آنا حداد باتيستا
إن اللغة العربية هي من أجمل اللغات. بابٌ من أبواب ما هو مقدّس. نارٌ بدائيّة. زمنٌ قويّ. زمنٌ أسطوريّ. بالنسبة لماسينيون، لا تعاني اللغة العربية من فقرِ دمِ اللغات الحديثة. إن استراتيجيّتها مختلفة. لا تستخدم مقاطع واسعة وهرمية. لا جمل تخضع لأخرى ولا روابط تدريجيّة. تتخثر العربيّة وتتكثّف بقوّة الحديد وسطوع البلّور، الفكرة التي تنبثق من المقدس. (…) حروفها خدمٌ للوحي. نجومٌ في مدارات النّار، حروفٌ تشتعل، عالية وغير قابلة للفك، التي تنضمّ تدريجيّا بعضها مع بعض، لتشكل نظامات نجومية، بعد مسار النجوم، من الشرق إلى الغرب. – ماركو لوكيزي
إن الغوص، من السطح إلى العمق، في مجموعة أعمال الشاعر والروائي وكاتب المقالات والمترجم والتذكاري والأستاذ، ماركو لوكيزي، هو تحدٍّ محفوف بالمخاطر مثل القفز من أعلى درجة من برج بابل، هو الانهيار في متاهة، لا تحتوي بطبيعتها، رياضيًّا، على أيّ ثابت، إنها متغيّرات تشغلها مساحات من عدم لا يحدّد فحسب.
لدى لوكيزي مجموعة واسعة من الأعمال تتميّز بالتعددية حيث ينبغي إعادة النظر بجديّة في مفهوم نوع النصّ وتعدّد التخصّصات. رحلة لوكيزي الشعرية متاهيه وليست متكوّنة من خطوط الخلافة، ولكن من وميض مزعزع للاستقرار.
ماركو لوكيزي هو حاليًا رئيس الأكاديمية البرازيلية للآداب. يشغل فيها الكرسي رقم 15. ولقد تُرجم الكثير من مؤلفاته الشعريّة ومقالاته إلى أكثر من عشرين لغة، بما في ذلك اللغة العربية. يدرك لوكيزي الصّياغة الشعريّة كفكر يجب أن يقال دون أن يتطوّر فهو ما لم يكتمل، ومن أهمّ الأمثلة على ذلك، في مجموعة أعمال لوكيزي، هو التّجريبية العالية في كتابه”بدائيات في لغة لابوتار” : “إنها لغة ضائعة، سعيت، كعالم آثار صبور ويائس، إلى إعادتها إلى أيامنا، بحسب قدرتي، على الرّغم من العقبات العديدة التي خلقها غموض كتاب رحلات جليفر”.
ومع ذلك، فإنّ هذا الانبهار، على وجه الخصوص، باللغة العربيّة، يرويه الشاعر: “لا أستطيع أن أقول كيف ومتى سيطرت رغبة الجزء الشرقيّ على أحلامي القديمة. كيف يمكنني أن أشرح هذا الشغف الذي لا هدنة فيه، ويبدو عنيداً في داخلي؟ (…) أصبحت جاذبية العالم العربي لا تمحى مع بائع الحلوى المتجول -مذنّب السكر والعسل – الذي كان يمر بنا مرّتين في الشهر لبيع بعض الحلويات اللذيذة والملونة، التي كانت تفرحني، كل الحلويات الشرقية (…) على أي حال، البحث عن الجزء الشرقي قادني إلى لغة الصحراء. طلبت من أهلي مرافقتي إلى حي الصحارى، في ريو دي جانيرو، في شارع الجمارك، لكي أتمكن من التعلم من الجالية السورية-اللبنانية ما كانت تسمح لي به سنواتي الثمانية. (…) تعلّمت الكلماتِ الأولى، كلها تقريباً بطريقة نطقها من قبل المتكلمين بها من أصل سوري-لبناني، أما وصولي إلى العربيّة الفصحى فكان بعد سنوات عديدة. (…) وقد أعارني السيد مونيز كتاب قواعد اللغة العربيّة، لا أعلم أيّ شيء عن كاتبه. (من خيالات المجلس الغربي، ص. 56و57و58).
