تصحو مُنتعشًا في الرّيف الجبليّ لسراييفو، في المنزل المسوّر بحديقة كبيرة، فيها من الأشجار والفواكه ما يهفو إليه البصر والبصيرة، تقطف بضع حبّات من التفّاح والكمثرى، تغسلها في مياه النبع الذي يشبه صفاؤه صفاء عيون الطيور المحلقة في سماء الحديقة، وتلك التي ترعى النجيلَ في صحنها المتموّج بهبوب خفيف، لا شيء يعكّر المزاج نحو القهوة والشاي وكتاب مع أوراق بيضاء تنتظر أحلام نسور ومياهًا وكوابيس ومُدنًا، لتعكّر بياضها وتملأها بحياة أخرى، لا شيء يعكّر صفو الصّباح، فالهاتف ما زال مغلقًا على طرائفه وكوارثه وأمواته، والقطّة التي جلبها الأولاد وصارت جزءًا من نسيجِ هذه الإقامة المؤقتة. (وأي إقامة أو سكنى غير مؤقتة؟!)
تلعب مع العقائق المنسجمة أكثر في رعيها الأعشابَ والحشرات الصغيرة.
تفكّر في هذه الهناءة السعيدة، لماذا لا تدوم؟
وهذا هو السّؤال الذي أطلقه الإنسان الأوّل في انبلاجِ حياته الأولى حولَ الحياة والموت، وما زال متجدّدًا عبر الأحقاب والقرون، لا يتعبُ ولا يشيخُ ولا يتوارى في الغياب طالما هناك حياة على هذه الأرض، وربّما في أراضٍ وكواكب ومجرّات أخرى!
أنظر إلى اللبلاب يتسلّق الجدرانَ والأشجار بخفّة ومرح، إلى البنفسج والسَرو والأرز وأنواع الصنوبريّات، الحالمة. أحاول نِسيان تلك الأسئلة المُقلقة التي لا تُفضي قطعًا إلى أجوبةٍ أو حلول؛ وإنما تعيش في قلب الإعصار المترحّل لهذا «الكائن المُلقى في الكون»، الذي ربّما يجد ملاذًا عابرًا في الطبيعة والحبّ والسفر والقراءة، فعلًا بعض ملاذ وعزاء واستراحة من عواصف الأسئلة والسنين، وخاصّة في هذه الفترة الاستثنائيّة العصيبة.
قبل قليل ذهبت عبر منحدرات الجبل القريبةِ مع الولدين، لنأتيَ بالحليب والزبدة والقشطة الطازجة من مزرعة المزارعين، ورأيتُ الأغنامَ قطيعًا من الماعز والكباش، بالقرب من (درْس) حظيرة الأبقار الكثيرة، بعضُها مسترخٍ كأنّه في واحة الأبديّة، وبعضُه يأكل طعامه بشهيّة ونهم، ليأتي أكله لاحقًا لبني البشر طعامًا هنيئًا مريئًا، إلا لدى طوائف من الهندوس، الذين يقدّسون الأبقار، وعليه يحرّمون المساس بها، كذلك النباتيّون. ومن المفارقات العجيبة حقًا، التي يمليها جشعُ رأس المال وتراكمه ونهمه الذي لا يعرف مقدّسًا، ولا حدودًا، أن أكبر شركات ذبح وتصدير لحوم الأبقار في الهند لأثرياء هندوس، حسب مصادر وازنة. وعمومًا هم لا يختلفون في منحى الجشع هذا عن أديان وطوائف أخرى توحيديّة إبراهيميّة، بما فيها من المسلمين، وغيرها من خارج أطر وأقانيم هذه الأديان السماويّة، من البوذيّة التي كانتْ في الماضي مثالَ التسامح الإنساني والشفقة، إذ تحوّل بعض كهنتها إلى قتلة في بلد مثل (ميانمار).
حين رأيت (درْس) الأبقار في ريف سراييفو، تذكرتُ قرية سرور في ماضيها السحيق؛ حين كان هناك في الكثير من البيوت بين ضواحي النخيل والأشجار، قطيعُ أغنام يسرح في الجبال كلّ صباح، وحظيرة الأبقار التي تشكّل ما يشبه الاكتفاء الذاتي من الغذاء والألبان والحليب.
