إن مصطلح الحداثة والذي يحد من أكثر المصطحات انتشارا يعد أيضا من المصطلحات سيئة السمعة ، في غمار هذا الموضوع يدور كتابنا الجديد "آباء الحداثة العربية " لمحيي الدين اللاذقاني، الصادر حديثا عن الهيئة المصرية العامة للكتاب والذي يقع في 14 2 صفحة من القطع الصغير ويتكون من ثلاثة مداخل خلاف المقدمة والتي يوضح فيها سوء سمعة الحداثة حيث إنه لا يوجد ما هو أكثر صعوبة في الفكر والفن من عملية اعادة الاعتبار لمصطلح سيىء السمعة ، ومهما حاول المبدعون – كما يقول المؤلف – والنقاد العرب أن يرفعوا من شأن حداثتنا المعاصرة ، فإنهم سيظلون يعترفون ضمنا وفي دوائرهم المغلقة بأن تلك الحداثة لم تزدهر بالشكل الصحيح والمفترض ، لأنها غرست قصدا أو عن سوء تقدير خارج تربتها الجمالية ، واعتنت بالمستورد، والمنقول ، والمترجم ، أكثر من عنايتها بالأغصان النابتة من جذور تراثية لا تقل حداثة عن المعاصر.
ولعل الذين نظروا الى أبي نواس على أنه بودلير العرب ، والى أبي تمام على اعتباره مالارميه العرب كانوا يؤسسون من حيث ,لا يحتسبون لاتباعية جديدة لثقافة أخرى وليس لحداثة تنبثق من جذرها التراثي، وتتسامق في فضائها الطبيعي، ومحيطها الفني الذي يقبل كما يقبل في مراحل كثيرة من عمر الثقافة العربي وآدابها الناضجة فكرة التلاقح والتبادل بين الثقافات الانسانية بشرط الا تتخلى أية ثقافة عن بصماتها، ومكوناتها الوراثية التي تشكلت عبر العصور لتحافظ على ملامحها.
ويقول المؤلف إن من سوء حظ الحداثة العربية المقامرة بجيليها التأسيسي والتأصيلي معا، أنها أفلت في متاهات الحداثة الزمنية ، وأهملت حداثة النص الذي يتجاوز بقدراته على الاشعاع جميع شروط الزمان والمكان ، ومن هذا المنطق فإن الأباء الحقيقيين للحداثة العربية لا يمكن البحث عنهم في صفوف الذين نظروا وأبدعوا خلال أواخر القرن التاسع عشر ومنتصف القرن العشرين ، إنما لا بد من الرجوع الى العصور الزاهية للثقافة العربية للعثور عليهم ، وفي طليعتهم: عمرو بن بحر الجاحظ مع الحسين بن منصور الحلاج وأبي حيان التوحيدي، فقد كان لهؤلاء النفر، وغيرهم من المبدعين الكبار فضل كتابة النص النضر الذي يحمل رغم ايغاله في القدم معظم مقومات الحداثة ، ويخترق حجاب السنين ، ليصل الينا بكامل نضارته ، وبخضوره ومراميه , وحمولته المثقلة بالرموز والمعاني.
لقد وقع حزب الحداثة العربية المعاصرة بشقيه الفرانكفوني، والانجلوسكسوني في الأوهام نفسها التي تحكمت بفكر عصر النهضة في لهاثه المستميت للتغريب دون النظر الى المعطيات الحضارية العربية ، وحاول أن يلعب دورا في صراعات عالمية معقدة بين الثقافتين الفرنسية والأمريكية ، الحاضنة الجديدة للإرث الانجلوسكسوني، ثم وجد ذلك الحزب نفسه هامشيا، أحيانا ومعزولا أحيانا في إطار الثقافة الكونية والمحلية على السواء، وذلك لعجزه عن عقد أوامر تلك الصلات التي لا تنفصم ولا بالمستطاع انكارها بين الموروث الحضاري والتطلعات المستقبلية لكل ثقافة طموحة. إن خطورة الفن تنبع من أنه الأب الحقيقي للثورات ، والابن العاق للقواعد والأصول ، ومن جداليته هذه التي يبدو على ظاهرها التناقض وفي باطنها الانسجام ، تبدأ معظم حركات التغيير التي لا يظل لها إن فقدت التوازن بين موروثها ومعاصرتها إلا أن تعترف بالفشل والقصور وهذا ما لم تفعله حركة الحداثة العربية المعاصرة ، التي تمتلك قدرة فائقة عن نقد الآخرين ، دون أن يكون عندها الجرأة على نقد الذات والمنجزات.
