«ليس للحداثة مرجع، ليس هناك إلّا الفن والأدب اللذان يُظهرانها للمجتمع. فقط الذّات. المختلفة دائماً، والمختلفة عن الذوات الخاصة. إنها التّلافُظ نفسه . تلك قوّتها. قوّة الكلمات الفارغة. هي أكثر قوّةً مادامت لا تفيض إلّا بما يُوضع فيها، ويتغيّر بشكل لا محدود»1.
هنري ميشونيك
«.. أَضَعُ يَدي وَراءَ أُذُني
وأشْرعُ في تأَمُّلِ الدَّوالِّ وَهِيَ
)مِثْلي وَمِثْلُكَ(
تُهّرْوِلُ
هُنا أيْضاً،
فوْقَ خطَّ الزّلازِلِ
ظَهْراً لِظَهْرٍ «.
[الدّيوان، ص.88]
1.تدْشينُ مَصير:
بدْءاً من «نشيد البجع»، مروراً بـ«غيمة أو حجر» و«سدوم» و»بعكس الماء»2، إلى «قليلاً أكثر» يُطوِّر الشّاعر المغربي محمد بنطلحة مشروعه الشّعري بصبْرٍ وأناةٍ، خارج ادّعاءات النظرية وذائقة التلقّي السائد. من ذاتٍ إلى ذاتٍ، تمتح قصيدتُه، في صيرورة ـ ذاتِها، مُتخيَّلها الكِتابيّ من أمشاجٍ ثقافيّة وفلسفيّة وأسطوريّة، ومن اخْتِلاطات علم جمال اليوْميّ، شديدة التنوُّع والرّهافة بيْن ما هو طبيعيّ، ومادّي، وتجْريدي، هُلامي ّ وخُلاسيّ، مُفكَّر فيه ومقْذوفٍ به في اللُّعبة. نقصد باللّعبة خيارُ الشّاعر أن يحتفي بالدالّ الشعريّ في شرْط الكتابة الّذي لا يعتمد رسم الشّيء، بل رسم الأثر الّذي يخلقه الشّيء.أو ما يُعبِّر عنه هو نفْسُه في أحد نصوصِه بـ«فخاخ المعنى»، حيْثُ «يُراهن على اقْتِصادٍ بيّنٍ ويُدْمج الصّمت في الكتابة. وبذلك يفتحُ البناءُ القراءة على كمائن المعنى،لأنّ المعنى لم يعُدْ ظاهراً وإنّما أصبح كامناً،وبكُمونه تنفتح الكمائنُ والفخاخ»3.
من هُنا، من غير المُجْدي أن تبقى خارج الكلمات، تنتظر ما تُحيل عليه، لأنّ لا شيء يأتي منها كما تُريد. يدعونا الشّاعر أنْ ندخُل على الكلمات، أنْ تُفكِّر في داخلها ليترسَّخ اعتقادنا، مع الوقت، بأنّ لها فضاءً ثانياً يرْمي بنا في مشاعر وأفكار غير تلك الّتي ألفْناها داخل منطق العلاقة بين الدالّ والمدلول، لأنّ الّذي يتكلّم هو الكلمات ذاتُها وهي تشتبك، من ملفوظٍ إلى آخر، بذاتِ الشّاعر.
في عمله الجديد «قليلاً أكثر»4، يُواصل محمد بنطلحة سيرورة تحديثه للقصيدة، مُصعِّداً مفهومَه للكتابة، وبالنّتيجة مفهومَه المُفارِق للعالم الّذي تكتبه، خارج أيّة غائيّةٍ للشّعر. مُتجرِّدةً من نفعيّتها ومُكتفيةً بذاتها، تتحرّك قصيدته في سياقٍ ما فوق طبيعيّ تخلخل مفرداته الفالِتة من طُمأنينة المتلقي من البدء، حيْثُ يصطدم الأخير بوجود تعاقُد قراءةٍ مُفارِق. نقرأ في قصيدته «الوجود والعدم»:
في عُجالةٍ:
وجْهانِ لِعُمْلةٍ واحِدةٍ،
الحياة.