يروي ماركو لوكيزي بانفعال عن لقائه، وكان في شبابه، بالكاتب العظيم نجيب محفوظ: “سيدي محفوظ، لديّ فضول لمعرفة عملية الخلق التي تتبعها، والتي أتصورها مشابهة لعملية بيرانديللو الذي ظهرت شخصيّاته الرائعة بقوة ناريّة، واكتسبت استقلالية وخلودًا فاقا المؤلف الذي كان بمثابة جسر لها. نعم، ألاحظ وأتابع الأرقام التي رافقتني منذ الطفولة، والتي تضجّ بشكل غريب في مكان ما، فتصلني جاهزة في آن واحد، لتفرض نفسها بقوة أمامي، بينما أحاول أن أفهمها بشكل أفضل داخل الصفحة، حيث تصبح أكثر وضوحاً وصدقاً، وحيث، ربما، أصبح أكثر وضوحاً وصدقاً، من خلال التّعبير عن بلدي، عن شعبي، إلى جانب النيل، الذي نحن شخصيات فيه.”. (في الحنين إلى الجنة، 114 و125).
مع لوكيزي يمكن للصحراء أن تصبح شخصية، أي ليلى، كما هو الحال في النثر الشعري الآتي: “كان في أرض غريبة، في نهاية الليل، حين عانى بكاء المنفى من تأثير الرياح، عندما أبطأت الروعة الأشعّة الخفيّة الأولى تشنجَ الانتظار. لم تتغير جاذبيتك في الصمت وبالكاد تحملت شفتاك متن الكلمات، في هاوية البكاء. تجمدت أليافي… بقيت صامتاً، لأن الصمت سحق كبريائك، صفحة الزمن المندهشة، وغطى حضور النظرة المتبادلة، وكأن طوفان الكلمات، كان يتوسل بمحبة الى جفون الليل. (…) ولكن في ليلة من الليالي، يا ليلى، طفتُ على وجهك، يغمره الظلال، وكشف نفسه في توهج واضح، بعيدًا عن شرور المنفى، عن الوفيّات، في الأوراق التي تحملها الرياح، تباعد حزين مرمي في عمق الأشياء. وجهك يا ليلي، مضيء، وشفتاك منبع التناغم، حيث تسكن الآلهة”. (من كتابه عيون الصحراء، ص. 9)
إن شاعرية ماركو لوكيزي هي نوع من الأدلة، شبه القاطعة، على أن الأدب، قبل كل شيء، لا يتكوّن من أفكار غامضة وأفكار متناثرة. أي، من تلك التصريحات الشهيرة، المليئة بالثغرات دوماً والعادية جداً، والتي تقلّل من صرامة الأدب الحقيقي طارحة منه المسؤولية غير المقيدة لأولئك الذين أخذوا على عاتقهم كشف الأسرار العظيمة التي تحكم ليس فقط الكون. هذا أدب يحاور بهدوء، التاريخ والفلسفة والرياضيات والفلك والفيزياء وغيرها من مجالات المعرفة.
على سبيل المثال، فإن حوار لوكيزي مع التاريخ يمتدّ إلى رواياته. في ” دوم الجريمة”، يضع الراوي أصوات ماشادو دي أسيس، الكاتب البرازيلي العظيم، في سيمفونية مع تاريخ البرازيل. وهذا يؤدي إلى حوار مع الأدب المشّاديّ الذي يستعيد بوضوح تقليدًا تاريخيًا وأدبيًا. “أنا” تنأى بنفسها عن الحقائق التي سيتعامل معها في الروايات، وفي الوقت نفسه، يستعيد مناخات الماضي. ما الملامح التي تهيكل الحوار بين التاريخ والأدب؟ في هذه الحالة، ثمّة سُخرية صقلت بمهارة من يعرف وبعمق تاريخ البرازيل ويعرف تعقيدات الأدب المشاديّ الدقيقة أيضاً.
