يؤشر شعر ما بعد الحداثة الأمريكي واحدا من أكثر فصول تاريخ الأدب الأمريكي الحديث إمتاعا وتنوعا. فهو يتسم إلى حد كبير بميل تجريبي في الكتابة، ويتضمن تجارب أدبية مجددة وتنوعا فنيا كبيرا. فلا غرابة في أن يصبح منذ وقت طويل موضوعا لفحص شامل في علوم الأدب. يقدم باول هوفر على سبيل المثال شعر الطليعة كـ «عملية مقاومة للتيار الايديولوجي الرئيس»(1)، ويتناول بيتر بيرغر «نظرية الطليعة»(2) بينما يدرس عدد لا حصر له من علماء الأدب مظاهر منفردة مختلفة مثل علاقة شعر ما بعد الحداثة بالكتابة التاريخية(3) أو شعرية شعراء الجبل الأسود(4).
-1-
ربما لا نجد في جميع الجوانب الكثيرة المتناولة مشكلة مركزية مثل مشكلة اللغة. من القصائد الإدائية لجيل البيت – مرورا بالمحاولات اللغوية التجريبية وتأليفات الصدفة الشعرية لجون كيج أو جاكسون ماكلو – حتى «شعر اللغة» لتشارلس بيرنشتاين ولين هيجينيان: لم يشغل الشعراء موضوع مثلما شغلهم موضوع اللغة نفسها. ورغم أن البدايات الشعرية المختلفة لا تعطي صورة متجانسة يمكن إثبات متوازيات مميزة. سأرسم فيما يلي صورة تخطيطية لأهمية مشكلة اللغة في شعر ما بعد الحداثة الأمريكي مستعينا بـ«روبرت كريلي»(5) في «كلمات» وجون اشبيري(6) في «تناقضات وتضادات»، مُركزا بشكل خاص على شك لغوي يمتد حتى الحداثة وعلى جانب انشغال اللغة بذاتها – الذي ربما شكّل الدعائم الأساسية لمشكلة لغة ما بعد الحداثة.
-2-
تطرح قصيدة «كلمات» المنشورة في الديوان الذي يحمل نفس العنوان مسألة الكلمات نفسها كما يلمح العنوان، أو بكلمة أدق فقدان الثقة باللغة المميز للعصر. حدث هذا التركيز على مشكلة اللغة نتيجة للتحول الذي حدث حوالي 1900 في النموذج الفلسفي ووضع المسائل اللغوية الفلسفية في مركز الاهتمام العلمي أول مرة. كان نيتشه(7) قد نبه إلى أن الكلمات «ليست مجازات للأشياء»(8) وهي «لا تطابق الجوهريات الأصلية مطلقا».(9) من هنا فلا يعني الصدق سوى «الكذب وفق اتفاقية ثابتة».(10)حاول الايجابيون الجدد المحيطون بحلقة فيينا أن يحرروا الفلسفة من الجمل الظاهرية التي لا تقول شيئا. وأعلن فيتغنشتاين في «البحث الفلسفي المنطقي» أن المرء لا يستطيع أن يتحدث بشيء ذي معنى عن الأشياء المتسامية على الإطلاق. لا يخطئ المرء بالتأكيد حين يتعرف في شعر ما بعد الحداثة على متابعة هذه المواقف المتشككة في اللغة. تؤشر شخصنة الكلمات في قصيدة كريلي «كلمات» من خلال الضمير «أنت» أن اللغة لم تعد تفهم كأداة موجودة تحت تصرف المؤلف يستخدمها كما يريد لينقل رسالة ما، وإنما هي – استنادا إلى مقولة بارت(11) حول موت المؤلف – تمتلك حياة خاصة لا يمكن التحكم بها. لكن المقطع الأول يكشف في نفس الوقت أيضا تبعية الإنسان للغة وعدم إمكانية إدراك العالم خارج اللغة: «أنت دائما معي،/ لا يوجد أبدا/ مكان/ منفصل.» هذه الفرضية المسموعة هنا عن لغوية وعينا الأساسية موجودة في جملة فيتغنشتاين «حدود لغتي تعني حدود عالمي»(12). من المميز أن هذه الأفكار تصب في المقطعين التاليين في صور متشككة باللغة: «ولكن إن/ لم أستطع الكلام/ في المكان/ المنحرف».
