نادية هناوي
1ـ طوباوية أدبية
قد يبدو أيّ حديث عن نظرية أو نظريات نقديّة عربيّة من باب الخيال والطوباويات إن نحن لم نضع في اعتبارنا فقرنا الفكريّ ووفرة إنتاجنا الإبداعي. ولا خلاف أن الفكر والإبداع أمران ليس سهلاً ممارستهما معاً ما لم يكن المفكر قد هضم الفكر الذي قبله وأعاد إنتاجه باحتراف وعلميّة، وما لم يكن المبدعُ قد امتلك الموهبة ودرَّب الذائقة وطوّرها فأنتج جديداً يتلاءم ودرجة ذلك التدرب والتطور. وإذا كان الفكر يتطلب من الوسائل والمسببات ما لا يتطلبه الإبداع الذي يصور الواقع، وقد مازج الفكر بالتخييل منفلتًا من أيّة مواضعات باحثاً عمّا هو مغامر وغير مألوف؛ فإن صورة هذا الواقع فكريًّا ستكون أكثر تفصيلاً ودقةً من صورته إبداعيًّا كونها ستضع النقاط على الحروف أسباباً ومسبباتٍ، وقد تقّيدت بالعلم التجريبي والملاحظة العمليّة الخاضعة للمقايسة والقابلة للتبويب والإحصاء.
ويظلّ بين المفكر النظري والمنتج الإبداعي خيطٌ رفيع مقداره شعرة أو أقل إن تجاوزها أي منهما تبدل حاله وصار غيره، وأعني بهذا الخيط النزوع العلمي الذي حضوره يحوّل المبدع إلى مفكر حكيم، وغيابه يجعل المفكر أديباً مبدعاً. ولا عجب إن كانت نسبة المفكرين النظريّين الذين يكتبون عن واقعنا العربي بعلميّة ومنطقية بكل ما فيه من تجاذبات سياسيّة واجتماعية وأخلاقية أقل بكثير من نسبة المبدعين داخل هذا الواقع.
ولعل أوضح دليل على هذا التباين النسبي هو(النقد) كميدانٍ ثقافيٍّ فيه يجتمع الفكر التجريدي بالإبداع الأدبيّ؛ لكن كفة الإنتاج الإبداعي فيه تعلو على كفة الفكر إذ ليس اهتمام الناقد منصباً على التفكر في النقد بقدر اهتمامه بالإبداع من أجل فهم أدبيّته، تساعده في ذلك وسائل النقد من نظريات ومنهجيات.
وبانجذاب النقاد نحو الأدبية وهم يمارسون وظائفهم النقدية في التحليل والتشخيص والرصد تكون الوسائل المنهجية لديهم مجرد عوامل مساعدة وتحصيلا حاصلا وليست أساسيات معرفية ينبغي التفكر فيها وتطوير أشكالها وابتكار غيرها.
وقد يكون الوصول المريح للغاية سبباً في تسمّر وظيفة الناقد العربي عند أدبية الأدب وقد قنن مقاصده. أما التفكر في نقدية النقد وما ينبغي أن تكون عليه عمليات التنظير المناهجي والتجريد الوظائفي والاجتراح المفاهيمي فليس الناقد معنياً بها دائماً ولا هو واضع إياها على قائمة مهامه وأعماله.
وطبيعي أن تؤدي تراكمات هذه النظرة إلى أن يصبح نقدنا جهازاً من الاصطلاحات والتكنيكات التي متى ما استدعاها الإبداع الأدبي وطلبها كان الناقد حاضرا لتطبيقها. وهذه الجاهزية لا تعني الاستغناء عن أي تفكر غايته ابتكار الوسائل والأدوات أو التفنن في الصياغات والمنظورات وحسب؛ بل هي تعني أيضا بقاء الناقد ملاحقاً على الدوام الأدب، باحثاً فيه عما يطبقه عليه من وسائل نقدية كان قد هضمها وتمرن عليها ملبياً غايته الإبداعية التي ببلوغها يكون قد أدى عمله خير أداء. فكيف بعد هذا الوضع يلاحق الأديب النقد ليجد فيه ما يطور أدبه.
