انتقلت برفقة جوجو إلى هذا المنزل ذات صباح ضبابي في مطلع الشتاء، لم يكن رحيلا حقيقيا ،مادام كل متاعي ينحصر في دولاب قديم وطاولة للكتابة وبضع علب كرتونية .كنت أجلس في الفيراندة أنظر إلى الشاحنة المترنحة وهي تختفي وسط الضباب، كان جوجو يمرر أنفه تحت الإفريز بالقرب من السور الإسمنتي وباب المدخل الزجاجي كما لو أنه يتأكد جيدا من روائح منزلنا الجديد وهو يميل برأسه مصدرا همهمات مخنوقة. كان الضباب قد ابتعد متموجا في بطء. كان صافيا وشفافا ولم يكن يشبه في شيء الضباب الكثيف الذي يثقل على الطبيعة. كان يبدو لي أنه يكفي أن أمد يدي لألمس غلالته الندية المرهفة. حدقت طويلا في الضباب وظهري مستند إلى علب الكرتون،أخيرا بدا لي كما لو أني أرى كل قطرة ماء بلون الحليب. وجاء جوجو الذي تعب من شم كل شيء لينام متكوما عند قدمي. ولما بدأ البرد يتسرب إلى ظهري سحبت شريط علبة الكرتون اللزج التي كنت أتكئ عليها وأخرجت صدرية صوفية وضعتها على كتفي. ثم عبر الضباب طائر يتمايل من جانب لآخر قبل أن يحلق في علياء السماء.
كان هو أول من تعلق بهذا المنزل .
– أليس قديما جدا ؟ قلت وأنا أمرر طرف إصبعي على مصراع تقشرت صباغته.
– ربما ، لكن الجميل أنه متين . أجابني وهو يرفع بصره في اتجاه دعامة سميكة.
كان للدعامة بريق داكن .حقا فالمنزل كان يبدو متينا.
– موقد الغاز وسخانة الماء من طراز قديم جدا.
حاولت مرتين أو ثلاثا أن أدير أزرار الموقد. كانت تصدر صوتا بلا صدى. كان المطبخ المبلط قد نظف بعناية فائقة ، لكن كانت هنا وهناك بضع مربعات مشقوقة يظهر من خلالها إسمنت الحائط. وكان ذلك يشكل زخارف هندسية منمقة.
– انظري، إنه من صنع ألماني .هذا شيء غير مألوف كما تعلمين. موقد غاز أجنبي وفوق ذلك فهو شبيه بتحفة فنية.
نظر إلى مستخدمة الوكالة العقارية الشابة التي وافقته الرأي بحماس قبل أن تجيب :
– أجل ، أنت على حق، فقد أقام هنا قبل عشر سنوات طالب ألماني هو الذي تركه لدى انصرافه، هذه قطعة ألمانية أصيلة.
كان الموقد بمتانته هاته ينم عن خصوصيته الألمانية.
– إذن لا داعي للقلق، فهو لا يتعطل أبدا.
ثم ابتسم، وقمنا بمعاينة غرفة النوم والحمام والصالون،بعدها تأكدنا من صلابة الأبواب وحالة الأنابيب وعدد المناشب الكهربائية؛ لم يستغرق منا ذلك وقتا طويلا. كانت كل الغرف صغيرة ومرتبة بإحكام والأثاث منظف بعناية. وأخيرا حين وصلنا إلى الممر قال وهو يلقي نظرة على الحديقة الواقعة خلف الزجاج :
– حسنا ، اتفقنا، هنا سيمكننا العيش مع جوجو.
كانت الحديقة توحي بالكآبة والعزلة، لم تكن بها أجمة ولا شجر ، لا شيء، سوى البرسيم النابت هنا وهناك.
– معك حق ، الأهم هو أن نتمكن من العيش فيه مع جوجو .
أجبته ، فانحنت مستخدمة الوكالة شاكرة وعلى محياها أمارات السرور.
كان الأهم هو أننا تمكنا من المجيء بجوجو إلى هذا المنزل الجديد. لم أستطع إعداد شيء يذكر. كان ذلك أمرا لا مفر منه، بحكم أن الجميع عارض هذا الزواج. كان يكفي أن ننطق بكلمة زواج حتى تتجهم الوجوه ويعم الصمت. وانتهى ذلك بهمس منزعج: « هذه مسألة ينبغي التفكير فيها جيدا». والسبب عادي جدا. قبل كل شيء فقد سبق له أن فشل في زواجه الأول. ومنذ عشر سنوات وهو يرسب باستمرار في مباراة القضاة، إضافة إلى أنه كان مصابا بصداع الرأس الناجم عن توتر الأوعية الدموية. على كل حال اختلاف السن مهم جدا ونحن لسنا من الأغنياء .
تثاءب جوجو ، وبدا لي طرف ذيله الملفوف على نفسه مبللا بسبب الضباب.كان زغبه المرقط بالأسود والبني ينتشر نديا فوق البرسيم . كان الضباب قد تلاشى رويدا رويدا وحل محله شعاع شمسي محتشم. ألقيت نظرة على علب الكرتون المهملة في كل مكان وفكرت في أن أتفرغ لها. كان ينبغي القيام بأشياء كثيرة لتجديد المنزل؛ تغيير الستائر، إلصاق الورق على جدران المرحاض، وتغليف خزانة الملابس بورق التزيين المضاد للسوسة. كان علي أن أقوم بكل هذه المهام الدقيقة خلال الأسابيع الثلاثة المتبقية لي قبل أن نتزوج وحدنا نحن الاثنين، وبعدها سوف يأتي ليستقر هنا. أنا ما أريده الآن هو أن أتأمل الضباب فحسب. لا شيء يستدعي الاستعجال. أريد أن أستفيد بالتمام من هذه الأسابيع الثلاثة المتبقية لي من العزلة. تنفست بعمق وعلى مهل ثم لمست عنق جوجو بطرف قدمي . كان دافئا.
في الغد جاء المطر ليحل محل الضباب .لم يتوقف عن الهطول بانتظام منذ اللحظة التي استيقظت فيها هذا الصباح. كانت قطراته الشبيهة بخيوط رقيقة ترسم على النافذة أضلاعا سائلة . كان المنزل المقابل وأعمدة الكهرباء وحجرة جوجو مبللة في هدوء بالمطر.لا أحد كان يشتغل من خلف الزجاج الذي لم تكن به سوى بضع قطرات تنساب . لم أحرز تقدما يذكر في ترتيب علب الكرتون.أعدت قراءة رسائل قديمة وتصفحت ألبومات الصور صفحة بصفحة إلى أن تنبهت إلى أنه وقت الظهيرة. كانت بي رغبة في الأكل. لكن بما أنه لم يكن لدي ما يكفي من الأواني للطبخ فقد تعذر علي إعداد وجبة مناسبة. في ذلك الوقت لم تكن لدي رغبة قوية في الذهاب للتسوق ، ولذلك قمت بغلي الماء فوق النار لتحضير حساء فوري،وقضمت بضع قطع من البسكويت .ومنذ الوهلة الأولى اشتعل الموقد الألماني .
