معلوم ان افلاطون أوصى بإقصاء الشعراء من الدولة، أ, من أي اجتماع سياسي خليق بأن يحكم حكما يكون نبراسا للعدل.
"ان من بين كافة المعالم الاحسن لدولتنا المثال" يقول سقراط، "بطل" المحاورات الافلاطونية (1)، في الكتاب العاشر من "الجمهورية"، "ليس هناك ما يسمو رتبة على تعاطيها مع الشعر" (2). وما ذاك الا لأنها ارتأت اقصاء الشعر التمثيلي.
ولئن نمت هذه الوصية عن كراهية للشعر والشعراء، فإنها لتنطوي على تقدير استثنائي لدوره. فالشعر، والمقصود بذلك الشعر التمثيلي، خصم خطير، وأيا كانت الوصية او الخلاصة، فإن النظر اليه على هذا الوجه انما كان له الفضل في تمهيد السبيل لنشوء ما يعرف اليوم بعلم الجمال. او في اقل تقدير لاثارة الجدل حول علاقة الفن بالسياسة والاخلاق.
فئن جادل افلاطون في سبيل الحؤول دون وجود الشعراء في الدولة الصالحة، فإنه لا يفعل ذلك لانه هو نفسه لا يستسيغ الشعر، وانما على النقيض من ذلك، فهو يوصي باتباع سلوك العاشق الذي لا محيد له عن نكران هواه اذا ما ثبت له بأن لا طائل تحته، ومهما كان النكران عسيرا.
الى ذلك فان افلاطون وبعدما يسوق الحجة تلو الحجة ضد الشعر، فإنه لا يني يترك باب الجدل مفتوحا للمدافعين عنه يبرهنون بأنه ليس محض واهب لذة فحسب – فهذا وحده لا يكفي، بل انه لمصدر العلة، على ما يجادل – وانما ايضا كسب دائم للحياة والمجتمع الانسانيين.
يبقى السؤال، اذن: لماذا شاء افلاطون، وهو المحب للشعر، والشاعر نفسه، ان يقصي الشعر عن المدينة؟ أليس الشعر حقا بذي فائدة؟ وبأي معنى، بل بأي مقياس يمكننا ان نبرهن ان الشعر غير ذي فائدة للدولة الصالحة؟
ان من يعود الى كتاب "الجمهورية " او اية من محاورات افلاطون الاخرى التي تتطرق الى هذه المسألة تطرقا مباشرا، لن يعدم الحصول علي اجابة واضحة على سؤال كهذا. فأفلاطون واضح وضوحا تاما في هذا الصدد. بل ان هذا الوضوح نفسه لما يجعل المرء يرتاب في صحة ما يقول،او على الاقل،في كيفية سوق محاجاته. وهناك ما يجعلك ترتاب بأن ثمة خلف هذا الوضوح ما يصار الى نسيانه او اغفاله،تناسيا أو اغفالا، مرده الى التسليم المسبق بأن من الفرضيات، بل من المسلمات، ما هو متفق عليه اتفاقا تاما يبطل معه اية محاولة لمساءلة هذه الفرضيات.
ولكن ما مسوغ العودة الى افلاطون؟ ما مسوغ العودة الى محاجة نقر سلفا بأنها غير مقنعة؟ بأنها تقوم على فرضيات ليست بمنأى عن المساءلة بل الشك؟
قد تكون هناك اجابات متباينة لسؤال كهذا، غير ان ما يعنينا في هذه السطور على وجه خاص، ان السؤال حول جدوى الشعر لم يستنفد نفسه حتي وان شهد ذواء، او حتى وان كف المهتمون عن طرحه اصلا.
"اي نفع نجنيه من الشعر؟"
سؤال لا يمكن ان يستنفد طالما كان هناك شعر. وقد نمضي شوطا ابعد ونقول: لا سيما اذا ما وجد شعر في عصر يصدق القول فيه بأنه عصر غلبة السوق الاقتصادية الحرة.