من هنا لا نجد للنقد صدى عند الأدباء إلا صداه مروجاًلأدبهم وطريقاً يثبت إبداعيتهم ويشبع ذاتيتهم إشهاراً وتعريفاً. ولا فرق بعد ذلك إن كان في ذلك النقد توكيد لإيجابياتهم أو تحديد لسلبياتهم.
ولم يكن نقدنا العربي إبان مرحلته المنهجية النهضوية التي شهدها على يد طه حسين والعقاد ومحمد مندور ومحمد غنيمي هلال وغيرهم من النقاد الرواد قد انصبّت عنايته على الأدب بوصفه غاية وحسب؛ بل كانت غايتهم أيضا التوجه توجهاً حثيثاً نحو تلمّس مبدئيّات النقد الأدبي، مهتمين بالمنهجيات والطرائق التي كان الغربيون قد طوروا كثيرًا منها فلسفيًّا وعلميًّا محاولين تطبيقها على تجاربنا الأدبية، وبالشكل الذي يتلاءم مع ذائقتنا التحليليّة، غير مكتفين بترجمة اصطلاحات ومفاهيم أنتجها النقد الغربي؛ وإنما مضيفين إليها فكراً جديداً ترشح من خصوصية ممارساتهم النقدية على نصوصنا الأدبية العربية القديمة منها والحديثة.
فكانت لطه حسين نظراته الفكرية في الشعر والتاريخ وكانت لغنيمي هلال آراؤه في التأثر والتأثير كما كانت لباحثين عراقيين درسوا على يد مستشرقين غربيين آراؤهم النقدية في نظريات الاجتماع والتاريخ مثل جواد علي وعلي الوردي.
ولعل التساؤل عن أسباب انحسار ممارسة الفكر النقدي عندنا في العقود الأخيرة هو التساؤل نفسه عن أسباب نشاط حركة التعريب نشاطاً جعل نقدنا يغصّ بما يترجم إليه من معرفيّات الفكر النقدي العالمي إلى الدرجة التي فيها يجد الناقد العربي زاداً يغنيه عن التفكر والتدبر ويغريه بالاتجاه نحو التطبيق تحليلاً وفحصاً.
وليس صعباً بعد هذا الفقر في الفكر النقدي من جهة والغنى في ممارسة النقد التطبيقي على الأدب من جهة أخرى أن يُعدَّ أحدهم ناقداً وهو لم يمتلك الوسائل المنهجية ولم يتزود بالذخيرة المرجعية. وهكذا يزداد لدينا عدد الموصوفين بأنهم نقاد تطبيقيون يوماً بعد يوم حتى صار طابورهم طويلاً وفيه شتى الأصناف من قراء وعارضي كتب وهواة ومحترفين وصحفيين ومتناقدين أكاديميين وغير أكاديميين وشعراء وقصاصين ومتأدبين..الخ.
وبسبب هذه الطابورية اُستسهل العمل النقدي وساءت النظرة إليه حتى غدا أسلوباً للتقرب أو طريقاً للنيل والتعريض وليس علماً له مواضعاته وفلسفة لها من يرودها ويعرف دروبها.
وبكثرة هؤلاء الذين يمارسون النقد الأدبي ضاعت أهمية النقد وقلّت هيبته وغدا ممكناً لأي أحد أن ينتقص الناقد ويؤاخذ عمله. وليس العيب هنا في النقد إنما العيب في الناقد الذي صار همّه التطبيق وليس التفكير.
وهو ما يحتاج منّا إعادة النظر في أساسات نقدنا الأدبي وبصورة جذريّة وعلميّة، باحثين فيما تراكم فيه من أبنية سليمة أو غير سليمة كي لا نظل في وهم أننا وصلنا إلى طريق مسدود أو أن النقد بلغ النهاية وما عاد يقدم خدمة للمجتمع وأنه غير معافى وطفيلي وليست له وظيفة، ومن ثم نعول على النقد الثقافي معتقدين أنه خير بديل عن النقد الأدبي(1) غير مدركين أن ذلك مجرد شماعة عليها نعلّق إخفاقنا في فهم النقد ومعالجة مشكلاته.
