… ثم ان الفرنسيين دخلوا على الخط. كنا نعبث بالكلمات في المقاهي. نعلكها وتعلكنا. نقذف بها في فضاء، اعتقدناه، لانهائيا. كانوا، مع اختلافهم عنا يتقاذفون نفس الكلمات. معتقدين، بدورهم، أنهم يقذفونها الى اللانهائي.
ثم إنهم صاروا يرمونها باتجاهنا. فقررنا سويا، إعادة توزيع للأدوار وتقسيم للفضاءات فتشاركنا هكذا ملعبا غريبا، نتقاسم ساحته مناصفة. ونتضارب بكلمات ترن، تثن وتضطرب. وكنت أجوع كثيرا. فأقرأ كثيرا وأشتاق. بداية، كانت الكلمات تدخل أذئ نحو جوفي لتستقر في معدتي. مع الوقت، صار عندي عسر هضم وسوء تصريف.
ثم أنها أصبحت تتردد في وسائل الاعلام مستقرة في دماغي لقد كانت كلمات متشابهة تلمع، وتلمح في الفضاءات. ولم يعد جهازي يتحمل. أصبر عندي فائض منها فقصدت، لأتفاجأ بوجود الجميع، نادي تصدير الكلمات الذي غلب على أعضائه الفظاظة ونملظة القلب حيث كانوا بلا وازع يمارسون مضاربات رخيصة يستقر أغلبها تحت الحزام وحيث كانت تنحشر كميات كبيرة من الكلمات مستعدة للانطلاق مسببة عسرا يتزايد بسماع لحن النادي المختزل في نحيب شجي..
"بياع كلام!". ثم أنهم محلقوه صباحا على عمود خشبي عتيق وطلبوا منه النطق بكلمتين فقط. ولم أتفهم رفضه وهو الذي لديه كل هذا الفائض من الكلمات.
لم نكن سوى عابرين. وثبت لي، فيما بعد، بأن الكلام نمير عابر. وكانوا قد فسروا لي بأن الكلام يرتبط باشاراته وبالرموز لم أتفهم ذلك تماما وزاد جوعي للكلمات، وزاد من سوء هضمي لها. التقيناه فوق رصيف الشارع المزدحم والقذر. لم يكن يأكل الكثير من الطعام وكان يمضي حاملا كيسا من البلاستيك فيه يكدس جرائد عتيقة.
حين كنا نتجرأ وقد غمرتنا نشوة المكان فنسأله عن كيسه كان يرد بثقة تتعارض ونزوعنا للمزاح: هذه هي مرجعياتي. فيها – عن الجرائد القديمة – نشرت أوائل قصصي ومقالاتي وبداية عيرتي الذاتية التي تستعصي علي. وكان سريعا يتركنا في ذهول جوابه ويغادر مستعجلا كمن تذكر أمرا هاما، ستمثلا آية قرآنية، وحاملا كيسه فوق ظهره.
كنا قد أصبحنا من ملاكي المفكرات. ندون بها ما يخطر في البال من كلمات. نسجل فها أسماء وعناوين وأرقام هواتف أصدقائنا وبعضا من أشعارهم وقصصهم.
أصبحت مفكراتنا بحجم دليل الهاتف. فضغطنا ما فيها من معلومات بعد طباعتها بواسطة الحاسوب وأخذنا نمضي في الشوارع القذرة والمزدحمة خفيفي الحمل، كل أسكه في يمينه، أو تحت ابطه.
تبادلنا ديسكاتنا مع الفرنسيين. فتحسسوا قليلا ثم ارتبكوا لبراء تنا وكان المصلعي قد أصبح بلفتهم (المسلمي) ولكأنهم استعاذوا بالله من الشيطان الرجيم، أو كأنهم تذكروا سحنة مشرق أو سطية لشبح عابر. لعنا في سيرنا علم الاشارات الدالة خاصة تلك الاشارات التي تصدر عن حرف صغير.
– أتذكره، الآن، جيدا. معلقا على العمود الخشبي العتيق. حقيبته الجلدية تتدلى من كتفه ومن أطرافها تبرز أدواته الغريبة. أتذكره، الآن، جيدا معلقا على العمود الخشبي العتيق.. محاولا ايصال خطوط لهواتف لا ترن.
…وحين عاد معتما تحت الليل الوحيد. أوصد الأبواب وفتح النوافذ. ثم أنه جعل الموسيقى تسترسل صاعدة الجدران ومارقة مع أصيص النور والشجن أسفل العتبات.
وقد كان غريبا جدا أن يطلب منهم، معلقا فوق العمود الخشبي العتيق، ازاحة الحصى التي تؤلم قدميه. وفطنت الى لعبته المكشوفة ! لقد كان معلقا بحيث لا تصل قدماه الى الأرض، ورغم تخمة الكلام التي يعاني منها استعاد كلمات من (أنت منذ اليوم) مشيرا بشكل مجازي، الى حصى مفترض تولم قدميه !
… استلقى كبير العسس على سريره الواسع. وتناول مجموعة (خوليو كورتاثار) القصصية. أخذ يتأمل اللغة والكلمات الغريبة – المجموعة لم تترجم بعد – متحيرا وهو يقلب صفحات القصة التي أخذت المجموعة عنوانها: "لقد أحببناها كثيرا، غليندا)!؟
احمد النسور (قاص من الاردن)