تمهيد :
لا يضيرني أن اعترف أن هم تحديد مصطلح الأدب الفلسطيني المعاصر ورسم منهج نوعي لدراسته ليس وليد الساعة, بل هو هم قديم ولد في ذهني مع بداية تماس ي مع الإنتاج الأدبي الفلسطيني والإنتاج العربي المتعلق بفلسطين وقضيتها. وهذا الإنتاج العربي كبير وممتد ومتنوع ويتقاطع في مضامينه وتجاربه وأشكاله الفنية تقاطعا قويا مع الإنتاج الفلسطيني.
ومثله ذلك النتاج الأدبي الفلسطيني والأدبي المتعلق بالقضية الفلسطينية وهو غزير متوالد متطور يوميا مع تلاحق الأحداث المصيرية الدرامية التي يتعرض لها الشعب العربي الفلسطيني, ومع هذا النتاج هناك دراسات وتصانيف ورسائل جامعية ومناقشات وحوارات صاخبة, ومعها ندوات ومؤتمرات . وقد طغى هذا الإنتاج المتعلق بالقضية الفلسطينية على الجوانب المختلفة للإنتاج الإبداعي والثقافي الذي ينتجه الفلسطينيون في الوطن المحتل والشتات.
ومع هذا التراكم الإبداعي والمعرفي الهائل, يحس المتابع ببعد ناقص حول تحديد طبيعة هذا الإنتاج وحدوده وتصنيفاته الداخلية, وعلاقته بالمحيط الأدبي العربي من حوله.
وقد أتيحت لي في السابق مناسبات محدودة لطرح هذا الموضوع على المنتديات الفكرية, وكنت حريصا على ألا أفو ت أية فرصة من هذا النوع لقناعتي بأن المنهج المعتمد يحتاج إلى إنضاج وتعميق واستدراكات من خلال الحوار المفتوح وامتحان ردود فعل المتلقين تجاهه من دارسين ومثقفين وذوي اهتمام فكري أو قومي.
ومع الأسف, كانت هذه المناسبات متقطعة ولم يتوالد منها أي تراكم يساعد على تشكيل ملامح منهج مناسب. وفيما يلي عرض موجز لأهم مناسبتين في هذا الشأن.
1- 1- ندوة التعريف بالأدب الفلسطيني
المعاصر, اليونيسكو , باريس 1984
كانت المناسبة الأولى ثمينة وفي الصميم, وهي ؛ندوة التعريف بالأدب الفلسطيني المعاصر«, التي عقدت خلال يومي 18-19/7/1984 في مقر اليونيسكو (باريس) بدعوة من الجمعية العالمية للحفاظ على التراث الثقافي الفلسطيني ورعايته International Association for the Safeguard and
Enhancement of the Palestinian Cultural Heritage
وبتعاون مع منظمة اليونيسكو, والمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم ALECSO , ومشاركة الدوائر المعنية بالثقافة والأدب في منظمة التحرير الفلسطينية. على أمل أن تتمخض هذه البداءة عن برنامج مشترك ينظم بالتعاون بين اليونيسكو وألكسو ومنظمة التحرير.
وقد مثل ألكسو في هذه الندوة مديرها العام الدكتور محي الدين صابر, وترأس الجلسات. وحضر جلسة الافتتاح الأستاذ ماكاغيانسار, المدير العام المساعد في القطاع الثقافي لليونيسكو نيابة عن المدير العام السيد محمد مختار أمبو, والسيد أحمد الدراجي الممثل الدائم للمنظمة العربية في اليونسكو, وبعض كبار موظفي اليونيسكو. وأسهم في الندوة باحثون عرب وفلسطينيون من مناطق مختلفة من العالم. وهم : محمود درويش, وجبرا إبراهيم جبرا, وإدوارد سعيد, وإبراهيم أبو لغد, وسحر خليفة, ومحمد بن يس وحسام الخطيب. كما شارك فيها كل من عبد الله حوراني عن دائرة الثقافة في منظمة التحرير الفلسطينية, وعمر مصالحة ممثل المنظمة في اليونيسكو, والسكرتير العام للجمعية العالمية للحفاظ على التراث الثقافي الفلسطيني ورعايته. (1)
وبعد مناقشات دامت يومين كاملين انتهت الندوة إلى إقرار البرنامج التالي, الذي روعي فيه الاقتصار على الخطوط العريضة والبعد عن التفاصيل بوصفه وثيقة شبه تأسيسية:
أ ) في مجال الدراسات :
1. تاريخ الأدب الفلسطيني المعاصر.
2. الأجناس الأدبية وتطورها.
3. توثيق الأدب الفلسطيني المعاصر.
* أعلام هذا الأدب.
* الدراسات المتصلة به.
4. الأطروحات النظرية حول الأدب الفلسطيني المعاصر.
ب) المنتخبات والأعمال القابلة للترجمة :
* منتخبات الشعر الفلسطيني المعاصر.
* منتخبات القصة القصيرة.
* أعمال كاملة شعرية, قصصية, مسرحية, أو روائية يتم اقتراحها على هيئات النشر.
ج ) إنشاء معهد الأدب الفلسطيني المعاصر: ويشمل:
* مكتبة فلسطينية شاملة.
* مكتبة الأدب الفلسطيني, يشرف عليها قديرون لاختيار الأعمال الإبداعية وترجمتها إلى اللغات الأدبية بالاتفاق مع دور نشر من الدرجة الأولى.
* قسم التوثيق, ويهتم بما تم ت الإشارة إليه في النقطة أ.
* هيئة الاتصال, وت عنى بالتنسيق بين الباحثين والمهتمين بالأدب الفلسطيني المعاصر, عربيا ودوليا .
* التفر غ, ويقيد منه الذين يقدمون على إنجاز أعمال إبداعية, وكذلك الباحثون الذين يرى المعهد وجوب تكليفهم إجراء دراسات حول الأدب الفلسطيني المعاصر طوال المدة التي يستغرقها أي عمل من هذه الأعمال, أو من يرى إمكانية مساعدتهم في هذا المجال. (وتضمنت الأوراق المقدمة للندوة ومناقشاتها تفصيلات كثيرة حول هذه الموضوعات). (2)
1- 2- ندوة »أيام فلسطين الثقافية والفنية«, القاهرة 1990
وكانت المناسبة الثانية مكملة للأولى بمعنى من المعاني, ومتصلة تقريبا بالإنتاج الأدبي والفني المتعلق بفلسطين وقضيتها بوجه عام. وقدمت فيها مطالعات وأوراق عمل مهمة وإضاءات على الموضوع. وكان من أبرز المشاركين فيها جبرا إبراهيم جبرا وسلمى الخضراء الجيوسي بالإضافة إلى أدباء بارزين من الأرض المحتلة, وكوكبة من أدباء مصر المتابعين للشأن الفلسطيني. وعلى الرغم من أهمية المطالعات والمداولات التي دارت في الندوة, فقد كان واضحا أن الجامع المشترك لم يتعد الأفق العام للموضوع, ولم يظهر اهتمام بتحديد الخطوط الناظمة لمعالجة المسألة المنهجية.