2ـ انحسارية جينالوجية/
لا غرو أن توصف جينالوجية الفرد العربي بأنها أدبية لأنه عاش عبر قرون خلت في ظل استعماريّات متنوّعة عمّقت في جينالوجيا وعيه حريّة متخيّلة يعّوض بها عن حريّة يفتقدها على أرض الواقع.
ولعل اغترارنا الأدبي بالخيال وتبعيتنا المعرفية للاستعمار هما العلة الكامنة وراء تأزمنا الفلسفي وانحسارنا المعرفي عن العالم على مختلف الصعد الحياتية لا على صعيد النقد الأدبي وحده. والدليل على ذلك ما نجده لدى مفكرين عرب كثيرين يبدأون بالفلسفة وممارسة التنظير والمنطق والجدل العقلي لكنهم ينتهون بأن يكونوا كتّابا للروايات أو المذكرات أو المقالات ولعل نجيب محفوظ وعبد الله العروي وعلي الوردي ومدني صالح وسالم بن حميش خير مثال على ما تقدم.
وبهذا تظل أزمتنا المعرفية عبارة عن تحصيل جينالوجي لا يمكن تفاديه ما لم نحفر في أساسات هذه الجينالوجيا بحثاً عن المنخور والمعوج فيها، عاملين على استئصاله والتعويض عنه بما يرمم وعينا العقلي ويصلح أسلوبنا الفكري ويجعلنا نشعر باللاتبعية بوصفنا أبناء حضارة غابرة نفعت الدنيا زمناً فانتفعت منها الدنيا أزماناً.
وما كان لتلك الحضارة أن تكون هكذا لولا حرية واقعية وفكرية دبت في كل مفاصل حياتها فتمثلها علماء ومتكلمون وفلاسفة وأدباء ونقاد ذوو نظريات واجتراحات وأطروحات ورسائل هي بمثابة صور حية شاخصة وحقيقية على تلك الحرية.
وما كان للنهضة العربية في العصر الحديث أن تكون علميّة وفكرية لولا شعور مثقفينا آنذاك ببعض الحرية فهبوا ينفضون عنهم التبعية بالحفر فيما ترسخ في جينالوجيا وعينا الجمعي على مدى أربعة قرون وأكثر من الاستعمار والتجهيل والتعتيم والاستغفال. وبالفعل دبّ التنوير وتبدل الوعي في مختلف نواحي حياتنا وانحسرت التابعيّة للأجنبي ونشط فكر واع تحرّري وثوري كانت محصلته نيل الاستقلال والسيادة في كثير من البلدان العربية.
بيد أن أمر الحفر في الجينالوجيا العربية انحسر مع حلول مرحلة استعمارية جديدة أو ما بعد استعمارية هي أشرس من المرحلة الأولى؛ كونها توغّلت بالعولمة وما بعد العولمة إلى هويتنا العربية فمزقتها، وإلى كينونتنا فشرذمتها. فعادت التبعية من جديد لا معرفيّة فقط بل تكنولوجية واقتصادية وأخلاقية وإدارية.
فكيف بعد ذلك يكون متاحاً لنا أن نفكر بوعي متحررين وأحراراً ونحن نغرق في تابعية تغلغلت حتى رسخت داخلنا رسوخ الحجر. وإذا حصل وصار لنا فكرنا وأنتجنا نظريات فلن يعبأ بفكرنا ونظرياتنا الآخر الذي نحن في نظره تابعين وما علينا سوى أن نستهلك ما يصدره لنا.