بسبب الغرفة التي لم أكن متعودة عليها، والتأثير الخشن لقطع البسكويت على لساني، استقر الضجيج بإلحاح متزايد في جوف أذني. كان بودي أن أسمع صوته، لكننا لم نكن نملك هاتفا. لم يكن لدينا جهاز تلفزيون ولا مذياع ولا ستريو . وبما أنه لم يكن لدي شيء آخر أفعله فقد حملت جوجو بين ذراعي وكان نائما عند المدخل. بدا وكأنه فوجئ وقاوم قبل أن يبدي رغبته في اللعب بتحريك ذنبه .عزمت على أن أمضي ما بعد الزوال في تجديد صباغة الحمام. كانت هي الأخرى مرصوصة كباقي الغرف. لم يكن بها سوى حوض استحمام مزجج وصنبور من «الكروم» وحمالة مناشف. لم تكن هناك مساحة إضافية ومع ذلك لم أكن أشعر بالضيق. ربما لأن السقف عال والنافذة واسعة، بدا لي أنه كان فيما مضى ،خلال الفترة التي أقام فيها الطالب الألماني،مصبوغا بلون وردي رومانسي. رأيت بضع بقع بهذا اللون بالقرب من المربعات . لكن بمرور الوقت صار الفارق اللوني باهتا بفعل البخار والصابون. وهكذا ارتديت ملابس بالية ومشمعا وقفازين من المطاط . وصلت جهاز التهوية وفتحت النافذة عن آخرها. كانت الصباغة قد انتشرت فوق الحائط على نحو أفضل مما كنت أتصور، وسرعان ما أخذ الحمام يلمع بشدة.كان المطر يتسرب من حين لآخر قاذفا بقطرات الماء المساحة التي فرغت من صباغتها للتو. كنت أركز كل اهتمامي على حركة الملاسة، حريصة على أن تنتشر الصباغة بشكل متسق.
كنت قد صبغت نصف الحائط حين رن بغتة جرس باب المدخل. فوجئت كثيرا ، لأنها المرة الأولى التي أسمع فيها الجرس.كان قد دوى بقوة كصرخة حيوان.عند المدخل وقف طفل صغير في حوالي الثالثة من عمره ورجل في الثلاثين، لا شك في أنه أبوه، كان كلاهما يرتديان مشمعا شفافا بقلنسوة، كانا يقطران بالمطر وبعض القطرات تسقط فوق الأرض على فترات منتظمة. بادرت بخلع مشمعي الملطخ بالصباغة الوردية.
– عذرا على الإزعاج. قال الرجل على حين غرة ومن دون أن يقدم نفسه أو سبب مجيئه، مما حيرني.
– هل جئتم لتقيموا هنا مؤخرا ؟
– آه ، طيب …
لم أحر جوابا.
– هنا البحر قريب والمكان هادئ يسوده السلام ويحلو فيه العيش . قال الرجل ذلك وهو يحول بصره صوب جوجو الذي كان غافيا، كان الطفل وديعا وهو يمسك بيد أبيه، كانت جزمته المطاطية الصفراء مغطاة بقطرات المطر كأنها جزمة صغيرة جدا، ثم ساد الصمت.
– ألا تعانين من الشدة ؟
لما نطق الرجل بهذه الكلمات اعتقدت أنه ينتمي إلى طائفة دينية،هؤلاء الأشخاص يضايقونني دائما، لأنهم غالبا ما يختارون الأيام التي يكون فيها الجو رطبا، وفضلا عن ذلك يأتون برفقة أطفال. لكنهما لم يكونا يوحيان بنفس الانطباع الذي يوحي به تجار الدين الذين التقيت بهم حتى الآن. ومظهرهما لا يتطابق بتاتا مع مظهر أي من ممثلي التجارة، حتى ولو كان بائع دين، قبل كل شيء لأن أيديهم كانت فارغة .لم يكن لديهما أي شيء: لا كراسات ولا كتب ولا أشرطة ولا مظلة حتى. كانا يمسكان بيد بعضهما والذراع الأخرى ممدودة بشكل مستقيم نحو الأسفل على طول الجسم. ولم يكن أي منهما يبتسم. لا أثر لتلك الابتسامة اللزجة الطافحة بالثقة بالنفس التي يختص بها باعة الدين. لهذا لم يكونا مقززين ولا عابسين. فقط لم يكونا باسمين. الشيء الوحيد الذي يمكن قوله هو أن الحزن كان يشع من عينيهما. وأنا أحدق فيهما شعرت بأن نظرتهما كانت تذوب بكل هدوء. ومع أنها كانت عابرة إلا أنها كانت تترك ظلا لا يستهان به يتجذر في القلب. لست أدري لماذا فكرت في أن أحاول الإجابة عن أسئلتهما بدقة. حاولت أن أنطق في داخلي بكلمة « الشدة» ، فبدت لي أنها تنتمي إلى معجم فلسفي لم أكن قادرة على تملكه. كانا ينظران إلي وإلى جوجو وهما لا يزالان يقطران ماء.
– هذا سؤال صعب للغاية . قلت وأنا أغمغم .
– صحيح . أجاب الرجل.
– أولا، أنا لا أعرف التحديد الدقيق لكلمة الشدة، بالإمكان إن شئنا أن نتحدث عن الشدة بالنسبة للمطر في الشتاء وعن الجزمة المبللة ، وحتى عن كلب ينام عند المدخل…
– نعم ، أنت على صواب. فنحن ما أن نحاول تعريف شيء ما حتى تحتجب صورته الحقيقية.
ثم صمت الرجل بعد أن هز رأسه لمرات عديدة. لم يكن هناك سوى صوت المطر يحوم حولنا . ساد صمت مرتبك يصعب ملؤه. كان بوسعي أن أصرفهما بذريعة أني مشغولة، وكنت حقا أصبغ. من المؤكد أني لم أفعل ذلك بسبب مظهرهما الفريد من نوعه .
– هل من الضروري أن أجيبك ؟ أعتقد أنه لا يوجد أي رابط بينك وبين هذا السؤال وبين جوابي. أنا هنا وأنت أمامي، والسؤال يحوم حولنا، هذا كل ما في الأمر،لا أعتقد أنه يجب تغيير أي شيء. هذا شبيه بالمطر الذي يهطل من دون أن يهتم بمزاج الكلب.
كان رأسي مائلا وأنا أمرر طرف إصبعي حول حواف لطخات الصباغة فوق مشمعي.
– المطر الذي يهطل من دون أن يهتم بمزاج الكلب، ردد الرجل بصوت خافت، تثاءب جوجو ورأسه ممطط إلى الوراء.
