(كل المدن مدن أهلية، والناس كلهم أخوة، لا، لن أعود الى مكان هجرته حيا، لأموت فيه)
(1)
حضارات عشتها قبل أن أراها. وتواريخ ملكتني قبل أن أملك نفسي! هأنذا، في آن واحد، في مكانين. هأنذا، أخيرا، على "البوغاز" في "البوسفور"!
(2)
المدن أجساد. لها روائح واختمارات. شمائل وثآليل. اعراق وثمالات. ندخلها متحسسين أركانها وكأننا في قبة الكون. نبحث فيها عن المدينة التي أضعناها، ذات يوم، في زمان بعيد. فنحن نكبر غي "مدينتنا"، ونصغر فيها، وتبقى المدن الأخرى مرائي. نقاربها كما نقارب امرأة عشقناها، لا يضيرنا التمنع منها، وانما الابتذال.
نأمل الوصل منها فتعطينا حالها بلطف. لطف نحسه يدغدغ أقدامنا ونحن فيها نسير. لكن لطف "اسطمبول" لم يكن في الحسبان. لطف هذه الجدر الشامخة الحاضنة للعصور.
(3)
تسحرنا المدن لا بأبهتها وانما بالتاريخ الذي يختبيء فيها ولذا تجدنا نمشيها ونحن نبحث فيها عن الأسرار. عن أسرار الحياة التي اندمجت بحيطانها. عن الاندثارات في ابهائها. عن التاريخ الذي يتجسد أزوالا في كل زاوية منها. وعن الحكاية التي ملأت أسماعنا ونحن عنها بعيدون. هذا ما ترويه لي هذه الهالات، هالات هذه المدينة الحائرة بين الزمن والماء. ولكن من علمنا الحقد على الآخرين غير "دروس التاريخ" الزائفة، تلك التي ملأت قلوبنا بالمقت: مقت الآخرين "لحماية" أنفسنا منهم، ونحن معهم في كوكب واحد!.
(4)
عظمة العالم تكمن في اختلافه. واختلافه يكمن في تبنيه، بلا خوف، لخصائصه، وأكثر من ذلك، لحقائقه المنبثقة من كل بؤرة منه. فما جدوى أن يعاني الكائن من أجل أن يرى بعيون غيره، والا يسمع بأذنيه
الكائن قيم وتعاليم، وهو، لذلك، سريع العطب. وهنا يكمن سر اشتعال عواطفه، وانهياره الآني، أيضا، خلاصه الوحيد يكمن في تحرير حواسه من التدخين، وتخليص عقله من سيئرة المطلق عليه. وهو ما سيعني حب الذات المبني على احترام "الغريب". الغريب الذي ليس هو غريبا تماما، في الحقيقة. وهل يمكن تحقيق ذلك؟ بلى ! فإذا كانت أخطاء الماضي غير قابلة للاصلاح فلا معنى للحياة، أصلا ولربما كان المعنى الوحيد لها يكمن في هذه الإمكانية الأساسية , فقط.
(5)
من آخر هضبة من هضاب "آسيا" أنحدر الى "البوغاز". أنحدر ماشيا على قدمي الكيلومترات الآسيوية الأخيرة قبل أن أصل الى "أوروبا". على الضفة الشرقية للبوغاز أتوقف. أتوقف ناظرا الى الفضاء. فضاء آجري أحمر ومضيء. خلفي تركت، في نهاية آسيا، أو في بدا يتها، لا فرق، آلاف الأبنية المتها فتة المتكاتفة التي ذكرتني بـ "الغورية" و "الحسين". هنا كثير من القاهرة، ولا شيء من "دمشق". وكنت أريد العكس ! ولم تواني كنت أريد العكس؟ وأي عكس يمكنه أن يشرح الأمكنة والتاريخ:؟ فلا صمت، اذن، ولا نظر. ولا نظر الاختلاف ! ولكن، أي جدوى من إطالة الموقوف في مكان هو نفسه يمشي راكضا نحو الماء!