وهذه التصورات التي قيّدت عقولنا ولجمت آفاق التفكير لدينا تجعلنا نتساءل عن جدوى وجود نظرية نقدية والغالبية منّا لم يتحرر فكريا بعد أو ما زال مغترّا بالتقوقع على إبداعه؟ ثم ما فائدة ما اجترحه المفكرون العرب من نظريات حول العقل والمعرفة والمعنى والإنسان والعمل والأخلاق وليس في بالنا أن نبني عليها ولا في وعينا أن نكون متشاركين وغيريين في تعاملنا مع بعضنا بعضا ؟ وإلى متى نظل غير واعين بحقيقة أن أيّ مشروع فلسفي لكي ينمو ويتجذر يحتاج إلى اهتمام الجميع ولا فرق إن كان هذا الاهتمام بالتضامن والقبول أو كان بالرفض والمعارضة ؟ وكم هو عدد المفكرين العرب الذين امتلكوا من الحرية ما غيّروا بها جينالوجيا الانقياد والتابعيّة في داخلهم فأنتجوا فكراً كان جديراً أن نسانده لا أن نستهجنه ونرفضه ناظرين إليه على أنه مشروع خاص بصاحبه الذي أنتجه، ولا شأن لنا إن عاش معه أو مات بموته ؟
3ـ السبات العلمي
ليس ممكناً التفكير في أي قضيّة من قضايانا الأدبية والحياتية أو دراسة أية ظاهرة من ظواهرنا العلمية والعملية ما لم نمتلك مفاتيح التفكير الحقيقية وهي التجريب والمقايسة والتصنيف والتبويب والإحصاء بمنطقية البرهنة وعقلية المحاججة التي تجعلنا قادرين على الولوج إلى حقيقة الظواهر المفكر فيها والمبحوث في داخل تفاصيلها عن الخفايا والتجليات بغية تلمس المحصلات الواقعية المؤكدة.
وفي نقدنا الأدبي ظواهر وقضايا كثيرة يخالطها الجدّ والاجتهاد والإخفاق والالتباس وقد تعتريها هنات وتوشحها سمات وتتداخل فيها مناحٍ هي إما لطائف وابتداعات أو هي شوائب وأشنات. وليس يسيراً وضع اليد عليها كلها إلا باعتماد التفكير الحرّ والواعي، كما أنّ تجاهلها وتركها من دون تفكر فيها متمادين في عدم الاكتراث لها سيؤدي بالنقد والأدب إلى نتائج قد لا تحمد عقباها.
من هنا تغدو أهمية أن يرافق نقدنا التطبيقي فكرٌ تجريديٌّ ونظر ذهنيٌّ يبحث في أساسات الفعل النقدي ويمحص آفاقه تمحيصاً فلسفياً يوقفنا على الأسباب ويضعنا على جادة الكيفيات التي بها نحسّن وظائفنا، مقدمين معالجات ملائمة وحلولا دقيقة.
وهذا ما يؤكد أهمية أن تكون لنا رؤانا النقدية التي تلائم تجاربنا وتجعلنا نشعر بتحررنا العقلي من التبعية مدركين أهمية التفاعل العالمي على أساس من التأثر والتأثير وبما يغني المعرفة الإنسانية ويجعل التّشاركية عموميّة بلا مراكز ولا أطراف.
ولن تكون لفكرنا النقدي أهميّة ما لم نتضامن مع بعضنا بعضا تضامنًا علميّا جماعيّا بالتبني تارة وبالتقويم تارة أخرى، حاملين الفكر العالميّ على التفاعل معنا فيما تضامنا معه أو عارضناه.
وفي هذه التضامنيّة الجماعية صناعة لثقافة عربيّة متجددة فيها يكون الحراك المعرفي حراكًا شاملا لا يُسفه فيه أي جهد نظري ولا يُنظر إليه على أنه فردي أو جزئي؛ بل هو طاقة من مجموع طاقات عقلية تتراكم لتتوالد فرزاً وتصنيفاً وبعثاً وإيقاظاً لكل ما هو تليد منسي ومعاصر متدارٍ أو راكد وبهذا وحده تكون نهضتنا النقدية نهضة فكرية لا مصنوعة ولا متكلفة.
أما اكتفاء الناقد العربيّ بما يفد إليه من نظريات وما تراكم في جينالوجيّته من مواضعات فلن يحقق له النهوض من سباته ولن ينفض التبعية عنه وسيظل ناقدنا محتاجاً للنقد الغربي.