– يمكن القول إن هذا الجواب صحيح بوجه رائع. لست بحاجة لإزعاجك أكثر . أنا آسف جدا .إلى اللقاء.
حياني الرجل في أدب، متبوعا بالطفل الصغير الذي أحنى رأسه بطريقة غير متوقعة. ثم اختفيا معا تحت المطر.انسحبا ببساطة دون إلحاح ولا تباطؤ. وساءلت نفسي لماذا قاما بزيارتي وإلى أين ذهبا ، لكني عدلت عن التفكير في ذلك قبل الأوان.وحينئذ تذكرت الصباغة التي ينبغي أن أكملها. ارتديت مشمعي من جديد وأغلقت باب المدخل. كانت ثمة بركة ماء في المكان الذي كانا واقفين فيه.
مرت أيام عديدة في غفلة مني، خلالها علقت رفوف التوابل في المطبخ ولمعت الرواق وصففت بعض الأجمات في ركن من الحديقة. كنت أتحرك بحيوية في المنزل وأنا أعمل في صمت. كانت لدي أشغال كثيرة ولم أكن أشعر بأني وحيدة، كلما اقترب يوم زفافي. وحين كنت من وقت لآخر أشعر بالحاجة إلى الترويح عن النفس كنت أخرج للتفسح برفقة جوجو. نهيم في كل الأمكنة بحثا عن فرع بنكي أو صالون حلاقة أو مجمع تجاري عصري سنحتاج إليه. لا يمكن القول إن الحي كان ينبض بالحيوية ، لكنه كان يضم كل المتاجر الضرورية حتى لا يقع المرء في خصاص . كنا نصادف من حين لآخر بعض العجزة يتجولون هم الآخرين في هدوء.وعندما غادرنا الشوارع المتشابكة صعدنا العقبة لنجد أنفسنا فوق حيد بحري مشمس. كانت الظهيرة في بدايتها ولم تكن هناك ريح ، من الجهة الأخرى للحيد كان البحر يمتد ممتزجا بالسماء الزرقاء وكانت هناك سفن للشحن. أخذ جوجو يركض وقيده يلمع تحت أشعة الشمس . كان كل شيء مغمورا في هدوء بالدفء المحيط، وكلما تقدمنا سيرا فوق الحيد كان البحر يزداد اتساعا بالتدريج . كانت النوارس تحلق عن قرب بحيث أنه كان بوسعي أن ألمسها. ثم تجاوزتنا سيارة بريد حمراء في هدوء.
في سفح الحيد كانت توجد مدرسة ابتدائية، مدرسة متوحشة تحتوي على ملعب رياضي، مبناها الرئيسي بطابقين من الإسمنت المسلح ، وثمة رفوف للأحذية وأكواخ الأرانب. وفجأة هبط جوجو مائلا المنحدر المعشوشب متجها مباشرة نحو الباب الخلفي للمدرسة. كنت مرغمة على اقتفاء أثره. وهكذا وجدتهما واقفين بجانب البوابة، وباستثناء المشمع فهما لم يتغيرا مقارنة بالمرة الأخيرة. لم يكونا يحملان متاعا وكانا يتماسكان باليد وهما جامدان. ظننت أنهما نسياني لكن الرجل سرعان ما تعرف إلي وحياني قائلا:
– اسمحي لنا على ما سببناه لك من إزعاج في ذلك اليوم. كان يتحدث بنفس اللباقة .
– لا داعي للاعتذار، أرجوك.
وبدوري حييته على عجل. كان جوجو يحوم حولنا باهتياج ، وكان قيده يحدث صوتا معدنيا، ولم يكن الطفل يحول بصره عنه.
– هل أنتما منهمكان في العمل ؟ سألته دون أن أعرف إذا ما كانت الكلمة مناسبة.
– كلا ، نحن في استراحة قصيرة. أجاب الرجل.
بسبب المطر الذي كان يهطل في المرة الفائتة لم أنتبه إلى أنهما يرتديان ملابس مواتية ومن طراز جيد. كان الرجل يرتدي بدلة ناعمة باللون الأخضر الغامق فيما كان الطفل يرتدي صدرية من الصوف الخالص وجوارب ناصعة البياض . كان هذا اللباس في بداية هذه الظهيرة وفي هذا الحي البعيد عن المركز جذابا ولافتا للأنظار.
– هذا كلب لطيف.
– شكرا لك.
– ما اسمه ؟
– جوجو ، ابنك أيضا ظريف.
– شكرا لك.
– كم سنه ؟
– ثلاث سنوات وشهران.
بعد هذه المحاورة لم أجد موضوعا آخر للمحادثة. ومر الصمت كلفحة ريح دون أن يترك بيننا سوى كلمة « الشدة». لم أتمكن من النطق مجددا بهذه الكلمة لأني وأنا أهم بذلك لاحظت في عينيه ظلا عابرا فتراجعت. كانت جوانب المدخل الثانوي للمدرسة تعج بأصوات متنوعة : جوقة المزامير بمصاحبة أرغن قاعة الموسيقى ، وصفير وركض في الساحة ، وصور الضباب المكتوم قادما من البحر. كنت أصيخ السمع إلى كل صوت من هذه الأصوات وعيناي على قدميهما . كان جوجو يرقد متكوما في ركن يروقه ، بجوار إحدى صواري المدخل.
– هل بإمكاني أن ألمس الكلب؟
سأل الطفل على حين غرة. كانت تلك المرة الأولى التي أسمع فيها صوته. كان صوته صافيا وضفافا.
– بالطبع ، إذا لمسته في هذا الموضع سيكون مسرورا.
ولما شعرت بالارتياح لانقطاع الصمت بينت له كيف يداعب عنقه. كان جوجو يلحس وجنتي بلسانه الوردي وعيناه مغمضتان . أفلت الولد من أبيه ليمد يده بحذر صوب مؤخرة الكلب فغاصت أصابعه المكتنزة حتى النصف في شعيرات الكلب المبقعة.
– ألديك شغل في هذه المدرسة؟ سألت الرجل وأنا أستدير نحوه.
– لا، كنت فقط ألقي نظرة على المطعم المدرسي من هنا.
نطق هذه الكلمة بتأن كما لو كانت لها أهمية خاصة وعيناه منصبتان على الجون المزجج الذي يطل على المدرسة.
– المطعم المدرسي ؟
– أجل.
كان ثمة مطعم مدرسي في الجهة الأخرى من الجون المزجج . يبدو أن فترة الغداء قد انتهت للتو، لأنهم كانوا يغسلون الأواني. وثمة سلال شبيهة بالأقفاص مليئة بالأطباق والأقداح والملاعق توضع تباعا في نقالة لكي تغسل. كانت سرعة التمرير تتم بسلاسة كلعبة الخيول الخشبية في حديقة الألهيات. وفي مواضع أخرى كانت هناك رشاشات مائية شبيهة بتلك التي توجد في المسابح ، تتوقف السلاسل عندها لبضع ثوان ، وحينها تختفي تحت النفثات السائلة القادمة من الجهات الأربع. وفي لحظة ما توقف انبثاق الماء وأخذت السلة اللامعة بالقطرات الصغيرة تتقدم في السلسلة.
