّالا بين أشباحه ؛ يشد ردنه هذا وذاك ، ويراقبه آخر من زاويته البعيدة ، وتوميء إليه طفلة من شرفة عالية ، ويميل تمثال امرأة ويدلق تحت أقدامه الماء من جرة حملها منذ اكثر من ألفي عام .
كان ممتلئا بأكثر من عاصمة ، ولكن لاعاصمة واحدة منهن للقلبِ أو للقصيدة أو للرواية . وحاول أن يثبّت نفسه في قطرةِ ماء أو دمعة ؛ قطرة واحدة تكفي لتوحي بمرآةِ السماء والأرض معا .
البحارُ زاخرة ، والجداولُ والأنهارُ ، وتلك القرى بين المرتفعات ، والغابات المعتمة أوالناصلة الألوان ، ولكن قطرة واحدة يمكن أن يرتجف فيها كل هذا ، وتلتمع فيها كل الوجوه ، ماتعذب منها وما تهلل ، ماتحجّر وما جرى مجرى السيول . كل الوجوه يمكن أن تجتمع في ثلاثة أسطر ناسكة لها هيئة ذلك الراحل على الطريق إلى الشمال البعيد ، متوكئا على عصاه أو ساحبا قدميه في نعال من قش . كان هذا هو ميلاد فكرة القطرة التي تتعلق على أطراف الشجر ، شجر مثل السرّيس أو الغار أو الدفلى ، وترى فيها نفسكَ ، ماضيكَ وحاضركَ ، وما سيأتي من ذكريات . سيكون الزمنُ أقلّ تسارعا في المنمنمة الصغيرة . تبدأها لمسةُ فرشاة عفوية ، سريعة وامضة ، ثم تنتهي بلمسةٍ يهدأ معها القلبُ كما لو أن ناقوسا دقّ دقته الأخيرة ثم تلاشى في الفضاء اللانهائي .
كلّ هذا لم يفكر فيه حين بدأ يترجم قصائد المعلم باشو ، ويحاول ، وهو يصغي إلى إيقاعها المتوتر المكتوم بين ثلاثة أسطر ، أن يحاكيها . يمسك بفرشاةٍ من قصب ويكتب متذكرا قرى خالية وطرقات موحلة ونسيم يمرّ بين أوراق الزيتون . الآن وهي تستمع إليه بين جمهوريرتفع ضجيجه ما أن يغادر مقاعده ، بينما تظل هي صامتة وحيدة تراقبه ، يدركُ أنها لم تعد تستطيع مغادرة القطرة التي وصفتها أو الإفلات منها ؛ في زمن الومضة يمكن أن نختصر أزمانَ عصورٍ طويلة ، ونبقى جميلين طيلة دورات الفصول ، يمكننا أن نستقر أخيرا في لغة عربية عادتْ إلى طفولتها ، ونسيتْ مراياها المحطمة ، وذلك النشيج الباكي الذي يتصاعد كلما اقتربنا من شجرة مندلينا.
« بلى .. لدي إيمان بالمعجزات ، بتلك اللمحة السريعة التي نلتقطها أحيانا حين تتلامح الأبدية كأنما من شقوقِ جدارٍ يرافقنا ويمتدّ معنا ما امتد الطريق . بين الحين والآخر يتوحد جسدان ، يتوحد ما مضى وماجاء وما سيجيء ، وعندها تتلامح الأبدية في لحظة»
« أنا أعيش ما تسميه لمحاتٍ في كل وقت ، أنا غريبة لاشيء يجري في ذهني بالتتابع ، كلّ شيء حاضرٌ ، أسمع أصواتا حالما أضع رأسي على المخدة ، أنها لاتتركني أبدا . الكلّ يتحدث إليّ في العتمة ، الكلّ يود أن يدخل ، يبكي ، يتحسر ، ماهذا ؟ هل أنا شيء آخر ؟ سترى بنفسكَ هذا البكاء والنشيج يتصاعدان كأنما من الأعشاب والشجيرات اللطيفة والتراب ، ويتسرّب كل شيء إلى داخلي»
نهضت ، وأخذتْ بيده ، ورفعتْ باليد الأخرى طرفَ ثوبها السابغ ، فتلامح من مخرماته بياض جسدها مثلما تتلامح نثراتُ ضوء بين الظلال . سواده فوق الخصر والنهدين بدا للحظة قاتما وهي تتحرك نحو بوابة الحديقة كأنها شبح يتحرك في ماء الليل ، وهناك توقفتْ هنيهة ، ثم أفلتت يده ، وخطت بحذر. بدأ شبحها يغيب تحت الرذاذ . كان المطر يخفف من زخاته الآن ، ويتناثر ضبابيا في الهواء الساكن. الشجيرات مبتلة ، ولا صوت سوى صوت قطرات المطر . وشيئا فشيئا بدأ يتصاعد نشيجٌ شبيه بالنواح ، وهناك في العتمة الضبابية رآها ترفع رأسها وشعرها ينسدل مبتلا على ظهرها وتسلم وجهها الغائم مغمضة العينين وتميل كأن كائنا خفيا أخذها بين يديه . سمعَ تهدّج انفاسها ، كأنما اعتصرتها قوة عاتية ومالت بها جانبا ، وغيبتها عن بصره .