وصحيح أن النقد الغربي سبقنا بعقود في وضع النظريات والبناء عليها غير أن هذا السبق النظري يمكن مجاراته بالفكر النقدي الذي به نزيل سباتنا، تدعمنا في ذلك مرحلتنا التاريخية ما بعد العولميّة التي فيها زالت الحواجز وتلاشت المركزيات وصار الاندماج سمتها والتنوع غايتها، عارفين كيف نفيد من غيرنا بأن نضيف إليه وندعمه بنظريّة أو نظريّات تماشي ما كان قد أسّسه وقد تبني عليه مقوّضة أو مخالفة. ليس بحثًا عن نظريّة نقديّة تُوصف بأنها عربية وإنما توكيدا لحراكنا الذاتيّ ويقظتنا المعرفية التي فيها تتجلى خصوصينا في علمنة النقد وفكرنته.
ولا سبيل لوقف تراجعنا العلميّ سوى بالتفكير النقدي الذي به نتمكن من أن ننتفع من إيجابياتنا ونعالج سلبياتنا مشتغلين على الأسئلة التي تنبع من خصوصية تجاربنا النقدية تطبيقا وتفكيرا من دون أن نجمِّد حالنا ناظرين إلى تلك الأسئلة بوصفها إشكاليات معقدة غير قابلة للحل؛ بل بوصفها مشكلات تحتاج حلولًا نأتي بها في شكل طروحات أو رؤى أو نظريات ننتجها متأثرين بما تراكم لدينا من نظريات سادت الساحة النقدية العالمية، ونحاول نحن تدعيمها بما هو جديد أو الإضافة إليها تأصيلاً وإجراءً.
أما تلك المحاولات التي جرت عند نفر من النقاد من قبيل بعض التجارب التي مارس فيها المفكرون النقد الأدبي وبغيتهم ملاحقة الآخر في مستجداته النظرية؛ فإنها تظل محاولات مبتورة لا لأن النجاح لم يحالف أصحابها بل لأنها ظلت بمثابة مشاريع فردية لم تلق عناية جماعية غيرية أو لأن الانتاج الأدبي ظل فيها هو الغاية؛ أما الفكر النظريّ وضرورة تدشين قاعدة فلسفية له فغير موضوع في الاعتبار إطلاقا.
4ـ التعطيل الإنتاجي
أن نكون مساهمين في تطوير النظرية النقدية عالميًّا فذلك يعني أننا غير معطلين عن الإنتاج فكريا وعمليا. ومعنى أن نكون إنتاجيين يعني أننا مدركون لجدوى النظر الفلسفي بوصفه ميدانا لتحقيق الحراك الفكري الحر الذي عبره نرسي منظوراتنا التجريدية والمفاهيمية لتكون بدورها أرضيات عليها ندشن نظرية أو نظريات إفادة وتعميمًا وانخراطًا في عالم الأدب والنقد والفكر على وفق مقصدية عقلانية.
وليس العمل على النظرية كالعمل على النقد، لأن النظرية تحتاج اشتغال العقل الخالص أو التواصلي فعلا وقولا الذي فيه» يجنح العقل الكامن إلى التزاوج والتذاوت المؤدي إلى التفاهم وتداخل الحقائق»(2). وإذا كان العقل الخالص وسيلة فـ»إن الغاية الرئيسة التي تدور حولها النظرية النقدية تكمن في عدم وقوع الإنسان في براثن أفكار جاهزة وسلوكيات تفرضها أو تقترحها مؤسسات، وعلى الإنسان أن يتعلم أن ما يقوم به يوميا هو ثمرة أفعاله ذاتها»(3). وهو ما يجعل النقد النظري معتركا فيه يتجلى الفكر حرًّا ومستقلا فلا تستبد به الأيديولوجيا ولا تقيده الدوغماطية ولا تعطله السلطة.
وإذا كان للنقد الإجرائي أعلامه؛ فإن للنقد النظري أعلامه أيضا بوصف النظرية هي «مجموعة من القضايا المتعلقة بميدان معرفي محدد، التي يؤمن انسجامها..وهي التراكم المنظم للعلم بشكل يتيح أعمق وصف ممكن للوقائع»(4) ولا يمكننا أن نؤشر على نقاد نظريين إلا هم فلاسفة أو مفكرون غربيون بينما نفتقر نحن عربيا إلى وجود فلاسفة نقديين مستقلين ومدارس خاصة بالنقد الأدبي.