قرأْتُ هذا في عظْمةِ كتِفٍ
عَثرْتُ علَيْها
بالصُّدْفةِ
بيْن أوْراقي
بِدون تاريخٍ. الخطُّ زِناتيٌّ.
وفي الهامشِ:
الوُجودُ أريكةٌ
والعَدَمُ صَوْلَجانٌ [ص.6]
إن كان النصُّ تنتظِمُه بنيةٌ نحويّة مُصاغة بدقّة) شكْل الحروف، وضع العلامات الإعرابيّة وعلامات الترقيم، توزيع المتواليات..، وهو ما نلاحظه عبر مجمل نصوص العمل.(إلّا أنّ نفْس الحرص على الوضوح لا يخصّ به بنية معناها، إذ لا يربط مكوّناتِها بعضَها ببعضٍ رباطُ دلاليّ بائنٌ، وهو ما يجعلُ بنيتَه العميقة تنمُّ عن نفْسِها كبنيةٍ للحُلْم والتّداعي والهذيان، الّتي لا تُنْتج دلالةً وإنّما تحملُ اخْتِراقاً لنظام الدّلالة: التّكثيف، المُفارقة ومراوغة الدالّ للمدلول. للنصّ مُغامرتُه في أنّه يُدشِّن مصير العمل، ويضعُ كلماته في مُعْترك التّأويل وتعدُّديّته.
2. اللّغة في الشّعر، شرْط اشْتِغال لا شرْط وظيفة:
في الإياب ـ الذّهاب، وهي الإستراتيجيّة الّتي يقْتضيها العملُ الشعريُّ بصِفَتِه مفتوحاً مثْل «قليلاً أكثر»، يلفتُنا الكوْنُ الاستعاريُّ الّذي تحْترثُه لغةُ العمل بقدرما يجعلُ منه فضاءً بصريّاً مُشظَّى بكوْكَبة نُجومه التي تُضيء وتُعتِّم، تعْبر وتُقيم، ترْتوي وتعطُش، تنْشُج وتصْمُت. لا نقول إنّ عملَ القصيدةِ في المجموعة الشّعرية يرْتهِن لثُنائيّة العلامة ووُضوح القصد، لأنّه لا أخطر في نظَر الشّاعر على القصيدة ، كِتابياً وتخييليّاً، من أنْ تتحوّل ،في آخر التّحليل، إلى نموذجٍ فجٍّ للُّغة، ورُؤْيةٍ للعالمِ ضحْلةٍ.
من هذه الوجْهة تَقْدم فاعليّة القصيدة ولُعْبتها الكتابيّة، حيْثُ الدالّ يتحرّك وسط موشُورٍ هائلٍ من التّيمات والاسْتِعارات والإيقاعات الفالِتة من كلّ قياس، ويتسلّى. وإذْ هي تتنامى وتتداعى في آن، تضعُ الفاعليّة مشْروع القصيدة أمام مصيره. هذا المصير هو، بدوره، لا يتحدّد بسقْفٍ محدَّد، ولا عبْر تصوُّرٍ قبْليّ. هكذا، بيْن ذهابه الدالّ وإيابه، نقْطعُ مع مقولة «التّجانُس»، ونقْترح عوضاً عنها مقولة «التّراكُب»ـ بدون أنْ يعني ذلك المعاظلة في أداء الدالّ ـ التي يُفْترض أنّ العمل يصدُر عنْها في تشْييد مُتخيَّل الكتابة ولُعبتها، بالمعنى الّذي يُفيد انْقِلاباً في الرؤية إلى بناء القصيدة ومُتوالياتها:
«عَلَى الوَرَقِ،
هَزَمْتُ
وانْهَزمْتُ
وفي الحَقيقَةِ، لمْ أكُنْ أنَا مَنْ ذَهَبَ
إلَى آخِرِ الْأَرْضِ
لَمْ أكُنْ أنَا صاحِبَ الجَبَروتِ
وإنّما، ظلّي. [بحبْرٍ أقلّ،ص.10]