لم يدم المشهد إلا دقائق متلاحمة مثل رقاقة ذهبية طويلة ناعمة ، لم يعد يسمع سوى صوت قطرات المطر ، وتهدّج أنفاس آتية من كل مكان ، من شجرة المندلينا ، من الشجيرات القصيرة المرتجفة بمحاذاة السياج ، من العشب ، من المطر . وبدأ كل شيء يتنهّد الآن تنهداتٍ متلاحقة مرتجفة . ومن مكانه على طرف الحديقة خيل له أن ثمة جسد ماثل على العشب تحت المطر يرتفع عن الأرض مغمورا بالضباب بجوار شجرة المندلينا ، مستسلما لتموجات خفية تأخذه في خضمها من جميع جهاته ، وهناك بمحاذاة السياج وتحت الرذاذ ينظر ويصغي قطيعُ وعول جبلية لايعرف من أين جاء ، وتهدل حمائم بين سعف نخيل لاوجود له ، وسمع ناياتِ رعاةٍ في سهوب نائية ، وحفيفَ أجنحة نسور ، وصوتَ حوافر خيل . وفجأة توقف كل هذا ، توقفت التنهداتُ ، وانقطع النشيجُ ، وابتعدت الوعولُ وأصواتُ النايات وحفيفُ الأجنحة ، وبرزتْ السيدة عائدة من العتمة متثاقلة الخطى ، تمسح عن وجهها قطرات المطر ، ثوبها السابغ يلتصقُ بجسدها ، وأصابعها تتلمس أطرافه وتجمعها . كانت تبتسم ابتسامة حانية ، إلا أنه لاحظ أن الإبتسامة لاتغادر شفتيها إلى عينيها ؛ كانت ساهمة ، في عينيها خواءٌ يشبه خواء ليلٍ رقيق إنطفأتْ فيه ومضاتُ النجوم .
بعد أن عادا إلى الداخل ، واستقرا على مقعديهما ، بدا أن ملامحها نسيت كل شيء ، أو لم تعد تتذكر ما حدث ، فانتقلت الإبتسامة إلى عينيها ، ضحكتْ ، ألقت نظرة لامبالية على الأوراق التي كان يقرأها قبل أن يخرجا إلى ليل الحديقة ، وقالت كأنما لتشجعه على الاسترسال في حلمه أو حلمها :
« يخيل إليّ أنني بدأت أحبكَ ، حبّ الطريدة لهذا الذي لايتخذ شكل رجل بل شكل زهرة برية . سأفهمُ أنني مطرُ الربيع في سطوركَ الناسكة ، وأنكَ أشجارُ البرقوق ، سأفهمُ أن هذه الليلة التي ستنتهي بفواكه نصف مقضومة ورائحةِ تبغ وسريرٍ تحجّرت أغطيته المشدودة وهديرِ جسد لاينام ، ستكون ليلة عرس لم يكن ولن يكون»
وفكّر :
«وسأفهمُ أيضا هذه الإيماءة إلى ذلك الذي يحفرُ ويحفر ثم ينظر فلا يجد بين يديه سوى السراب ، وهذا السؤال العابث والفجر يقترب بضوئه اللبني من رؤوس الأشجار عن بهجة الفراشة التي يجتذبها الضوء فتحترق . سأفهم كل هذا ..»