هذه إشارة نموذجية للخرس تذكر بمقولة فيتغنشتاين «ما لا يستطيع المرء الكلام عنه، عليه أن يصمت عنه»(13). تبعا لذلك لن يمكن وصف ذلك «المكان المنحرف» للموضوع الشعري وصفا أكثر وضوحا. إنه يثير أيضا مشاركات وجدانية سلبية «منحرف». كما أن استخداماتٌ مثل «ليس مغفرة/ أو خوفا وحسب» تقاوم أي تفسير واضح وتُصور من خلال ذلك بالذات نفي وظيفة الكلمات في نقل رسالة واضحة. من هنا يبدو الحديث عن عجز الأنا الشعرية التي طرحت هنا كمشكلة، نتيجة حتمية للإمكانات المحدودة للغة. من المنطقي تبعا لذلك ألا تبدو الكلمات كإشارات فكرية تشير إلى الأشياء وإنما تُدرك هي نفسها كمادة مثل أي شيء، بل تتذوق في الفم: «لكن لسانا/ مفسدا بما/يتذوق». المشاركة الوجدانية السلبية للكلمات مع الطعام الفاسد هي مجاز معروف بالفعل لدى حلقات المحدثين. تسقط الكلمات لدى هوفمانستال من لورد كاندوس «في الفم مثل فطر مهترئ»(14) وتملأ كافكا أحيانا بـ«الغثيان والخجل كما لو كانت لحما نيئا»(15) هذه المعرفة المبددة للأوهام، حول انفصال الإشارة عن الشيء تنتمي كما يؤكد أرثر اوبيرغ إلى «الهم الأساسي»(16) لشعر كريلي. وهكذا يرد في «من أجل الحب» مثلا: «لا شيء يقول أي شيء»(17) والكلمات «في اللغة» «مليئة/ بثقوب/ مؤلمة»(18).
تؤشر الشارحة التالية في المقطع الرابع من قصيدة «كلمات» التي تطرح أقوالا متشككة باللغة وقفة تعبر عن نفسها في الشكل من خلال القطع المفاجئ للعملية الذهنية وتركيب الجملة. تشير الشارحة، كوسيلة غير لفظية، إلى حدود اللغة، الى ما لا يمكن التعبير عنه لغويا، إلى الصمت الذي يفرضه المنطق وهو النتيجة المنطقية للأقوال المشككة باللغة. إنه ليس صدفة بالتأكيد أن ترد شكليا في مركز القصيدة، وتصف أيضا نواتها من حيث المضمون.
