حاوره: محمود الرحبي
كاتب عُماني
سبق لقائي المباشر بالكاتب محمود الريماوي قراءتي لقصصه، حين كنت عائدا من بغداد عام 1996 مررت بالعاصمة الأردنية عمّان، وهناك وجدت أصدقاء يتحدثون عن مجموعة قصصية جديدة ولافتة صدرت للريماوي حملت عنوان “القطار” فازت في العام الموالي بجائزة القصة القصيرة في فلسطين وكان يمولها الشاعر والروائي ورجل الأعمال عبدالكريم السبعاوي، وترأس لجنة التحكيم فيها محمود درويش. رغم ذلك فإن ثمة لقاءً عابرًا جرى معه في الرباط بداية التسعينيات، بمعية الصحفي المخضرم معن البياري والشاعر العُماني عبدالله الريامي. أتذكر كنا نجلس في مقهى “مدام علي” تمتلكه سيدة فرنسية معمرة تحمل اسم زوجها وكان المقهى غاصًا بالناس، حينها علق الريماوي بعبارة “البث عالٍ جدا في هذا المقهى” فضحكنا على إثر القفشة، وقفشات الريماوي تميزه كثيرا وتدلل على بديهة نادرة، وذلك حين يأتيك بعبارة مفاجئة في لحظة غير متوقعة. لقاءات كثيرة جمعتني بعد ذلك بالكاتب الكبير الذي ولد عام 1948 في بيت ريما/ رام الله. كانت معظمها في مدينة الدار البيضاء حين اعتاد أن يحضر معرض الكتاب السنوي هناك، وكانت بالنسبة لي فرصتين واحدة لرؤيته والثانية لزيارة المعرض. سافرنا كذلك معا إلى بلدين من بلدان شبه القارة الهندية، النيبال وسريلانكا. كان فيهما نعم الرفيق، الذي يتميز بالدقة في نظام حياته إلى جانب نبذ الكسل وشغفه بالمشي والتعرف على كل صغيرة وكبيرة من ثقافة الأماكن التي يزورها، أتذكر حين كنا في النيبال كان في جدوله زيارات يومية منذ الصباح لمختلف المعالم من ضمنها قصر الملك السابق، وكذلك أكبر “محرقة ” هندوسية في العالم توجد هناك، إلى جانب رحلات مرهقة بالحافلة، واحدة منها استمرت أكثر من اثنتي عشرة ساعة. الريماوي إلى جانب كتابته القصة حيث يعتبر أحد فرسانها العرب الكبار (صدر له كتاب مختارات قصصية بالإيطالية بترجمة عقيل المرعي وبالبلغارية بترجمة خيري حمدان، كما ترجمت قصص متفرقة له إلى الفرنسية والإسبانية والإنجليزية) يكتب كذلك الرواية، وإحدى رواياته “من يؤنس السيدة” كانت ضمن قائمة جائزة البوكر في عام صدورها، وكان ضمن لجنة التحكيم حينها الشاعر العُماني سيف الرحبي. يكتب الريماوي كذلك -ومنذ نصف قرن- المقال السياسي في صحيفتي الخليج (حتى مطلع العام 2022) و”العربي الجديد”، وتتميز مقالاته بالعذوبة والتوسع إلى جانب نأيها الواضح عن كل ما يثير المناوشات والضغائن، يمكن أن نقول -دون مبالغة- إنه مدرسة حقيقية في كتابة المقال السياسي على المستوى العربي، أذكر في هذا السياق حين كنا في أحد أسفارنا، تعطل جهاز كمبيوتره فاستعان بجهازي، وأخذه مني قرب الظهيرة ولم أره إلا عند الغروب، كان في كل ذلك الوقت يكتب مقالا قصيرا لصحيفة “الخليج الإماراتية” سيرسله ثم سينساه، وحين فتحت كمبيوتري وجدت أن المقال كان عن مرور مائة عام على وعد بلفور وموقف بريطانيا لاحقًا من هذا الوعد الذي فتح الباب أمام الاستيلاء الصهيوني على أرض فلسطين.. وقد تولى في الأردن رئاسة تحرير مجلة “السجل” التي عرفت بنهجها التحريري الاستقصائي، بين عامي 2007 و2009.
وفي سجله أنه نال التكريم من ملتقى عَمَّان الثالث للقصة القصيرة في يوليو 2011 الذي كان خاصا بالقصة، وورد في خبر التكريم على موقع “الجزيرة نت”: “كرَّم ملتقى عَمَّان الثالث للقصة القصيرة القاص محمود الريماوي تقديرا لجهوده وحضوره في مجالي القصة والرواية، وخصصت في ختام الملتقى ندوة لاستعراض نتاجه القصصي الذي يقوم على قوة السرد الحافلة بالتفاصيل وجماليات المضامين التي أثارت الإعجاب والجدل بين النقاد”.
وقد خصص الناقد والأكاديمي د. ابراهيم خليل كتابا عنه صدر في العام 2018 عن دار فضاءات بعنوان: “محمود الريماوي من القصة إلى الرواية” في 144 صفحة من القطع الكبير.
صدر مؤخرا عن دار (الآن ناشرون) كتابه “نجوم الشمال” ويتضمن شهادات وتحليلات ثقافية وبورتريهات قلمية لأدباء عرب (13 أديبًا) عرف معظمهم من قرب.
فيما يأتي حوار معه، تعمدت أن يعبّر عن التفاصيل الخفية والغابرة من حياته، وذلك حتى يتحول إلى وثيقة تختص بها مجلة عن هذا الإنسان الاستثنائي الصموت والكاتب الذي عاصر وعايش معظم رموز الأدب العربي.