وقد قدم كاتب هذه السطور مطالعة بعنوان: »فلسطين في السؤال الثقافي العربي« (3), حاولت أن تبي ن غزارة الأسئلة المتعلقة بفلسطين في الثقافة العربية الراهنة, وتذبذبها الدائم حسب تماوج الأحداث وحيرتها إزاء أية رؤية مستقبلية. وانتهت المطالعة بالسؤال الذي طرحته الانتفاضة الأولى (1987-1988), وربما كان مفيدا اقتباس المقطع المتعلق بهذا السؤال, لأنه يصح في مجال الانتفاضة الثانية القائمة حاليا والتي يلاحظ أنها لم ت ثر من الأسئلة والإبداعات في الثقافة العربية إلا جزءا بسيطا مما أثارته الانتفاضة الأولى, فهل يعني هذا أنه حتى الأسئلة لم تع د ذات جدوى? وماذا تبقى لنا غير الأسئلة?
هذا هو المقطع الذي ربما لا يحتاج إلى تعليق إذ ينطبق على الانتفاضة الثانية :
؛كانت الثقافة العربية بين مصدق ومكذب, كما هو شأنها في كل مفاجأة, وماذا يمكن أن تفعل ثقافة في ظل هكذا واقع داخل في منافسة مستديمة مع الخيال. ومع الحجر المنطلق من اليد والمقلاع راحت الثقافة تمطر الأسئلة. أسئلة سريعة وغير محبوكة بعناية ولكنها أسئلة وكان أصعب سؤال هو سؤال الذات: ما العمل?
بعض الشعر عاد مع حليمة إلى العادة القديمة, فتغنى ومج د وأشاد ومدح, ورفع الحجر وكاد ينسى اليد التي صنعت الحجر, والقصة كذلك حاولت أن تنافس خيال الواقع فما أتت بما يلفت النظر.
وكانت لوحات وكانت أناشيد, ولكن من كل تلك المتابعات اللاهثة ربما لم تصب بعض الهدف إلا تلك القصائد الملحمية التي أدركت بعد كل التجربة والمرارة أن السؤال الملحمي المركب هو سؤال العصر وهو سؤال القضية.
وكان هناك سؤال غير ثقافي وغير فني وغير أدبي. وهو سؤال الأسئلة. كانت تسأله الثقافة كل لحظة وظل يقتلها ألا تجد لها أية بادرة من جواب:
إلى متى? عمر الشرارة بلغ ثلاث سنوات, والحقل كله بالانتظار, فمتى يشتعل?
وما لم تستطع الثقافة العربية إيجاد الطريقة الفعالة لإشعال الحقل كله من الشرارة المتلظية فإن كل أسئلتها تبقى مخصي ة, وت بقيها دائما لاهثة وراء تطورات الواقع (الخيالية), بدلا من أن تمسك بزمامه لتصوغه في أحسن تقويم«. (4)
وهناك ندوات أخرى عقدها اتحاد الكتاب العرب وجهات ثقافية عربية متعددة, إلى جانب دراسات جامعية وأعداد خاصة في المجلات, ولكن نادرا ما جرى التطرق إلى أهمية المسألة المنهجية.
ثانيا – تساؤلات حول المصطلحات ودلالاتها
يتساءل المرء منذ البدء: ما المقصود بالأدب العربي الفلسطيني الحديث? ذلك أنه قبل الخوض في مسائل المنهجية والتخطيط يحسن بالمرء أن يعرف حدود البحث الذي يتصد ى له. وبالطبع يبدو هذا الأمر من بديهيات البحث العلمي, ولكنه من زاوية معينة يبدو مشوبا ببعض التداخل والتشابك: فالبدء بتحديد الموضوع ورسم تخومه حق طبيعي وش روع منطقي إلا أن هذا الحق لا يبدو مطلقا بل هو مقيد بقيود داخلية ولا يمكن إسقاطه إسقاطا من الأعلى, أي من خارج الظاهرة المدروسة واستنادا إلى إرادة سامية. إن التحديد يقتضي قيام تفاعل بين العنوان ومادة العرض, أي انبثاق العنوان من الأداء وليس العكس. وما أكثر أولئك الذي يرسمون منذ البدء وبحزم حدود موضوع معين ثم يأتي أداؤهم غير مطابق جزئيا أو كليا لما رسموه من حدود, وذلك منزلق بحثي لا تخفى خطورته.
والمشكلة الأشد تعقيدا أننا, بمجرد ما نحاول الإقدام على تحديد كلمات العنوان مثلا , ندخل فورا في مسائل المنهج, ويتحكم تصو رنا – الواعي أو الكامن – للمنهج بكل ما نبغي تحديده.
وبالطبع يستطيع المرء أن يمضي إلى ما لا نهاية بهذه التساؤلات المتداخلة التي تجنح في المعتاد جنوحا متفاوتا باتجاه البهلوانية. ولكيلا ندرأ الشبهة قبل فوات الأوان, نسارع إلى الدخول في الموضوع من خلال الكلمات الأربع الرئيسية التي يدور حولها العنوان »الأدب العربي الفلسطيني الحديث«.
2- 1- الأدب : تساؤلات حول الدلالة
والأدب كما قال الأقدمون شعر ونثر, ونريح أنفسنا من المناقشة الملتوية كأزقة مدينة قديمة, ونسارع فنزيد ركيزة, يؤمل ألا توحي بأنها ثالثة الأثافي, وهي الآداب الشعبية. والشعر نعرفه, لا مشكلة. ولا يحق لنا منهجيا أن نميز فيه بين شعر وآخر وبين موزون مقفى وكل بيان زعم لنفسه صفة الشعر لابد من قبوله حتى لا ندخل في المتاهات والمشاحنات. ولكن في النثر تأتي المشكلة. فما هذا الأدب النثري الذي نريد دراسته.