– هذا المكان يعجبه كثيرا ولا يمل من مشاهدته.
– ترى ما الذي يثير انتباهه.
– لست أدري ، الأطفال ينجذبون أحيانا إلى أشياء غريبة.
أعتقد أن الرجل في تلك اللحظة قد ابتسم للمرة الأولى. بالطبع فالأمر لا يتعلق بتلك الابتسامة التي يتميز بها تجار الدين، بل بشيء أشد فطرية. كانت ابتسامة غير مشكوك فيها، لكن كثافة النظرة التي ترافقها تجعلها هشة مثل زهرة الكرز.
– أتساءل أية علاقة يمكن لطفل صغير وظريف جدا أن يقيمها مع مطعم مدرسي.
– ربما كان هناك مدار معقد بشكل غريب لا نعلم عنه شيئا. قال الرجل هامسا. كان الطفل الذي تعود الكلب تدريجيا يسحب ذيله ويتسلق ظهره وجوجو يدعه يفعل ما يريد وعيناه مغمضتان. وفي المطعم تواصل غسل الأواني بكل هدوء.كان المستخدمون بالبزة البيضاء والقناع والقبعة يغدون ويروحون بين النقالات ،بعضهم يعني بتوجيه الصنابير بينما كان آخرون يضعون الغسيل في آلة التجفيف بعد وصوله في نهاية السلسلة، كانوا يعملون بسرعة وفي صمت، والآلات والأرض والزجاج كلها تلمع نظافة. كان المكان أشبه بمعمل مرتب بعناية من أجل مردود جيد منه إلى مطعم مدرسي.
– في النهاية ، من الأفضل رؤية المطعم في الصباح . قال الرجل.
– أتظن ذلك ؟
كنا نتكئ بظهرنا إلى الزجاج جنبا لجنب.
– هذا ما لاشك فيه، عمل الصباح أشد تعقيدا وتنوعا، لأنه ينبغي إعداد الوجبات لأكثر من ألف شخص. ألف خبزة صغيرة ، ألف فطيرة من الجمبري ، ألف شريحة من الليمون، ألف زجاجة حليب…هل تستطيعين تصور هذا؟
هززت رأسي.
– كمية كهذه من المقومات يمكنها أن تثير شهية الكبار أيضا.
مسح الضباب العالق بالزجاج بيده. كانت قريبة جدا مني بحيث كان بإمكان أنفاسي أن تلامسها. كانت أصابعه طويلة وناعمة.
– ألف بصلة ، عشر كلج من الزبدة، خمس كلج من زيت السلاطة ، مىئة علبة من السباغيتي كلها تختفي وسطها في رمشة عين. كل شيء محسوب على الوجه الأكمل. لقد أدخلوا هنا المعدات الأكثر فاعلية ، إذ يكفي إطلاق البرنامج المرتبط بفطائر الجمبري – أعتقد أن قاعة الطلبيات توجد في الطابق- لكي تبدأ الآلات في العمل . وهذه الآلات تقشر أيضا الجمبري وتفتحه إلى نصفين. شيء لا يصدق، أليس كذلك؟ألقى نظرة علي ، قبل أن يحول بصره باتجاه المطعم. كانت الفطائر الشهية المتشابهة تصل منفرجة فوق السلسلة . وفي مكان معين تنزل السكين لتضع عليها حزة جميلة في الظهر، دون أن تحيد عنها قيد أنملة.وتتكرر الحركة إلى ما لانهاية ، بإيقاع متطابق ، مما يبعث على الدوخة من فرط النظر. وفي المراحل التالية تغمس في الدقيق والبيض ومسحوق الخبز. لا يحدث أي تبديد خلال هذه العملية. كل شيء محسوب حتى تكون مغطاة بالتساوي. وفي الأخير يلقى بها للقلي بانقياد تام كما لو أنها منومة ، ثم ترفع من جديد دفعة واحدة ، بعد فترة محددة بشكل رائع ، وقد اكتست لونا مذهبا حسب المبتغى.
رمش عينيه بلطف . كان الغسيل متواصلا. لا أحد انتبه إلى وجودنا . من قاعة الموسيقى تناهى إلى مسامعنا هذه المرة صوت الكلارينيت وآلة المثلث .
– هذا تفسير واضح. أتصور الآن جيدا ألف جمبري وقد تحولت إلى فطائر متراصة في نهاية السلسلة.
– شيء جميل.
أجابني ، ثم لمس شعره فداهمني عطر متماوج خفيف ، شبيه بنقاوة لون البحر .
– لكني أتساءل إلى متى سيستمر هذا العمل.
كانت السلال تصل واحدة تلو الأخرى.
– إلى أن يغادر الأطفال المدرسة.
– وهذا الماء الذي يخرج من الصنابير؟
– الأول يحتوي على منظف، لكن الصنابير الأخرى كلها تصلح للشطف وهي موجهة في اتجاهات مختلفة حتى لا يتم إغفال أي موضع.
– أنت ملم بكل شيء ، كأنك ناقد مختص في المطاعم المدرسية.
– كلا، بالطبع.
ارتسمت على محياه ابتسامة خجول ، أشد وضوحا من الابتسامة السابقة.
– منذ حوالي شهر وأنا في هذا الحي ، آتي إلى هنا مرة في اليوم.حين يكون مزاج ابني سيئا أو حين لا تكون لدي رغبة في الاستمرار. لم يكن لدينا مطعم في المدرسة الابتدائية للحي الذي كنت أقطنه فيما قبل. ولم يكن ذلك يعجبني. ومن هنا بالذات يكتسب هذا المكان روعته. من بين كل المطاعم التي شاهدناها حتى الآن هذا يحتل الرتبة الأولى.
لم يخطر ببالي أي جواب مناسب، واكتفيت بالموافقة، لأنه لم يسبق لي أن فكرت في مختلف المستويات التي يمكن أن تبلغها المطاعم المدرسية. سألته وأنا أنتقي كلماتي جيدا:
– هل يقودك عملك ، سواء من خلال تجارتك المتجولة عبر المنازل أوالتبشير، إلى مختلف الأحياء ؟
– نعم ، يمكننا قول ذلك .
أجابني على نحو غامض. يبدو أنه فوجئ بالسؤال فلم تسعفه فصاحته في الحديث عن عمله. وبدا لي أنه بدون شك متعود على كلمة مطعم مدرسي أكثر من كلمة الشدة . جاء الولد بعد أن شفى غليله من مداعبة جوجو ليقف بيننا . كانت صدريته عند مستوى الجذع موشاة ببعض الشعيرات. كل شعرة تلمع قليلا في أشعة الشمس.