(6)
كاتبا هذا، هكذا، أحسني أزيف مشاعري ونواياي. أحسني أبتذل نفسي كثيرا، وأهين الشمس الساطعة التي تنير الكون. لماذا لا أمشي ساكتا، باحثا في خفايا الضوء عن الأ فانين. لماذا لا ألتفت الى اليسار، قليلا، لأرى "أيا صوفيا" الخالدة تحتل "الهضبة الأخرى" المسيطرة على البوغاز! أولى هضبات "أوروبا" المغروسة في القاع.
(7)
هذه المدينة الحائرة بين الزمن والماء، المرمية تحت شمس آسيا، والتي تدعي أنها أوروبية، كم داستها أقدام وخيول. وكم عبرتها مراكب وانحناءات؟ وغشتها مناهج وحضارات؟ ولكم تملاها بشر عابرون، لم يبق منهم الا خيالاتهم الممزوجة بالتراب.
هذه المدينة… حقيقتها الأساسية تنبع من هذه المآذن التي لا تحصى. مآذن تركب، مثل فرسان العصور الأولى، الهضاب المتسلطة على البحرين: الأبيض والأسود. وان شئت بحر مرمرة، وبحر الشام. انظر!
وأحسني فجأة، أسعد كائن على الأرض، لأنني كنت، ببساطة، أسبه في التاريخ. تاريخ رضعته نائما بين أقدامهما. تاريخ كنت أخمنه ولا أراه، واليوم أمشيه على قدمي.
(8)
بلى! "حمد" كان يحكي "لزهرة" عن هذا، وكنت أسمع مختفيا تحت اللحاف. تحت لحاف الرقع والقشور. كان يحكي وهو يتمرغ كالعربيد، كالعربيد الذي يريد ان يفترس سمانة. ولكي يفترسها، أكيدا، يفسح لها مكانا لكي تحط بأمان عليه. ولم يكن ثمة من مكان غير صوته الممتليء بأحداث التاريخ وبأحاديثه ! عم كان يحكي ذلك الـ "حمد" العجيب ! كان يحكي عن حوادث، وعن مدن. مدن لم يدخلها، لم يعبرها، ولم يرها، حتي، من بعيد، ومع ذلك، كان يعرفها وكأنه منعها بيديه: والآن وأنا أمشيها مستثارا، ماذا بقي لي غير أن أعد المآذن والرقبات؟ غير أن أبحث في أشلائها عنهماا؟ عن "حمدي" و "زهراي". الا يريدان أن يجيئا، هنيهة، الى هنا علنا نلتقي، للمرة الأخيرة، على القارتين. ووجدتني أبكي. أبكي،واقفا على الضفة الآسيوية للبوسفور، مشى طفل فقد، توا، أمه وأباه !
(9)
نحن لا نبكي على الكائن، اذن، وانما على "التاريخ". على تاريخه المصنوع من فعل ومن كلمات. من قبل كنت أعتقد أنني "قوي" ! وهأنذا أكتشف أنني "ضعيف". ضعيف لأنني أعتقدت، يوما، بما ليس بي، وما ليس لي. وهل يعتقد بما لا يملكونه سوى الضعفاء، أولئك الذين زين القمع لهم صفات ليست فيهم، وجعلتهم الحاجة الى "الاعتراف" يركضون. يركضون وراء سراب اعتراف سخيف بهم ! اعتراف يبدو أشد سخفا كلما تحقق أكثر.
(10)
أقطع البوسفور ماشيا بهدوء. بهدوء وبطء. وفي منتصف جسر "أتاتورك" أتوقف. أتوقف بين القارتين، تماما. لكأنني لم أعد أريد أن أصل الى حيث أنا الآن: أتوقف مستديرا. باحثا عن المآذن والقباب. عن تلك الرسومات المتعامدة مع الضوء، الواصلة الأرض بالسماء.