ثمّة ما يُشبه البديهة في خطابِ الأدب والكلام، أنّ الراحلين، خاصة القريبين من القلب والعاطفة والوجدان، كل واحد يغيب، يأخذ منَّا جزءًا ويمضي به من غير عودة وإياب. إذن ما الذي يتبقّى من هذا الجسد المكلوم بفيالقِ المترحّلين والغيابات، حين يأتي أوان رحيله النهائي، ما الذي يتبقّى، غير أصداء فجيعة وأشلاء مغيب.
آه، كلُّ شيءٍ يذكّر بك يا شام
يا بيروت، يا قاهرة، يا قلبي
المكلوم على هذا الفَضاء الشّاسع:
المطاعمُ الأليفةُ بين العمارات
المقاهي، النّساءُ والحانات
السّاحات بالأصُص
والأشجارُ، بالبَاعة المتجوّلين.
كلّ شيءٍ يذكّر بك
حتّى النجومُ التي شبِعتْ
موتًا وانطفاء لكن ما زال
ضوؤها يُنير الأكوانَ والذّاكرة
حين يعودُ الواحد، إلى الأماكن التي عاش فيها بغابر الأزمان، تتراءى في مرايا الأفق تلك الأرواحُ الهائمة، باحثة عن مأوى في خيالٍ أو ذاكرة.
الضبابُ يلفّ جبالَ سراييفو بشفافية بالغة، أتمشّى في البستان كعادة كلّ يومٍ لأقطف بعض التفّاح والكمثرى، وأغسلها في مياه النّبع، مبتدئًا صباحي في هذه البلاد البلقانيّة كما ابتدأت صباحاتٍ في بلاد كثيرة طواها النّسيان، وإن كان بعضُها يطفو أحيانا كما يطفو الغاطِس في الأعماق إلى سطح المياه. لكل صباح وشروق نكهته الخاصّة كالمغيبات والغروب.
قضينا نهار الأمس في رحلة في الجبال المقابلة للجبل الذي نعيش، الأكثر كثافة غابيّة. في الطريق توقفنا عند مطعم على رافد من روافد نهر، وصفه لنا مالكو البيتِ المأجور. الغريب أوَليس ثمّة من وجهٍ للغرابة، أنّ هذا المطعم على هذا النهر المُنساب بحكمة وهدوء وسط أكمات الأشجار ونضارتها، يشبه سلسلة المطاعم في دمشق، تلك التي في المنطقة التي تُدعى «الربوة» على مدخل الشام على ما أظن؛ إذ الزمن الذي انصرمَ كان فادحًا على الذّاكرة. يشبهه تمامًا حتى في تشكيل الطاولات والكراسي، لولا أنّ الجبال المُحيطة هنا مأهولةٌ بكثافة الشّجر والغابات، وهناك جبل قاسيون، برأسه الأصلع، حسب وصف لهاني الرّاهب. الجبال التي تشبه هذه نسبيًّا هي جبال السّاحل السوريّ، بعد الجبال اللبنانية.
بدأ المطر يعصفُ على هذا الكون السديميّ، وبدأت الذكرى تتوافد شخوصًا ووجوهًا، ما زالت تحيا وتتواصل بكل الحبّ والحنين. وتلك التي غيّبها الموتُ لكنّها تسكن الذاكرة. حين تبدأ مساءات الشام ترتسم في الرأس والأفق، نذهبُ إلى تلك المطاعم والمشارب، مع الأصدقاء الذين تجود بهم صدفة ذلك اليوم؛ أبو الوليد يوسف اليوسف، إبراهيم الجرادي، عزالدين المناصرة، جليل حيدر، الشنقيطي البخاري، سحاب الراهب، خليل صويلح، أمين الزاوي، ربيعة جلطي، والقائمة تطول.
آخر مرة زرتُ فيها دمشق، ذهبت إلى تلك المرابع، مع محمد عظيمة ، ولقمان ديركي.