وهمس هذه المرة كأنه يحدث نفسه ، وقد قرّر أن يجاريها وينسى أيضا ما رأى :
«.. يدهشني أنكِ أصبحت تجيدين التنسك أمام مشهد سطر أو سطرين ، وتتكاثرين بعفوية بالغة مثل حقل من أزهار النوير ، ولكنك ما زلت تترددين أمام هذا البحر الذي أسميه قطرة ، ولاتدركين معنى رقة الصيف ، ولا الحزن الذي ينبعث حين تتساقط أزهارُ الرمان ، ولا هذه الرغبة التي تنسرب في النسغ الصاعد إلى الأغصان . هل تسمعين الرنين فقط ، رنين هذه الألفاظ ، ثم تلتفتين جانبا أيتها الشوكة الحجرية ؟»
« دعني أقلْ لكَ شيئا .. ربما لايصلكَ إحساسُ الطريدة المحاصرة من كل الجهات بالأيادي التي تتلمس عنقها ، بالعيون النهمة ، بالهمسات الأكولة ، ولكن هذا الإحساسُ يسيّجني ، ويلقيني في ظلمتي . هكذا أرى كل شيء في الضوء وأنا قابعة في الظلمة ، وأنا سائرة في الظلمة ، وأنا مطلة من الظلمة . هذه بهجتي الوحيدة ربما ، وهذه الحديقة التي رأيت . أنا من الطبيعة ، لست من هذا العالم ، أنا ..»
ومحت الكلمة الأخيرة :
« .. ها أنا أمحو أيضا . أنا قادرة على المحو كما يفعل شاعركَ الراحل دائما وحيدا على الطرقات في مساء الخريف ، شاعرك الذي يشجيه صوت البط البري ، ويرى الكون في زهرة صغيرة متواضعة بجوار سياج مهمل . إذا أردتَ البقية .. أنا في الظلمة الأبدية ، لن تراني ، ولكنني سعيدة أن أراك .. هذا الصمت الذي يطول بيننا لايبعث في نفسي الهواجس ، صمتكَ مريحٌ أتمدد بجواره بلا قلق»
« ومع ذلك ، ها أنا أراكِ في الظلمة واضحة مثل هالة . ربما لأنني من كائنات الليل أيضا . نحن على الحافة معا ، أريد أن أراك بالفعل ، أشعر بكِ مجتمعة بكل أزمانكِ ، فحمة سوداء ضغطتها آلاف العصور وضغطتها إلى أن تحولت إلى ماسة بريئة لامعة . أنتِ لستِ الليلَ ، بل ضوء آلاف السنوات الذي يصلني الآن قادما من أغوار لاتعيها ذاكرة كائن أو صخرة على هذه الأرض . الصمتُ لغة وكلمات أيضا ، ليس هوة تفصل بين اثنين»
تبتسم ابتسامة نحلة عرفت آلاف الأزهار ، وتشيع الإبتسامة في أعضاء جسدها شيئا فشيئا . تعيد تسوية شعرها المنسدل على انحناءة الكتفين ، وتربت على طرف فستانها المخرم ، ولكن ابتسامتها ترتد ، تنحسر عن عينيها بسوادهما وأهدابهما الثقيلة . وخطر له أنهما مخيفتان هكذا رغم ومضات رقيقة عادت تتردد في أغوارهما البعيدة . وبدا له أن كلماتها التي بدأت تأتي بثقة وخفة ، وتلقيها بإهمال حولها ، لاتأتي من تلك الأغوار بل من ضوء مصباح سيطفأ بعد قليل ولن تتذكره ، ولن تعود إلى تذكيره به . وتمنى أن تستعيد كلماتها عتمتها تدريجيا ، ومع تقدم الليل . عندها يمكن أن يتسق سواد العينين المخيفتين بأهدابهما الثقيلة مع الإبتسامة المعتمة كتناسق ملامح تمثال بازلتي قدّ من حجر واحد ، وسربلته قطرات مطر تنزلق على خصلات شعره وعينيه وشفتيه وصدره وتنحدر إلى ما بين الفخذين.