بداية نتحدث عن الطفولة، ماذا تتذكر من جدك وجدتك؟
– إنهما جدان وجدتان للأب والأم. كنا نقيم في أريحا، ونجاور في السكن في منطقة كتف الواد بيت جدي، حيث كان يفصل البيتين شارع معبد. جدي أبو يوسف كان يمتلك ويدير دكانا في سوق المدينة وجدتي دائمة الحركة في بستان البيت الذي كان يضم أشجار البرتقال والليمون إلى شجرة قشطة وداليتي عنب وشجرة نخيل إضافة إلى أشجار الزنزلخت الطويلة، والحركة بين البيتين شبه دائمة.
كان جدي أبو يوسف في خمسينيات القرن الماضي يشتري كمية من الصحف القديمة لاستعمال أجزاء منها كأكياس لمبيعاته. وكنت وأنا ابن التاسعة أو العاشرة أتسلل وأجلس قرب الخزانة التي تضم الصحف القديمة أسحبها وأقرأ ما فيها من مواد متناثرة، وجدي يزعق بي: ماذا تفعل.. إنها صحف قديمة؟ فأقول له إني لا أقرأ الأخبار فيها. وبما أن عدد نسخ الصحف يفوق المائة مثلا، فقد كان جدي يتصور أني سأظل على جلستي ولن أغادر حتى أنهي قراءة ما أرغب منها. لكني كنت أتعب من الجلسة قعودا فأنهض وأغادر. هكذا فإن علاقتي بالصحف قديمة. ومنذ تلك الأيام بدأت انفصل ذهنيا عن المناهج المدرسية. وفي طريق العودة من المدرسة، مدرسة البحتري ثم مدرسة هشام بن عبدالملك، كنت أمر على الدكان وأطلب من جدي أن أطلع قليلا وبسرعة على جريدة اليوم.. ذلك أنه كان يقرأ صحيفة “الدفاع”، أما أبي فكان يحضر معه صحيفة “الجهاد”. وصدقًا وحقًا كنت أميز تماما الصحيفتين عن بعضهما. وكان جدي يحبني، فحين كانت علب الراحة (الحلقوم) تتقادم قليلا من دون أن تفسد ومن دون أن تتيسر فرصة بيعها، فقد كان يمنحني علبة كرتونية كاملة منها، إذ كان يعرف مدى ولعي بالحلويات. أما جدتي أم يوسف فكانت مرحة، وسبق أن دعتني للسفر معها إلى القدس، وإلى موسم النبي موسى، ليس بعيدا عن القدس.
أما جدي لأبي فقد توفي وأنا ربما في سن السابعة أو الثامنة، وكان يقيم في قريتنا ومسقط رأسي بيت ريما حيث كان يعمل إمامًا للمسجد الوحيد ومأذونًا شرعيًا، وكنا نقيم أشهر الصيف في القرية، وأنام في غرفته، وأذكر أنه كان دائم التأرق، ولعلّي قد ورثت هذه العادة عنه، ولم يكن يتردد في أن يطلب من جدّتي أم علي (زوجته) بعد الثانية ليلًا، وحيث لا كهرباء، أن تصنع له هيطلية (مهلبية بنشا القمح الطبيعي) فتنهض من نومها وتصنعها له على موقدة من أحجار كبيرة متراصة توقد النار تحتها، وأذكر أنها كانت تشعل النار بصك حجرين ببعضهما، كما كانت تصنع الصابون وتسكبه في مربعات خشبية، وتدعوني لمرافقتها لقطف التين والعنب قبل أن ينبلج الفجر عبر طرق جبلية صخرية ذات أشواك، وكنا نتبادل أقل القليل من الكلام في الطريق ونعود زهاء السادسة صباحًا والجميع نيام ونحن نحمل مؤونتنا من التين الشهي وعلى حباته ندى الصباح. وما زلت أسمع صوت أزيز حشرات الزيتون وكانت تسمى مُغنّي الصيف.
قلت لي مرة إن الوالد كان من وجهاء الحي؟
– كان من وجهاء المدينة، إذ عمل مديرا للشؤون الاجتماعية في وكالة الغوث في أريحا، وكنت اتنّبه لوجود أعيان المدينة في بيتنا، وكان الناس يكرمون بعضهم بعضا بما لديهم، وكان في بيتنا خادمة اسمها ظريفة ونلفظها زريفة، وترافقها في أحيان كثيرة ابنتها مقبولة ثم ابنتها التالية حورية، وكانتا كأنهما جزء من العائلة أو من أقرب الأقارب. كان أبي يتمتع بشخصية قوية، حاد الذكاء، ويميل إلى الظُرف والظرفاء، أنيق مفرط في أناقته لدرجة أنه كان يرتدي حذاءً بلاستيكيًا أسود رقيقًا فوق حذائه، كي لا يتسخ هذا أو يعلق به غبار، وكان يخترع عُقَدا لربطة العنق، فيما لم أنجح طيلة حياتي في ربط عقدة واحدة. وقد اقتنى سيارة فيات خضراء صغيرة بمقدمة مقطوشة أواسط الستينيات، وكانت السيارة الخاصة الوحيدة في الحي، كان يسمح -في حدود ضيقة- باختلاف الرأي، ويقبل -بحدود- استقلال شخصيتي الذي ظهر في وقت مبكر. غير أنه على اعتداده الشديد بنفسه وسرعة غضبه أحيانا، كان عطوفا وتنفر دمعته أمام أية حالة إنسانية صعبة، إذ كان يستقبل في البيت بعد العودة من العمل عشرات النسوة اللاجئات اللواتي كن يسعين إلى الحصول على بطاقة إعاشة من وكالة الغوث ويوجه لهن النصائح ويفاتحهن بحقائق الوضع وطرق التعامل معه. وكان يمقت أكثر ما يمقت الأنانيين والنرجسيين المنتفخين، ولعلي قد تأثرت به في هذه الجوانب.