تنبه «المقالة الفلسفية المنطقية» لفيتغنشتاين إلى أن الصمت – هو تعبير عن التشاؤم اللغوي – وهو في نفس الوقت يمكن أن يعني ما هو سحري أيضا. من المثير للاهتمام أننا نستطيع أن نتعرف على هذه البنية أيضا لدى كريلي. وهكذا لا تنتهي قصيدته كما يمكن أن يفترض المرء بالصمت المتشكك باللغة، إنما يصبح الصمت نفسه المنطلق ليوتوبيا لغوية يمهد لها ذهنيا في المقاطع الثلاثة التالية: «في يوم ما؛ لن يكون/ هذا اليوم/ ستقال/ كلمات تشبه/ نثار رماد/ صاف ونقي/ مثل غبار/ من لا مكان.» تحديد الوقت وحده «ذات يوم» يصف بلا شك إشارة اليوتوبيا. أبعد من ذلك يلفت النظر أن الأنا الشعرية لا تستدعي اليوتوبيا فعليا، بالكلمات «لدي ذكرى لـ»، مثلا وإنما تختار تركيبة المبني للمجهول التي تستبعد الفاعل المتحدث «ثمة/ذكرى/لـ». بالفعل يصف كريلي في مقابلة أجريت معه عام 1965 وضعا لغويا مثاليا «تتحدث فيه الكلمات من نفسها دون أن يتحدث أحد معها»(19). ويؤكد فيتغنشتاين أيضا، أن المطلق، السحري لا يمكن أن يقال فعليا، لكنه يظهر»(20) في اللغة صامتا. ليس مفاجئا أن تستطيع المجازات المستخدمة أيضا (ذكرى/ الماء»، الغذاء، عند الجوع») التلميح بيوتوبيا اللغة البعيدة المرجوة بشكل غامض فقط، ولكن لا تذكرها بشكل مناسب – يستعصي هذا الوضع بالذات على قدرتنا اللغوية على التصور. بالفعل فإن تلك «الكلمات» التي لا عيب فيها، تلك اليوتوبيا اللغوية – مترجمة حرفيا: اللامكان -، كما توحي نهاية قصيدة كريلي، لا تستوطن داخل نظامنا اللغوي وإنما «في لامكان».
وهكذا تكشف قصيدة كريلي انشطارا بنيويا ممتعا إلى قسمين يذكران إلى حد كبير بـ«بحث» فيتغنشتاين أو «رسالة» هوفمانستال: الصمت كنتيجة لشك لغوي أساسي يصبح في نفس الوقت نقطة الانطلاق ليوتوبيا لغوية لا يمكن طرحها بشكل مناسب لغويا وفي كل الأحوال مستشعرة بغموض. إلى جانب هذه العلاقات المترابطة حول الشك اللغوي للحداثة فإن تحويل اللغة نفسها إلى موضوع هو ما يجعل من قصيدة كريلي نوعا نموذجيا لشعر ما بعد الحداثة قبل كل شيء.
-3-
تُعالَج المشكلة اللغوية في قصيدة جون أشبيري المكتوبة عام 1981 «تناقضات وتضادات» بصورة أكثر مباشرة. لا تقوم اللغة هنا أيضا بوظيفة الأداة لتتحدث عن موضوع خارجي؛ بل تجعل نفسها موضوعا. وهكذا يطرح المقطع الأول «هذه قصيدة تهتم باللغة على مستوى بسيط جدا» قطيعة واضحة مع اتفاقيات الشعر التقليدي الذي هو نموذجي إلى حد بعيد بالنسبة لما بعد الحداثة. وهكذا يستهل بيرنشتاين أيضا على سبيل المثال «إنتظر» بالكلمات: «هذه هي الطريقة لبدء جملة حول بدء جملة»(21).