مرّة، بعد الظهر مرّ عليّ أبو الوليد غاضبًا وقرفانًا، قال: يا الله عا الربوة.. ذهبنا، كان الحضور هناك في المطعم قليلًا، طاولة أو طاولتين. أخذنا الحديث مع الطعام، المازات، والشراب، إلى مناطق فكريّة وجغرافية متعددة. هدأ أبو الوليد قليلًا، ثمّة ما يسرده أحداثًا تاريخيّة مغيبة، بدأ في الصعود والتوتّر، ملقيًا كل حمولة غضبه على الرّاهن العربي والسوريّ والفلسطيني، انحطاطه وتخلّفه عن ركب الحضارات الكبرى، ثم دخل في التفاصيل والأسماء، أي المناطق المحرّمة على التناول والنقد، وأخذ صوته يعلو بشدّة، وعصبيّة اللاوعي- حين ذهب إلى الحمام، جاءني أحد الذين يتحلّقون على الطاولة المجاورة، قال لي: «اسمع، امبيّن صاحبك فرط، أحسن تأخذه للبيت، قبل ما ياكلّه شي كف».
أول ما وصل أبو الوليد إلى الطّاولة، قلت له: يا الله نذهب؛ لأن طاهر رياض، ناطرنا في الصالحية، وبعدها نذهب إلى بيته القريب. بهذه الحِيلة تخلّصنا من المأزق الذي جعلني أرتجف هلعًا، أمام المجهول القادم حتمًا.
بمناسبة مرور اسم طاهر، مرّة عملنا موعدًا في مطعم «الريس». وحين انطلقت مشيًا من (ركن الدين)، مررت على بيت واسيني وزينب، لأنه يقع في الطّريق على مدخل الصالحيّة. وصلت إلى الريّس. من الباب سمعت طاهر يقول بعصبيّة للشخص الجالس بجانبه «في فمي ماء» كان ذلك الشخص الذي انبثق فجأة من أفقٍ غامضٍ في الأماكن التي يؤمّها مثقفون وكُتاب، بهويّة مُلتبسة، كل يوم يتكلّم بلهجةٍ عربيّةٍ مختلفة، وهو ذاته يمكن أن تُصادفه في أيّ مدينة عربيّة، جيمس بوند عربي رثّ، حتى من غير لزمة، هو الإنجاز الكبير لهذه المرحلة.
بعد فترة من جلُوسي على الطّاولة، ذهب الرّجل الغامض، فسألت طاهر عن الماء. قال يا أخي كلّما يسألني سؤالًا، أجيبه (في فمي ماء، هل يتكلم من في فيه ماء).. هكذا بعربية فصحى.
أيُّ مشاعر تراودُ المرءَ، حين يرى امرأة تصّوب سلاحًا، فتقتل بشرًا رجالًا ونساء، يحدث هذا في السينما والأدب كما في الحياة تمامًا.
ألا يكفي نحرُ جمالِها الآسر، القاتلُ السعيد «الجمال مُرعب وغامض» ربّما يشبه غموضَ النّفس البشريّة في نوازع دواخلها السّحيقة، وميلها إلى العنف حتّى من غير أسباب ومبرّرات منطقيّة، هكذا مشهد العنف من أجل ذاته بسطوعهِ وخفاياه.
أليست هذه المرأة التي لم يُثنها جمالُها، ولم يردعها عن القتل، نموذجًا بالغ الإيجاز لمعظم حروب التاريخ العبثيّة المجانيّة، التي من أولها وليس بآخرها الحروب اللبنانية والعربية واليوغوسلافية كما تناولها سينمائيا وسردها، (أمير كوستوريتسا) في أفلام مثل (معجزة الحياة) و(تحت الأرض) وغيره، برفقة الفنّ الكبير وإدهاشه؟!
حين صَعدنا من (سراييفو) العاصمة إلى السُّكنى في أحد الجبال المُحيطة التي خضرتُها وغزارةُ هبات الطّبيعة فيها ليست استعاراتٍ وأحلامًا كما في بعضِ جبالنا؛ وإنّما حقيقة ملموسة مشعّة، بيتٌ في قلب غابة، الأشجار المتنوعة اليانعة، تنزهت قليلًا مع الولدين ناصر وعزان وبقيّة العائلة، حتى أشرفنا على وادٍ ذي زرعٍ ومنابع مياه وفاكهة.