وليس انضباط فعل النقد النظري هو انضباط فعل النقد التطبيقي نفسه، لأنّ مجال الأول مجال معرفي يتمثل في إرساء فكر شامل وصارم وتنويري للمبادئ والمفاهيم بينما مجال الثاني مجال جمالي يتجلّى في وضع منهج مخصوص فيه معايير أو قواعد تعين الناقد على تحليل النصوص الأدبية وتفسيرها وتأويل خفاياها(5). وما من نظرية نقدية إلا هي تنطوي على جدوى ابستمولوجية بها يغدو الإنتاج التطبيقي متفاوتا ومختلفا. وكلما كانت النظرية النقديّة جديدة وأصيلة اكتسحت غيرها بشرطها التاريخي والاجتماعي وحقّقت رجّة مضادة تضع النقاد أمام مسؤولياتهم النقدية في ضرورة الخروج من الأزمة الفكرية.
والإنتاجية النقدية تعني ألا يقتنع الناقد بما كان يقتنع به سابقوه من النقاد، وأن ينضوي نشاطه البحثي داخل منظمات ومنتديات ومؤسسات جامعية أو دولية لها أبحاثها الفكرية ومنابرها الخاصة في دراسة النقد كمناهج ومنطلقات وقيم واختبارات وهو ما نجده حاصلاً في الغرب(6).
وإذا كانت كثرة النظريات النقدية في الغرب قد أشعرت بعض النقاد بلا جدوى النقد؛ لذا راحوا يستبقون أفوله وموته؛ فإن ذلك يظل محدوداً. بسبب ما فيه من تجنٍ يحاكم النقد بنظرية واحدة هي نظرية القيمة، ويجعل الناقد حكما على النص الأدبي وليس شريكا يتعامل بانفتاح مع قارئه.
وبعيدا عن جدلية ولادة النظريات وموتها؛ فإن نقدنا العربي يظل في تطبيقاته غير مكترث لأية ولادة نظرية ولا معترفٍ بأي منظور إلا إذا كان غربياً. والمحصلة أن أي إنتاج نظري يقدمه الناقد العربي هو معطل أو مؤود أصلا لا بالكسل في تبنيه وإنما بالنفرة والتعالي، وكأن لا مناص لنا من أن نجد ضالتنا دوما عند الآخر الغربي واضعين ثقتنا النقدية كلها فيه مطمئنين إلى اجتراحاته وكشوفاته، وحسبنا بعد هذا كله تبعيتنا التي تغلغلت فينا حتى ما عدنا قادرين على التخلص منها.
وعلى الرغم من أن ما يرفدنا به الغرب من نظريّات فكرية يقوي نقدنا التطبيقي؛ فإنه في الوقت نفسه يصرفنا عن التفكر في مراحل نقدنا التاريخية، وما فيها من طفرات منهجية ومطبات علمية كانت نتيجتها وصول النقد التطبيقي عندنا إلى مرحلة التضخم والتخمة التي منها تتولد أزمتنا الفكرية في الأساس.
وبدلا من أن نفكر في الأزمة مناقشاتٍ وجدالاتٍ؛ رحنا نعمل على استبدال تطبيق بتطبيق ومعالجة فعل بفعل ومنهج بمنهج، موجهين رصاصة الرحمة إلى التخصصية ومدارين على الانطباع ومرحبين بالتأثريّة بحجة النقدنة الثقافية التي بسببها صار التطبيق النقديّ متاحاً لا يحتاج أدوات ولا مرجعيات وليس فيه سلطان للمفاهيم ولا معايير للاصطلاحات؛ بل غدا ممكناً للكتبة والمتناقدين ادعاء النقدية مدلين بتطبيقات يعدونها ممارسات تصبّ في باب النقد الثقافي وهي في الحقيقة ليس سوى أدب نقدي. ومن ثم تعزز الشعور العام بلا جدوى النقد أغراضاً ووظائف فتراجع النقد التطبيقي عن جديّته بله الفكر النقدي الذي هو مقتول ومعدوم أصلاً.