وأحس الجسر يهتز تحتي. يهتز من أثقال الحمول التي لا تتوقف عن العبور. وحدهم صيادو السمك البؤساء، ذوو الوجوه المحروقة من الضوء، والسحن المملوءة بالسغب والغيظ، بجلودهم المدبوغة بالزيت والرماد، يقفون، مثلي، بسكون، شاتمين الماء الذي يحمي أسماعه الصغيرة منهم. لكأنهم لا ينتظرون من النهار الا البقية التي لا تأتي! مثلهم، أظل واقفا فوق الماء. يسارا، تتجلى في وجهي مآذن "أيا صوفيا"، ويمينا أكوام البنايات العتيقة في "تكسيم". البنايات الهشة، الآجرية اللون. الهاجمة على الضفتين، مثل كائنات عطشى.
مثلهم، أظل واقفا ساعات، غارقا في صمت الضوء المتسلط على الكون، وكأنه يأمر العالم، كله، بالسكون ! سكون عبثي وبلا جدوى، ومع ذلك، أنفذه بامتثال.
(11)
واقفا في سدرة الضوء، أصير أتمتم: أحب قوة الضعيف وجمال القبيح، وأكره رأفة القاسي وتواضع المتكبر. أحب عنا> المخذول وتصميم المنهزم، وأكره حلم القوي وتسامح المنتصر. أحب تلجلج الجائع وارتجاف البرود، وأكره تعفف الشبع وطمأنينة المقتدر. أحب… واكره… وما أنا غير هذين العاطفتين اللتين بلا حدود؟
(12)
هنا كل شيء يبدو "مهترئا وأزليا" (ولا معنى لحضارة بلا قدم)! لكأن الشمس تكفلت باهرائه وتدميره، وهو ما لم يعد يثير دهشتي، ولا حنقي. لماذا ألوم الضوء على فعله الأساسي في الحياة: فعل تفتيت القشورللوصول الى جوهر الأشياء.
هنا، عرفت، لأول مرة، انه يمكن لي أن أعثر في ذاتي على منجم من ذهب، أو على بئر من رماد: وعلي، وحدي، أن أقرر الاختيار.
(13)
في صحن "جامع سينان" (لم أسمه الصحن:؟) أجلس، متعبا من السير. أجلس أمام أحدى حنفيات الوضوء أغسل، بلا تردد، وجهي ويدي من لهب الشمس. أزيل عنهما وهجها الذي تراكم، منذ أول النهار. ماء دافق بلا منة، وظل منعش وأمين. ذاهبون وآبيون، يبللون انحاءهم بلا حساسية أو خوف.وكثيرون منهم يغسلون أقدامهم المتعبة بمتعة لا تعادلها الا متعة التوسيخ. لكأن غسل القدمين هو، وحده، الذي يريح ! ويخطر لي أن حضارة الاسلام هي، في الحقيقة، حضارة الماء! حضارة الماء الذي كانت تفتقر اليه. ولم لا أفعل ما يفعله الآخرون، اذن؟ ولم علي أن أفعله ا؟ ووجدتني أحبس ضحكتي الوحيدة، وأنا أمد قدمي الى الماء: فليس لعضو ميزة على عضوآخرفي فضاء يفور من الحر!
(14)
في أزقة ضيقة ومشجرة، وبين أبنية صرارة من القرون الوسطى، وفناءات مملوءة بالورد والريح، يتربع الجامع "السليماني" المهيب. جامع هائل ذو منارات أربع، يعلو الهضبة المطلة على البوسفور، من جهة أوروبا.
في داخله أحسر بالبرودة والإنعاش. أحس بجلالة التاريخ ونقائه. لكأن ما يصنعه البشر، منذ أن ينجز، يستقل عن أهوائهم ونواياهم. يحيا بذاته ولذاته. سبحان من خلق !