استفطن نظر الولدين، قطّ كان ينام تحت شجرة سرو، ما إن رآنا حتّى استيقظ متّجهًا نحونا، وكأنّما كان بانتظارنا منذ زمن، تسابقت الأيدي إلى استقباله ومداعبته كلامًا ولمسًا وتدليلًا، حتى جاء معنا إلى المنزل الذي نقطن.
تعجبتُ من هذه الصّداقة السريعة، صداقةُ القطط لبني البشر من غير ريبةٍ ولا أدنى حذرٍ وخوف.
وينجلي هذا العجب، حين نعرف أن القطط من بين السنوريات وسائر الحيوانات البريّة سارعت بحدسٍ ثاقبٍ، إلى ترويض نفسها بنفسها، واستئناس الجماعات البشريّة، من غير عناء الترويض ووحشيّته، الذي استغرق عقودًا من الزمن، مثل الكلاب والأحصنة البريّة التي حين رُوضت غيّرت مسار التاريخ لاحقًا في خوض غمار الحروب وبناء الممالك وانهيارها.
صار هذا القطّ الذي أطلقوا عليه اسمًا بعينه، كواحدٍ من أفراد العائلة ومحلَّ الحظوة، مبادلًا إيّانا كرمًا يمثّله في الطاعة والحنان والانسجام، بين الفترة والأخرى نسمع ضجّة نباح الكلاب في أرجاء بيوت الجبل، ونلاحظ أنّه لا يخلو منزلٌ من كلبٍ وأكثر، لتحميَ الأهلَ وحيواناتهم من الذئاب والثعالب المغيرة في الليالي المدلهمّة بالصّمت والوحشة.
ديكة تصْدح في ريفِ سراييفو
مشمولةٌ بعواء الذّئاب
أشجار السَرو والبلوط والجوز،
تتمايلُ مع الرّيح القادمة من
جهة الشّرق لتمزّق هجعَة السكون،
كأنّما الغيبُ يبدأ ببثّ
رسائله في هذا الهزيع من الليل.
حتى الملائكة والغيوم وأشجار السَرو،
تغبط هذه القطّة
المسترسلة في فردوسِ سلامِها الخاص
منفصلة عن الكون والمحيط
موتسارت، موتسارت
في الصباح وفي المساء
الآلهة تسفحُ دموعَها
على البَشر الفانين.
عبر مرتفعاتٍ ومنخفضاتٍ، ذهبت مع الجماعة، ويد الله مع الجماعة إذا كانت صالحة، ومع الفرد إذا كان مبدعًا؛ أي صالحًا. اتجهنا نحو الغابة، التي بدأنا نصعدها من الأطراف والحوافّ، أحسست بمهابتها الروحيّة وغموضها، منذ بداية الدخول إلى عرينها المُحتشدِ بالهَواجس والأسْرارِ والحيوانات والفرائس، التي تتوزع عظامُها وجيفُها بعد افتراسها على الجنبات وتحت جذور الأشجار العملاقة. تكثر هنا الذئاب والواويّات وأنواع المفترسات؛ لذلك فالكلاب الحارسة ضرورة وجودية للحياة والحماية.
كل غابةٍ تُحيلك إلى أخرى، غاباتُ البلقان، الشرق الأوروبي، وما يعرف بالغابة السوداء، كذاكرة ثقافيّة وفلسفيّة، بغابات الأمازون الأكثر سعةً وأسطوريّة وخطرًا، مثل تلك التي كنت أرتادها بشكل شبه يوميّ، في جزيرة (بورنيو) في الأقاصي الماليزيّة، الغابات المطيرة المُفعمة بالحرارة والرطوبة التي تخفف من غلوائها شلالاتُ الينابيع المتدفّقة.