– قل لي يا أبي، ما هي وجبة الغد ؟
سأل أباه وهو يمسك بيده ويحتك به .
– الهمبورجر ، في ما يبدو.
– لماذا ؟
– لأني رأيتهم يخرجون من العنبر بآلة فرم اللحم، أنت تعرفها، تلك الآلة الضخمة التي تصنع الثلج المهروس. لذلك أنا واثق إلى حد ما.
– هذا أحسن.
قفز الطفل في مكانه مرتين أو ثلاثا، فيما كان الرجل يمسح مجددا الضباب العالق بالزجاج. حدقت مليا في صورتهما الجانبية المنعكسة على الزجاج.
كانت الاستعدادات جارية على قدم وساق. بعض الأصدقاء أهدونا غطاء السرير وصحونا بيضاء اتخذت لها مكانا فوق الرفوف، وأنهينا وصل الغسالة. كل هذه الأشياء كانت تنتظر بتواضع صبور بداية حياتنا الجديدة. جاء خطيبي يوم الأحد لتثبيت حبل الغسيل.صنع من قطعتي خشب اشتراهما بثمن بخس وتدين ركزهما في ثقبين غائرين حفرهما في الحديقة ثم وضع فوقهما عصا طويلة من الخيزران صقلها بمبرد ،حاصلا بذلك على منشر رائع. كانت النتيجة مرضية فجلسنا في الشرفة المغلقة نتأمل حبل الغسيل. وبما أنه لم تكن لدينا إمكانيات لتثبيت الهاتف فقد كنا ملزمين بالتواصل عبر البرقيات.إلى جانب الأمور الهامة من قبيل: « نلتقي السبت القادم في العاشرة صباحا كي نعد الحفل في الكنيسة « أو «أسرع بتغيير السكن « كانت هناك برقية من كلمة واحدة « مساء الخير» . يوم جاء كنت مرهقة جدا وأستعد للنوم. كنت أقف بمنامتي عند المدخل الغارق في العتمة . أعدت قراءة السطر خمسين مرة على الأقل. كل حرف كان يترسب في أعماقي . انزعج جوجو في نومه ففتح عينيه وحدجني بنظرة كئيبة.
منذ هدا اللقاء تعودت ، خلال تفسحي مع جوجو، على أن أمشي فوق الجون الذي يشرف على المدخل الثانوي للمدرسة.لكن رغم مختلف الأصوات المنبعثة من قاعة الموسيقى، ومن الساحة أو البحر،لم تتسن لي أبدا رؤية أحد في هذا المكان.
وحسنا فعلت بترصد المطعم من قمة الجون . لم أتمكن من رؤية أي شيء. كان الزجاج مكثفا بجسم غازي، من بخار أو دخان، لست أدري. ومرة رأيت شاحنة متوقفة بالقرب من المدخل تحمل علامة الدجاج المشوي .تابعت سيري فوق الجون برفقة جوجو وأنا أتخيل السلسلة وفوقها الدجاج بأجنحته وقوائمه المتباعدة ، وعيونه مرفوعة نحو السماء. والذي سيتحول دجاجة تلو الأخرى، بفعل حركات آلية محسوبة ، إلى قطع من الدجاج المقلي.
أخيرا رأيته من جديد بعد حوالي عشرة أيام من الشروح التي قدمها لعي الرجل حول عملية تصنيع فطائر الجمبري.
كانت الشمس تضفي على البحر لون الكراميل . كانت الأمواج والسفن والمنارة ممهورة بهذا اللون. كان دفء الشمس محمولا على جناح الريح وأعشاب الجون تحدث حفيفا.
كانا يجلسان جنبا لجنب فوق علب كرتونية ملقاة بالقرب من زجاج المطعم. كان الطفل بقبعته الصوفية يحرك ساقيه. كان الرجل يضع رأسه بين يديه وينظر إلى البعيد.
كان جوجو هو أول من رآهما فحرك ذيله قبل أن ينزل وهو يتشقلب .
– ها هو جوجو. قال الطفل بصوت غض وحاد ، ونهض قافزا من علبة الكرتون التي كان جاثما فوقها وخيوط القبعة تتمايل فوف رأسه.
– صباح الخير.
كنت ألهث من شدة الجري.
– هالو.
كان يحتفظ بنفس الابتسامة . كانت علب الجزر التي يجلسان عليها قد طبع على غطائها رسم قرمزي حديث يصور جزرات ناضجة ، وكانت هناك علب أخرى مكدسة لسمك الكلامار وقشدة الكراميل والذرة الصفراء وصلصة « وورسيسترشاير» .
كان التلاميذ قد عادوا إلى بيوتهم ، لأننا لم نكن نسمع موسيقى ولا لغطا . كانت الساحة التي ينعكس عليها ظل البناية المدرسية تبدو غارقة في محيط من الهدوء. وثلاث أرانب تتجمع في ركن من جحرها.
لم يكن في المطعم أحد . والزجاج الذي كان في العادة مغشيا بالبخار أضحى صافيا وشفافا يسمح برؤية كل التفاصيل حتى التي لا شأن لها من قبيل فولاذ رفوف الأواني اللامع الذي لا يصدأ والرسم الموجود على ياقة البزات البيضاء المعلقة على الحائط ، بل وأيضا لون الزر الذي يحرك السلسلة.
– يبدو أن عمل اليوم قد انتهى بالكامل.
قلت بعد أن ألقيت نظرة على المطعم وأنا قادمة لأجلس بجواره.
– نعم ، قبل قليل . أجابني.
كان جوجو يقفز وهو يسحب قيده من بركة الشمس المتبقية ، فيما كان الولد الصغير يطوف حوله محاولا أن يمسك بذيله. أمامهما كانت الشمس الموشكة على الغروب تتهيأ للانغطاس في البحر. وبعض النوارس تحلق بدون توقف بين صواري ميناء الترفيه المهجور.
– اسمحي له إن كان يزعج كلبك.
– كلا ، انظر إلى جوجو فهو مسرور جدا.
– منذ متى حصلت عليه؟
– منذ عشر سنوات . قضيت نصف عمري معه. لذلك فهو يحتل مكانة خاصة في معظم ذكرياتي. الأمر شبيه بألبوم صور مؤرخة. يكفي أن أتذكر قامته وزخرف طوقه كي يستعيد ذهني بشكل أتوماتيكي كل ما جرى في تلك الحقبة .
– هذا ما يتضح لي.
قذف حجرا بطرف حذائه المتواضع المصنوع من جلد بني.بعد ذلك تحدثنا قليلا عن الكلاب.وحكيت له كيف اكتشفت جروا في منتجع صحي في عمق الجبال ، وعن فترة الحمل العصبي التي مرت بها كلبة مالطية كانت تقيم بالقرب مني فيما مضى. طرح علي كل أنواع الأسئلة وهو يحرك رأسه مبتسما من حين لآخر.