مثلما لدى كريلي تشخصَن لغة القصيدة في «تناقضات وتضادات» «القصيدة حزينة» ويؤكَّد من خلال ذلك على استقلالها عن المؤلف. مركز الموضوع في قصيدة أشبيري هو مشكلة توصيل المعنى اللغوي وإخفاق عملية القراءة. صحيح أن القصيدة تخاطب القارئ «أنظر إليها تتحدث إليك» إلا أن فهم النص بالمعنى التقليدي يجب أن يخفق: «القصيدة حزينة لأنها تريد أن تكون لك، ولا تستطيع». ثم: «أنت تفتقدها، هي تفتقدك. يفتقد أحدكما الآخر.» يصبح واضحا أن ثمة اختلافا لا يمكن تجاوزه بين النص والقارئ, وأن الشعر يحتفظ لنفسه دائما بشيء غير معطى يقاوم الامتلاك. إن الإخفاق الذي جُعِل موضوعا للنص يتوافق مع إخفاق القارئ الحقيقي الذي يحاول أن يجد تفسيرا مترابطا. على سبيل المثال يواجه بعد قليل السؤال، ما الذي تتضمنه هذه الـ «أنا» التي تثير– في قصيدة غير مألوفة تماما – انعكاسات في علوم الأدب: «أعتبر اللعبة/ شيئا خارجيا أعمق». يتحدث صوت المؤلف المتضمن هنا، وهو أمر متناقض، بينما تمثل «هي» القصيدة؟ أو تنساب «أنا» و«أنت» و«هي» ممتزجة مع بعضها، كما يوضح اشبيري في مقابلة معه، حين يبين أن الضمير في قصائده هو متحول قابل للتغيير غالبا؟ وحتى مفردة «حسنا» غير المألوفة في الشعر أو تركيبة السؤال والجواب التي تتكرر كثيرا (اللعبة؟/حسنا، في الواقع، نعم، ولكني أعتقد […]» أو «ما هو المستوى البسيط؟ إنه ذلك الشيء وأشياء أخرى»)، الذي يذكر بحوار على الأرجح، يتعارض مع استراتيجيات التلقي التقليدية للنصوص الشعرية ويصعّب عملية البحث. يؤدي كل هذا إلى قلق القارئ الذي لا يعود قادرا على التأكد من دلالة الكلمات. استعمالات مثل «يتظاهر بالتململ» تسمح في أحسن الأحوال بمشاركة وجدانية، لكنها لا تعطي معنى مترابطا ينتظم في مجمل النص. وهكذا فلا غرابة في أن فكرة صعوبة تلقي النص تسود البحوث حول أشبيري أيضا. يؤكد الفريد كورن مثلا صعوبة الحديث عن قصائد أشبيري(22) ويذهب اولفريد رايشارد أبعد من هذا فيرى أن هذه القصائد تستعصي على القارئ تماما(23). من هنا يتجلى شك أساسي إزاء اللغة كأداة للتوصيل في قصيدة أشبيري «تناقضات وتضادات» أيضا. يلمح هنا أيضا – كما لدى كريلي – عن طريق مجاز سعادة صيفية إلى وضع يوتوبي، حين يجري الحديث عن «أيام آب طويلة/ بلا بينة/ نهايات مفتوحة». من الملاحظ أن هذه الأيام تضيع في «أبخرة وثرثرة الآلات الكاتبة»، أي في لحظة يحاول فيها الكاتب أن يمسك بها لغويا.
إذا أراد القارئ تلقي القصيدة فعليه أن يتخلى عن التصور بأن لغة القصيدة تنقل معنى يمكن أن يستخلص باستخدام التفسير الفني. وكما يُقترح كثيرا في البحث ربما يكمن طريق النجاح في أن يقوم بملء الفراغات المتاحة في النص بنفسه وكتابة النص لدى القراءة من جديد – وفق دعوة بارت -. تشير الضمائر المتغيرة في القصيدة على الدوام إلى أن المعنى لا يمكن أن ينشأ إلا بفعل مشترك يضم المؤلف والنص والقارئ. وهكذا تنتهي القصيدة أيضا بمساواة النص والقارئ، مساواة تذكرنا جدا بموقف التلقي الجمالي: «القصيدة هي أنت».
كذلك تنعكس المشكلة اللغوية في شكل القصائد. تُظهر قصائد كريلي وأشبيري نظاما خارجيا صارما يسترشد بنظام المقاطع المكونة من الأربعة سطور المألوفة في القرن التاسع عشر. ولكن على هذا النحو وكما تبدو الإشارة اللغوية في شعر ما بعد الحداثة مجرد قشرة مفرغة من المعنى، يذكِّر الهيكل الخارجي وحده لدى كريلي وأشبيري بالشعر التقليدي. وهكذا لا يجد المرء في القصيدتين قافية؛ صيغت كلاهما نثريا – مثل جميع قصائد ما بعد الحداثة تقريبا. فضلا عن هذا ثمة خروقات نحوية ونتف من جمل وعدد لا يحصى من الجمل التي تمتد إلى السطر التالي تشهد بأن الشكل اللغوي لم يعد قادرا على التعبير عن وحدات ذات دلالة. ليس صدفة أن تكتسب الأشكال الحرة التجريبية في القرن العشرين أهمية كبيرة. من هنا يبدو النظام الخارجي الصارم لدى كريلي وأشبيري أكثر من تقليد هزلي لأشكال القصيدة التقليدية.