كلُّ قصيدةٍ ، داخل العمل، يمكن اعْتِبارها عالماً صغيراً يحتفي بمخلوقاته في اخْتِلافها وائْتِلافها، في تنافُرها وتجاذُبها بما يُشكِّل رحِماً للصّور وطلاوتها في الفيْض عن معنى يظلُّ مُسْتأنَفاً وموعوداً به. بل يمكن لنا أن ندّعي أنّ أيّاً منها يقوم على «بذرةٍ ديونيزوسيّة» تنقضُ بشعريّتها المُفارِقة المنطق السّائد والاعتياديّ للطبيعة بمنطقٍ ممسوس، عبر الانْتِهاك الّذي يحمل اللغة على أنْ تقول ما لا تريد، وما لا تقصد عادةً. في قصائد «هدنة قصيرة» [ص.13] و»بالبريد العادي»[ص.43] و»على ظهر الغلاف» [ص.42 ] و»لست شاعراً» [ص.47 ] نعثر على هذه الشعريّة، وبالأخصّ في نصوصه اللمّاحة والمُعْتبَرة كنواةٍ لمضايق العمل «نجوم النهار» [ص.75]:
ـ «لا فرْق بينَ الأُسْلوبِ والْحامِضِ النّوَوِيِّ» [ص.78 ].
ـ»دعْهُمْ يأْخُذونَ عن الجيرانيوم فنَّ النَّميمَةِ. وعَنْ زَهْرةِ الْآسِ فَنَّ الْكَسَلِ.غداً، نهاية الْعُطْلةِ»[ص.78 ].
ـ «في اليوْمِ السّادِسِ،
بِيكاسُو يَرْسُمُ. ومِنْ حَوْلِهِ ظِلُّهُ وشَخْصٌ آخَرُ.
ظِلُّهُ يَمْزِجُ الْأَلْوانَ. والشّخْصُ الْآخَرُ، سيِّدُ الذُّبابِ
لِلتَّوِّ: الْكُرَةُ الحَديديَّةُ هِيَ النَّصُّ الْمُوازي.
وَمِنْ بَعْدُ، كُلَّما نَفَخَ في أجْنِحةٍ مِنْ غُبارٍ
تَنَهَّدَ،
وَقالَ: ذِرْوَةُ اليَأْسِ، الاسْتِعارَةُ» [ص.80 ]
ولا ينْفصل هذا الوعْيُ اللُّغوي لدى الشّاعرعن شرْطه الكتابيّ الّذي تُدْمِغه لُعبة الدالّ، وعن سيرورة تدليله على المعنى في أكثر من ملفوظٍ شعريّ، في النصّ وميتا ـ النصّ معاً:
ـ قُبالةَ شَواطِئِ اللُّغةِ، ناقِلَةَ بِتْرولٍ. [أنا سليل الهمج، ص.21]
ـ أنا مَنْ هرقْتُ فوق الْأَرْضِ/ قارورةَ المعنى. [أنا، سليل الهمج،ص.22]
ـ نمْزحُ مع الطُّرُقِ/ ونَنْصِبُ الكَمائِنَ/ فوْق صفْحةٍ بيْضاءَ. [أنا ونفسي،ص.37]
ـ لا سِياجَ حوْل النصِّ/ الحُقولُ تحْترِق.[بالبريدي العادي،ص.43]
ـ أنْ أقُومَ باخْتِطافِ اللّغةِ/ وأتْرُكُ في مكانِها وَرَقةً صَغيرةً/ وفَوْقَها:/ Liquidation Totale. [لسْت شاعراً، ص.47]