في أحد أحاديثنا قلت لي إن أمك كانت تعتمد على نفسها حتى وإن جاءت أخواتك إلى البيت..
– أمي كانت كتلة من الحنان والعطف، لا تعرف الأثرة والأنانية وتقدّم الآخرين عليها، فما بالك بأبنائها الثمانية. تعرف العطاء وتجهل الأخذ وترفضه. عزيزة النفس فتنهض لتشرب ولا تطلب من إحدى بناتها أن تحضر لها كوب ماء. وكانت تحدب علي كثيرا وتسألني بعد أن يتخاطف الإخوة ساعة الغداء أجزاء الدجاجة إذا كنت قد أخذت حصتي، إذ لا تتذكر هي أني مددت يدي لتناول أي شيء منها، فأقول لها إني شبعت، فتدرك أني لم أنل أي شيء من الدجاجة، تمامًا مثلها، هي التي تنسى نفسها.
هل تود الحديث عن بعض الألعاب التي كنت تزاولها مع أقرانك في الطفولة، أم أنك أخذت زاوية الانعزال؟
كنت أخوض كالنحلة في كل الألعاب، من الغميضة إلى كرة القدم إلى اللعب بالكرات الزجاجية الصغيرة، إلى تطيير الطائرات الورقية، إلى قيادة مركبات مصنوعة من الأسلاك، وكنت مرحا ومحبوبًا في المدرسة، ولم يمنع هذا من أن أتعارك مع بعض التلاميذ المتخصصين في العراك بعد الخروج من المدرسة، فلا بد من حفلات عراك بعد الخروج مباشرة، ويتمتع التلاميذ متعة هائلة بالفرجة، ويحمّسون هذا أو ذاك، ولا يتدخلون إلا إذا لحق بأحد المتعاركين أذى جسيم. كنت في داخلي منعزلا وأقاوم العزلة بالنشاط، فقد كنت نجم النشاطات الصباحية بإلقاء كلمات على الطلاب بمناسبات دينية وقومية، وأصدرت صحيفة حائط مع صديقي محمد الملكاوي، وأذكر أن اسمها كان “الرسالة” لمدة عامين تقريبا، وكنت حينها في الصف السابع (الأول الإعدادي).
مرة حدثتني أن علاقتك بالكتب ابتدأت بخالك..؟
– نعم صحيح، فقد كان خالي شاكر -رحمه الله- معلما، واكتشفت وجود ركن لمكتبة صغيرة تضم حوالي عشرة كتب في بيت جدي، وكان من بينها كتاب “أحدب نوتردام”، كان كتابا ضخما يفوق حجمه أضعاف كتب المدرسة لكني قرأته. ومنذ ذلك الحين أخذت استهين بمناهج المدرسة وكتبها التي تقفل عقلي.
هناك طبعا قراءات عامة غير ما كان يأتي به خالك، هل تتذكر شيئا من قراءاتك الأولى، أولى الروايات التي قرأتها مثلا..؟
– كان لدينا في مدرسة هشام بن عبدالملك مكتبة عامة، وجدت فيها أعدادا من مجلات الآداب والأديب والعلوم (تصدر عن دار العلم للملايين وتفرد صفحات للثقافة)، فأخذت أقرأ بنهم ما يتيسر قراءته، ثم انتقلت إلى الكتب واكتشفت جبران خليل جبران، وحلّقت معه، وقد لامس روحي آنذاك، وعثرت على كتب لمصطفى المنفلوطي، ولم تجذبني لقراءتها، حتى كتب ميخائيل نعيمة لم تجذبني (قرأت بعضها في أوقات لاحقة)، إذ كان المعيار هو جبران الشفاف المحلق. كما قرأت روايات لجرجي زيدان، وقد أعجبتني إلى جانب روايات لمحمد عبدالحليم عبدالله وإحسان عبدالقدوس وأمين يوسف غراب ويوسف السباعي. بعد ذلك مباشرة أخذت أدخر من مصروفي المدرسي لشراء “الآداب” الشهرية، وكذلك مجلة “المعارف”، وكانت على غرار “الآداب”، ثم مجلة “الأفق الجديد” المقدسية. لم اقرأ أبدا كتب آرسين لوبين وكتب الفرسان الثلاثة والأربعة، نفرت منها وما شابهها من روايات بوليسية. لكني قرأت مبكرا في مجلات الأطفال: سمير والسندباد وبساط الريح (لم تعجبني آنذاك مجلة ميكي!).
هل كنت تلميذا مجتهدا؟
كنت تلميذا متفوقا حتى الصف الثامن، بعدها ازداد انفصالي حدّة ورسوخا عن المدرسة ومناهجها وأخذت علاماتي تتراجع.
هل تساهم القراءة في اكتشاف الموهبة؟ هل حدث ذلك معك؟
– بالنسبة لي كانت الكتابة محاولة للخروج من الانكفاء على النفس والاستغراق في التأمل. وبطبيعة الحال القراءة تنمي الذائقة اللغوية والتعبيرية وتصقلها وتسعف القارئ في معرفة ذاته، لكني كتبت أول ما كتبت تحت ضغط النزعة التأملية الذهنية، وكي أتوقف عن الحديث مع نفسي، وليس ثمرة للقراءة.