يمكن ببساطة أن نقول إنه القصة والرواية والأدب والفن الشعبي. ولكن المشكلة هي أن النثر أوسع من ذلك بكثير. فهناك مثلا النثر الفني وهناك النثر العلمي وهناك نثر العلوم الإنسانية, ولكل منها وجهته ومنحاه. وهناك أيضا المسرح – وما أدراك ما المسرح? هل يدخل في عنوان (الأدب) هنا ? والمسرح نثر وشعر بالطبع, ولكنه أيضا في جانب منه نص كلامي , وفي جانب آخر تقنية وإخراج, وفي جانب ثالث تنفيذ وتمثيل. فماذا نحن فاعلون?
وحتى لو تجاوزنا قضية المسرح بالتركيز على النص اللغوي, وقلنا إن القصة والرواية مقبولتان على نحو ما قبل الشعر, أي بمجرد ادعاء الانتماء ودون التدقيق في الهوية المضمونية أو الشكلية, فإنه يبقى أمامنا تحد ي المقالة مثلا . هل نكتفي بالمقالة الأدبية (التي يصعب إيجاد معيار لتمييزها) ? أم نتناول ذلك البحر الزاخر من مقالات شعب معان مشرد غير مستقر ليس أمامه, للتنفيس عما هو فيه, سوى تلك النفثة الحار ة التي يسمونها المقالة? (وسوى تلك الزفرة الحر ى التي يسمونها القصيدة وهما بالمناسبة فرسا رهان في أدب الفلسطينيين المعاصر).
وهناك أيضا أدب الرسائل والمذكرات والخواطر وغير ذلك ماذا نقول هنا? هل نضع معيارا فنيا فحسب? وإذا نحن تبن ينا معايير (الدكاترة) زكي مبارك مثلا , فماذا سنفعل بالأدبيات السياسية التي تشكل منحى نثريا مستقلا تماما وذا شخصية متميزة في إطار الثقافة الفلسطينية المعاصرة! هل نستبعد كل هذا المنحى? هل ندخله في صلب المنهاج? هل نمر به مرور الكرام فنجز بعض جوانبه ليضحى أضيع من الأيتام على مأدبة اللئام, ويضحي الكرم لؤما ?
وماذا عن الأدب الشعبي? وهل يجوز إغفال تراث أدبي شعبي حي مواكب للأحداث بحرارة مبهرة, ومعبر عن صميم موقف المقاتل في المعركة, وشجون الأم المعانية من الفقد والاضطهاد في البيت?
وماذا عن أدب العلوم الإنسانية : التاريخ والفكر والفلسفة والاجتماع?
وماذا عن أدب العلوم? ماذا عن لغة الكيمياء والفيزياء وماذا عن لغة الأعمال والتجارة وإدارة الأعمال ?
وهكذا, ما إن يبدأ الإنسان بطرح الأسئلة حتى يكتشف أن المسألة ليست سهلة كما تبدو على السطح, وإذا لم ي ق م الإنسان جدلا (دياليكتيك) بين مدلولات عنوانه وطبيعة مادة مضمونه فإنه لابد واقع في حيص بيص, وما نظنه الا واقعا فيها, حتى لو أقام ذلك الجدل. فالمسألة, والحق يقال, لا حل لها, وهي مفتوحة للاجتهاد ولنوعية الإمكانات المتاحة. وحتى لا يظن احد أن ما نحن فيه هو محاولة لاصطناع مشكلة من لا شيء لنسارع إلى الاستشهاد برأي شيخ المنظرين الأدبيين في عصرنا (رينيه ولك), إذ يقول في مطلع الفصل الثاني ؛طبيعة الأدب« من كتابه المعروف نظرية الأدب:
»من الواضح أن أول مشكلة تجابهنا هي مادة البحث الأدبي. ما الذي ي عد أدبا وما الذي لا ي عد ? وما طبيعة الأدب ? لمثل هذه الأسئلة التي تبدو بسيطة قلما نعثر على جواب واضح«.(5)
فإذا المشكلة ليست مصطنعة ولا (مفتعلة), ولكن يبقى صحيحا أن مجال البحث في الأدب الفلسطيني ليس مجال حلها, بل هو أبعد مجال بحثي عن إمكانات حلها لأنها أعقد مجالات البحث, ولأسباب أخرى في بطن الشاعر. وحسبنا هنا أن نؤكد ضرورة الاتفاق منذ البدء على تحديد المقصود بكلمة أدب, وهذا ما سنحاوله في القسم الثالث بعد استكمال التساؤل حول المصطلحات الأخرى.
2- 2- الفلسطيني والعربي الفلسطيني : إشكالية متداخلة
وهاهنا تبرز مشكلة.
ما المقصود بالفلسطيني في مجال الأدب?, يقول ميثاق منظمة التحرير الفلسطينية في مادته الخامسة:
»الفلسطينيون هم المواطنون العرب الذي كانوا يقيمون إقامة عادية في فلسطين حتى عام 7491 سواء من أخرج منها أو بقي فيها, وكل من ولد لأب عربي فلسطيني بعد هذا التاريخ داخل فلسطين أو خارجها هو فلسطيني«.
وبالطبع يسهل تطبيق هذا المعيار آليا , واعتبار إنتاج كل فلسطيني (بالجنسية) داخلا في نطاق الدراسة المنشودة, ومع أن الميل الطبيعي للإنسان لا يمكن أن يكون ضد هذا الاتجاه فإنه لابد من الاعتراف بوجود عقبات متفاوتة الأهمية تعترض تطبيق هذا المبدأ. ومن أبرز هذه العقبات:
الجانب الأول: جنسي أو قانوني. فهناك قسم كبير من الفلسطينيين مثلا يعيش في أقطار عربية أو أجنبية, وقد يحمل جنسيتها وقد لا يحمل, ويدخل إنتاجه عضويا في مجمل إنتاج البلد الذي يعيش فيه, فكيف يحدد إنتاجه (وربما كان الوضع الأردني يمثل أعقد الحالات), ويليه الوضع في كل من سورية والعراق.
الثاني: فني أدبي. ذلك إن الإنتاج الأدبي الفلسطيني (فيما عدا ما يتصل بأدب النكبة) غير متجانس تقريبا , وهو ينمو في بيئات متنوعة التجارب, وبعضه يظل وفيا للثيمة الأصلية للأدب العربي الفلسطيني, وبعضه يندمج اندماجا كليا في الظاهرة الأدبية المحلية للأقطار المضيفة ولاسيما حين تكون هذه الأقطار ذات مناخ د م جي , أي لا تضع تمييزا يفصل الفلسطيني عن البيئة المحلية. ومثال ذلك سورية التي يصعب أن يميز فيها الإنسان بين من هو فلسطيني في الساحة الأدبية ومن هو غير فلسطيني من خلال المعايير الأدبية.