لقد حقق الآباء الحقيقيون للحداثة العربية (الجاحظ ، الحلاج ، التوحيدي) تجديدا ملحوظا يقطبا كل نظام معرفي ، فكانت نصوصهم النضرة فتحا جماليا وعقليا استجابت له الروح العربية في مختلف عصورها.
إن تراثنا العربي كما تمثل في هذه الرموز وأشباهها يمتلك قابلية التحول الى طاقة حيوية دافعة تخصب كافة التيارات الفكرية والفنية المتواجدة حاليا، وتلك القابعة في رحم الغيب وكل ما ينقصه القيام بذلك الدور إعادة تقديمه بأسلوب معاصر، والنطق بالمسكوت عنه من محاذيوه ، وانارة المظلم والملتس من أسراره وخفاياه.
بعد عدد من هذه الأفكار المقتحمة التي ضمتها المقدمة الجميلة التي بدأ بها المؤلف نصل الى حافة المدخل الأول للكتاب وعنوانه «نزهة على شواطيء ابن بحر، الجاحظ في مرأيا الادباء والسياسيين والنساء"، وهنا يؤكد المؤلف أن تراث العربية الأساسي في النثر الفني يقوم عمليا على اثنين هما: ابو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ ، وأبو حيان التوحيدي. فالجاحظ في أمة العرب مثل أرسطو عند الاغريق ، ما من فكرة إلا واليه تعود، ومن من علم إلا وعنده منه نصيب. ولم يكن القاضي الفاضل يغالي حين قال عن المعلم الأول وأثره في أدباء العربية «أما الجاحظ ، فما منا معاشر الكتاب إلا من دخل كتبه الحارة ، وشن عليها الغارة. وخرج وعلى كتفا منها كاره وكما يقول مؤلفنا فإن أبلغ ما في الكتابة هو قدرتها على البقاء ، ونجاحها في مخاطبة الانسان في كل زمان ومكان ، وكتابات الجاحظ من هذا النوع الذي يطرب له أهل القرن العشرين بالمتعة نفسها التي تلقفها بها رجال القرن الثاني الهجري. فالمعني ما يزال مشحونا بالطاقة والحيوية والديباجة ما تزال على ما كانت عليه من حسن ورواء، فكأن الجملة عنده جوهرة لا تزيدها الأيام الا لمعانا وبريقا.
وسر حبنا للجاحظ في هذا العصر بالذات ينبع من حديثا عن زمن يشبهنا فكأنه – رحمه الله – كان ينظر الى أيامنا حين قال: "خفض عليك أيها السامع ، فإن الخطأ كثير غامر ، ومستول غالب ، والصواب قليل خاص ، ومقموع مستخف ، وكنت أتعجب من كل فعل خرج من العادة ، فلما خرجت الأفعال بأسرها من العادة ، سارت بأسرها عجبا، فبدخولها كلها في باب التعجب ، خرجت بأجمعها من باب العجب ".
ويكمل عمرو بن بحر هذا النص الشجي من رسالة «الجد والهزل " بقوله: «فالصواب اليوم غريب. وصاحبه مجهول ، فالعجب ممن يصيب وهو مغمور ويقول وهو ممنوع ".
إن أخطر أنواع الكتاب كاتب يمرر رأيه أو. صراخ ، وكانت عند الجاحظ تلك الميزة التي مارسها بأقنعة مختلفة ، واستطاع أن يهجو الفرس في عز تسلط آل ساسان على مقدرات الدولة العربية الاسلامية ، ولا تستطيع اليوم إلا أن تعجب من تلك المناظرات البريئة بين (الكلب والديك ) التي ملأ بها كتاب الحيوان ، فإذا أعدت قراءتها – وعينك على ما بين السطور وليس على السطور نفسها – وجدت نصا أدبيا جادا يغوص في أعماق السياسة ، ويفاخر بين الأجناس ، والقصائد والثقافات ، ويحتاط لنفسه وسلامته فيضع تلك المصائب الناطقة الكفيلة بقطع الألسنة والأرزاق والأعناق ، في أرق الأساليب وأكثرها جاذبية وبعدا عن الشبهات.