هل كنت تتطلع إلى التفوق في الكتابة.. أن تصبح كاتبا ذائع الصيت؟
– أبدا، لم يكن ذلك يعنيني، وهو الشعور الذي ظل يلازمني، كنت اشتري الصحيفة التي تضم خاطرة منشورة لي وأخفيها عن الأنظار، لكنهم في العائلة كانوا يحتفلون بها، أما بين أترابي فقد كانت قراءة الصحيفة مسألة خارقة وحديث خرافة، فما بالك بالكتابة والنشر فيها لمن يُجايلهم، لذلك كان أترابي يجهلون أني بت كاتبا صغيرا. وكان هذا يريحني، ويجعلني أشعر بمتعة الاختفاء التي تفوق متعة الظهور لدي، وهو أيضا ما لازمني فيما بعد بدرجات متفاوتة.
ألم يكن في مدينتكم أريحا أو بين معلمي المدرسة في ذلك الحين من يعنى بالثقافة والأدب؟
– ربما كان هناك من يعكف على تذوق الأدب من دون أن أعرفه.. لكني لم أعرف أحدا، وهو ما وطّد من شعوري بالوحدة، كان أحد المعلمين مهتما بالتراث وله كتابات على النمط القديم. أنا تعرفت مبكرا على الحداثة وانتميت إليها من خلال مجلتي “الآداب” و”الأفق الجديد”. أتحدث عن مطالع الستينيات.
لكن كيف كنت تقاوم الشعور بالوحدة ؟
– أولا بالقراءة، وثانيا بوسيلة محببة هي التراسل مع أدباء. لقد تراسلت مع يحيى يخلف وفايز محمود وأديب صعب في لبنان ومع آخرين، وكانت المراسلة تمنحني شعورا بالسلوى.
ما أبرز هواياتك آنذاك إلى جانب القراءة؟
– الاستماع إلى الراديو. أحب الأصوات الإذاعية الرخيمة، وكنت أميز أصوات جميع مذيعي ومذيعات الإذاعة الأردنية، إضافة إلى أغلب أصوات مذيعي إذاعة القاهرة وصوت العرب المصرية وإذاعة لندن. كان يطربني الصوت الإذاعي الرخيم وأرى فيه صوت فنان، وقد لاحظت أثناء لقاءاتي بمحمود درويش وبصحبة الصديق الراحل صلاح حزين أن درويش تجذبه أيضا الأصوات الإذاعية المميزة. كنت كذلك مولعًا بتقليد الأصوات: عبدالناصر في خطاباته والمقرئ عبدالباسط عبدالصمد. إضافة لسماع الأغاني، أذكر أني انتبهت مبكرا لصوت فيروز، وحين كنت أتحدث عن إعجابي بصوتها كان من يسمعني يسأل: من فيروز هذه؟ وبعضهم يستنكر قائلا: إن صوتها هزيل وأغانيها لا تطرب. أتحدث عن أواخر الخمسينيات.
هل اخترت طريق القصة القصيرة من البداية ؟
– في البداية وكأي مبتدئ كنت أكتب خواطر ووجدانيات، مدفوعا بقوة الحاجة إلى البوح، إلى أن أرسل لي -على المدرسة- الكاتب خليل السواحري الذي كان يقيم في رام الله رسالة قال لي فيها إني لا بد أن أختار لونا تعبيريا محددا، فالوجدانيات لا تكفي، واقترح علي كتابة القصة، وبدأت بكتابتها، وأرسلت أولى المحاولات إليه، فقد كان محررا ثقافيا ويخصص بابًا بعنوان “نادي القصة” في صحيفة “المنار” ينشر فيه محاولة قصصية مع تعليق عليها. كانت القصة أقرب إلى بوح وتأملات لشاب يعاني أزمة اغتراب “وجودي”! مع كثير من النعوت والصيغ الشعرية، وكتب السواحري تعليقا حادا عليها. ولم يكدرني ذلك، إذ بدوت ممتنا له لأنه أضاء لي طريقي. كنت حينها في الصف السادس أو السابع. وواصلت كتابة القصص والنشر بعدئذ في الصحف المحلية. وأذكر أنه إلى جانب اسمي الصريح فقد اخترت كذلك اسما مستعارا لكاتبة هو فدوى الصابر. غير أن قراءة الشعر خلال ذلك ظلت تستهويني، وأول من أعجبت بهم الشاعر أمين شنار ثم فدوى طوقان، ثم سرعان ما تعرفت إلى أسماء ونتاجات شعراء الحداثة الأولى ومنهم شعراء المقاومة في فلسطين. وخلال هذا كتبت شعرا منثورا وقصيدة النثر.
بمن تأثرت من كتاب القصة؟
– تأثرت أولا وطويلا بزكريا تامر، ثم بغسان كنفاني وغادة السمان ومحمد خضير وإميل حبيبي، وبكتاب متفرقين أذكر من بينهم السوري جورج سالم. ومن الكتاب الأجانب همنغواي وتشيكوف. وعلى العموم تشدني على الدوام النصوص الجيدة أيا كان كاتبوها، سواء أكانوا على درجة من الذيوع والشهرة أم لا. وأؤمن أنه دائما هناك في الزوايا المعتمة ومناطق الظل إشعاع إبداعي يستحق البحث عنه واكتشافه. بعدئذ تأثرت بكتاب “انفعالات” لناتالي ساروت، وهو بورتريهات قصصية قصيرة مفعمة بالذكاء، ترجمها فتحي العشري، كما راقت لي كثيرا تجربة كتاب الستينيات في مصر ومجلة غاليري 68.
