إعداد وتقديم: الهواري غزالي
يُعدّ محمَّد أركون من بين المفكِّرين الأكثر عقلانيَّة في تناول الظاهرة الدّينيَّة في العالم العربي والإسلامي؛ إذ ساهم في تجديد منهج المقاربة العلميَّة لها. ويعتقد محمَّد أركون أنَّ العالم الإسلامي الحديث ما يزال رهين ما أنتجته الفترات السَّابقة من تاريخ المسلمين على أصعدة مختلفة؛ من مفاهيم عقائديَّة ومذهبيَّة وسياسيَّة واجتماعيَّة، فقد ساهم هذا الارتباط بالماضي في نزع التَّماهي الذي كان ينبغي أن يكون بين الإسلام والمجتمعات الحديثة، وحرمها من الدخول إلى عصر النَّهضة بل جعلها تصطدم مع حضارات أخرى حديثة.
ولقد أفرزت هذه الظَّاهرة مشاكل جوهريَّة للعالم العربي الإسلامي، من بينها تهميش العقل وعزل الاجتهاد وتكفير المجدِّدين والاعتماد على يقينيّات وهميَّة قام الإنسان باستعارتها من الماضي دون نقدها أو فحصها، ممَّا سهَّل على الأنظمة التَّسلُّطيَّة الشَّعبويَّة استخدامها -خارج سياقاتها- لإغراق المجتمعات بالتَّخلف السيَّاسيّ والاجتماعيّ وتخدير وعيها الفردي والجماعي. ولذلك، فقد ركَّز محمَّد أركون على المناهج العلميَّة السَّليمة التي تحيد بالإسلام عن التوجُّهات العاطفيَّة والأيديولوجيَّة والميثولوجيَّة باعتماد الدراسات التَّاريخيَّة والاجتماعيَّة والأنتربولوجيَّة لغرض دراسة الظَّاهرة الدّينيَّة. وهي مناهج من شأنها الوصول إلى استنباط حقائق جديدة عن الإسلام تسهِّل على المجتمعات الحديثة فهم آلياته بإدماجها ضمن مساره المتطوِّر.
ولقد شاءت الصُّدف أن تكون سنة وفاته 2010 هي سنة فاصلة قبل اندلاع الثورات العربيَّة التي سمّيت بالرَّبيع العربي. إذ دخل جزءٌ من العالم العربي في عاصفة من الحروب الدِّينيَّة التِّي استمدَّ جزءٌ منها فتاواه من العصور الإسلاميَّة الأولى، والتي لا تمتُّ بصلة إلى الوقت الرَّاهن، وجزءٌ آخر قد استمدَّ فتاواه من سلطات الأنظمة واستخدامها للدِّين وهي تستغفلُ -بشكلٍ كاملٍ ومقصودٍ- عقول المسلمين لحسابات سيَّاسيَّة واضحة. وبقياس حجم الكارثة التي وصلت إليها بعض بلدان العالم العربي الآن، فإنَّ طرح محمَّد أركون الذي كان ينصبُّ على إصلاح المنظومة الفكريَّة للإسلام مرشَّحٌ ليكون منهجًا أساسيًّا يُعادُ النَّظرُ بفضلهِ في المناهج البيداغوجيَّة لتعليم الإسلام تجنُّبًا لما يمكن أن يُنهي ولو رمزيًّا بقايا الحضارة العربيَّة السلاميَّة للأبد كقوَّة شبه فاعلة في العالم، فضلا عن كون ما انهار من آثارها الشَّاهدة عليها وعمرانها الأصيل بسبب الحروب لا يمكنُ عدُّه بثمن.
ولد محمد أركون، عام 1928 بمنطقة القبائل، واِلتحق بكلية الآداب بالعاصمة قبل أن يصبح عام 1951 أستاذًا للغة العربية بالثانوية بالعاصمة دائما. أكمل دراساته العليا بجامعة السَّربون بباريس بعد أن قام بإعداد شهادة تبريز في اللغة العربية، ثم حاز بعدها على درجة الدكتوراه في الفلسفة سنة 1969، لينتهي أستاذا بجامعة السُّوربون في آخر المطاف. توفي عام 2010 عن عمر يناهز 82 سنة في باريس ودفن بالمغرب.
في هذا الملف الذي شاركت فيه نخبة من المفكِّرين المختصِّين بالفكر العربي الإسلامي عموما، وبفكر محمَّد أركون خصوصًا، نستعرض أهمَّ محطات هذا الأخير فكريًّا وفلسفيًّا، كما سنتوقَّف بشكلٍ خاصٍّ على مشاركة الدكتور أسامة دوَّاي وهو مفكر سوري وأستاذ محاضر بجامعة السربون، وقد كان ملازما لمحمَّد أركون منذ كان طالبا في قسمه حتى يوم وفاته بالمستشفى، أي كانت يداه تضمَّان يدي الفقيد وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة. إنَّ كتابات أسامة دوَّاي تعدّ مصدرًا ثريَّا ومنبعا أصيلاً لدارسي محمَّد أركون، كما تعدّ شهاداته الحيَّة استمرارًا لحياة الفقيد، إذ يقبل حاليًا على تأليف كتبٍ انطلاقا من أرشيف الفقيد الذي ما يزال -على كبر حجمه- حبيس رفوف مكتبته الخاصَّة. وهو مشروع جديرٌ بأن يجد في العالم العربي آذانًا مُصغية وقلوبًا واعية فترعاه وتعتني به.
كما شارك في هذا الملف المفكر التونسي والأستاذ المحاضر بجامعة ران الفرنسية شكري ميموني حول دور المفكِّر في النَّهضة بالعالم الإسلامي، حيث يعتبر أنَّ تحرَّره متوقِّفٌ على إلغاء البعد الأسطوري للدِّين كما يرى ذلك محمَّد أركون، ومن الضَّروري بالنِّسبة له تفكيك التُّراث الإسلامي حتى لا يتعارض مع مفهوم الأنسنة أو الدِّراسات الإنسانيَّة، بحيث يسمح بظهور فكر جديد متوافق مع الإنسان المعاصر.
وشارك في هذا الملف أستاذ العلوم السياسيّة والعلاقات الدولية، بجامعة سانت لويس، بمدريد، الفرنسي مخائيل براء، حيث أجرى حوارا مطوَّلا بخصوص كتاب الدكتور والباحث المغربي حسن مصدَّق الذي يحمل عنوان “العقلانية اللاهوتية والعقلانية النقدية؛ محمّد أركون وإعادة بناء الفّكر الإسلاميّ”. ولقد تخلَّلَت الملف أيضًا دراسات وشهادات أخرى كدراسة الشَّاعرة الجزائرية والأستاذة بجامعة الجزائر حليمة قطاي التي خصَّصت دراستها لظاهرة الجهل المركَّب والتَّجهيل المؤسَّس في العالم العربي خصوصا، كما شارك في هذا الملفّ نبيل ماتي وهو باحث جزائري مختصٌّ في العالم العربي والإسلامي بمعهد الدِّراسات العليا للعلوم الاجتماعية بباريس وقد تناول حياة الكاتب بكثير من التَّعمق لفهم خلفيات نظرياته ومقولاته.