ويعرف لنا المؤلف الجاحظ قائلا « في المدينة التي ولد الاعتزال في مسجدها حين ترك واصل بن عطاء حلقة الحسن البصري، ولد الجاظ وخطا أولى خطواته في مجتمع مركب كل ما فيه يشجع على شحذ الذهن. وتفتح الآفاق والإقبال على المعرفة. فقد كانت البصرة ككل المدن البحرية الهامة في التاريخ ، حرة منفتحة ، متسامحة وتضم أخلاطا من الكلدانيين والفرس واليونانيين والأحباش والهنود ، وكانت الحياة العقلية في القرن الثاني الهجري في أوج تفتحها. وقد فتح عمرو بن بحر عينيه على الدنيا، ليجد نفسا بين أبي عبيدة ، والأصمعي، وأبي نواس ، والنظام ، وفي بيئة تحترم الثقافة ، وتعز الكتاب والكتابة ، فوزع وقته بين بيع السمك ودكاكين الوراقين والاستماع لشيوخ علم الكلام. ويبدو أن شغفه بالعلم قد دفعه الى اهمال عمله ، والعجز عن القيام بمتطلبات بيته.
وبعد رحلة ممتعة على شواطيء كتب الجاحظ يقرر المؤلف أن وصف كتب الجاحظ بحدائق القلوب ومتنزهات العقول فيه الكثير من الصدق ، فمن غيره يخطر له أن يكتب عن أحمق هندي يتعصب ضد الفيل ، وعن بغل يفاخر الأسد، ومن غيره يفرد فصلا لكتاب أبي العبر جامع الحماقات ومأوى الرقاعات أو يكتب رسالة مطولة في مفاخرة البرصان والعرجان ، أو يتندر ببخيل ينام على سرير من القصب الأملس ظنا منه أن البراغيث تنزلق وتزل قدمها على القصب ، فلا تصل اليه ، ومن يستطيع أن يلخص البلاغة بحكاية نبطي اشترى أتانا فلما سئل عن سبب شرائها قال: «أركبها وتلد لي " فجمع بهذه القصة البساطة والايجاز والاحاطة بالمعنى وجودة السبك ، وترك الباب مفتوحا أمام سوء ظنك بسيول صاحب الأتان ، وهكذا لخص أبو عثمان كل ما يمكن أن تقوله عن البلاغة من تعريفات طويلة بطرفة قصيرة وجملة من كلمتين.
وبهذا الأسلوب البديع ، وتلك الثقافة العميقة التي زانتها روح شفافة طريفة صار الجاحظ سيد كتاب الرب ، والأب الحقيقي للحداثة العربية ، فالحداثة ليست مرتبطة بالتاريخ ، وعلاقتها بالآداب والفنون لم تبدأ في العصر الحديث لأنها كنت موجودة دائما كنضارة أسلوبية وتصويرية وكروح تسري في النصوص واللوحات منذ أناشيد الرعاة ورسومهم في العصر الحجري والحقب البرونزية.
ويأخذنا المؤلف بعد حديثه الشيق عن الجاحظ الى المدخل الثاني " فصول منسية من التصوف السياسي التاريخ السري للحسين بن منصور الحلاج » ويجذبنا بأسلوبه الجميل حين يتحدث عن الحلاج فيقول «يثير سلطان الملامتين أبو المغيث الحسين بن منصور الحلاج للمبدعين والنقاد العرب الذين ربطوا حداثتهم بالغرب وجعلوه مرجعهم الفني أكثر من مشكلة ، وتقوض سيرته وكتاباته الكثير من دعائم ذلك البنيان الوهمي الذي شيدوه منذ أمد ، ووقفوا يتأملونه بإعجاب طاووس مثير، ويحاولون فرض معطياته ونتائجه على الأجيال الجديدة بإرهاب فني لا يقل خطرا عن الارهاب الفكري الذي ساد في أيام الحلاج.
ومصدر خطر الحلاج على هؤلاء الذين يدعون صحبته ينبع من نظريته الفنية وأسلوبه السياسي معا، فهو ليس أحد الرواد الأوائل للقصيدة الحرة ، ولا صاحب الفتوحات السريالية الأولى فحسب ، لكنه فوق هذه الريادة الفنية التي وسعت من أفق الخيال العربي منذ القرن الرابع الهجري يدحض بقناعاته ، وأفعاله ونهايته الدموية الفاجعة مزاعم كل من يجرؤ على القول بفصل الفن عن السياسة ، والأدب عن المجتمع فهو يقدم من خلال سيرته الجريئة حجة يصب ردها عن نشوء التصوف الاسلامي في تربة سياسية متمردة وازدهاره فيها لحقب عديدة قبل أن يتم صرفه عن مساره بضغوط سلطوية أحالت التصوف الى شطح ورقص وحلقات مجاذيب معزولة عن التيار الفاعل في الحياة والمجتمع ".