هل تعتقد أنه لا إبداع خارج الحداثة؟
– لا، هناك إبداع خارج الحداثة وخاصة في النثر الإبداعي، إذ قد تقع مثلا في زماننا على قصة جميلة ذات بناء تقليدي. هناك أيضا الكتابة الفطرية أو شبه الفطرية التي تتحدى التنميط. بالنسبة لي لا أرى أن للحداثة القصصية الروائية كتالوج معين، إذ إن أفضل ما تتميز به الحداثة السردية هو المرونة الفائقة في اختيار الأشكال والبُنى، وبحيث يشعر القارئ أن هذه القصة ما كان ممكنا كتابتها إلا على هذه الصورة. أجل إن الحداثة رؤية أيضا، نظرة إلى العالم. هذا صحيح وأنا منحاز إليها، لكني أتقبّل المختلف، فحين تجتمع الرومانسية والواقعية في سبك جميل ضمن إبداع نصنّفه على أنه تقليدي، فهي تحمل رؤية أيضا، قد نختلف معها، إنما يتعين أن نحترمها. وبطبيعة الحال فإن الأدب الوعظي والخطابي والترصيعي هو خارج التقييم هنا ويعتبر ضعيفا.
معنى هذا أنه يمكن أن يجذبك أدب غير حداثي؟
– في حالات معينة وقليلة نعم، إذ يُشبع بعضا من ذائقتي الجمالية. ومع شغفي بالحداثة الأدبية والانحياز إليها، فإني أؤمن بمقولة: دع كل الأزهار تتفتح. من حق كل الأدباء والمبدعين أن يكتبوا على سجيتهم وعلى هواهم، أذواق الناس متعددة، وحتى مشارب النقاد والدارسين متباينة، وما قد لا يرضيني فإنه يرضي غيري ويلبّي حاجته. إذا كان للديمقراطية أن تتجلى فإن الإبداع هو أفضل الميادين للتعبير عنها. هناك طلب على أنواع مختلفة من الأدب، فمثلما أن الأذواق في الاستماع للموسيقى والغناء وفي اختيار الملابس والأطعمة تتفاوت، كذلك في الأدب تتضارب الأمزجة. لا أدعو إلى كوكتيل من الإبداع، أو إلى أدب “استهلاكي” يُرضي جميع الأذواق، لا، أرجو ألا يُساء فهمي، إذ إني أتحدث عن واقع قائم، عن حراك جارٍ، عن تدافع الألوان الأدبية والتعبيرية وعن حق الجميع في أن يعبر عن نفسه ويجرب حظه، ولا أدعو لتلبية حاجات شريحة أو فئة بصورة قصدية، بل أقول إن من حق كل شريحة أو فئة أن تتخيّر ما يتوافق مع حاجاتها ومتطلباتها.. غير أن الزمن يغربل كل شيء في الحصيلة. نجيب محفوظ يقع في منطقة وسطى بين التقليد والحداثة، لكن إبداعه صمد مع الزمن وازداد إشعاعًا، بينما جبران -على سبيل المثال- لم يحظ بمكانة في الغرب لدى الجامعات والدارسين المتخصصين. وتأثيره حتى في موطنه وبيئته يتراجع مع بقائه أيقونة وطنية، ومع الأهمية “التاريخية” لإبداعه. مؤلف “شيفرة دافنشي” ديفيد براون يقلل البعض من أهميته، رغم أنه كاتب خارق. كولن ويلسون لم يحظ بتقدير أو حتى اعتراف في موطنه بريطانيا مقابل ما حققه من حضور عربيًا.
دعنا نتحدث عن أدبك، كيف تنظر إلى كتبك الأولى “العري في صحراء ليلية” ، “الجرح الشمالي” ، “كوكب تفاح وأملاح”؟.
– في كتبي الأولى هذه كنت محكوما بأربعة أمور، الأول النزعة التجريبية، الثاني الرؤية الوطنية لقضية فلسطين، والأمر الثالث النزعة الشعرية، والرابع هو النزعة الإنسانية والكونية ذات الطابع شبه التجريدي، كنت انزاح عن النظر الواقعي والمعالجة الواقعية رغم الصدور عن الواقع. لعلي كنت متأثرا بهوس الحداثة عند أدونيس وأنسي الحاج وغيرهما. لا أكتب الآن بالطريقة نفسها ولا بالمنظور الثقافي والإبداعي ذاته. لكن البدايات هذه تحمل بذورا لما هو لاحق. هناك نصوص تمثلني الآن في تلك الكتب، ونصوص أخرى تجاوزتها، ولا ترضيني حاليا. لا يرضيني مثلا عنوان الكتاب الأول، وأذكر أن بعض النقاد كانوا يثنون بحرارة على النزعة الشعرية في كتاباتي القصصية وهو ثناء كنت أتوجس منه في دخيلتي، فهل تكتب يا محمود نصا شعريا أم قصصيا؟ وأذكر أني كتبت شهادة إبداعية بعنوان “من فضاء الشعر إلى أرض النثر” عكست مثل هذه الهواجس، وحيث بت أؤمن منذ أمد غير قصير بأن القاص قد يمتلك رؤية شعرية ثاوية في عمق نصه، بل إن ذلك يُغني النص، إلا أن أداءه السردي يتعين أن يبقى نثريًا، وأن يتمتع بصلابة النثر لا سيولة الشعر.