تتبدّى اللغةُ في شكْل سديمٍ لا ينْتهي من القلْب ومُعاودتِه، ويتبدّى الدالُّ داخلها وهي تشتغل شديد التّكثيف،والمدلولُ كثيرٌ في قليل. تسعى لبناء كيْنونتِها من جديدٍ عبر بناءٍ تصوُّر يتأسّس على مُكوِّنات الصّورة المتشعّبة والمتنافرة، بما يفتح القصيدة على شبكةٍ من الاحتمالات الدلاليّة، فتصيرـ وفْق ذلك التصوُّرـ معْبراً لفهمِ الموجودات لا لتعميّتِها، ومن ثمّة تغدو هي نفسُها قراءةً تأويليّةً للوجود، فلا تُحاكيه بل تتمثَّله بطريقةٍ يُجازِف معها الشّاعر بِمقُولات الكوْن، وصُوَر الحياة عبر الأقاويل المُخيَّلة وأشْكال التّأْتأة والهذيان والتّداعي المُبَلْبِلة لمنطق القوانين العامّة5:
الْجِبالُ
والسُّفُنُ
حينَما عَطَسْتُ اِرْتَطَمَ بعْضُها بِبَعْضٍ
واخْتَفَتْ من الأُفُقِ
اخْتَفَتْ كُلُّها
اخْتَفَتْ تماماً
تَخَيَّلْ
مِنْ جَديدٍ، أوَّلُ مَنْ شَعَرَ
بِالْهَزَّةِ
سَمَكَةُ أبْريل[ لهذا أُتأْتِئُ،ص.38]
من هنا، يتمّ الاشْتِغال على اللُّغة بوصْفها لُغةً لازِمةً تُؤْثر التسلّي مع نظام الأشياء على أن تُحيل على كائناته المركوزة في الذّهْن سلفاً، وبوصْفها فضاءً ديناميّاً لتلاقي الأضداد المُخصبة، وبوصفها حالة مُقاومةٍ تُعنى بواجبها المتوتّر والمُحايث نحو مخلوقاتها الّتي تصطرع في وعي القصيدة.
3. عُبور الذّات في الدّلالية وإعادة التّسمية:
إذا كانت اللّغة تُظْهر وعْياً مُفارِقاً للعالم وتبْني عليْه صورتَها في العمل، فمن المستحيل التّفكير في اللّغة دون التّفكير داخل اشْتِغال الدالّ ووضعيّته في القصيدة. داخل اللُّغة، هذه اللُّعبة دائماً: دالٌّ يُفْضي إلى دالّ واعِداً بدلالةٍ وسواها في خطابها. يتعلّق الأمر،هنا، بدلاليّة الخطاب الّتي لا تكفُّ عن كوْنِها ناشئةً باطِّراد، أو بأوضاع الذّات، أو بالعلاقة المتوتّرة بين الكلمات والأشياء. داخل الخطاب،إذاً، لا يُمكن للّغة أن تكون/تؤدّي وظيفةً جماليّة، كما القصيدة. من لُغةٍ تنهض تخييليّاً من رُكام الأشياء ، فيما مسْعاها تفجير أفعال التسمية وصيغ التّعبير المجازيّ عبر تقنيّات الاسْتِدخال واللّقطة والمشهديّة العارِمة، إلى لُغةٍ تُشارِف على العماء ولا تتحقّق دلالاتها تحقّقاً خطّياً، بل على خطّ الزّلازِل تُقيم:
«.. أَضَعُ يَدي وَراءَ أُذُني
وأشْرعُ في تأَمُّلِ الدَّوالِّ وَهِيَ
)مِثْلي وَمِثْلُكَ(
تُهّرْوِلُ
هُنا أيْضاً،
فوْقَ خطَّ الزّلازِلِ
ظَهْراً لِظَهْرٍ «.[ ص.88]