ويجوب بنا المؤلف في رحلة فريدة من خلال تراث الحلاج الفني وريادته للحداثة وتسييس التصوف حيث يقول «إن تسييس التصوف الذي يرفضه كثيرون بحجة الحفاظ على نقاوة التجربة الروحية مسألة تحتاج الى إعادة نظر ، واذا كان الذين ربطوا الأشكال الفنية الجديدة في الشعر العربي بظواهر أدبية فرنسية ، وقبلوا دون مساءلة بالنتائج التي توسل اليها ماسيبيون وغيره من المستشرقين بشأن التصوف الاسلامي يعجزون عن القيام بتلك المهمة المؤجلة فإن الذين لم يتم استلابهم بالكامل ، والذين يرفضون الوقوع تحت طغيان الحضارة الغالبة وتياراتها الفكرية والفنية يستطيعون تقديم مساهمات تعيد التوازن المفقود الى حركة الشعر والفكر العربيين ، وما إعادة رسم منحنى آخر لسيرة الحلاج وفنه إلا محاولة من المؤلف لتشجيع الآخرين على إعادة النظر في متناقضات كثيرة أعطتها حقب الاستلاب الفكري والتسليم الأعمى شكل المسلمات والبديهيات.
إن تجربة الحلاج السياسية يصعب فهمها – كما يقول المؤلف – دون العودة الى فتوة التصوف وقد ورد هذا التعبير عند الحلاج في طاسين الأزل والالتباس حين قال «قال أبو عمارة الحلاج وهو «العالم الغريب »: تناظرت مع ابليس وفرعون في باب الفتوة ، فقال ابليس: إن سجدت سقط مني اسم الفتوة ، وقال فرعون: إن آمنت برسوله أسقطت مني منزلة الفتوة ، وقلت ؛ إن رجعت عن دعواي وقولي أسقطت من بساط الفتوة ».
ويستدل المؤلف على ريادة الحلاج للحداثة ببعض النصوص الفنية الشعرية التي ظلم فيها. فقد ظلم الحلاج فنيا بمقدار ما لحقه من ظلم سياسي ففي طواسينه الارهاصات الأولى لقصيدة تتململ داخل قيدها الفراهيدي وتحاول أن تخلق شكلا تعبيريا جديدا يتسع لتجربة فذة وغنية ، والأمثلة على ذلك كثيرة ففي طاسين النقطة وطاسين الالتباس وطاسين الدائرة ، وطاسين المشيئة وطاسين التترية ، فيقول في مقطع من طاسين النقطة:
عن قلبه نأى
من ربه دنا
غاب حين رأى ما غاب
كيف حضر ما حضر
تحير فأبصر
أبصر فتحير
والى رائد أفر من رواد الحداثة العربية ينتقل بنا المؤلف للتحدث عن أبي حيان التوحيدي تحت عنوان "منطق السلطة وهواجس المثقفين. ثنائية التمرد والاستسلام في تجربة أبي حيان التوحيدي» حيث قال: لم تتغير علاقة المثقف والسلطة كثيرا منذ عصر أبي حيان التوحيدي، ولا تبدلت شروطها التي استقرت نسبيا ، وأصبحت معروفة منذ القرن الثاني الهجري إلا في الحدود الدنيا التي يفرضها اختلاف شكل مؤسسات السلطة أكثر مما تؤثر فيها طموحات المثقفين وأحلامهم. لقد أجبر الحكام في عصر أبي حيان التوحيدي وغيره ، المفكرين الأحرار على الوقوف في المنطقة الرمادية دائما، وقمعوا تمردهم بتوظيف حاجاتهم ، والتحكم بهم من خلالها ، فصاروا يمشون ويعرجون ، ويستقيمون وينحرفون ، كل حسب اجتهاداته ، وحصانته الأخلاقية ورصيده من النزاهة ، ولم يكن لأبي حيان أن يكون غير ما كان في محيط لم يعترف سلطانه للمثقف إلا بدور التابع ، وعمل جاهدا على حرمانه من نيل حرية القرار، ورفاهية الاختيار بين عدة أشكال للحكم والتفكير، فدفع أبو حيان التوحيدي وغيره من المفكرين ثمن اختلال تلك المعادلة الرهيبة التي تصطدم فيها الحرية التي هي شرط الثقافة ، بالعبودية التي هي شرط السلطة ، فتكون الغلبة دائما لمنطق السلطة في البلاد المحرومة من الحرية ، والرازحة تحت حكومات استبدادية لا تعترف بغير مشروعها السياسي، ولا تتعامل بود إلا مع شارحيه ومفسريه ، والمتعيشين من استقراره واستمراره ، وهؤلاء ليسوا بالضرورة من أنصار العقل ولا من مؤيدي شطحات المخيلة الحالمة الذين لا يرضون بأقل من أنظمة لا تكبت الحريات ، ولا تهين كبرياء الانسان.
مصطفى رجب (أستاذ جامعي من مصر)