-4-
إذا تفحص المرء المشكلة اللغوية في شعر الطليعة فإنه لن يستطيع أن يتجنب إيلاء الانعكاس الذاتي للغة – الذي ربما يكون الصفة الأكثر تمييزا لشعر ما بعد الحداثة، عناية خاصة. كان نيتشه قد أعلن أن المصطلحات اللغوية «تصنع من نفسها»(24) أي أنها تعود لنفسها، ومن هنا فإن «كاتدرائية المصطلحات» اللغوية تكون قد بنيت على أساس متحرك وفي نفس الوقت على ماء جار»(25). عدد غير قليل من الفنانين تبنوا منذ ذلك الوقت مشكلة الانعكاس الذاتي. وهكذا توضح صورة «أيد ترسم» لـ م. ك. ايشر أو «هذا ليس غليونا» لرينيه ماغريت بأن الفنان لا يصور الواقع أبدا، وإنما يحيل دائما إلى نفسه. يظهر الانعكاس الذاتي للغة في شعر ما بعد الحداثة على مستويين: أولا تتحدث القصائد عن مشكلة اللغة وتجعلها مركز مضمونها. وثانيا تتخذ القصائد من مشكلة وصف شيء ما لغويا موضوعا لها، ولكن بصورة غير مباشرة من خلال لغويتها الذاتية. وهكذا يُذْكَر الشك في اللغة ويتحقق عمليا في نفس الوقت. يقود هذا بالضرورة إلى انعكاسات وتناقضات لغوية لا حل لها. يطرح السؤال في «كلمات» كريلي مثلا، كيف يُرى قولٌ لغوي يعبر عن شك أساسي في الأقوال اللغوية. إذا أخذها المرء بجدية فإنه يستطيع ألا يصدقها لأنها نفسها قول لغوي. وإذا لم يصدقها فإنها ستصبح – كقول لغوي – جديرة بالثقة. مثل التناقضات القديمة المعروفة للكريتي الكذاب (الذي يقول إن جميع الكريتيين كذابون)، تتضح هنا الحلقة المفرغة لمن لا ينتظر وقوعهم في الخطأ، الذين يحيلون دائما إلى أنفسهم، لكنهم لا يطرحون في الأفق حلا خارج نظامهم الذاتي. كان فيتغنشتاين أيضا يعي هذا التناقض – رغبة النجاة من النظام اللغوي بأدوات اللغة، حين شبه جمل مقاله بسلم يستخدمه القارئ خلال القراءة «ليصعد إلى نقطة أبعد منه»(26).