– عندما أرى مطعما مدرسيا في المساء أتذكر مسبحا تحت المطر.
في اللحظة التي نطق فيها بهذه الكلمات ، بعد صمت وكنا قد استنفدنا موضوع الكلاب ، لم أستطع فهم كل ما كان يود قوله. فقد ترك لدي ذلك نفس الأثر الذي يخلفه مقطع شعري حديث أو جملة من الجمل التي تتخلل حكايات الطفولة.
– مسبح ، تحت المطر؟
رددت وأنا أشدد على كل لفظة.
– أجل ، مسبح تحت المطر. ألم يسبق لك أن عمت في مسبح تحت المطر؟
– في الحقيقة …يبدو لي أن ذلك حدث . لكني ربما كنت مخطئة.
– حين أفكر في مسبح تحت المطر ينتابني حنين يصعب تحمله.
كانت الغيوم ترسم في السماء زخارف ضبابية بلون وردي. كان المساء يقترب ليحل بيننا. كان الرجل قريبا مني.كنت أتتبع نطاق نظرته،وكان بإمكاني أن أحس عن كثب بأنفاسه ونبضات قلبه وحرارة جسمه. سعل سعالا خفيفا ولمس بسبابته بضعة شعيرات فوق صدغه قبل أن يواصل الحديث:
– وبما أني لم أكن أجيد السباحة فقد كانت ساعة المسبح في المدرسة الابتدائية شاقة بالنسبة لي.إلى حد يمكنني القول إن هذا كان بمثابة استشعار للمحن التي تنتظرني في سن الرشد. الخوف قبل كل شيء.كان الماء الذي يتدفق في هدوء ،بمجرد أن تمتلئ الحاوية المسماة مسبحا ، ينيخ بكل ثقله على الجسم حتى يخنقه. أمر رهيب. ثم الخجل . كان الذين لا يعرفون السباحة مجبرين على ارتداء زي غريب هو عبارة عن قبعة حمراء للسباحة. وكانوا يسبحون منعزلين وسط القبعات العادية البيضاء المخططة بالأسود. وما داموا لا يجيدون السباحة فقد كانوا يخبطون هنا وهناك على سطح الماء. كنت أسخر كل طاقتي لأبين لهم بأني أعرف السباحة. آملا بحدة في إثارة أقل قدر ممكن من الانتباه . من المسبح تشربت هذه الإرادة العاتية.
تنفس بعمق قبل أن يغمض عينيه. كان جوجو بعد أن نال مراده من اللعب يتمدد بكل طوله متكئا بخرطومه على قائمتيه الأماميتين ، بينما كان الطفل يتمسك بعنقه كما لو أنه يسترخي على أريكة.
– كان منظر المسبح حين يكون الجو ممطرا محزنا جدا. فالمطر الذي يبلل حافته سرعان ما يجففها مشكلا بقعا داكنة وكان سطح الماء يبدو بفعل القطرات المتهاطلة مهتاجا لكثرة الأسماك الصغيرة التي تنتظر الطعام. غطست فيه ببطء. وحولي تلامذة قسمي يبتعدون الواحد تلو الآخرعوما. كانت قطرات المطر الممزوجة ببعض اللطخات تسقط على كتفي وظهري الواهنين.في تلك الفترة كان تكويني ضعيفا . وكانت أضلاعي وترقوتي بالطبع بارزتين ، وكذا وركي وعظم فخذي . كان تبان السباحة ينزلق فوق ردفي على نحو محزن . كنت أشعر بالبرد عندما تمطر السماء. وخلال فترة الاستراحة كنت أرتجف خلف الحنفية التي تصلح لغسل العينين. كانت عظام جسمي تتصادم . وحين تنتهي ساعة السباحة أخيرا وأخلع قبعة الاستحمام كان شعري يبدو دائما مصبوغا بالأحمر.
بعد أن صمت للحظة استأنف حديثه وهو يمزق الورق اللزج المتبقي في علبة الكرتون.
أفترض أن هذه الحكاية لا تهمك.
– بلى . أجبته بصراحة، أنت مازلت في المسبح تحت المطر ولم تصل بعد إلى المطعم المدرسي عند المساء، أليس كذلك ؟ إذن تحمل مسؤوليتك وتابع الحكي حتى النهاية.
تبادلنا النظر ونحن نضحك بصوت خفيض . في الجحر كان أرنب ينظر إلينا وهو يمضغ ورقة كرنب.
– لا أحد بالضرورة كان يضطهدني لأني لا أعرف السباحة. كلا ، فأنا لا أحتفظ بأية ذكرى من هذا النوع . والحال أنه مشكل يعنيني أنا شخصيا. أعتقد أن الجميع يمر ولو مرة واحدة في حياته بهذه التجربة الشبيهة بطقس الانتقال التي تتيح له أن يختلط بالجماعة، وقد اتفق بالصدفة أن أخذ مني هذا وقتا طويلا ، أنا متأكد من هذا.
– يبدو لي أني فهمت.
قلت من دون أن أرفع عيني عن شخصه. كانت الشمس الغاربة تغمره على مهل.
– وحين أرى مطعما مدرسيا في المساء يعتريني نفس القلق الذي عشته في مرحلة الانتقال الطويلة. غير أن هذا لا يفسر أي شيء، أليس كذلك؟
أحنى رأسه وقذف مرة أخرى حجرا بقدمه. كان زجاج المطعم يتضبب شيئا فشيئا. وعندما تتوقف السلسلة يسود الصمت. كانت صنابير الماء والسلال المكدسة في ركن ما والأواني المرتبة فوق الرفوف كل شيء كان جافا. ليس هناك أدنى بقية توحي بأن المطعم قد شهد وجبة نشيطة.
كنت أركز بصري على المطعم الهادئ جدا إلى درجة البرودة ، وتخيلت صوت المطر وهو يهطل على السقف الفولاذي لمستودع الملابس ، والسيقان الهزيلة تتحرك في قاع الماء مثل أسماك صغيرة تنازع الموت ، وولدا يرتعش وشعره المحمر مخفي تحت منشفة الاستحمام . وكانت هذه الصور بعد ذلك تبرز بوضوح فوق زجاج المطعم.
ثم أضاف قائلا:
– في نفس الحقبة تجلت ظاهرة أخرى هامة. لم أعد قادرا على الأكل.
– آه ، ولماذا؟
– ربما لأسباب عديدة ومنها العقد التي كنت أعاني منها وطبعي الخجول والأسرة وأسباب أخرى لا أعرفها. لكن السبب المباشر هو المطعم.
– ها نحن قد وصلنا أخيرا.
– أجل ، ذات يوم ألقيت عليه نظرة في نهاية الصباح. لست أدري لماذا كنت هنا في مثل ذلك الوقت. وماذا حدث خلال الدروس. لكن الواقع هو أني وجدت نفسي عند مدخل مصلحة المطعم في اللحظة التي كان فيها الجميع منهمكا في تحضير الوجبة. ولم أكن حتى تلك اللحظة قد أعرته اهتماما حقيقيا…
كنت أصغي إليه باهتمام بالغ ، دون أن تكون لدي أية فكرة حول المنحى الذي ستتخذه المحاورة.