لِلذّات،هنا، مُغامرتها في قوْل مالا يُقال وما لا يُقال وهي تنزلق من دالّ إلى دالّ، مثلما يكتب جاك لاكان: «الذّات، ليست شيئاً آخر ـ إنْ كان لها وعيٌ بدالّ ما يمتلك أثراً أو ليس لها وعيٌ به ـ غيْر الّذي ينزلقُ داخل سلسلةٍ من الدوالّ»6، مع فارقٍ أنّ الدالّ في التحليل النّفسي هو خارج ـ لِسانيّ، فيما هو هُنا يظلُّ مبدأ الخطاب،أي عبور الذّات في الدلاليّة. ومن الطّريف، أن يعْرض الشّاعر»مساهمة في التّحليل النفسي» في أحد نصوصه،مُصعِّداُ لعبة الانْزِلاق الّتي لا تُفرِّط بِحالٍ في خسارات الذّات الّتي ليس لها ما تخسره أصْلاً[ خساراتٌ لا يُفرَّطُ فيها،ص.80 ]، مثلما في ملفوظاتٍ أخرى[ـ أنا ونفسي،ص.36/ ـ أنا سليل الهمج، ص.41 ]، حيْثُ تعكسُ لنا علاقة الإيقاع بالمعنى في لُعبة الدالّ لا ـ وحدة الذّات، بامْتِياز.لا ـ وحدة الذّات أكثر من تراتبيّة المعنى. يمكن للمعنى أن يعْبُر غيْر مُدْركٍ، لكنّه مع ذلك يُظْهر حالات الذّات. متصدِّعة ومقذوفٌ بها في متاه الكلمات، بلا مرجع:
ـ «لَمْ أكُنْ أنَا صاحِبَ الْجَبَروتِ/ وإنَّما ظِلّي».[ ص.10]
ـ «حَكيمٌ كالرَّمادِ/ وَحَيْثُما حَلَلْتُ، كَأَلْوانِ الطَّيْفِ/ لا أسْتَريحُ/ أتَجَدَّدُ/ صَبْراً عَلَيَّ».[ ص.20]
ـ «أَنا وَنَفْسي/ في النَّهارِ، طَريدَتانِ/ وفي اللَّيْلِ، غُبارٌ كَثيفٌ».[ ص.36]
لكنّها ذاتٌ مُتجدّدةٌ لها قدرة «الخيميائيّ»[ ص.16] الّذي يخرج من لُعبة الدالّ ظافِراً، بعد أن يغْطس مخلوقاته في ماء الكتابة وإكسيرها الّذي يجْترِحُ إسطقساتٍ بَديلةً تتنوزَّع بين ما هو مَرئيّ ولامَرئيّ، الحسّي والمُجرَّد، ومُحمَّلةً بأبعادها الأسطورية والدّينيّة والتّخْييليّة، إذْ يأخذ كلّ عنصر من عناصرها صفة الاستعارة الّتي تتفجّر تلْقاءَ ذاتِها، وهو ما ينْقُلُ مادّيةَ الكتابة وتَجْربتَها في العمل الشّعري إلى أفقها الميتافيزيقي الّذي يحتضِن المُطْلق. في التُّرابِ، النّارِ، الْهَواءِ ثُمّ الْماء أساساً. ولا نستطيع،هنا، أنْ نميّز عُنْصُراً مِنْ عُنِصُر، وماءً مِنْ ماء:
ـ «عُمُرٌ بِأسْرِهِ/ وَالْحَرْبُ الْأَهليّةُ قائِمةٌ/ بيْنَ الْمَاءِ ورَغْوَتِهِ».[ ص.5]
ـ «هَذِه الْمَرّة، رَجَّحْتُ أنّ الّذي يَمْخُرُ عُبابَ الْمُخَيِّلةِ حُوتٌ ضَخْمٌ».[ ص.7]
ـ «إرْتَويْنا./ والْقِلَّةُ، هي الّتي شَمَّتْ في طَعْمِ الْمَاءِ/ رَائِحةَ السّكاكينِ».[ ص.15]
ـ «في زَوْرَقٍ. الْمَاءُ يُؤرِّخُ لِلْمَعْنى/ ونَحْنُ/ كَما لَوْ أَمامَ شاشَةٍ عِمْلاقَةٍ/ نَتصفَّحُ ما يتمخَّضُ عَنْ رَغْوَتِهِ..» [ ص.63]
ـ «نَظَريّاً: الْهَديرُ هَواءٌ صَلْبٌ. ولَكِنْ،/ عِنْد التّطْبيقِ: هُنالِكَ صُخورٌ أَكْثر صَلابةً نَعيشُ بِها/ على ضِفافِ الاسْتِعارة،/ هُنالِكَ الْوَاقِع» [ ص.64]