ولا ننسى أيضا أن إنتاج معظم فلسطينيي الشتات يدخل بشكل يكثر أو يقل في الظاهرة الأدبية المحلية للأقطار المضيفة, ولاسيما حين تكون عربية.
وتزداد المشكلات الناجمة عن هاتين الناحيتين صعوبة حين يتعلق الأمر بالجيل الناشئ من أبناء الشتات الذي لم يعرف فلسطين ولم يتصل بتجربة البيئة الفلسطينية.
الثالث: ومما يزيد في إشكالية التحديد أن هذه العلاقة بين الأديب الفلسطيني والبيئة الق ط رية التي يتفاعل مع ثقافتها ومناخها تأثيرا وتأثرا هي علاقة مضطربة بحكم الوضع الفلسطيني المضطرب والشتات المتوالد. ذلك أن ظروف الشتات من سياسية واجتماعية يضطر الأدباء (ربما قبل غيرهم من أبناء جلدتهم) إلى التنقل من قطر عربي لآخر, فالأدباء الفلسطينيون أشبه بالبدو الرحل, ولاسيما المرتبطون منهم بالحركات السياسية والثورية, وحالتهم أشد حدة من حالات ترح ل إخوانهم من الأدباء العرب, الذين هم أيضا في حالة ترح ل. وهكذا يكون إنتاجهم المحلي في الأقطار المضيفة مبتورا وموزعا . وفي حالة أقطار عربية مثل لبنان والأردن والكويت وغيرها كانت هناك ارتحالات حادة وغير اختيارية وطالت الأدباء قبل غيرهم. وحتى في حالة بلد أكثر استقرارا من هذه الناحية, مثل سورية, نجد أمثلة كثيرة لهذا الارتحال. فمثلا غسان كنفاني لم يلبث بعد نشاطه الأدبي في سورية أن غادرها إلى الكويت, حيث بدأ نجمه يلمع هناك ومن خلال التفاعل مع البيئة الأدبية المحلية, ثم انتقل إلى لبنان حيث تفجرت طاقاته الفنية ونضجت في أعماله القصصية معالجة الموضوع الفلسطيني المستوحى من تجربة الهجرة والشتات. ويوسف الخطيب أنهى دراسته الثانوية في فلسطين ثم انتقل إلى سورية, ثم أقام زمنا في هولندا وفي لبنان وغيره, ثم عاد فاستقر في سورية; ونواف أبو الهيجا بدأ نشاطه في العراق, ثم أقام بضع سنوات في سورية, ثم غادرها إلى الكويت, ثم إلى العراق الخ.. وهناك أمثلة لا تحصى. وقد يكون رشاد أبو شاور أبرز مثال للكاتب البدوي المرح ل حينا والمترحل حينا آخر, حتى أنه لا يجد في كثير من الأحيان الوقت الكافي للبكاء على الأطلال.
وبالطبع هذه الظاهرة ذات حدين أي يمكن أن تكون سببا في تشتت التجربة ويمكن أن تكون دافعا لمزيد من الالتفاف حول جوهر التجربة الذاتية الفلسطينية. وتختلف الحالة من أديب لآخر. وفي الحالتين يشكل هذا التشتت صعوبة في متابعة أعمال هؤلاء الأدباء وتطور تجاربهم الفنية.(6)
2- 3- الأدب العربي الفلسطيني أم الأدب الفلسطيني ?
تروج بالتدريج التسميات الق طرية للأدب العربي في الأقطار العربية المختلفة كالأدب المصري, والأدب السعودي والأدب البحريني والأدب الكويتي. ولدى التفحص يتضح أن هذه التسميات من الناحية المنهجية الخالصة هي مجرد اختصارات لكلمة الأدب العربي لأن هذا الأدب في مختلف الأقطار العربية مكتوب باللغة العربية في معظمه, وهو سليل تاريخي للأدب العربي المتوارث منذ القدم. ولاشك أن هذه التسميات (المختصرة) في بعض الأقطار العربية يصعب أن تعتبر مختصرة لأنها متعمدة لتعبر عن تمسك بالواقع الق طري لأسباب فوق أدبية لا شأن للمناقشة الحالية بها. وبوجه عام لابد من الاعتراف بوجود سمات مميزة للأدب العربي حسب المناطق والأقطار, تمثل البيئة المحلية وتغتني بنكهتها, وهذه السمات تعلن عنها وترمز لها التسمية الق طرية المعني ة. وهذا يعني أن إضافة كلمة عربي من الناحية المنهجية ينبغي ألا توحي بأي محاولة لطمس قسمات التجارب الوطنية الخاصة. إن هذا الكلام غير مقصود لذاته, ولكنه مجرد إطار لوضع مشكلة تسمية الأدب العربي الفلسطيني في إطارها المنهجي الصحيح.
وفيما يتعلق بالأدب العربي الفلسطيني, الذي هو موضع النقاش الحالي, تبدو المشكلة أشد تعقيدا ليس من ناحية التسمية فقط بل من ناحية طبيعة هذا الأدب وظروفه السياسية والثقافية ووحدة هويته, وذلك من النواحي التالية (إضافة إلى ما تقدم):
أ- لا يمكن إنكار وجود تيارين أدبيين فلسطينيين متمايزين في جوانب تكثر أو تقل ضمن إطار التجربة الكبرى المشتركة, وهما أدب الأرض المحتلة وأدب الشتات سواء في الأقطار العربية أو في أصقاع الأرض المختلفة. ويلاحظ أنه حتى أوائل التسعينيات كانت هناك شبه هوة بين التيارين بسبب صعوبة التواصل. إلا أنه بعد قيام السلطة الوطنية الفلسطينية (1993) على جزء من فلسطين المحتلة تضاءلت حواجز كثيرة وساعد الاتصال البشري على مزيد من التفاعل الثقافي, ومع ذلك تبقى لكل تيار نكهته ضمن الإطار العام. (7)
ب- يتفاوت تأثر الإنتاج الأدبي لأبناء فلسطين في الأقطار العربية تفاوتا شديدا حسب درجة الاندماج في البيئة الثقافية المحلية للأقطار المضيفة وحتى حسب درجة حرية التعبير المتاحة في هذا القطر العربي أو ذاك. وتتفاقم مشكلة الإنتاج الأدبي الفلسطيني في الشتات لأنه غالبا ما يكون أدب مهاجر, فرديا أو جماعيا .
ج- وبالمقابل هناك بعض ملامح التفاوت بين الإنتاج الأدبي للفلسطينيين داخل الخط الأخضر (عرب 1948) وبين إنتاج أقرانهم في فلسطين خارج الخط الأخضر, وكلها أراض محتلة, ولكن ظروف البيئة الإنتاجية متفاوتة.