« .. هكذا يمكن أن يحتويها ، يأخذها إليه بصلابة جذع شجرة ، أو صخرة حتى..»
هذا ما التمع في ذهنه قبل أن تقاطعه :
« هل تود أن تشربَ شيئا قبل أن تذهب الخادمة إلى غرفتها ؟»
« لا .. شكرا ، شربتُ ما فيه الكفاية»
« إذن لنرجع إلى شاعركَ الياباني»
« حين حدّتثكِ عن عصافير الدوري ، كنتُ أفكّر بثلاثة أشياء معا ، ذلك الشاعر الطفل الذي دعا الدوري اليتيم الذي لا أم له ليلعب معه ، وهذه العصافير التي رأيتها تتطاير تحت زخات المطر فوق رؤوس الأشجار ثم تحاول العودة إلى أعشاشها من دون أن تدرك أن الكون مطرٌ في كل مكان . وتلك العصافير التي كنت أنصب لها فخا في طفولتي .. كانت أجنحتها تتطاير حول الفخ بالعشرات ، فأطير فرحا وأهرع لأجد واحدا منها أطبق عليه الفك الحديدي ، أسفي أنني نسيت ملامح تلك العصافيرالتي كنت أصطادها ، وآسف أكثر لأن تلك الذكرى تنمحي ما أن أقترب منها . مؤلم أن يفكر الطفلُ باصطياد العصافير بدل أن يدعوها لتلعب معه»
لم يقلْ لها شيئا عن السبب الرابع ، عن الخاطرة التي مرت به حين رآها وحيدة صامتة في القاعة ، تراقبه وتنتظر أن ينفضّ عنه من يحيطون به ، ثم وهي تقبل عليه مثل شجرة بأغصان وارفة ، تمد يدها إليه ، وتكاد تحتضنه بصوتٍ هامس :«أنا أيضا من عشاق هذه الهايكو اليابانية» . لم يقل لها أنه في تلك اللحظة لم يعد يشعر بشعور عابر أو جوال ، أو شعور الغيمة الذي كان ينتابه كلما ألقى قصائده وغادر ، وإنه ود أن يقول لها أنه لن يغادر بعد اليوم . ولكن ما بدأ يشغله الآن هو شجرة البونساي الصغيرة ، الصنوبرة التي تبرزكما اتضح له الآن من فوهة جرة خزفية سوداء مفلطحة في أقصى الصالة ، صنوبرة جبلية يتسلط عليها ضوء مصباح كهربائي ، خضرة حقيقية ، وأغصان وبرية حقيقية ، وجذع حقيقي ، ولكن بحجم دمية لايتجاوز طولها عشر أصابع .
« أنت مشغولٌ بأصدقائك العصافير منذ بداية هذه الليلة ، هل هي كثيرة في بلادكم ؟ نحن هنا نعرفها أيضا ، وكثيرا ما شاهدتها تتجمع في الحديقة ، وكنت أنثر لها حبات الرز دائما ، عصافير سمينة ، شبعانة ، فرحة»
قال باهتمام قليل :
« شاهدتها في بلاد كثيرة ، في صغري ، وشبابي ، والآن وأنا على مشارف الأربعين ، وكنت أتساءل دائما ؛ هل هي ذاتها عصافير الطفولة ؟ بالتأكيد هي ليست ذاتها ، ولكن العجيب انها متماثلة ، نصادفها في كل منحنى من منحنيات أعمارنا ، كأنها ترافقنا»
وعاد إلى التفكير بشجرة البونساي . كل شيء حقيقي وحيّ ، ولكن هل يشعر الذين جاءوا بهذه الشجيرة الصغيرة أو البذرة أو الغصن ، ووضعوها في هذه الزاوية لترقب المطر من وراء الزجاج ، وقلموا أغصانها وقصوا جذورها في كل مرة جرى النسغ فيها ، وجاشت في جذعها رغبة الجبال والمنحدرات ، بالتعذيب الذي أوقعوه بها ؟ هل خطر ببالهم أن لها حلمها أيضا ، أن تكون شجرة ؟ هل يشعرون بما تشعر به وهم يقطعون أغصانها ؟ ، هل يسمعون بكاءها ، نشيجها ، هل ينظرون في عيونها الدامعة ؟
هنا لاحظت السيدة سكون نظرته واستغراقه في الزاوية البعيدة ، ولمست عزوفه عن الكلام ، فحدثت نفسها :
« يبدو أن كل ما هو طبيعي يجتذب نظره ، لم تلفتْ عينيه مجموعة الأزهار المجففة تحت السلم ، ولا امتدح حتى الآن هذا المشهد الطبيعي الصيني في الصندوق الزجاجي . بماذا يفكر ؟»
تنهدتْ ، وانتظرتْ « ربما عاد إلى طفولته وعصافيره ومعبده الهندي ! » .