في هضبته أقف وأنظر! جوامع وأساطير. تكيات لا تحصى تحيط بالبحرين، وفضاء من الماء الدائر كالغراف. كيف لي أن أحيط بشيء من هذا وأنا مازلت أحبو؟ أمام ضخامة المشهد، وتعدد وجوهه، وأساليب خفاشه، تحس نفسك طفلا! تدرك، أخيرا أنك امتلأت حماقة وسخافة. تفهم أن عمى البصيرة الذي حقنوك به لم يدلك، أبدا، على الطريق. على طريق الإدراك الصحيح. وأنه لم يقدك الا الى منزلق وجودك المتهافت. لماذا لا تقول الحقيقة أيها التعيس.
(15)
أشرقت الشمس (منذ متى؟)، وها هي ذي تغرب الآن ! وما هم أن تشرق أو تغرب، وأنت في حضرة البردة والتاريخ؟ جسور البوسفور الطويلة المدى هي التي تربط عينيك بالنوء. وهي التي ترفعك، مع غمامها المتطاير، بهدوء. هي التي تحثك لكي تتخلص، أخيرا، من أوقاتك المحددة ذات البلادة التي لا تحتمل. انظر ! كيف يخرج النور من الماء! كيف تحيك السفن حولها خيوطه البيض مثل غزل "بينيلوب" الجميل.
أدع الشمس تغرب، ولا أترك "السليماني" من أعاليه أطل على كل شيء: على ما أرق، وعلى ما لا أراه! أمثل على ذاتي المختبئة في الحضيض. زرقة الماء تغريها بالسفر وبالخروج، ومع ذلك، لا أجد سوى المرارة. مرارة الخضوع لمتطلبات وهمية أبعدتني عن الحياة ! مرارة الامتثال لمقتضيات بائسة من أجل الحفاظ على ما جوهره التبدد والاندثار. أي غباء يعمي بصيرة الكائن ليقبل بتسليم نفسه لجلاديه؟ لمدمري حريته وحياته ! لم لم ينبت لي جناحان؟ ولم لم أستطع الطيران وأنا في المهد؟ اللعنة !
(16)
بعض الناس يولد ليموت، وبعضهم يموت دون أن يولد، أصلا ! وفي الحالتين ليست الولادة سوى التخلص الجذري مما تعلمناه. مما تعلمناه رؤية وأفكارا، بلا استثناء. فليس في قواعد الحياة قاعدة جميلة (وان كان الكثير منها يلائم الكثيرين من الناس)! هذا ما أحسست به وأنا أجوب "مدينة القارتين". أجوبها، وأنا أتمتم: كيف يحق لكائن لم ير العالم كله، أن يحكم عليه؟ على نفسه. وكيف يدعي المتهافتون العرفة وهم قاعدون؟ قاعدون فكرا وسلوكا ومسافات. ولم لا تفرض الدول السفر على "مواطنيها" بالقوة، بدلا من أن تحجزهم في أماكنهم كالأغنام؟
(17)
يمكن أن تضيع نفسك، بالصدفة، في أي مكان، وليس عليك أن تعثر عليها. أبحث عن غيرها، وعلى الفور! أبحث لابد أن تجد الشبيه. فللشبيه مزايد وآفات. هو ليس صورة لك، فحسب، انه قواعد وسلوك. إنه أنت. أنت الذي تمخض الكون عنه، ذات يوم، في بقعة ما من العالم. هذا ما كنت أفكر فيه وأنا أجوب "البازار الكبير" الذي يحتل قلب "الآستانة" أجوبه متمليا وجوه الناس حولي. العلوج يتشابهون في كل مكان (كنت أردد) والمستضعفون في الأرض، أيضا! لكن محلوج "البازار الكبير" يتشابهون أكثر مما يتشابه البشر الآخرون ! يقفون بسلافة أمام دكاكينهم الملأي بالقسمات، بالآيات المزخرفة، وبالمعاضيد. وحومهم دفينة، أثوابهم نظيفة، ولا يتكلمون الا بلغة الدولار ! وهؤلاء الحملة النقلة لم يطأطئون رؤوسهم وهم يمشون بصمت، وكأنهم يخشون من مجرد النظر الى الفتنة والأباريق؟