ويظهر إنتاج عرب 1948 تأثر متزايدا بسمات المعايشة اليومية والتعليم وآليات الاحتكاك الثقافي والصراع الحضاري مع العدو الصهيوني. ويعتبر نجاح الإنتاج الأدبي الفلسطيني في صون هويته العربية والوطنية ضمن ظروف الحصار ومحاولات طمس الهوية والتجهيل والاضطهاد والتمييز العرقي يعتبر هذا النجاح ظاهرة تاريخية شديدة الأهمية ليس في التاريخ العربي فقط بل في تاريخ الإنسانية المعاصرة. والأمثلة على النجاح كثيرة ربما كان سميح القاسم أبرز عناوينها. ومقابله يمكن أن يذكر أنطون شماس, الذي كتب روايته أرابيسك Arabesques بلغة عبرية متقنة, وترجمت هذه الرواية إلى الإنجليزية والفرنسية, وربما إلى لغات أخرى, وكان مضمونها إنسانيا عميقا حول صراع الهوية اليومي وتفحص الانتماء العربي (الإسرائيلي) الغاطس في أزمة الاحتكاك المعيشي واللغوي والثقافي مع نماذج إسرائيلية متفاوتة في انغلاقيتها وتعصبها. (8)
ونظرا لتلاحق التطورات السياسية في فلسطين المحتلة والتداخلات التي حدثت منذ قيام السلطة الوطنية الفلسطينية وعودة عدد من أدباء الشتات إلى الأرض الطيبة, فإنه من السابق لأوانه إصدار أحكام منهجية مسبقة بشأن هذه المشكلة وتأثيرها المتوقع في عملية تصنيف الظاهرة الأدبية الفلسطينية وتلم س خواصها النوعية. ومن الواضح أن الأحداث المتلاحقة للصراع العربي الصهيوني تلقي دائما بظلالها على اتجاهات الإنتاج الأدبي ومعه الإنتاج الثقافي والفني وتجعل أحكامنا بشأن هذا الإنتاج مترجرجة وبالتالي عرضة للأخذ والرد. وبذلك تكون تسمية الأدب العربي الفلسطيني مظلة سلامة واسعة لاحتواء مختلف الحالات.
2. 4. الحديث والمعاصر: مشكلة عامة
كذلك يتعرض مصطلح الحديث لتفسيرات مختلفة, سواء في اللغة العربية أو في اللغات الأخرى, ويتداخل مع مصطلح آخر هو مصطلح المعاصر.
ومن الضروري, قبل الشروع في أي بحث يتعامل مع أي من المصطلحين, تحديد المقصود بوضوح. ويمكن أن ن عيد هنا ما قلناه بالنسبة للمشكلات السابقة من أن تجربة دراسة الأدب الفلسطيني غير مرشحة على الإطلاق لحل مشكلات المنهج والمصطلح, ما دامت تحمل من التعقيدات والتدخلات ما لا يسهل حله حتى من خلال مصطلحات متبلورة, بل إنها تقد م فرصة للباحث في مجال تفح ص مدى فعالية المصطلحات النقدية ونقاط ضعفها وقوتها.
وتجنبا للمماحكات التي تدور حول هذين المصطلحين, يحسن أن نشير من الآن أن المقصود هنا: الأدب العربي الفلسطيني الحديث الذي واكب انبثاق مفهوم الكيان الوطني الفلسطيني منذ مطلع عصر النهضة, وتبلور مع بدء فترة الانتداب البريطاني على فلسطين في أول العشرينيات (1022) حتى يوم الناس هذا.
ثالثا – محاولة باتجاه بلورة المصطلحات
بعد استعراض مشكلات المصطلح وانطلاقا من تحليلها السابق أصبح ممكنا تقديم تصور مركز لمشمول كل بند من بنود العنوان حتى تكون حدود المنهج واضحة; وسوف يعرض كل بند حسب ترتيب وروده في القسم السابق (الثاني).
3- 1- الأدب
سيجري تناول الأدب بمفهومه الضيق والعريض. مع التركيز على المفهوم الضيق (ذي الطبيعة الجمالية والنفسية), وهذا يتناسب مع الفهم العربي العام للظاهرة الأدبية في إطار الثقافة.
الأدب بالمعنى الضيق:
ويدخل فيه دخولا رئيسيا الأجناس الأدبية المعروفة: الشعر, القصة بأشكالها المختلفة, المسرح, ولاسيما من ناحية النص المسرحي, المقالة الأدبية بأشكالها المختلفة, السيرة والسيرة الذاتية والمذكرات. (أي كل تلك الكتابات التي تستعمل فيها اللغة استعمالا جماليا خاصا أو قريبا منه).
ويدخل في ذلك أيضا الدراسات المواكبة لهذا الإنتاج, ولاسيما: التأليف الفكري والأدبي والفني, مع التركيز على التاريخ الأدبي والنقد والدراسة الأدبية والترجمة الأدبية.
الأدب بمعناه الواسع : Les Belles Lettres
ويدخل فيه بوجه خاص: الكتابات السياسية والكتابة الصحفية, والعلوم الإنسانية, ولغة العلوم.
وتشكل الدراسة هنا إطارا لدارسة الأدب بمعناه الضيق, ويكتفى منها بما يتصل بأساليب التعبير وتطوراتها وعلاقتها بأسلوب التعبير الأدبي.
الأدب الشعبي:
ويشمل الأشعار والأغاني والأمثال والقصص الشعبية وما إليها.. وفي الحالة الخاصة لدراسة الأدب العربي الفلسطيني لابد أن يحتل الأدب الشعبي مكانة جيدة, لأنه المعب ر الأكثر تماسكا عن روح الشعب وأصالة هويته, وهو الأكثر ثباتا بينما تعرض الأدب الفصيح لتأثيرات الشتات وتأثيرات الاحتلال والرياح الغربية. ويضاف إلى ذلك قوة التعبير الفطري عن حياة الكفاح والصمود والمقاومة التي مازال يعيشها الشعب الفلسطيني منذ مطلع القرن العشرين.
ومن الناحية السياسية تبدو الحاجة أكثر إلحاحا لحفظ التراث الشعبي الفلسطيني لأنه مقوم من مقومات الصمود الوطني في وجه المحاولات الشرسة, التي بلغت أوجها في المرحلة الحاضرة وانكشف تماما هدفها المغرض باتجاه محو الشخصية الفلسطينية وطمس هوية الفلسطيني ونقل الشعب العربي الفلسطيني من مرحلة التمزيق والتشتت والتهجير إلى مرحلة الاندثار.