كأنّما أسمع صدى صوتٍ من أعماق الغابة ينبعث، بما أنّ الغابات يمكن أن تكون مُخيفة كمجهولٍ مُظلمٍ وغامض، لكن ليست هناك من أسرار ميتافيزيقيّة، وخلف الحُجب والغيوب، ربما، غير ما تكتشفه عين الإنسان ومعارفه العلميّة، الرياضيّة؛ فهي مثل أي ظاهرة من ظواهر هذا الكون، الذي هو بمثابة ذرّة تسبح في فضاء المجرات الشاسعة والنجوم؛ ليس لها غير المعنى الذي يضفيه عليها الإنسان وخيالاته ونزوعاته المذعورة المرتجفة في ظلام أعماقها البعيدة. ومثل الحياة التي ربّما ليس لها من معنى غير المعنى الذي نضفيه عليها من أجل البقاء والاستمرار وتجنبًا لصدمة الحتفِ المبكّر والانتحار.
ها هو المساء ينزلُ على الغابة والمكان والبيوت التي تلمع تحت الأشجار والنباح، وإذا بالجماعة الصغيرة تتفرّق فأجدُ نفسي مع (ناصر) نمضي باتجاه المنزل، قاطعين الطّرق المتعرّجة الملتوية، ملوّحين بتحيّة إلى المزارعين في الجانب الأيمن من الطريق، وخوار أبقارٍ وصوت ماعزٍ ينبعث من مزارعهم، نمضي في الطريق من غير هدي علامةٍ ما تشيرُ تحديدًا إلى المنزل؟ بعد مشيٍ بدأ إحساسنا باكتشاف ضياعنا وبأنّنا سلكنا طريقًا آخر، أو تجاوزنا مُنعطفَ البيت الذي نسكن، ولأنني تركتُ الهاتف على الطّاولة في الحديقة، بدأنا نحدّق في الطرقات بقلق، نُقارب ونُقارن بعضها ببعض، ولأنّ إحساس الضياع على نحوٍ من العمق وجوديًّا وواقعيًّا بدأتْ تحتشدُ في رأسي بعضُ الهواجس من الماضي الشخصي ومن ذاكرة الأدب، حتى تسارعت إلى ذهني شخصيّة (كورماك مكارثي) الأمريكي في رواية (الطريق) هو وطفله في خضمّ صحراء الدماء الموحشة أيّما وحشة، ينجو من مقتلة إلى أخرى، حاملًا بندقيّته حين أبقى على رصاصة، ربما للحلّ الأخير الأكثر رحمة وسط هذه الوحشية الدّامية، بأنّه حين يتيّقن انعدام النجاة، يُجهز على نفسه وطفله، برصاصة الرّحمة والحنان الأبويّ البالغ، انزعجتُ من هذا الخيال الجامح في قسوته واستيطانه لبربريّة الوجود البشريّ، حتى في أرقى حضارة في العالم.
استفقت على بداية الطريق المُوصل إلى البيت من إشارة (ناصر) إلى قنّ الدجاج الذي تذكّرنا المرور به في طلعتنا نحوَ الغابة، وهكذا عُدنا بسلامٍ حالمين بليلٍ هادئٍ وصباحٍ رائق.
لا شيء يأسر المرءَ، مثل لطف البشر تجاه بعضهم، الدّماثة والأخلاق والتّسامح الحقيقيّ، وليس هذا النّفاق الذي يسودُ العالم، باسم «التسامح والإنسانيّة» صفات إلهيّة وبشريّة، ليست بحاجةٍ إلى مراجع ودليل نظريّ، بقدر ما هي تجلّيات الرّوح الصّافية في السّلوك، وتلك الإشراقةُ، التي يتراكمُ عليها غبار التّجارب والزمن والمِحن، حتى يكاد يقضي عليها، أو يصقلها ويجوهرها أكثر لدى القلّة.
ولا شيء مثل اللطف يأسر الغريبَ والمُغترب الباحثَ عن دِفء اللحظة المفقود.