(18)
أي فناء يستوعب هذه الأبدية؟ أردد في صحن الجامع الكبير وأنا أرى جموع البشر تتهاوى بين أجنحته الحجرية الصامتة. خلق وتعابير. ضوء وصمت. مشي متهاد كمشي الحجل بين افناء الجزيرة الفابرة، حتى لتحس بأن روح العالم انبثقت هاهنا أول مرة. روح لم تخلف في الفضاء سوى رفيف أجنحتها وهي تطير! وأصير أردد لائما (وهل يلوم سوى العلوم؟) علام تتمزق رهبة وأنت بين هذه الهياكل الحصيفة؟ تنظر هنا، وفي عينيك هناك. وتأكل من هذه، وفي نفسك تلك. تشرب رغدا مما بين يديك، وروحك ظمأي الى ما أردت أن تسقى منه، ذات يوم ! أي شفف يفرق الكائن في بحر شهواته التي لا ترتوي سوى الحرمان؟ سوى حرمان الطفولة الذي لا ينمحي! أخيرا، "أيا صوفيا" ! أيا صوفيا الحمراء الباذخة، ذات الأ حجار الياقوتية الملس، تتربع بأبهة على هضبة الجناح الأوروبي من البوسفور. تطوها مئذنتان من أحجار بيض نمير أحجا رها، وهما، مع ذلك، شامختان.
خشوع قاهر وحيرة ! ماذا أفعل نمير أن أستقريه الحجر والآجر؟ غير أن أزيح المضاف مؤقتا لأرى جسد الكنيسة الخاشع كما كان !
في الداخل مازالت الكنيسة – الجامع حية، تزينها رسومها الأولى بافتنان. في جنباتها لوحات الموزاييك التي تمثل العذراء وعيسى بن مريم لم تزل علي هيئتها الأولى ولم تزل تعابير الرهبة تتموج فوق وجوه القسس والرهبان.
في القبة المركزية منها يتجلى: الله، محمد، متلازمين. وفي الجهة الأخرى: أبوبكر وعمر، عثمان وعلي. وفي ركن أبعد: الحسن والحسين. وفي سقف القبة الملاصق للسماء: آيات قرانية محاطة بتدوير.
هنا تدرك ببساطة، أن الخلود ليس شيئا آخر سوى التراث. وأن تراث الإنسانية، مهما كان مصدره، واحد.
(20)
في "مدرسة على باشا"، التي تحولت الى مقهى شرقي جميل، أقعد محتميا من الشمس. اهبط سلالم خشبية عتيقة تقودني الى ساحة "المدرسة التي كانت". ساحة تلطأ تحت الأرض لتحتمي، هي الأخرى، من اللواحظ والنوء. على حشايا مريحة، ذات ألوان هادئة وسميكة: آجري، أخضر لواف، أزرق نيلي، توتي، يجلس الناس متمازجين بلطف.
شرق وغرب هنا يلتقيان. شرق، وغرب، وأساطير! يابانيون يجلسون القرفصاء باحترام باذخ للمكان. للمكان الذي لا يتوقفون عن تصويره، وتزويره. بم يفكر هؤلاء البشر القادمون من مشرق الشمس؟ وكيف لا يسلبهم هذا السكون العميق النابع من أرض محشوة بالتاريخ؟
هأنذا أراهم أكثر هدوءا مني، وأسعد! أحسهم يتمتعون، فعلا بما يرون وبعا يلامسون. اللعنة لكأن متعتي وهمية. أي تاريخ خلفته، ورائي، في "دمشق" دون أن أدركه، أو أستوعب منه شيئا؟ ولم تركونا كالأبقار نسرح في المكان، ولا نمرح نية، دون أن يشرح لنا أحد أمرا؟ الا تكمن بذرة "تفريغ الكائن" وعزله عن تاريخه في هذا الاهمال؟ في هذا الاهمال المتعمد. بلى! الآن أعرف. فما أحيا الغرب سوى الصراحة، وما قتل الشرق العربي سوى الأكاذيب. كيف لا أشرب الشاي بسرعة وامتعاض، وأمشي! أمشي وأترك الياباني الصامت منطفئا في الزاوية، مثل سيل عرم احتضنه أخيرا، بحر بلا حدود!