3. 2. العربي الفلسطيني: الهوية والانتماء
إن تجاهل تعقيدات مشكلة الهوية والانتماء التي طرحت في القسم الأول (2-2) لا يمكن أن يكون سبيلا لخدمة المنهج المنشود. ولكن يخفف من حدة المشكلة أن الوعي الوطني الفلسطيني نما نموا صارخا ابتداء من منتصف الستينيات, ومع انبثاق الثورة الفلسطينية ونداءات النضال الوطني من خلال مفهوم تولي الفلسطينيين زمام المبادرة في الكفاح من اجل قضيتهم. وعاد معظم الأدباء الفلسطينيين – أينما كانوا في الوطن العربي أو العالم – إلى حقيقتهم الوطنية بعد أن كانت الظروف السياسية والمعيشية من حولهم تدفعهم إلى المواربة بهذا الشأن, كما أن الصلة الحياتية والسياسية والثقافية والنضالية فيما بينهم تنامت تدريجيا وأسهمت في خلق مناخ مشترك وطني ثقافي أدبي (وليس اجتماعيا بالضرورة بسبب اختلاف ظروف مجتمعاتهم ونظمها وأحيانا قيمها الخاصة).
وحيثما و جد تشديد على الهوية الفلسطينية أو فلسطينية الموقف, فذلك ما تستدعيه أحيانا ضرورات تأكيد الهوية ويحسن ألا نصرف المرء بعض المبالغات غير المستساغة التي تقود إليها ظروف القهر في التجربة الفلسطينية إلى التشكك في الطابع العربي لأدب أبناء فلسطين وانتمائهم. وتبقى هذه الظاهرة واحدة من الظواهر المهمة التي تبقى بحاجة لمزيد من التفحص ووضع النقاط فوق الحروف.
وكان لكل التطورات أثر مباشر وعميق في الإنتاج الأدبي الفلسطيني الحديث, بل إن هذا الإنتاج لا يمكن أن يكشف عن طبيعته ومراميه دون ربطه بالظروف المحيطة به.
وعلى الرغم من وجود عقبات منهجية وفوق منهجية (سياسية, اجتماعية, معيشية) فإنه يمكن القول إن كل ما أنتجه كتاب ذوو أصل فلسطيني (حسب تحديد ميثاق منظمة التحرير الفلسطينية في مادته الخامسة, المشار إليه سابقا ) هو بطبيعة الحال مشمول بمصطلح الأدب العربي الفلسطيني, سواء في الأرض المحتلة أو في البلاد العربية أو في بلدان المهاجرة الأخرى, بصرف النظر عن الجنسية التي يحملها أو الانحياز السياسي أو القطري. وقد يؤدي هذا التبعثر إلى إغناء الشخصية الأدبية الفلسطينية ومنحها تلوينا خاصا مميزا .
والمشكلة المعقدة هي أن تحمل طبيعة الإنتاج الناجم عن التبعثر مؤشرات تنقض هذا الانتماء أو تتنكر له. وهنا تعالج كل حالة خاصة على حدة, ومن الصعب إصدار أحكام مسبقة قبل دراسة الحالات وحصرها.
وهناك مشكلة أخرى معقدة هي مشكلة الأجيال الناشئة ولاسيما في الشتات من خلال تجربة الاندماج, وهي آخذة في التفاقم. وربما يكمن حل هذه المشكلة في التأكيد المستمر للهوية العربية للأدب الفلسطيني. وبوجه عام تدل المؤشرات حتى الآن على أن المشكلة مفترضة, ولكن ليس من الحكمة تجاهلها.
وينبغي أن تدخل المشكلات المذكورة سابقا في بنود أي منهج مفصل في المستقبل.
3. 3. الأدب العربي الفلسطيني: تبلور المصطلح
من المأمول أن يوضع كل ما أشير إليه في هذه المناقشة المبدئية بكلمة (فلسطيني) ضمن إطاره العربي الأوسع, وت ستعمل كلمة فلسطيني هنا من اجل دقة التمييز ومن اجل إبراز خصوصية التجربة, ويجب ألا ينفي هذا الاستعمال بأي شكل من الأشكال الحقيقية التي جرى تأكيدها سابقا حول صحة مصطلح الأدب العربي الفلسطيني. وهذه ليست حقيقة قومية (فوق أدبية) فحسب, بل هي حقيقة أدبية لا مراء فيها ليس فقط من ناحية الانتماء اللغوي العربي للأدب الفلسطيني بل من ناحية التفاعل العضوي الحقيقي أيضا . وتشير كل الظواهر إلى أن تطور البحث في التجربة الأدبية الفلسطينية سوف يحمل تأكيدات جديدة لعمق الانتماء العربي لهذا الأدب على الرغم من بعض تفجرات الانتماء الإقليمي الضيق نتيجة لضغوط تطورات المعاناة. والمسألة برمتها متروكة بالطبع لنتائج تطورات البحث. على أن التعقيد المنهجي لا يمنع المرء من القول إنه إذا كانت هناك آداب عربية معينة قد دفعت, بعوامل مسقطة أو بنتيجة تطورات تاريخية سياسية, لأن تمارس عزلة نسبية فإن الأدب العربي الفلسطيني بطبيعة دافعه النضالي وبحكم م لكيته الواسعة التي تمتد من المحيط إلى الخليج وتتجاوز ذلك إلى الآفاق العالمية الرحبة, وبمقتضى الهوية العربية الإنسانية التي يرفعها في وجه الهوية الإسرائيلية الصهيونية الانغلاقية, هو أدب عربي قلبا وقالبا , وروحا ومبنى, وشكلا ومضمونا .
ولذلك يلزم منهجيا اعتماد مصطلح الأدب العربي الفلسطيني, حتى لو كان هذا الأدب مكتوبا بلغات أخرى غير العربية كما هو شأن بعض الكتابات باللغة العبرية في فلسطين المحتلة أو بلغات بلدان الشتات على امتداد العالم.
وأخيرا لا تكتمل الصورة إلا بالربط بين الأدب العربي الفلسطيني وتيار أدب النكبة العربي. ذلك أن هناك تيارا أدبيا عربيا كاملا يمكن تسميته بتيار أدب النكبة أو أدب التجربة الفلسطينية ويمثله مبدعون مناضلون عرب وقفوا أنفسهم تقريبا على التجربة الفلسطينية وما تفر ع عنها وعاشوا تجربة الثورة الفلسطينية كاملة بما في ذلك التجربة الثقافية والأدبية.