5ـ اللااكتراث للانقطاع
كثير من النقاد العرب لا يكترثون لخطورة الانقطاع وضرورة التواصل تجديداً وتنويعاً، وهو ما يجعل عجلة النقد العربي راكسة في مكانها لا تتطور ولا تتواصل إلا بطفرات غير مدروسة حتى إذا تقدمت كان تقدمها مبتوراً وطارئاً. وما كان للنظريات الغربية أن تتطور وتتقدم لولا تلاقح النقاد والمفكرين تلاقحاً فيه يجدد اللاحق السابق ويطوره، فنوثروب فراي وضع نظريته النقدية بناء على سخريته من معيارية ت. س . اليوت وطور موريس بلانشو المنظور الفكري للأجناس على خلفية تفنيده مقاييس المدرسة الأرسطية، وفكك ميشيل فوكو جماليات موت المؤلف بالحفر في جماليات إحيائه.
ولا يخفى ما وراء هذا التواصل النظريّ من وعي بكلية المشروع الغربي، وهو ما يفتقده نقدنا العربي المعاصر. ومن ثم يظل ناقدنا تطبيقياً بلا مشاريع نقدية واضحة. وإذا حالفه الحظ وكان له مشروع نظري فإنه يظل فردياً بلا اكتراث جماعيّ للتواصل المدرسي معه. فيكون الغالب هو الاندراج النقدي ضمن تراتبية هرميّة تلحقنا بالغرب فلا نستطيع منها فكاكاً ولا نقدر على المروق عليها، ثم لماذا نمرق ولا اعتراف لنقدنا إلا بما استوعبه من نظريات غربية شكلا ومحتوى ؟!!
وليس غريباً بعد ذلك كله ألا يشهد نقدنا العربي الراهن مشاريع نوعية وتجديديّة تشتغل على مجال من مجالات الحياة الأدبية والثقافية كما لا اندهاش إن نحن وجدنا النقد الأكاديمي يجتر نفسه اجتراراً، وما عداه نقد ينتشر في شكل مراجعات وعروض بلا خارطة طريق نقدي يسير فيها الناقد بلا عوائق ولا مطبات ولا معضلات.
ولكي يكون لنا اكتراثنا لما هو نظري ومبالاتنا بما هو مفاهيمي تجريدي وبآفاق تنبع من خصوصية تجاربنا النقدية، نرى ضرورة العمل بما يأتي:
1) تنشيط الجدل المعرفيّ بيننا حول قضايا الإنسان والأدب وظواهر الوجود، مقوضين حواجز الانعزال ومقربين المسافات على المستويين الجامعي وغير الجامعي.
2) تشجيع روح الابتكار والبحث النقدي من خلال تأسيس (معهد متخصص بالأبحاث النقدية العربية) لعلنا نقف على حقيقة أزمتنا الفكرية معيدين النظر في تاريخنا النقدي واضعين دراسات ترصد خلفياتنا المعرفية وتحولاتنا المنهجية وما لدينا من تطورات أو طفرات نقدية.
3) أن ننفض من عقولنا فكرة الاتباع ونتحرر من التكرار والاجترار اللذين هما سبب كل مشاكلنا النقدية وفي مقدمتها الفقر الفكري.
4) الاهتمام بالمناهج بوصفها تبعة من تبعات اجتراح النظريات لا العكس أي النظر للمناهج على أنها نظريات نقدية خارجية وداخلية وبنيوية وقرائية.
5) أن يقلل النقاد المترجمون غلواء التعريب عن الآخر من خلال ترجمة المميز من نقدنا إلى لغات أخرى.
مؤدى القول إن امتلاكنا نظرية في النقد الأدبي يعني أننا امتلكنا فكراً نقدياً مستقلاً يمكن له أن يؤثر ويتأثر توكيداً لهويتنا وتأسيساً لمشاريعنا النظرية العربية القادمة.
ويظل ما قدمناه من معوقات ومعرقلات هو المتحكم في أنشطتنا النقدية والحائل دون صياغتنا نظرية نقدية أو بلورتنا في الأقل مدرسة في كل نظرية نقدية عالمية.