في الصّباح الباكر، وأنا أتمشّى لقطف بعض ثمار الفاكهة، ثم الجلوس إلى الطاولة للقراءة والكتابة، وجدت صاحبيْ المنزل، الرجلَ وزوجته يشذّبان الأشجار، في الستّين من عمرهما، لكنّهما يبدوان في الأربعينيّات، جراء العيشِ الدّائم بين هذه الحقُول والغاباتِ بهوائها النقيِّ، والطّعام العضويّ الطّازج كل يوم، بعيدًا عن صَخَب المُدُن، الزّحمة والسخام والتّعليب الشّامل للبشرِ والأطعمة.
بادَرَا إلى تحيّتي بلغتهما، وهنا أمام الفيْض الإنسانيّ والأخلاقيّ لا تُشكّلُ اللغةُ عائقًا على الإطلاق، تذكرتُ بضعَ كلماتٍ من اللغة البلغاريّة الأقرب إلى اليوغسلافية من بقية اللغات السلافيّة. والأجيال السابقة كانت لا تعرفُ إلا لغتَها والروسيّة كلغة ثانية إبّان الهيمنة السوفييتيّة؛ أمّا الأجيال الحاليّة فلم تعد تعرف الروسيّة. لقد اندثرت لصالح الإنجليزية بالدرجة الأولى واللغات الغربيّة، فابنتهما حسبما قالت لي (أم ناصر) تتقن الإنجليزية. وهكذا نُلاحظ في المطاعم والمرافق السياحيّة العامّة.
المهمّ، افتتحتُ صباحي بهذا الإشراق والأخوة الإنسانيّة، عبر الإشارات وبضعِ كلماتٍ تقريبيّة، والأهم هو هذا الحضورُ المُدهش للمحبّة بين غرباء يلتقون لأوّل مرة.
الإقامة والسّكنى في قمم الجبال وتحت ظلال أشجارها وهوائها النقيّ الصافي، يُعطيك تلك الحيويّة والنشوة الجماليّة، التي تهبك إيّاها معاشرة قِمم الشّعر والأدب والفكر، بعيدًا عن التلوّث والثرثرة والأحقاد الصغيرة والعلاقات الزائفة. كلاهما، وإذا اجتمعا كان الفوزُ والظفرُ بحياة صحيّة روحيًّا وجسديًّا. كانت النّشوة أو «السكرة» التي تمنحُك القدرة على مواجهة سيلان الزمن الجارف الذي لا يترُك في طريقه كائنًا مهما كبُر وعظم شأنُه أو صغُر، جارفًا يسحقُ الجميع، نشوةُ الأدب والجبال وحياة العزلة تمنحك قدرة المواجهة وتقليل اندفاعه، ذلك الجريان العنيفُ والظفرُ أكثر ببُرهاتِ سَعادة وغِبطة، حتى يحين موعد الرّحيل النهائي، فنرحل، باصقين على هذا العالم، حسب عبارة الفيلسوف، أو مُلقين عليه نظرة وداعٍ وامتنانٍ على تلك الإشراقاتِ واللّحظات التي كادت تُلامس الذّرى والكَمَال.
تتنزَّهين فيْ دَمي
يا عقاعقَ الفجيْعة
وليس في البُستان والحديقة
كل يومٍ أنامُ وأصحو على رحيل
صديق.
لماذا العَجلةُ يا أصدقائي
ثمّة أحلامٌ مؤجّلة بيننا
ثمّة لقاءاتٌ ونُزهات
على الشّواطئِ والغَابات
ثمّة كلامٌ حول الشِّعر والعَدم الكاسر
وعن الأزْمِنَة التي تقصفُها القنابلُ
والأوبئة
كما قصفتها قبلًا قيامة الضِعَة والانْكِسار
ثمّة كتبٌ ونبيذٌ مؤجّل
ينتظرُ ضَجِرًا منذ سنين
الشجرةُ واقفةٌ لا تُثرثرُ مع الرّيح
راسخةً بصمْتِ الجَوهرِ والجُذور
أحلامُها التي تحلّق عاليًا
توّزع هداياهَا على الأطفال
والطّيور والمشردّين
يلجأونَ إلى ظِلالها الواسِعة
حين تشتدّ حروبُ القَائلة
والبَشر
تحنُو على الجميع كأمٍّ رؤومٍ
وكعاشقةٍ تتذكّر أولَ طائرٍ حطّ
على أغصانِها الغضّة
وأخَذَ يشدُو بعذوبةِ العَندَليب
والمَلاك
الشجَرةُ التي جذورُهَا في الأرض
وفروعُها في السماء
تستريحُ إليها الطّيورُ المُهاجرة
والنّيازكُ في سَفَرها الطويل
فيما أعرف قراءة وملاحظة لم يحظَ الشروقُ الشمسيُّ بما حظي به المغيب، في معظم تجلّيات الكتابة والأدب، فكأنّما الحياة مثل الكتابة أو العكس، هاجسُها المغيبُ والزوال والغروبُ، أكثر من الانبثاق والشروق، هاجسُها الموت، أكثر من الولادة، ربما من هنا عزا بعضُ الفلاسفة الحياةَ إلى التّفاهة والهُزال لولا أنّها محمولة على رافعة الموت العظيمة التي تنتشلها من كبوتها وعبثيّتها، إلى رحاب السموّ والخلود.