وبالطبع يمكن أن تتحدد طبيعة العلاقة بين الأدب العربي الفلسطيني وأدب النكبة الفلسطينية من خلال تطورات البحث. والعلاقة المضمونية بينهما متداخلة بالفعل, فمصطلح (أدب القضية الفلسطينية) ي راد له أن يشمل كل تلك القصص والأشعار والأقوال المتعلقة بتجربة القضية بصرف النظر عن جنسية كاتبها, وبذلك تخرج كتابات فلسطينية كثيرة من خيمة هذا العنوان لتدخل خيمة الأدب العربي الفلسطيني, لأنها لا تتعلق مباشرة بتجربة القضية الفلسطينية وإن كانت تدور حول جوانب أخرى من الحياة الفلسطينية.
3- 4- الأدب العربي الفلسطيني الحديث
انطلاقا من المناقشات السابقة حول التحديد الزمني, فإنه من الممكن تحديد الفترة المقصودة حسب إملاءات الإنتاج الأدبي نفسه. وفي هذه الحالة يمكن أن نقول ان التاريخ الحديث للأدب الفلسطيني يجب أن يبدأ مع بدء الوعي الوطني الفلسطيني في فترة عصر النهضة. أي مع بدء الفترة التي اصطلح على تسميتها بفترة الأدب العربي الحديث وبذلك لا نكون قد خرجنا عن التحديدات المتفق عليها عامة بشأن الأدب العربي الحديث, وإن كنا لا نبعد عن الحقيقة كثيرا إذا أكدنا أن الوعي الوطني الفلسطيني بدأ مبكرا بعض الشيء, وتطور بسرعة واكتسب قسطا متزايدا من التسييس بفضل صدامه المبكر مع حركة الاستيطان الصهيوني. وبالطبع كان الصدام أيضا مع المستعمر البريطاني حافزا قويا , ولكن هذه الحالة مشتركة بين جميع الأقطار العربية التي وقعت في قبضة الاستعمار عند نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين, وكان لكل هذه الاحداث تأثيرها في الحياة الفلسطينية وبالتالي في طبيعة الإنتاج الأدبي والثقافي..
وهكذا يمكن أن نتصور هذه الفترة من خلال أربع مراحل:
أ- مرحلة البداءات (أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين).
ب- من النهضة إلى النكبة (أوائل القرن العشرين – النكبة 1948).
ج- مرحلة النكبة والصدمة (1948- أواسط الستينيات).
د- مرحلة النهوض الثوري وعودة الوعي (من أواسط الستينيات حتى العصر الحاضر).
وهي مراحل متصلة مترابطة في الأدب, وهناك شعراء عاصروا أكثر من مرحلتين من هذه المراحل مثل المرحوم عبد الكريم الكرمي (أبو سلمى), والعبرة بالسمات الغالبة على طبيعة الإنتاج.
ومن المناسب دائما وضع هذا الإنتاج الحديث في إطاره التاريخي القديم وربطه حيثما أمكن ذلك بإسهام الإقليم الفلسطيني في مسيرة الثقافة العربية والأدب العربي على امتداد العصور السابقة.
رابعا – صعوبات عملية ومنهجية ومشكلة البنية التحتية
هناك دراسات جادة تناولت الأدب الفلسطيني قبل النكبة وبعدها, وبعض هذه الدراسات نحى منحى تاريخيا عاما مثل مؤلفات الأساتذة عبد الرحمن ياغي وهاشم ياغي وحسني محمود وفخري صالح. وهناك كثيرون كتبوا عن أدباء معينين أو أعمال معينة بطريقة نقدية تذوقية, وهناك أيضا الرسائل الجامعية الكثيرة. وعلى الرغم من أن مثل هذه الجهود لا تنكر قيمتها وريادتها, إلا أن الحاجة إلى دراسات شاملة ومنهجية للأدب العربي الفلسطيني تبقى قائمة وملحة.
ولعله من فضول القول أن يؤكد المرء هنا ضرورة تطبيق المنهج العام عند إجراء أية دراسة شاملة ذات طابع تاريخي تحليلي. ولعله لا لزوم في المقام الحالي لإطلاق عبارات مدرسية حول أصول المنهج العلمي العام ونحسب أن المطلوب هنا الإشارة السريعة إلى الصعوبات الرئيسية التي تعترض طريق تطبيق هذا المنهج من جهة وإلى تبيان الوسائل المستلزمات التي من شأنها تذليل العقبات.
إن الصعوبات ذات الطابع العام جم ة متعددة الوجوه. وفيما يلي أبرز ما يرد إلى الذهن منها. على أننا نتوقع أن الشروع في البحث لابد أن يكشف عن صعوبات أخرى. وبالطبع لا يذكر المرء هذه الصعوبات بغرض تثبيط الهمم وإنما بغرض لفت النظر إلى ضرورة إعداد العدة اللازمة.
4- 1- صعوبات تقنية
أ- توزع المادة المدروسة بين أقطار الوطن العربي, وفي الأرض المحتلة, وفي بلدان العالم وعدم وجود مكتبات متخصصة في الموضوع.
ب- النقص الشديد في الجهود الببليوغرافية على الرغم من المحاولات الجديدة ابتداء من الثمانينيات.
ج- صعوبة التأكد من هوية الإنتاج الفلسطيني, ولاسيما في حالة تبني مبدأ المسح الشامل لكل ما كتبه الأدباء الفلسطينيون (وفقا لتعريف ميثاق منظمة التحرير الفلسطينية).
د- غياب مركز بحث أو قاعدة مركزية للعمل تقدم التسهيلات اللازمة.
ه– صعوبة التأكد من تعاون الحكومات والمؤسسات العامة في كثير من البلاد العربية وغير العربية, بسبب ارتباط الموضوع عضويا بجوانب سياسية كثيرة تخص هذه الجهات.
4- 2- صعوبات منهجية وخاصة:
أ- سيطرة البلبلة المنهجية على دراسات الأدب العربي الحديث والغياب النسبي لمعايير التذوق والتحليل, واضطراب القيم العامة, وغياب الإجماع العام, وسيطرة التحزبات الإقليمية أحيانا . ومن الطبيعي أن تنعكس هذه المظاهر السلبية على أية دراسة للأدب العربي الفلسطيني لا تسلح نفسها بوعي منهجي مسبق.
ب- بما أن الصفة الأساسية للأدب العربي الفلسطيني هي أنه أدب مقاتل فإن هناك صعوبة حقيقية في إخضاعه للمعايير الأدبية والذوقية المعروفة, وهناك ضرورة لتطوير معايير نوعية من داخل الظاهرة المدروسة, لا تتعارض بالضرورة مع المناهج الحالية المؤدلجة التي تتعرض لدراسة الأدب الفلسطيني ولكنها لا تلقي بنفسها في القبضة الحرفية لهذه المناهج.