هل تقصد بهذا العرض أن هناك مرحلة تحول أو نقطة مفصلية قد مررت بها؟
– يمكن قول شيء من هذا. لا يروقني الرجوع إلى الماضي حتى القريب في مسيرتي الإبداعية، فذلك يثير أشجاني. بيد أني حاولت أن أكتب أدبا يشبه صاحبه.. يشبهني، أدبًا واقعيَا وعلى درجة من السخرية، ومفتوحًا على التأمل، لا أدبًا خارج الواقع، فالخيال ابن الواقع ويصدر عنه، والحلم هو الوجه الآخر للواقع. الواقع كالبلاد له سطح وباطن، ويتأثر السطح بحركة الرياح وشروق الشمس وغروبها، وقد ترتفع الأرض ارتفاعا شاهقا على هيئة جبال أو قد تكون مجرد حفرة، كذلك الواقع فإنه طبقات على طبقات، بعضها خفي وبعضها ظاهر وبعضها ضبابي. ومتسلحًا بنزعتي الملولة والرغبة الحرّى والمحمومة في التغيير والتجديد، شرعت في الانتقال من كتابة سردية أثيرية، إلى كتابة تتحالف مع الواقع والخيال معا. آخر قصة كتبتها ويجدها القارئ على غوغل، بعنوان “خيري في اسطنبول” تشهد على ذلك: الوفاء للواقع ومناورته، التقريب بين الحياة والموت بصيغة سردية، وتخيل البطل الراحل وهو ما انفك بعد الرحيل يمنح جماع نفسه لقوة الحلم، لقوة الروح.
في وقت مبكر كتبت القصة القصيرة جدا.
– نعم في مجموعتي الأولى وفي مجموعات لاحقة وبغير أن أسميها قصصا قصيرة جدا، إذ اعتبرتها صيغة فنية جذابة، ومقترحا قصصيا لا شيء يمنع من خوضه. ففن القصة مرن بما يمنح الكاتب فرصة كتابة قصة بخمسة سطور، أو بخمسة آلاف كلمة. الضجة حول القصة القصيرة جدا انحسرت، فقد كان الأمر لا يخلو من مبالغات ومن نزعة فنية ونقدية إرادوية متعمدة. لو كانت هناك قصة قصيرة جدا، لكانت هناك في المقابل قصة طويلة جدا ولا وجود للأخيرة، ونحن نصِف كاتب القصة القصيرة جدا بأنه قاص وحسب، ولا ننعته بأنه قاص قصير جدا. ويعرف القاصون أنهم حين يشرعون في الكتابة فإنهم يجهلون ابتداءً إلى أين سيذهب بهم النص، وما الحجم الذي سينتهي إليه النص القصصي. فكيف سيكتبون مُسبقًا ومتعمّدين قصة بحجم محدد قبلًا؟ فالكتابة ليست ملء فراغ محدد بعدد معين من الكلمات.
تقديس الأشكال والاحتفال المفرط بها لعبة ذات أضرار يفقد معها الكاتب “براءته”. فالأصل أن يتمتع القاص بالحرية الداخلية وأن يجوّد أدواته، لا أن يقيدّ نفسه ونصه منذ البداية بشكل معين أو حجم محدد. لقد كتب زكريا تامر والطيب صالح نماذج ممتازة من الأقاصيص وبغير تصنيفات خاصة بها. وهكذا فإنه ليس غريبا أن تنتهي “زفّة” القصة القصيرة جدا، فالتقليعات النقدية لا تُعمّر طويلا، هذا مع حق القاص الذي لا يُنازع أن يكتب هذا اللون أو سواه. وجملة القول هنا إن القصة القصيرة جدا تنتمي إلى فن القصة وكفى.
وصف الكاتب عز الدين بورقة في مقال له طريقتك القصصية بأنها تقوم على “تعدد تقنيات السرد والحكي”، لماذا هذا التعدد بدل الالتزام بنهج واحد يميزك؟
– أولًا أوافق الناقد بورقة على ما ذهب إليه، فأنا أكتب لنفسي لطرد الضجر الثقيل، ولتحطيم العادات الفنية ومواضعات التفكير والتعبير، ولإمتاع نفسي بما هو جديد، ثم أنشر ما كتبته لغيري. ثمة كتّاب احترمهم لديهم مشروع للكتابة ينقطعون إليه ويوجهون طاقتهم نحو تحقيقه، بالنسبة لي فإني بالكاد أوافق على تعبير أو فكرة مشروع، إذ إن مشروعي الوحيد هو الكتابة ذاتها، الكتابة الحرة المتحررة والأصيلة، التي تخاطب البشر في كل مكان، ولا تنسج على منوال سابق. ولدى كتابة كل قصة جديدة وبعد أكثر من نصف قرن على الكتابة فإني أشعر أنها القصة الأولى التي أكتبها. وللغرابة فإني أشعر بموازاة ذلك أنها القصة الأخيرة، لن يكون هناك ما بعدها!. فالكتابة تجمع النقيضين: كونها عبئًا على صاحبها وكونها فعل حرية، لهذا أكتب بغير استئناف لما سبق أن كتبته، بل مع نسيان ما كتبته سابقا، ولهذا تتجدد الأشكال والتقنيات وفي مناخ من القناعة بأن الكتابة ضرب ٌمن اللعب، اللعب الجدّي وربما “المقدّس” الذي لا يستنسخ ولا يكرر نفسه. وربما هناك أكثر من شخص في داخلي وكل منهم يكتب بطريقته، على طريقة أقران فرناندو بيسوا. في الشعر هل كتب محمود درويش بالوتيرة نفسها خلال مسيرته الثرية؟ نكاد نجد أكثر من شاعر واحد في مسيرته. وعالم الإبداع متشابه سردا وشعرا. إنه لمن الأسهل أن يكتب الكاتب على نسق واحد متجانس، وأن يمتثل لمواضعات ومواضيع مسبقة ولتصميم قبلي، من أن يخوض بين عمل وآخر في تجربة إبداعية جديدة شكلا ومضمونا. أعرف أن التعدد في الأشكال والتقنيات قد يرهق الدارس الباحث في تحديد الملامح والعوالم، غير أن الناقد شقيق روحي للمبدع، وبوسعه مستعينا ببصيرته وثقافته أن يلتقط المشترك في ما يبدو متناثرًا ومتعددًا.