مساءً ذهبنا إلى مزرعة ضمن الجبل الذي نعيش، تؤّجر الخيول للفُسح والنزهات، من أجل الأولاد أكثر كي يتخلصوا مؤقتًا من تلك الألعاب الافتراضية التي تقود إلى الانفصال الكلّي عن الحياة الحقيقيّة والطبيعة.
على ضوء الدّليل الإلكتروني وتعليماته ذهبنا، وهو كالعادة لا يخطئ الهدف إلا نادرًا، لكن ثمّة خطأ ما حصل، ووجدنا أنفسنا بدل مزرعة الخيل والأحصنة ندلف بوّابة نحو مقابر وجبّانات تجهد الرؤية البصريّة في استقصائها من فرط تشعّبها ورحابتها على السفوح والهضاب الجبلية، وتبدو بوضوح أنها ليست مقبرة تقليديّة، كالمقابر التي تمتلئ بسكانها تدريجيًا، وعبر الأيام والسنين. وإنما نشأت هكذا دفعة واحدة، بشواهد، والأكثر من غير شواهد، وحّدتهم المجازر والإبادات الجماعيّة التي ارتكبت في حق أهل البوسنة والهرسك من المسلمين من قبل الصرب ورثة الجيش اليوغسلافي القويّ، بعد انفراط عقد الاتحاد اليوغسلافي، وقعت الواقعة الإباديّة على هؤلاء القوم الذين وجدوا أنفسهم منفصلين مثل بقيّة الهُويات القوميّة والإثنية من كروات وسولفينيين، وجبل الأسود، فحلّ بهم وحدهم على الأغلب العقاب والانتقام.
هذه المقبرة الشاسعة التي اكتشفناها صدفة هي من شواهد تلك التّصفية والإبادة، وكان أمامها مباشرة محلاتٌ لبيع الورود، للقادمين للزيارة والذكرى والامتنان. وثمّة امرأة بالغة الجَمال والشفافية حدّ الصدمة تشتري وردًا، ربّما لذكرى أب أو أخ أو أم، قلتُ الجمال والموت، دائمًا توأما وجود وحياة. ولا أتمنى لهذه المرأة الفائقة الحسن والإشراق إلا أن تحيا طويلًا، حتى لو لم أرها ثانية، فوجود إشراقة جمال أو نشوة لحظة استلّتها الصدفة من المطلق، لا بدّ أن تخفّف من قبح هذا العالم وبشاعته التي تتواتر عبر النشرات والفضاءات والأحداث. بالنسبة لشخصٍ مثلي ذهب بي الخيال الدمويّ، إلى بلدان الشّرق العربي، واليمن وليبيا والجزائر، كم من مقابر الإبادات والمجازر التي لم يتوقّف صراخُ الضحايا وسيلان الدماء فيها. ولا أعتقد أنّ حشود الضحايا هناك حظيت بمثل هذا التكريم الجنائزي، والمقابري، وإنما قُذفوا جماعيًا في حُفر وردم شُقّت على عَجل كي يواروا سوءة الجرائم والفظاعات التي ارتُكبت في حقّ الأبرياء والحالمين.
سيف الرحبي