وأخيرا خرجت من صمته وصمتها وسألته :
« أراكَ مهتما بهذه الشجرة الصغير ة ، هذه البونساي ، أليست جميلة ؟ هذه آخر هدية منه قبل أن يفتح ظله ويختفي فيه ، أعني زوجي . تذكّرني هذه البونساي أنه مازال في العشرين من عمره . هل يكبر الموتى ؟ بالتأكيد لا . ليتنا نستطيع أن نجد من يقلمنا مثل بونساي ، سواء كنا من صنوبر أو سرو أو تين أو زيتون ، عندها لن نكبر أبدا ، سينسانا الزمان ، سيضعنا أحباؤنا في هذه الزاوية أو تلك ، ولن تكون للموت زيارة بعد اليوم»
اضطربتْ تموجات أفكاره قليلا . قد لايكون جوابه لائقا إن قال مافكر فيه . أليستْ جميلة ؟ لم يكن هذا سؤالا ، بل إيمانا مثل إيمانها بذلك الشبح الذي يحتضنها كلما تساقط المطر ، وخرجتْ إليه في العراء . مثل إيمانها بأنها مجبولة من نصفين فعلا ، نصف من دخان قرى أواسط آسيا ونصف من صهد الصحراء وظلال نخيلها . بماذا يُردّ على الإيمان ؟ جيد أنها تتمدّد مرتاحة بجوار الصمت ، لاتلحّ على الإجابة ، ولا تعترض على غرائبه وأشباحه . ومع ذلك هما اثنان حتى الآن . هذا الجانب المتموج الذي لمسه فيها لاينبعث إلا في الحديقة تحت المطر ، وهاهي ترتد إلى حالة أشبه بالحالة الحجرية حين تتوقف الابتسامة ولا تصل إلى العينين . كأنها بالفعل من نصفين . ترى هل تعرف أنها من نصفين لايلتقيان حتى لو تموج كل العالم من حولها ؟
«هه .. أين أنتَ ؟ هل تحوّلتَ إلى بونساي أنت أيضا؟»
ضحكَ لهذه الفكرة ، التفتَ اليها ، ونظر هذه المرة مباشرة في غور عينيها بلا وجل ، وربّت بيده على طرف مقعده . حركة لم يخف عليها أنها حركة مجذاف ضائع :
« هذه البونساي سجينة ، معذبة ، أفكر كم مضى عليها في سجنها . لا أستطيع تحمل مشهد صنوبرة جبلية في جرة ، كيف لهم أن يكونوا سعداء بمشهد طفلة قيدوها وحطمو عظام قدميها ، لتظل طفلة لطيفة ممتعة تتمايل هيفاء مثل سروة؟»
اتسعت عيناها دهشة لأول مرة منذ أن التقيا ، أسبلت جفنيها الثقيلين خشية أن يكتشف أول تعبير في ليل عينيها . لوتْ شفتيها ، وغامت الابتسامة الحانية لأول مرة أيضا . ومع ظهور هذا التحوّل بدأ يسمع دبيبا فوق الزجاج ، أصابع المطر مرة أخرى . ونقل بصره بين الزجاج وبين عينيها قلقا . وبينه وبين نفسه تساءل « هل عاد شبحها المقيم كما يبدو في شجرة المندلينا ؟ هل لها اتصال فعلا كما تقول بالطبيعة ؟ « وود أن يضيف شيئا يتدارك به ما خيل إليه أنه سوء فهم ، ولكنها فتحت عينيها ، افترت شفتاها عن خيال ابتسامة ، ابتسامة آسيانة هذه المرة ، مشفقة :