يظهر انسحاب اللغة على نفسها بصورة أكثر وضوحا في قصيدة أشبيري. يذكر العنوان «تناقضات وتضادات» مشكلة التناقض اللغوي وينفذه في نفس الوقت، بأن يضاعف هذا بطريقة مطنبة وينعكس بوضع الـ «التضاد» – نوع من التناقض – مع حرف العطف «و» إلى جانب الـ «التناقض». الانسحاب اللغوي على الذات في قصيدة أشبيري لا يخدم فقط استعراض عدم التوافق اللغوي وإنما يطرح أيضا أسئلة أساسية حول الوضع الوجودي للغة الأدب. وهكذا يطرح منذ المقطع الأول – «هذه القصيدة تتعلق بلغة من المستوى البسيط جدا» – عما إذا كانت المقولة، وهي جزء من نظام القصيدة، تستطيع أن تأخذ بوجه عام مثل هذا الموقف الخارجي وتصدر حكما على القصيدة. هل لهذه الكلمات داخل القصيدة بالفعل نفس المعنى الذي لها في مقال عن أشبيري على سبيل المثال؟ أم أن الأمر يتعلق بتوهم على الأرجح؟ هل توحي الكلمات بأنها تعني شيئا وحسب، لكنها في الواقع تخطئ هذا المعنى ثانية في الحال – من خلال وضعها الأدبي؟ يكتب رومان جاكوبسون أن الكلمة الأدبية تعني التطابق وعدمه مع شيء ما في نفس الوقت(27). لا يبقى للقارئ لدى قراءة القصيدة خيار آخر كما هو واضح غير استخدام اللغة اليومية التي ألفها كورقة استنساخ مساعدة لفهم اللغة الشعرية. يتعين على الكلمة الأدبية من ناحية أن تظهر في نهاية المطاف علاقة مع الكلمة اليومية، وإلا فلن يستطيع المرء قراءة النصوص الأدبية مطلقا. ومن ناحية أخرى تمتنع اللغة الشعرية بطريقة غامضة عن كل محاولة لتحديدها بمعان مألوفة. تشير جملة «أنت تملكها ولكن لا تملكها» في قصيدة أشبيري إلى هذا التناقض بالذات لفهم الكلمات الشعرية وعدم فهمها في نفس الوقت. إلا أن رومان جاكوبسون يستأنف قائلا إن «هذا التناقض حتمي، فبغير تناقض ليس ثمة حركة مصطلحات»(28). يصبح عدم قيام اللغة بوظيفتها، «ثأثاة في نص أخرس»(29)، ويغدو تحرير المصطلحات من «القيود المميزة»(30) في عصر الحداثة وما بعد الحداثة شرطا للنصوص الشعرية الناجحة بالذات. فلا غرابة أن يقارن فيكتور سكلوفسكيج(31) اللغة الشعرية مثلا بلغة أجنبية لا يمكن أن يفهمها تماما لا المؤلف ولا القارئ. ويشير الكاتب الأمريكي المعاصر رايموند فيدرمانس عن حق إلى «أن قسما كبيرا من الأدب الجديد ينهل من قصوره اللغوي الخاص»(32). بينما استخدمت الأجيالُ السابقة من الشعراء اللغةَ كأداة غالبا، لتعرض موضوعا أدبيا، تمنع خبرات ما بعد الحداثة ذات الانعكاس الذاتي بالذات – كما دعا إليه الشكليون الروس – أتمتة الإدراك اللغوي وتحول انتباه المتلقي إلى اللغة نفسها. مما يلفت النظر أن القصائد تحيل بهذا إلى حدود الإمكانات اللغوية من جهة ولكنها تلمح في نفس الوقت إلى أن الأدب ينشأ أولا هناك حيث تتوقف اللغة عن أن تؤدي وظيفتها دون صعوبة.
تكشف معالجة المشكلة اللغوية لشعر ما بعد الحداثة صورة معقدة وشديدة التنوع إلى أبعد حد، لا يمكن ايجاد تجانس بينها إلا بصعوبة وبوجه عام. ومع ذلك يمكن – رسم خطوط لأفكارها الأساسية النموذجية بالاستعانة بمثالي كريلي وأشبيري اللذين تظهر فيهما مشاكل الشك في اللغة والانسحاب اللغوي على الذات بوضوح أكبر. تعارض القصيدتان أي تفسير مترابط، طبقا للشك اللغوي الذي جُعل موضوعا من ناحية المضمون، وتعرض بهذا المشكلة أمام المفسرين تطبيقيا أيضا. مما يستحق الملاحظة أن القصائد تلمح إلى أن الشك اللغوي واليوتوبيا اللغوية الشعرية هما وجهان لنفس العملة. يرجح تودوروف هذا حين يشبه الأدب بسلاح قاتل، بواسطته «تقترف اللغة انتحارها الذاتي». وهكذا تكشف قصائد ما بعد الحداثة أن انفصال اللغة عن وظيفتها الأصلية المألوفة يمكن أن يكون مصدرا للتجديد الشعري.