(21)
"اسكودار"، آخر الهضاب الآسيوية قبل البحر، أمشي، متحفزا، أمتارها الأخيرة، من جديد. أحس بطعم التراب الآسيوي، وبنفحة الريح القادم من أعماق الشرق. أتلفت بحنين، بحنين ممتزج بالرغبة في الموت، الى شاطىء آسيا المنطفيء عند الماء. أرى جولان الخيول وصولانها وهي
من أي فج نبع هذا العالم. والى أي مدى يمكنه أن يروح؟ ولكن، من، من غير هذا الماء الصامت، يمكنه أن يقول الحقيقة؟ ولم تواني أبحث عنها وأنا نمارق في الوهم؟
(22)
أمواج المضيق تلاعب "اسكودار" بمودة (لكأن الماء يدرك هشاشة الأرض التي يغوص فيها)! وبنعومة، يمتد لسانها، لسان القرن الذهبي (غولدن هورن) ليفرج الضفتين. لكأن الماء أحس بتأنيب الضمير فأصبح ألطف ! ألطف وهو يقسم أوائل الأرض الى هضبتين: هضبة "تكسيم" الباردة، وهضبة "أياصوفيا" الساخنة.
الهضاب الآسيوية تطو البحر بما يكفي لترى منها، ومن بعيد جسوم الأرض الأوروبية وهي تخرج عارية من الماء. واقفا في نزوة الضوء المتكسر فوق صفحة البوسفور، كنت أردد: أي عقل يمكنه أن يختلط بهذا، كله، وينجو من
الاضطراب؟ كيف يمكننا أن نتقي رعب التاريخ، ونحمي أنفسنا منه، ان لم نقم بنبشه، وتحريره من الزيف والادعاء؟
(23)
المكان الوحيد الذي سأعود اليه مرتين. هو "البازار الكبير". هو "سوق الحميدية" الدمشقي، وسأجده، هذه المرة، موصد الأبواب. ماذا أفعل غير أن أتعلل بالمشي البطيء في حواشيه التي ستوصد أبوابها هي الأخرى، سريعا.
أدع السوق ينفلق على نفسه، وأروح الى التربة المجاورة: "تربة بيازيا" العظيمة. هجر الناس السوق وتجمعوا حولها. وبدلا من ذهب "البازار الكبير" وفضته وسجاده الثمين هنا، يعرضون الأقمشة الرخيصة، والحلي المزيفة، والمطاط،. وعوضا عن الصمت الفاخر في ذلك السوق الذهبي تصدح، في فضاء التربة، الأغاني العاطفية البائسة التي ذكرتني بنواح "صباح" عندما كانت صبية. شيء واحد يعوض هذا التغير الجذري، ويعطيه مهناه ومتعته (أيضا): اللطف ! اللطف المنبعث من وجوه البشر البؤسا،. لكأن البؤس نعمة (نعمة الاتصال المجاني مع الآخر. والاحتكاك به بلا "فائدة أو سعر")، والتملك المفرط نقمة (نقمة الغرور والنفور). هذا ما سأدركه، ذلك المساء! فلأول مرة، هنا، أستطيع أن ألمس سلعة، أو أن أختبرها، دون أن أدفع ثمنها سمعا، وبالدولار. لماذا لا أتمتع، اذن، ماشيا بين من أحب؟ لماذا! وهذه روائح الشواء الشهي بدأت تلون بدخانها البهي لرائح المساء. لم أكن جائعا، مع ذلك، صرت أريد أن آكل. أن آكل ما أشمه قبل أن أراه.