« لاعليك ، لن أسيء الفهم أبدا . لم أجد حتى الآن من يفهمني ، لابأس ، أنا أفهم عذاب عصافيرك اليتيمة التي كنت تصطادها ، وشعورك بالفقدان . أنا أكثر إحساسا منك بالفقدان ، ولكن هذه شجرة لديها ، حتى في حجمها الصغير ، ما تشاء من ذكريات ، حتى صخور بلادها أرسلوها معها ووضعناها بجوارها ، لاأعتقد أنها تتعذب في سجنها كما تقول ، الم يتحقق لها الخلود ؟»
أدهشته لهجة الأسى في صوتها ، ولكن ما صعقه بغتة هو انها قرأت أفكاره . تردّدَ ، أمسكَ بفكرة بدأتْ تبزغ في ذهنه قبل أن تتضح ؛ أليست هذه السيدة بونساي أخرى ولكن على هيئة بشرية ؟ ليكن ما ستقرأه ، ألا يتشابه عذاب هذه الصنوبرة مع عذاب هذه المرأة الليلية ؟ تقيم في الظلام وأنتَ تحت الضوء ، آه .. لهذا السبب كانت قادرة على قراءة أفكارك مثلما تقرأ مباشرة خطوط راحة اليد . أو ليست مدعية لهذا النسب الذي يمتد على قارتين لتحمي نفسها ؟ أو ليست حكاية الطبيعة هذه هربا من خيال راقصة المعبد التي لم تصدق أنها ارتجفت شهوة وفرت مع عازف السيتار؟ يالهذه العصافير التي تتطاير فوق رؤوس الأشجار تحت زخات المطر !
« قلتُ ، ألم يتحقق لها الخلود ؟ ولم تقل شيئا»
إنتبه إلى قسوةٍ في صوتها ، ولهجةِ تحد ، وشيئا آخر فاجأه ؛ بدا له صوتُ السيتار بعيدا حتى لم يعد يسمعه ، ولم يعد يشعر بدبيبِ صوتِ المطر ، ولا بتلك الألفة التي شعر بها حين قالت « أنا أيضا من عشاق هذه الهايكو « . وخيل له أن بساتين نخيل وصنوبر وحقول نوير اختفت من حوله ، تحول إلى نهر يتلفت حوله ، لا يرى على امتداد البصر سوى الصحراء المترامية الكثبان :
« الخلود ؟ أي خلود هذا حين تحشر الشجرة في ممكن واحد من ممكناتها ؟ وأي خلود هذا إذا ضغطنا وجودنا في جرة ؟ حتى عصافير الدوري تظل تتطاير تحت المطر . كانت تعرف أن لاملجأ لها ، ومع ذلك اعتقد أنها ستظل تغدو بين الفضاء وبين أعشاشها حتى شروق الشمس . هي أيضا تقف على الحافة»
ندّتْ عن السيدة حركة تململ ، وهزت رأسها . أحنته للحظات قبل أن تنهض ، وتتجه نحو بوابة الحديقة مثل سائرة في نومها . لم تقل شيئا ، هي التي قرأت أفكاره ولاشك ، لم تلتفت خلفها حتى . فتحتْ الباب ، وسارتْ بخطى وئيدة إلى المكان الذي وقفت فيه أول مرة .
ومن مقعده وراء الزجاج ، ودبيب المطر يتسارع ويقرعه بعنف أشد ، وترتسم عليه أشباح أشجار كأنما غابة بدأت تلوح في الظلام ، شاهدها تتقدم باتجاه الضباب نحو أعماق الحديقة ، تتوقف مغمضة العينين ، مسلمة وجهها لقطرات المطر والنشيج الذي بدأ يتصاعد من كل الجهات .
محمـــد الأسعــــد
كاتب من فلسطين يقيم في الكويت