محمد علي شمس الدين
قصيدة «مرثية لاعب سيرك» لاحمد عبد المعطي حجازي (ولادة تلا/ محافظة المنوفية 1935) قصيدة تساوي مملكة. قصيدة زاخرة بالحركة والصور المبتكرة والأسئلة الوجودية حول توازنات لاعب بهلوان أمام فيزياء الحركة والخطأ وميتافيزيك الموت. منذ أن كتبها حجازي في العام 1966 ثم ضمنها ديوانه» مرثية للعمر الجميل حتى هذه اللحظة في مطلع العام 2021 وأنا أستعيدها ما يزيد على نصف قرن ببضع سنوات وتتفتح أمامي صورها وأبعادها المؤثرة وموسيقاها الجنائزية فأعيد القراءة أو الإصغاء وكأنني أستمع إلى أسطوانة لموسيقى «شوبان» nocturne2\ليلية2)….. ضربات بيانو تنقط كحبات مطر حزين في ليل غامض تتوالى وتشد بحبال روحي إليها تارة ببطء وطورا بسرعة تكرج كرجا.. أحيانا تكاد تتلاشى ضربة ضربة ويبقى صداها مستمرا في تأليفات متباعدة (opus) لحن «مرثية لاعب سيرك» يعيد ثلاث مرات (الجملة/ النواة) التالية «في أي ليلة ترى يقبع ذلك الخطأ… هي مرثية متحرّكة بصور جريئة واستعارات غير تقليدية. كما أن إيقاعاتها وأوزانها المختلطة تمزج بين الرجز في نواته الأساسية (مستفعلن) لتلحق به نواة المتدارك (فاعلن) والمتقارب (فعولن) مع ما يلحق هذه التفاعيل من خبن وطي وخبل، ما ينطوي على ابتكار في عروض الحداثة الشعرية وتوزيع جديد لنوطات وتفاعيل كلاسيكية. هنا مرثية غير تقليدية للاعب سيرك يخضع جسده لتوازنات سيمترية تحبس الأنفاس في الحركة والانتقال على الحبال. ستلبي القوافي الهمزية الساكنة (الخطأ) والمتحركة (أخطاء) حبس الأنفاس ثم إرسالها مع تحركات اللاعب.. هذه التوازنات السيمترية ينذر الإخلال بها بالوقوع في الخطأ المميت.. الخطأ هنا هو المجهول الحتميّ. وهو بمثابة القدر، مخبأ كأفعى في جحر.
قرأت هذه القصيدة بنفسي عدة مرات وسمعتها من الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي مرّات عديدة، في بيروت وفي القاهرة، في إحدى أمسيات القاهرة سمعتها منه وكان مشاركًا معه آخرون بينهم محمد عفيفي مطر.. يلقي حجازي قصيدته تلك كقائد أوركسترا. يقف منتصبا فارشًا يديه يحركهما يشير بهما، يحرك جسده، يتماوج مع الكلمات والصور وجهه، تحت الضوء صلعته تلمع وعيناه تبرقان. وحين أصغيت لشوبان في nocturne2. لمحت حجازي. ما هي مرثية لاعب سيرك أشلاء صور وتأملات تتوالى أو تتدافع حول لاعب سيرك يلعب على حبال عالية. وتحته هوة فاغرة كأفعى تفتح فمها لتتلقفه حين تزل قدمه يخطئ فيهوي. لاعب السيرك مدرب وينتقل من حبل لحبل بخفة العصفور والأفعى بانتظاره؛ لأنَّه سيقع في فمها حتما بنتيجة خطأ ما. ما هو ذلك الخطأ. «في أي ليلة ترى يقبع ذلك الخطأ»…. إنه لعب. لكنه ليس بلعب. ما هو الموت، أهو خطأ في الانتظام مثلا.. أهو خوف الجسم من المغامرة. غفلة عن حساب الخطو، فقدان حكمة المبادرة، هل نموت لأننا نخطئ في خطواتنا لكن الصائبين الحذرين المدربين يموتون أيضًا. يقول عمر الخيام في إحدى رباعياته: «ستموت إن تشرب وإن لم تشرب».
يسمي حجازي أماكن لاعب السيرك وهو يتنقل في الهواء من حبل لآخر «منازل الموت» وينعت فنه بالمرعب، أي الحياة نفسها. ويبدع في تصوير الحبال «كأن حيات تلوت/ قططا توحشت سوداء بيضاء/ تعاركت وافترقت على محيط الدائرة «ما هو محيط الدائرة هو الحياة بنفسها المحطة الثانية للإبداع في القصيدة تتجلى في وصف الموت المتربص تحت حبال لاعب السيرك ممددًا تحته في الظلمةحيث تتوالى مجازات التشبيه «كأنه الوحش الخرافي
الذي ما روضت كف بشر/ فهو جميل كانه الطاووس/ جذاب كأفعى ورشيق كالنمر/ وهو جليل كالأسد الهادئ ساعة الخطر/ وهو مخاتل فيبدو نائما بينا يعد نفسه لوثبة مستعرة»… أما المطرح الثالث للإبداع فهو نهاية القصيدة، حيث بعد أن يهوي لاعب السيرك بجسده في الهوة يبتسم «كأنما عرفت أشياء وصدقت النبأ»