ويمتدّ هذا الحوار إلى رواية المؤلف الأخرى، وهي “أمين مكتبة الإمبراطور”. في هذه الرّواية يسود الحوار الطويل مع الكتب، مع المكتبات. قبل كل شيء وعلى وجه الخصوص، هي مسألة الحقيقة، والضباب الذي يحكم السيرة الذاتية، الحقيقة والخيال. هو تمرين متاهة في التأمل.
إن مقالات لوكيزي وقصائده ورواياته هي في حوار مستمر مع العلوم. ومع ذلك، فإن كتابه “التراتيل الرياضية” يلفت الانتباه، كما يشير العنوان نفسه في هذا الكتاب، إلى إن الأدب والفلسفة والرياضيات هي أكثر ترابطا، كما هو الحال في قصيدة إيروس:
في شعوذة منتشرة يتموج
رقمان شمسيّان محبّان
يداً بيد: الـ 220 و284
كل ما كان ينبغي أن يفعلاه
هو أن يلتقيا وان يُلقيا
الآيات التي حددتهما سوياً:
أنا أموت في داخلي لأولد فيك
لم تستخدم هذه القصيدة لغة تستعير من المصطلحات الرياضية، دون ضمانات، كما هو الحال عادة في المكان المشترك. لدينا هنا، قبل كل شيء، المفاهيم الرياضية التي تتحرر في عناق حب. اللهجة المثيرة والخفيفة جدا. شعر الرياضيات. “أرقام ودية. أرقام مضاربة. مجموع قواسمها يؤدي إلى الآخر” (من كتاب أناشيد رياضية، ص. 83)
استنتاجات موجزة
إن الحوار الشعريّ المتعدد التخصصات والمتعدد الثقافات الذي يقوّي الجسرَ بين شرق ماركو وغربه، يتم تنظيمه من خلال جماليّات المتاهة، المحكومة هي نفسها من قبل المعرفة. هو حوار دائم مع ممارسة الفكر. مع غير المكتمل: ما هو محسوس وما هو معقول يدلان على ما لا نهاية. التفكير مع بعض افتراضات ديلويز، فيما يتعلق بالأدب، ونظراً لما قدّمه هذا النص، فمن السهل تمييز أولئك الذين لديهم “نوايا أدبية”، والنادرين الذين يمكن أن يقال في الواقع أنهم كتاب. انتبه إلى التحذير المهم الذي قام به لإتوري فينازي-أغورو: “ما يدهش في ماركو ليس فقط اتساع أنشطته الثقافية (مترجم، ناقد، محرر مجلة، عالم لغات)، ولكن قدرته على التحرك من خلال هذه الأنشطة مع الحفاظ على تماسك الخلفية، والصرامة والقدرة على التعبير عن نفسه في التعددية قليلة الوجود، حسب علمي، في العالمّ، التي أعرفها” – (من ذكرى أوليسيس، ص. 10)
بالنسبة للشعراء الأصيلين، الذين لا يمكن نقل حرياتهم، تكون الجوائز ثانوية. ومع ذلك، من دون تردد يمكن التحذير بأن ماركو هو واحد من الكتاب الوحيدين في العالم والبرازيل، (ملغز، متعدد، متلألئ، متأرجح، متداخل) ، الذي يستحق الحصول على جائزة نوبل في الأدب.
إن خيط أريادني في جمالية المتاهات يمر بما هو سامٍ، سحر دائم، وهي توازن بين الهندسة المعمارية للمتاهة نفسها لأنها تجعلها سليمة وموسيقية. أغنية تجعل الأراضي تنهار وتهزّ هندسة المتاهة. ومن هذا المنظور البصري، تفتح قناعاتنا وتقسمها إلى فواصل زمنية. خيط أريادني، في هذه الحالة، ينطلق، يطير ويرقص ويحدّد يحدد الجسور التي تسمح بعبور لا نهاية له بين الشرق والغرب / الغرب الشرقي.