– وبما أن هذا يعود إلى خمس وعشرين سنة فقد كان المطعم مختلفا تماما عما هو عليه اليوم، كان من خشب ، قديما ومعتما وضيقا كأنه إسطبل . كانت الوجبة تتكون من الصلصة البقرية وسلاطة البطاطس . كانت أول صدمة هي الرائحة ؛ رائحة لم يسبق لي أن شممتها حتى ذلك الحين.كانت قوية وخانقة، مثل كل رائحة كريهة ومزعجة. لكن الفرق الأساسي يكمن في كون رائحة الطعام الذي سأتناوله مشبعة برائحة المطعم . كانت الروائح التي تثيرها كمية هائلة من الصلصة البقرية وسلاطة البطاطس تمتزج برائحة المطعم قبل أن تفسد بالتخمر.
اندسست في علبتي الكرتونية. كان جوجو يمد أذنيه المدببتين وكان الطفل لا يزال متمسكا به، لا يتحرك كما لو أنه نائم بالفعل.
– كان المشهد الذي يجري أمام عيني يتجاوز حدود الخيال رغم مظهره الحي والملموس بحيث يصير لا واقعيا. وكانت النساء اللواتي يعملن هناك كلهن بدينات واللحم يفيض ببشاعة عن معاصمهن وجزماتهن المطاطية؛ سمنتهن مفرطة بحيث أنهن لو غطسن في مسبح لطفون فوق الماء بسهولة.كانت إحداهن تخلط الصلصة البقرية بمجرفة معدنية شبيهة بتلك التي تستعمل في أشغال الطرق. وكانت المرأة السمينة بوجهها الأحمر اللامع تحرك المجرفة وقدمها على حافة الوعاء الضخم كما لو أنها على ضفة نهر. في قلب الحساء المائل إلى البياض كانت المجرفة الصدئة واللحم المعروق والبصل والجزتظهر وتختفي. وكان الوعاء المجاور مملوءا بالسلاطة. كانت امرأة أخرى تقف وسط الوعاء تطأ بقدميها البطاطس لتهرسه. وفي كل وطأة كانت تترك على البطاطس بصمة نعليها، وفي الأخير كانت البطاطس تتنضد لتشكل رسوما غامضة.
سعل قبل أن يستأنف حديثه :
– كنت جامدا لا أرمش عيني؛ بودي لو أستطيع التعبير عن الشعور الذي انتابني آنذاك لكني لا أفلح في ذلك. لو كان الأمر يتعلق بمشهد يمكن تفسيره بكلمات عادية تعبر عن الخوف أو الاشمئزاز لكنت نسيته بكل تأكيد منذ أمد بعيد. غير أني قبل أن تغزوني مشاعر خاصة التقفتني صور غريبة حافلة بالبخار الدافئ الراعش وقطرات الصلصة البقرية المتساقطة من طرف المجرفة وآثار الجزمات التي تنغرس في البطاطس المعروكة.
– هل صرت عاجزا عن الأكل إثر ذلك؟
سألته بهدوء كما لو أني أتحقق من الخيط الناظم لحكايته ، فوافقني القول.
– كان صوت الأواني المعدنية التي تتصادم ،أو تجمهر المسؤولين عن المطعم في الممشى، كافيا لإعادة ترتيب هذه المشاهد واحدا تلو الآخر. كنت في حالة مروعة.أضحى الآن للمطعم المدرسي وللمسبح نفس الدلالة. فبنفس الطريقة التي كان جسدي يغوص بها في الماء، رغم خبطي بالساعدين والساقين، كنت أحاول ابتلاع الوجبات المدرسية. تمنعني من ذلك النساء البدينات والمجرفة والجزمات المطاطية. وذات صباح بعد أن صرت عاجزا عن تحمل المزيد لم أذهب إلى المدرسة، وهمت على وجهي في الشوارع بحقيبتي المدرسية فوق الظهر. كان ذلك بالضبط هو يوم الذهاب إلى المسبح. كنت أمشي وأنا أقذف بركبتي حقيبتي الفينيلية التي تحتوي على تبان السباحة وقبعتي الحمراء. أنا نفسي ظننت أني تهت طويلا، لكن ما حصل هو أن جدي عثر علي بعد ساعتين.
– إذن فقد أعادك إلى المطعم المدرسي.
– كلا، بالطبع.لم يكن جدي غاضبا على الإطلاق،وأعتقد أنه لم يكن ينوي بتاتا أن يعيدني إلى المدرسة؛ كان خياطا ماهرا فيما مضى وتعاطى الشرب بعد تقاعده، مثيرا بذلك المتاعب من حوله، حتى أن الأسرة كانت تعتبره شخصا مزعجا . كان يتعارك وينام على قارعة الطريق ويكسر إشارات المرور. إذن فهو في ذلك اليوم لم يكن يبحث عني. كان يسير بالصدفة وهو يشرب منذ الصباح. فاجأه وجودي هناك ثم قال لي هذه فرصة مناسبة ، ثم قادني بعيدا لكي يطلعني على موضع سري.
لم أكن مرتاحا مع هذا الجد الذي تفوح منه رائحة الساكي ويداه خشنتان بفعل الكحول . إلا أني في ذلك اليوم التصقت به وتبعته وأنا أشد على يده بقوة. كان يمسك بعلبة جعة ويمشي وهو يحتسي الجرعات بين الفينة والأخرى.
وصلنا بالقرب من منطقة المخازن في ضواحي المدينة فلمحت أنقاض عمارة ذات بنيان معدني قديم جدا . « هنا» قال جدي وهو يريني إياها بعصاه. كانت تشبه معملا قديما مهجورا. كانت صفائح الجدران المعدنية والأبواب والسقف مقتلعة عن آخرها ، والريح تخترقها من كل جانب . وحين نشخص بأبصارنا نحو الأعلى كنا نرى من خلال بعض الجوانب أجزاء من السماء يبدو أن الطيور اقتطعتها.
وفوق التراب كانت هناك على الأقل ثلاث سنتيمترات من الغبار ممزوجة بالصدأ. كان ذلك يحدث صريرا تحت الأقدام بأدنى حركة. وكان ثمة سقط كثير على الأرض؛ لوالب سداسية الأضلاع ونوابض وبطاريات كهربائية وزجاجات ليمونادة فارغة ، وقاذفة قذائف كاتيوشا من السلولويد وأوكارينا ( آلة نفخ موسيقية) وميزان حرارة …ركام من الأشياء الملقاة على الأرض كانت راكدة هناك.