بِهَذا المعنى، يغْمُر ماءُ الكتابة فضاءَ النّصوص، ويعْكِس زمنَ الذّات طافِيةً ومُنْزلِقةً منْ حالٍ إلى حالٍ أكثر اسْتِدخالاً، بقدرما يعْكِسُ منْظورَها الْمُفارِق للمَحْسوسات والمرئيّات تحديداً، بشكْلٍ يدعُ المعنى يُباغِتُنا من أمكنةٍ لا نتوقَّعها، حتّى جاء في عِلْمِها:
ـ «يَا لَلْماءِ/ مِنْ كَثْرةِ طَمَعِهِ/ أَرادَ أَنْ يَسْتولي على الْآفاقِ/ والشُّطوطِ/ فَفَقَدَها،/ فَقَدَ وَثائِقَه»[ ص.74]
وهو ما فَتّح العملَ في أنفاسه الأخيرة، المُستقْطرة والمتقطّعة في آنٍ، على مُتخيَّلٍ يدْفع بالتّجْربة إلى أقْصاها، وبالمُغامرة إلى أقصاها، كما في نصوص «نُجومٌ في النَّهار» [ ص.75]، حيْثُ الدالّ يُعْطاه هْبةَ الامْتِلاء بدون أنْ يُصرِّح بشيْءٍ كدلالة ما، عابراً في صُوَر المُفارقة والكثافة الّتي تُشْعِرنا بما ضاع منّا، وتُؤْذينا في الصّميم:
ـ «بيْنَما الْمَداخِنُ، سَنَواتُنا الْمَاضِيَةُ/ كُلُّ مِدْخَنَةٍ بِحَرْفٍ»[ ص.77]
ـ «الْعَجَبُ. في ثَوانٍ/ زُجاجٌ يَنْكَسِرُ. وزَقْزقَةٌ هائِلةٌ:/ الْأَرْضُ.» [ ص.78]
ـ «هَلْ سَنَسْخى؟/ عِنْد الضّرُورةِ، أيُّها الْمَوْكِبُ الْجَنائِزيّ، لا تُسْرِعْ. عَرِّجْ بِنا عَلى أقْرَبِ حَديقةٍ خلْفِيّةٍ.» [ ص.79]
وفي خضمّ ذلك، يغْدو محمد بنطلحة نفسه وجْه اسْتِعارةٍ عند هيرودوت، ولا يعرف كيْف يكون مُعاصِراً له بعد كلّ هذه الظّلال والأَقْنِعة. مثلما نعْثُر على تشْبيهاتٍ مِنْ طينةٍ أُخْرى تسْنُد المُتخيَّل، فيما هي تُواصل، من جهتها، إعادات التّسمية الّتي ابْتَهرها العمل من الْبَدْء، كرِهانٍ أساسيّ في رُوحيّته: «بِلادُ الْعَجائبِ صمْتُنا الرّهيبُ»، «اللّيْلُ أُرْغُـنٌ»، «ألَمُ الْفَلاسِفةِ شَمْعدانٌ»، «الأنْهَار مرّةً تاجٌ، ومرّةً طَعْنةٌ»، «دَمِيَ الزُّجاجُ»، «الأمَلُ في مَتْحف الشَّمْعِ سُلْطانٌ»، «الخَطَأُ مِياهٌ عَذْبةٌ»،إلخ. وإذا كان التّشْبيه أساساً هو تقريبٌ بين طرفيْن، يكون الثّاني منهما هو الأقْوى في الدّلالة على وجه الشّبه، فإنّ الأمْرَ، هنا، مُغايِرٌ تَماماً، بحيْثُ يفْقد الطّرفُ الثّاني قيمتَهُ البيانيّة الّتي هي غايةُ وجْه التّشبيه وعِلّتُه، وبالنّتيجة لا يتحقّقُ للأوّل طَمعُهُ في الثاني، فيضيعُ تِلْقاءَ نفْسِه. تلك لُعْبة الدالّ داخل الصّورة. فمُعْظم التّشبيهات في العمل لها قُدرة سحريّة تحويليّة تعمل على اللّعِب ما بيْن المتباعدات والمتنافرات، وفي ذلك تقْلبُ تصوُّرَها للتّشبيه كوجْه بلاغيّ ـ بيانيّ7.