ملحق:
نص قصيدتي كريلي وأشبيري
كلمــــــات
روبرت كريلي
أنت دائما
معي
ليس ثمة مكان
منفصل
ولكن إن
لم أستطع الكلام
في المكان
المنحرف
ليس مغفرة
أو خوفا فقط
ولكن لسانا
مفسدا بما
يتذوق – هناك
ذكرى ماء
غذاء عند الجوع.
في يوم ما
لن يكون
هذا اليوم
ستقال
كلمات تشبه
نثار رماد
صاف ونقي
مثل غبار
من لا مكان.
تناقضات وتضادات
جون أشبيري
هذه قصيدة تهتم باللغة على مستوى بسيط جدا.
أنظر إليها تتحدث إليك، أنت تنظر عبر النافذة
أو تتظاهر بالتململ
أنت تملكها، لكنك لا تملكها
أنت تفتقدها، هي تفتقدك، يفتقد أحدكما الآخر
القصيدة حزينة لأنها تريد أن تكون لك ولا تستطيع
ما هو المستوى البسيط؟
إنه ذاك وأشياء أخرى
مستخدما نظامها في لعبة. لعبة؟
حسنا، في الواقع، نعم. ولكني أعتبر اللعبة
شيئا خارجيا أعمق، نموذج دور حلمي
مثلما في تقسيم البركة على أيام آب الطويلة هذه
بلا بينة، نهاية مفتوحة، وقبل أن تعرف
تضيع في أبخرة وثرثرة الآلات الكاتبة.
جرت اللعبة مرة أخرى، أعتقد أنك موجود فقط
لتثيرني كي أفعلها في مستواك، ثم أنك لن تكون هناك
أو أنك تبنيت موقفا مختلفا، ثم أن القصيدة
هبطت بي برفق إلى جانبك. القصيدة هي أنت.
المصادر:
1. باول هوفر: مدخل، في: الشعر الأمريكي لما بعد الحداثة. تحقيق باول هوفر، نيويورك ولندن، نورتن وكومبَني 1994، الصفحة 26.
2. قارن بيتر بورغر: نظرية الطليعة، فرانكفورت/ماين، زوركامب 1974.
3. قارن باول نَيلور: تحريات شعرية، غناء ثقوب في التاريخ، مطبعة الجامعة 1999.
4. قارن ادوارد هالسي فوستر: فهم شعراء الجبل الأسود. كولومبيا، مطبعة جامعة جنوب كارولاين 1995.
5. روبرت كريلي: كلمات، في: قصائد مختارة، بيركلي، لوس انجلس واوكسفورد: مطبعة جامعة كاليفورنيا 1991، ص. 111- 112.
6. جون أشبيري: تناقضات ومتضادات، في: الشعر الأمريكي لما بعد الحداثة. تحقيق باول هوفر. نيويورك ولندن. نورتن وكومبني 1994، ص. 181
7. فريدريش نيتشه: حول الصدق والكذب خارج المعنى الأخلاقي، الأعمال في 3 مجلدات. المجلد 3. تحقيق كارل شليشته، ميونيخ، هانزر 1954، الصفحة 312.
8. المصدر السابق، الصفحة 313.
9. المصدر السابق، الصفحة 314.
10. المصدر السابق.
11. قارن رولاند بارت: موت المؤلف. في: نصوص حول نظرية التأليف. تحقيق فوتيس جانيديس وغيرهارد لاور وماتياس مارتينيز وسيمون فينكو، شتوتغارت، ريكلام 2007.
12. لودفيغ فيتغنشتاين: البحث الفلسفي المنطقي. فرانكفورت/ماين، زوركامب 2003 الصفحة 86.