لديك تجربة في كتابة الرواية إذ كتبت روايتين هما “من يؤنس السيدة” و”حلم حقيقي”، ومن الواضح أن كلا منهما تتقصى عالما شديد الاختلاف عن الآخر، ففي حين تتناول الأولى حكاية سيدة مسنّة وحيدة من ضحايا اللجوء الفلسطيني، مع علاقتها بالماضي وبعائلتها وبما تتمتع به من قوة روحية ذاتية، فإن الرواية الثانية تذهب إلى عالم آسيوي وإلى بنغلادش بالذات حيث تجرى عمليات طبية مشبوهة ومتخيلة بطبيعة الحال.
– صحيح ما أشرت إليه. لا أكمل ما بدأته ولا أقوم بتفريعات لاحقة له، أكتفي بالاقتراح الأول، بالعالم الأول الذي رسمته، ويسرّني أن حيوان السلحفاة -وهو بطل في الرواية الأولى (إلى جانب السيدة)- قد أصبح له حضور، وبات يسعى في ثنايا السرد العربي بعد تلك الرواية.
أما “حلم حقيقي” فهي خروج إلى العالم الآخر، ليس إلى الغرب -كما جرت العادة- بل إلى الشرق، إلى شعب آسيوي فقير يجمعنا به المشترك الديني، وبالأحرى الروحي، إضافة إلى الانوجاد في عالم ثالث. صدّقني أني أنظر الآن بدهشة لخوضي هذه التجربة، إذ إن موضوع الرواية بنغالي وأبطالها بنغاليون، وليست مثلا عن شخص عربي يزور ذلك البلد أو يقيم فيه. يبدو أنه كانت لدي عند الشروع في كتابتها رغبة دفينة ومكينة في معايشة شعب ذلك البلد الذي لم تطأه قدماي، غير أني خالطت بعضا من أبناء ذلك الشعب خلال إقامتي في الكويت. وبينما تخاطب الرواية بالدرجة الأولى البنغاليين ثم القارئ في كل مكان، فإنها لم تنل فرصة الترجمة إلى اللغة الأوردية أو الإنجليزية.
مضى وقت طويل على كتابة الرواية الثانية من دون أن تخرج برواية ثالثة.
ــ دعني أقول لك وأنت قاص وروائي ذو مراس، إن كتابة الرواية ليست بتلك الصعوبة، فقصة واحدة قد تُضني كاتبها بأشد من كتابة رواية. غير أن الرواية تتطلب قدرا من التفرغ والانقطاع لها، وأنا معتاد على التشتت! حتى قبل ظهور الإنترنت. بورخيس كان يستثقل كتابة رواية، بالنسبة لي فإني لا أملك ترف التوقف عن سماع الأخبار ومتابعة التحليلات السياسية هنا وهناك. الصحافة تودي بمن يعشقها ويمارسها إلى الإدمان، علاوة على أنها تقوم بتشكيل حياته الذهنية والشعورية، فيغدو في مثل حالتي أسير الحاجة لمنبهات ذهنية قوية على مدار اليوم، متمثلة بالأخبار والتقارير والفيديوهات وإلا فإنه يشعر بالعزلة.. أنا موجود في العالم وأتمتع بالشعور بالمسؤولية وأعبّر عن ذلك بمتابعة المستجدات ما أمكنني ذلك وبكتابة تحليلات سياسية أيضا. في هذه الأجواء يتعسر التفرغ لكتابة عمل واحد والانقطاع إليه، وعدم الانغماس بأي أمر ذهني آخر.
لديك كتابا نصوص “إخوة وحيدون” و”كل ما في الأمر”.. هناك أجواء وصيغ شعرية واضحة وخاصة في الكتاب الأول؟
ــ أكتب نصوصا على تخوم الشعر بين الحين والآخر. في فترات الركود النفسي واستثقال بلادة العالم، أجدني “أهرب” إلى كتابة مثل هذه النصوص. وقد لاقى الكتاب ترحيبا طيبا في حينه، أما الكتاب الثاني فيضم بعض النصوص إلى جانب مقالات. دعني أقول لك إني كتبت الشذرات في العام 1988 ضمن “إخوة وحيدون” وبعنوان “أربعون ميم راء “.. أربعون شذرة بمناسبة بلوغي سن الأربعين آنذاك. كتبتها من دون أن أدعي أني أتيت بما لم يأت به الأوائل. وقد توقفت بعد ذلك عن كتابتها، إذ لا أكمل ما بدأته متمتعا بسحر البدايات ومكتفيا به. أستسمحك بوضع نماذج قصيرة منها :
“أنا ليليّ، في الليل تقِلّ وحدتي إلى النصف تقريبا
تتهاطل عليّ شآبيب الرحمة والسلوى، لا أعرف من أين وما الثمن بالضبط
*
في الليل أرى جيدا
أمقت الخفافيش لكني مثلها أرى في الليل جيدا
الوضوح لا يناسبني
لشدّ ما أرى الواضح كابيا مختلطا فاترًا وتفلا
الأصل في الأشياء أن لا تكون واضحة
*
أنا أكثر إنتاجية في الليل مني في اليابان.