بإجْمالِ، إنّنا أمام مُتخيَّلٍ مِنْ أبيه البرق وأمِّه العاصفة، يتْرُك الكلماتِ «عالِقة في بُخار المَعاني». كذلك تكتشف جينيالوجيا العمل الّتي تخترقُها معارف متنوّعة، وتجارب كتابيّة من السورياليّة والدادائيّة والهايكو والرّسم الحديث عن مفهومات الشّاعر نفسه المُخْصبة والمتوتِّرة عن الكتابة، المعنى، اللُّغة، النصّ،علامات التّرقيم، الوجود والعدم، الحرّية، المعرفة، الجسد، الحقيقة والكذب، المعادل الموضوعيّ، الزّمن، الأسلوب، الذّاكرة، الطّوطم، الشّبكة العنكبوتيّة، الاستعارة،إلخ. وهذا ما يضَعُ تجربة الشّاعر محمد بنطلحة كواحدةٍ من أغنى تجارب الشّعر العربيّ ثقافةً ومعْرِفةً نافذةً بِ «ليل المعنى»، في أيّامِنا.
في «قليل أكثر»، في دلاليّتِه كَخِطاب، يرسُمُ الشّاعر آثاراً منْ مَجازٍ مُزْمِنٍ يَتنقّل من صورةٍ إلى تاليةٍ، ويَتجاوبُ مع جِراحاتِه ضِمْنَ عُبورِ الذّات الّتي تفيضُ عمّا صارَ في ليل القصيدة، حيْثُ اللّعبة تنْتَهي ببداية مصيرٍ آخر من بحْثِ الإنسان في مُواجهة كيْنُونته المتشقِّقة، بكثيرٍ من الوجود وأسئلتِه الّتي تهجعُ في مَتاع الوعي واللّاوعي سواء.
الهوامش
1 – Modernité Modernité,Meschonnic.H.Cité,p.295.
2- صدرت المجموعات الشعرية في كتاب جامع بعنوان «ليتني أعمى»، فضاءات مستقبلية، الدارالبيضاء،2002.
3- الكتابة وإعادة الكتابة في الشعر المغربي المعاصر،خالد بلقاسم،منشورات وزارة الثقافة،المغرب،2007، ص.67.
4- قليلاً أكثر، محمد بنطلحة،دار الثقافة،الدارالبيضاء، ط.1، 2007.
5- يعتبر هنري ميشونيك أنّ واحداً من آثار الحداثة هو هدْم المقولات الكانطيّة ليس في الفنّ فحسب، بل في الفنّ كلِّه.أنظر:
Modernité Modernité,Critique du rythme,éd Verdier ,p.22.
6 – Séminaire XX, J.Lacan,Seuil,1975,p.48.
7 – يكشف ذلك شعريّة التشبيه وآليّته في توليد الدلالات، ويوجد في كثير من شعرنا الراهن بخلاف ما زعم الناقد عبدالكريم حسن حين أزاح القيمة الجديدة الّتي صارت للتشبيه، وأكد أنّ ما يميّز قصيدة النثر من قصيدة التفعيلة هو أن الأولى كنائيّة، وأنّ الثانية استعارية.أنظر: قصيدة النثر وإنتاج الدلالة، دار الساقي، بيروت، 2008، ص.176 ــ 177 .
عبداللّطيف الوراري
كاتب من المغرب