وإضافة إلى ذلك كان هناك العديد من الآلات التي تبدو قوية.كانت هي الأخرى مغطاة بالغبار والصدأ. وكان هناك أيضا صفيحة ، ساقطة عن بعد ، تشيد بمزايا النظافة والأمان قبل كل شيء.
« اجلس هنا « قال لي جدي وهو يجلسني على قاعدة آلة تبرز منها علاقات وأزرار تحكم. تبدو كمكبس ضخم أو نوع قديم من العصارات ، لكنها على كل حال ليست سوى كتلة هائلة من المعدن لا توحي بأنها جاهزة للعمل . وضعت حقيبتي الفينيلية فوق إحدى العلاقات .
كان جدي ،وقد تضاءلت كمية الجعة، يلقي من حين لآخر نظرة على فتحة العلبة ويشرب بإيقاع بطيء.
« أتدري ماذا كان يصنع هنا فيما مضى؟»
حين كان يتحدث كانت الرغوة تقلت من بين شفتيه . هززت رأسي بقوة. كنت مرتاحا لأنه لم يطلب مني أن أبرر تغيبي عن المدرسة.
« الشوكولاته» قال بانبساط.
« الشوكولاته ؟»
« نعم ، يسكب الكاكاو والحليب والسكر في الآلة التي تراها هناك في الركن ويخلط الكل لصنع العجين السائل للشوكولاته . وحين تصل هذه إلى الآلة الموالية تكون قد بردت قليلا وأصبحت مثل الكراميل الهش ،ولما تمر في النهاية تحت هذه اللفة تتحول إلى صفيحة كبيرة من الشوكولاته «.
كان جدي يوجه ضربات خفيفة للقاعدة التي أجلس فوقها.
« صفيحة ضخمة تتدحرج تحت بساط سميك كلما تحركت الآلة . ليست هذه سوى الشوكولاته. «
« أهذا صحيح؟»
كنت مستثارا بهذه القصة التي تصور الشوكولاته على منوال الحكايات الخرافية.
« أجل ، وإذا بدا لك أني أكذب فما عليك إلا أن تشمها .»
وقفت فوق القاعدة وأدنيت وجهي من اللفة . كانت عيناي نصف مغمضتين كي أستنشق جيدا. كنت جامدا ويداي موضوعتان فوق اللفة ، كنت في غاية السرور وأنا منغمر في أمر هام .في علياء السماء كان الزيز يصرصر.
في بادئ الأمر لم أشم سوى رائحة المعدن ، رائحة كابية لا عذوبة فيها . لكني ألححت وعيناي نصف مغمضتان فهب علي عطر ناعم كله عذوبة قادما من عالم بعيد ، كما يحدث في الحلم.
« وإذن ؟ « سألني جدي.
« صحيح ، أنت على صواب.»
بقيت لبعض الوقت مستندا إلى اللفة المغبرة.
« بإمكانك أن تجيء إلى هنا متى رغبت في أكل الشوكولاته ، فقد صنعت منها هذه اللفة الكثير بحيث أن مجيئك لشمها من وقت لآخر لن ينقص منها شيئا. «
بعد أن أنهى جدي جعته ألقى بالعلبة الفارغة أرضا. فأحدثت صوتا أجوف قبل أن تختلط بالسقط الموجود . أدركت أنه لم يعد لديه مال لشراء الكحول . لم يكونوا يمنحونه المال الكافي مخافة أن يفرط في الشرب. أخرجت من حقيبتي مظروفا به نقود الرحلة المدرسية التي كنت سأقدمها للمعلم في ذلك اليوم.
« يمكنك أن تشتري بها شراب الساكي.»
مددت له المظروف وأنا مازلت جالسا فوق القاعدة. شكرني جدي وهو يغضن أهدابه .
«»»»»»»»»»»»»»»»»»»»»»»»»»»»»»»»»
عندما أنهى قصته الطويلة جدا كان المساء قد حل ليدثرنا بظله. وكانت تقاطيع وجهه على أهبة لكي تمتصها العتمة. كان الولد الصغير المتكئ على جوجو جامدا وصامتا كأنه ظل.
كان بودي أن أقول له شيئا ما ، وكان ذلك يثقل على صدري بشكل مؤلم. بدا لي أنل إذا ما لزمت الصمت سوف يختفي وجهه بالفعل.
– أليس للقصة تتمة؟ قلت وأنا أتلفظ بكل كلمة باحتراس شديد.
– كلا .
كانت الشعيرات المنحدرة على جبينه تهتز بشكل خفي.
– لكن ، كيف جرت الأمور بعد ذلك في المطعم وفي المسبح؟
– هذا ما يسهل شرحه. بعد ذلك تعلمت السباحة بمنتهى البلادة. ثم توفي جدي بالورم الخبيث، هذا كل ما في الأمر.
نهضنا بعد لحظة صمت قضيناها في تأمل الغروب. كان الزمن المعلق قد استعاد فجأة مجراه وهبت الريح .
– تعال ، لنعد إلى البيت.
فتح الطفل عينيه لدى سماع أبيه وخفق عينيه لمرات عديدة كما لو أنه يريد رؤية تتمة حلمه. كان جوجو يداعب وجنته بذيله.
– هل تعتقد أننا سنلتقي هنا مجددا ذات يوم؟
أمسكت بقيد جوجو .
– ابتداء من الغد سوف أعين في قطاع جديد ، في حي أهم من هذا عند سفح الجبل.
ثم تناول يد الولد الذي التحق به راكضا. كان علينا أن نودع المطعم.
من الجانب الآخر للزجاج كان المطعم يحتجب في بطء كما لو أنه يغرق في بحر.
– حبذا لو تجد مطعما جميلا هناك حيث أنت ذاهب.
عوض أن يوافقني القول ابتسم قبل أن يودعني.
لوح الطفل بيده صوب جوجو فيما كانت خيوط قبعته تتأرجح.
– إلى اللقاء.
أنا أيضا لوحت بيدي.
ابتعدا تحت ما تبقى من ضوء باهت. ووقفنا أنا وجوجو ننظر إليهما وهما ينصرفان حتى تحولا إلى مجرد نقطة ثم اختفيا في البعيد. وفجأة راودتني الرغبة في إعادة قراءة البرقية التي تقول لي « مساء الخير». تذكرت ملمس الورق وشكل الخط والهواء الليلي دفعة واحدة. كانت لدي رغبة جامحة في قراءتها أكثرمن مرة حتى تسيل العبارة كاملة.أمسكت القيد بشدة وانطلقت راكضة في الاتجاه المعاكس. سيصبح باردا بين أخاديد يدي إلى الأبد.
+) يوكو أوغاما روائية يابانية من مواليد 1962 . حازت سنة 1991 على جائزة أكوتاغاوا، ذاع صيتها بعد أن أصدرت ثلاث روايات قصيرة: « المسبح» و» النحل» 1975 ، « الحمل» 1997 .
1
للروائية اليابانية يوكو أوغاما
ترجمة : عزيز الحاكم *