*
أقمت 40 سنة في الليل دون مشاكل تذكر
لدي إقامة دائمة في مملكة الليل المتحدة
على أني أتفادى اكتساب جنسية تلك الديار، مخافة أن تتلطخ روحي بسواد لا فجر بعده”.
ومن الكتاب الثاني “كل ما في الأمر” هذه الشذرة:
“البطاطا طيبة مُفرطة الطيبة يطأها الطاعن والطارف ويطيّب الطهاة خاطرها”.
هناك من يرى أن فن القصة في مأزق، مقابل ازدهار فن الرواية إنتاجًا وإقبالًا عليه؟
الرواية باتت مثل الحافلات الآسيوية في الهند وباكستان يمكن ملؤها بكل شيء، وتحميل كل شيء داخلها وعلى سطحها وفي مقدمها ومؤخرها. فن الرواية يزدهر كميا وعشوائيا، وأحيانا نوعيا. والجوائز خلطت الأمور، إذ يتم اختيار أعمال جيدة إلى جانب أعمال أقل جودة. وسائط التواصل الاجتماعي تقيم مملكة افتراضية شاسعة خاصة بالإبداع المرتجل أو الفوري. اللهم لا اعتراض. هناك من يكسبون ومن يخسرون من هذه السيولة التي لا يحدها حد. لكن الأعمال الضعيفة لا تصمد أمام الزمن، والأعمال الجيدة تنتظر من يكتشفها. فن القصة ما زال يلقى بعض الرواج، ورغم أنه يبدو أكثر إغراء لأن يخوض فيه الخائضون، إلا أنه يجتذب أعدادا أقل من حديثي العهد بالكتابة. وهو ما يبرهن أنه فن لا يقل صعوبة عن فن الرواية، وإن كان لا يتطلب جهدا عضليًا وخيالًا فالتًا لتسويد صفحات وفيرة. في مسابقات القصة في إذاعة لندن القسم العربي ومسابقة الملتقى في الكويت فإن المتنافسين ليسوا بأعداد قليلة. وفي رأيي أن فن القصة يواجه منافسة ليس من الرواية بل من فيض الحكايات والمرويات والوقائع والشهادات والمدونات التي تزخر بها وسائط التواصل الاجتماعي، فما تقدم ذكره هو بمنزلة قصّ خام يلبي حاجة القارئ والمتصفح للوقوف على ما يستجد من حكايات، وفي النتيجة يزاحم فن القصة.
بعد مسيرة طويلة في الكتابة السردية هل أنت راض عن الحصيلة ؟
– راض نسبيا . ذلك هو اجتهادي وتلك هي اقتراحاتي، ولكل مجتهد نصيب. أنا مُقل في الكتابة، ولو خُيرت بين الكتابة والانقطاع للتأمل، لاخترت الخيار الثاني. التأمل، التركيز الذهني، التحليل العقلي لكل شاردة وواردة، تلك لعبتي ولعنتي. كان الشاعر والرسام اللبناني سمير صايغ يقول إنه يجب أن يتقاضى المتأملون أجورًا عن جهدهم الذي يبذلونه في التأمل!. فالتأمل عمل شاق يقوم على الاستقراء والتحليل والاستنتاج مع المتابعة والمعايشة، عمل مثمر! وكثيرا ما يطغى المتأمل على الكاتب لدي، ويحدث أن أشهد أحلاما أكتب خلالها، لأني لا أسمح كما يجب بتصريف ما لدي من رؤى وأخيلة في الكتابة، فتتسرّب إلى أحلامي. أغبط الحكماء في الشرق والغرب والمتصوفين والروحانيين والكسالى التاريخيين والمبدعين مع وقف التنفيذ، ومن شاكلهم في انصرافهم إلى التأمل دون غيره. راض عما كتبت ضمن مرحلة تاريخية وفي سياق يعرفه الدارسون. لكني لا أعود إلى الماضي إلا في ما ندر، وكثيرا ما ينتابني شعور بأني لم أكتب بعد. والطريف أنني أنسى عمري.
سؤال أخير شخصي وعام .. ما دمت تطرقت إلى العمر، فمع التقدم في العمر، كيف تتعامل مع هاجس الموت؟
– دعني أقول إني شخص يميل إلى الزهد. لم أكن يوما متهافتًا ومتكالبًا على الأمجاد الأرضية. ومع التقدم في التجربة وفي العمر، فإن الزهد يترسخ ويتكرس، ويُدرك (يصيب) البشر الطبيعيين. فالإنسان السوي الطبيعي يزهد شيئا فشيئًا في المباهج والمُتع والبهارج أكثر فأكثر. وقد لاحظ إميل حبيبي أن ميل الإنسان المتزايد إلى الزهد مع تقدمه في العمر، يُعبّر في جانب رئيس منه عن الانفكاك من الحياة، وعلى تقبّل ضمني للموت باعتباره نهاية “مُعتمدة” لسائر الكائنات. ويروقني كثيرا الدعاء القائل: اللهم لا أسألك رد القضاء بل أسألك اللطف فيه.