(24)
في مقاه كثيرة أجلس. أجلس على كراسي القصب القزمة، وركبتاي مطويتان. أتذكر، بمجرد الجلسة هذه، مقاهي،دالخابوردد المصنوعة من الزل. وجراديقه المحاطة بالقصب والمرمل. في ساحاتها المكشوفة للخلاء، كنا نجلس متسامر ين تحت قمر "الجزيرة" الذي لا يغيب حولنا ينتشر الناس بلا مزية أو عداء. يتمددون بعفوية بين أخاديد القطن التي أينعت أغصانه، وبياضه الناصع ينعكس بمحبة على وجه القمر الملوث بالغيم.
قطن، وماء، وشاي (كما الآن) وأحاديث شتى مملوءة بالرغبة واللمع. أحاديث لا هم لها سوى التطلع الى "هناك". الى "حيث هو العالم" بعيدا عالم كنا نحسبه لغبائنا سعيدا.
(25)
في مقهى "القارعة" الذي جلست فيه صبه ذلك اليوم أمد رجلي، بلا حرج، وأنا أنظر حولي متعجبا! نساء سمان يتربعن حول نار "مزيفة" يخبزن على الصاج خبزا رقيقا لسياح بلداء! وفجأة، أحفز واقفا. أدير ظهري لخبازات الفولكلور التعيس دون أن أمس الشاي الذي قدمه لي صبي المقهى ذو الطربوش المزين بالخيوط. أحس بقلبي يمتليء بالغيظ؟ لكأنهم يبيعون عواطفي وأحاسيسي. يبيعون ذكرياتي القديمة التي ان خلوت منها خلوت من نفسي. يبيعونها على مرأى مني ومسمع !
وأحسني أريد أن أخرج من ذكرياتي قبل أن أخرج من المكان. أريد أن أوقف ذلك التذمر الذي بدأ يتسلط من جديد على. صرت أتذكر خبز أمي فجرا قبل أن تبدأ الظعون بالرحيل. أتذكر وجهها الضامر، وعينيها الدامعتين من البرد والخوف والدخان. أتذكرها وهي تغالب فجر الحماد الصاقع قبل أن يحمل حمد الجمال. الى أي فج كنا سنرحل. ذلك اليوم؟ ومن أي ماء كنا سنشرب ! أما الأن، فأنا أعرف من أية قارة جئت، والى أية قارة سأروح ! أي برهان أكبر من هذا يؤكد عبث الوجود ومتعته؟
في المساء الأخير، أجلس في ددمادودد الذي يتربع فوق كتف "فنديكزاده"، وهي أعلى هضبة في القسم الأوروبي من اسطنبول.. "مادو" الذي ذكرني بـ "بكداش" للمرطبات في سوق الحميدية الدمشقي.
أجلس وحيدا وعديدا! لون المساء المشع يغريني بالتبعثر والانتشار. أشرق وأغرب. أهصر وأشرم (أنا لم أر العراق، بعد) خطر لي في ذلك المساء الملوث بالشوق: وما يخطر لنا، لا يخطر عبثا، كما صرت أعرف الآن. لأي شأن تناهبتني الظنون، ذلك المساء، اذن؟ ولم أحسست بروحي تكاد تقفز خارجة من صدري لتطوف في الأنحا،؟ ولأي غرض كان لساي يلهج ببيت "الحلزة اليشكري" في مديح الرحيل.
آذنتنا ببينها أسماء رب ثاو يمل منه الثواء!
كنت أعرف أنني سأسافر غدا. لكن العودة الى المكان الذي نقيم فيه ليس سفرا، وانما امتثال: امتثال الحركة للسكون، والاكتشاف للاحتراف ! ماذا يبقى لنا، في هذا الحال، غير الانتظار؟ غير انتظار الرحيل قبل أن يملنا الخليل.
خليل النعيمي (روائي وجراح من سوريا)