ويظهر جليا من استقراء الإنتاج الأدبي الفلسطيني أنه يصعب تطبيق أي منهج خاص أو أيديولوجي أو تزمتي تطبيقا كاملا على الظاهرة الأدبية الفلسطينية, بل ينبغي البحث عن منهج نوعي يجد تسويغه في تكامليته واستفادته من مختلف المناهج الفنية والواقعية والاجتماعية. ونعتقد أن الدارس, من خلال الممارسة, هو أقدر الناس على التوصل إلى المنهجية المطلوبة, ولا يتعارض هذا الحكم مع الدفاع عن ضرورة وجود تصور منهجي مبسط ومرن, قبل الشروع في العمل.
ج- الغياب النسبي للدراسات المساعدة ولاسيما فيما يتعلق بتاريخ المجتمع الفلسطيني وتطور الثقافة العربية الفلسطينية, وإن كانت بعض هذه الدراسات قد بدأت بالظهور ولكنها تحتاج إلى زمن طويل حتى تسد الثغرة. وقد أنجزت الموسوعة الفلسطينية في قسمها العام وفي قسمها المفصل الذي تلا ذلك جانبا كبيرا من هذه المهمة. وتعتبر إنجازات الموسوعة الفلسطينية (بقسميها العام والموسع) مهمة جدا لأنها مؤسسية وجماعية وموضوعية.
د- مستلزمات عملية وبنية تحتية. لابد لكل عمل شامل وبعيد المدى ومتداخل من (بنية تحتية) متكاملة تساعد الباحثين على الالتزام بالمنهج العلمي وتمدهم بالمعلومات والتسهيلات الكافية.
4. 3. ضرورة تأسيس بنية تحتية للبحث
إن المشروعات الأساسية التالية تشكل القاعدة الضرورية للبنية التحتية لدراسة الأدب الفلسطيني المعاصر الذي تستدعي ظروف الخاصة اهتماما نوعيا بمتانة هذه البنية التحتية.
ا- إنشاء مركز بحث وتجهيزه بالعدة اللازمة ليكون قاعدة رئيسية للعمليات البحثية المطلوبة, وبتمكن الاستفادة من التجربة الرائدة لمركز الأبحاث الفلسطيني الذي أقامته المنظمة في بيروت في النصف الثاني من الستينيات.
ب- إجراء مسح شامل للنتاج الأدبي الفلسطيني المعاصر.
ج- إطلاق مشروع إعداد فهارس ببليوغرافية مفصلة تتناول جوانب هذا النتاج وتتابع الجديد منه. (9)
د- إنشاء مكتبة شاملة للأدب الفلسطيني وللثقافة والدراسات المساعدة ذات العلاقة.
ه- كتابة تاريخ عام للأدب العربي الفلسطيني بشكل جماعي أو مؤسسي.
و- كتابة تواريخ خاصة بالأجناس الأدبية: الشعر, الرواية, القصة القصيرة, السيرة, وكذلك بالنقد الأدبي, وبتطور الأساليب النثرية, والترجمة. (10)
ومن فضول القول التأكيد على أهمية العمل الجماعي والكفاية العالية, كما أن المطالبة بهذه الب نى لا تعني التوقف عن الدراسات الفردية والانتظار إلى حين استكمال المشروع بكامله, فالخير كل الخير في استمرار المحاولات الفردية إلى جانب الخطط العامة. على أنه يستحسن تبادل المعلومات والتنسيق بين الأفراد والجهات العامة.
الهوامش
(كل رقم في هذا القسم (ثالثا ) يقابل نظيره في القسم السابق (ثانيا ), أي 3. 1. مثلا تعتبر استكمالا لـ 2. 1. , وهكذا.
1- من نافلة القول الإشارة إلى أن المناصب عرضة للتغير, والربط بين الاسم والمنصب هنا مرهون باللحظة التاريخية لانعقاد الندوة.
2 – انظر النص الكامل في :
حسام الخطيب , ظلال فلسطينية في التجربة الأدبية, دائرة الثقافة , م. ت. ف. , دمشق, دار الأهالي, 1990: 13-15 .
3- انظر النص الكامل في : ظلال … : 29-46 .
4- السابق : 45-46 . والملاحظ أنه بعد مضي خمس عشرة سنة على الانتفاضة الأولى مازال السؤال/التحدي مطروحا على الثقافة العربية, ولكن الآن بزخم أقوى, وربما باختيارات أقل .
5 – رينيه ولك / أوستن وارين , نظرية الأدب , ترجمة محي الدين صبحي , مراجعة د. حسام الخطيب, ط2, المؤسسة العربية , بيروت 1981 : 19.
6- من الملاحظ أنه في أول هذا القرن الحادي والعشرين لم تع د تجربة الشتات مقصورة على الشعب العربي الفلسطيني, فقد أدت التطورات السياسية أو الاقتصادية إلى هجرات طوعية في الظاهر وقسرية في باطن الأمر, من أقطار الجنوب إلى أقطار الشمال, وقد اتسع نطاق الهجرات ليشمل مختلف البلدان العربية, ولاسيما مصر والعراق, إلى جانب موجات الهجرة السابقة التي كانت تقريبا محصورة ببلدان المغرب العربي. ومع هذه الهجرات المتعلقة بطلب الرزق وأحيانا الحرية النسبية, تبرز تجارب أدبية بلغات متعددة, ولاسيما الفرنسية واللغات الأوروبية الغربية لكن التجربة الفلسطينية مختلفة بالطبع فهي تجربة وطن سليب مغتصب يراد طمس معالمه وتراثه وثقافته وانتمائه.
7 – الجدير بالذكر أنه قبل فترة التسعينيات كانت دراسات كاتب هذه السطور تحرض دائما على جمع التيارين في الإطار العام والتركيز على العناصر المشتركة للتجربة.
8- انظر دراسات حسام الخطيب المفصلة حول هذه الرواية ولاسيما في:
ظلال فلسطينية : 335-350. والرواية غنية وتحتمل جوانب فهم مختلفة.
9- يحسن هنا التنويه بجهود محمود الأخرس (عمان) وحسين غيث (القدس).
10- من الإنصاف الإشارة إلى أن المرحلة الثانية المتخصصة من الموسوعة الفلسطينية (القسم الثاني) تتناول بالبحث جوانب كثيرة من النقاط المشار إليها هنا.
حسام الخطيب ناقد واكاديمي من فلسطين