13. فيتغنشتاين: البحث الفلسفي المنطقي. الصفحة 111.
14. هوغو فون هوفمانستال، رسالة. في: مجموعة أعمال في عشرة مجلدات منفردة. قصص، محادثات مخترعة ورسائل، رحلات. تحقيق: بيرند شولر. فرانكفورت/ماين، فيشر 1979، الصفحة 465.
15. فرانس كافكا: يوميات، طبعة نقدية. مخطوطات. يوميات. تحقيق: هانز-غيرد كوخ، ميشائيل مولر ومالكولم باسلي، فرانكفورت/ماين، فيشر 2002، الصفحة 54.
16. آرثر اوبيرغ، روبرت كريلي، أقيمي/أحبك في: الشعر الأمريكي الحديث، لويل، بيريمان، كريلي وبلاث. نيوبرونسويك، نيوجيرسي، روتغرس 1978، الصفحة 93-127. هنا في الصفحة 96
17. روبرت كريلي: من أجل الحب. في: قصائد مختارة، باركلي، لوس اجلس واوكسفورد. جامعة كاليفورنيا1991، الصفحة 89.
18. روبرت كريلي، اللغة. في: قصائد مختارة، باركلي، لوس اجلس واوكسفورد. جامعة كاليفورنيا1991، الصفحة 96.
19. روبرت كريلي، مقابلة مع روبرت كريلي 1965، أجرتها لندا ويلشيمر فاغنر. ذي مينيسوتا ريفيو 5 (1965) الصفحة 310.
20. فيتغنشتاين: البحث الفلسفي المنطقي. الصفحة 111.
21. جارلس بيرنشتاين، إنتظر. في: الشعر الأمريكي لما بعد الحداثة. تحقيق باول هوفر. نيويورك ولندن، نورتن وكومباني 1994، الصفحة 571.
22. الفريد كورن، حمم الداخل في: جون أشبيري. نظرات نقدية حديثة. تحقيق: هارولد بلوم. نيويورك: او فاو 1985، الصفحة 81 – 89.
23. اولفريد رايشارد: نظرات داخلية لما بعد الحداثة. حول شعر جون أشبيري، أ.ر. أمونس، دينيس ليفرتوفس وأدريينا ريجس. فورتسبورغ، كونغهاوزن ونويمان 1991 الصفحة 60.
24. فريدريش نيتشه: حول الصدق والكذب خارج المعنى الأخلاقي. الصفحة 315.
25. المصدر السابق
26. فيتغنشتاين، البحث الفلسفي المنطقي، الصفحة 111
27. قارن رومان جاكوبسون: ما هو الشعر [1934] في شعري. مقالات مختارة 1921 – 1971، الطبعة الثالثة. تحقيق ايلمار هولنشتاين وتارسيسوسشيلبرت. فرانكفورت/ ماين، زوركامب 1993
28. نفس المصدر
29. هاينر مولر: وصف صورة في: الأعمال 2. النثر. تحقيق فرانك هورنيك، فرانكفورت/ماين 1999، الصفحة 118.
30. غيليس ديلويز وفيليكس غواتاري: كافكا. من أجل أدب صغير. فرانكفورت/ماين، زوركامب 1976، الصفحة 11
31. قارن فيكتور سكلوفسكيج: الفن كتجربة. في: الشكلية الروسية. نصوص حول نظرية الأدب العامة وحول نظرية النثر. الطبعة الرابعة. تحقيق جوريج ستريدتر. ميونيخ، فينك 1988، الصفحة 5 – 35. هنا الصفحة 31
32. رايموند فيدرمان: ما فوق الخيال، طريق الأدب. محاضرات همبورغ الشعرية. ترجمة فون بيتر توربيرغ. فرانكفورت/ماين، زوركامب 1992، الصفحة 27
محمد العزاوي
كاتب من العراق يقيم في ألمانيا