طبعا هناك من سيجد في اللجوء الى الزعم المعهود بأن الشعر- بل الفن عموما- مستقل عن كافة الميادين الاخري، المخرج الملائم، بما يجيز التسليم بأن قيم الشعر ليست بقيم الميادين الاخري، وان معايير هذه الاخيرة لا يمكن ان تجرى عليه. غير اننا نظن ان هذا الزعم امسى مفلسا ومملا. "اية فائدة نجنيها من الشعر؟"
من الطبيعي ان نسأل اليوم كما سأل افلاطون قبل ما يرقى الى الفين واربعمئة عام. ولئن انطوى سؤال افلاطون عن ارتياب في قيمة الشعر بما انجلى عن اجابة منكرة لاية فائدة له في الدولة المثال، فاننا لنرتاب في اهمية الشعر في مجتمعاتنا البعيدة كل البعد عن الدولة المثال. غير ان مثل هذا القول قد يقصر عن اقناع السائل، اذا ما كان غرض هذا القول الاقناع، حول مسوغ العودة الى افلاطون. فقد ينقلب السائل سائلأ هذه المرة: وقد سلمنا بأن السؤال لم يستنفد نفسه فأية فائدة نجنيها، عائدين الى افلاطون نفسه، في سبيل الاجابة عنه؟ أي عون- يمكن لنص يرجع الى ذلك الزمن البعيد- ان يقدمه لنا في سبيل فهم ما يعترضنا او يثير حيرتنا؟
هناك من يرى ان ثمة تشابها ممارخأ ما بين موقف افلاطون من الشعر (بما هو شعر تمثيلي) وما بين موقفنا من الاعلام والثقافة الجماهيريين. ففي نقد افلاطون لذلك النمط من الاداء الفني الرائج، اي الشعر القصصي والغنائي، وهو مما كان يؤدى على مسارح تقبل الناس على مشاهدتها اقبال مشاهدي التليفزيون والسينما والمسرح والمجلات المصورة والقصص الشعبي في عصرنا الحديث، ما قد يبرر نقدنا او قد يبين لنا قصورنا وتحاملنا على دور الثقافة الجماهيرية. وعلى ما يذهب الكسندر نيهاماس فان جمهور الدراما الاغريقية كان جمهورا شعبيا يمثل تمثيلأ تاما كافة قطاعات وطبقات الشعب الاثيني. وانه في العهود الكلاسيكية نادرا ما كان عدد رواد المسرح يقل عن سبعة عشر الف متفرج (3). الى ذلك فان المسرحيات لم تكن تنتج امام جمهور ممن يحسن التصرف،او ممن كان يتوقع منه سلوكا لائقا. وغالبا ما اعتاد الجمهور المحتشد في المسرح اطلاق الصفير والتعليقات والاصوات مما لا يبدر الا عن جمهور سوقي الطبع.
ولئن عمل نيهاماس على قراءة لموقف افلاطون من الشعر في سياق تاريخي واجتماعي وبما يوضح بأن ذلك الموقف ليس اشد اثارة للحرج من موقف بعضنا حيال الثقافة الجماهيرية اليوم، فانه ليسقط، من وجه، التهمة الرائجة بأن افلاطون انما نصح باستبعاد الشعر عن اية مدينة صالحة في اي مكان وزمان، وليبين من وجه آخر ان لا اثر لهذه التهمة من موقفنا حيال الشعر او اي نشاط آخر الا في حدود التشابه ما بين الموقفين التاريخيين. بكلمات قليلة فإن مغزى هذه المحاجة هو وضع حد للظن الشائع أن افلاطون عادى الشعر عداء مطلقا.
ولا ريب في ان هذا النحو من المحاجة لهو صائب صوابا لا يمكن انكاره. فأفلاطون في النهاية انما جادل ضد ظاهرة ثقافية كانت سائدة في عصره. فلقد جادل ضد هوميروس وهيسود وغيرهما من التراجيديين بحيث انه كلما شاء اثبات حجة من حججه ترده يتخذ مما يقوله هذا الشاعر او ذلك قرينة ودليلأ. وهو حينما يتهم الشعراء بتصوير ما يجهلون، او ما لا يتمتعون بمعرفته معرفة عملية وافية،كما في جداله مع ايون، على سبيل المثال، فانما يسوق تهمته هذه ضد شاعر بعينه ومنشد محدد (هوميروس وايون). ولعل اشد ما يدل على ان افلاطون لم يدع الى استبعاد الشعر جملة وتفصيلا، وانما فقط الشعر الرائج في زمنه لا سيما شعر هوميروس والتراجيديين الآخرين، انه لا يلبث ان يقر في نهاية الكتاب العاشر من "الجمهورية "، بأن غرضه الاستعاضة عن شعر هوميروس واصحابه بضرب آخر من الشعر على ما يتضح من هذا الاستشهاد:
"حينما تلتقي بأناس معن يكنون التقدير لهوميروس كمرب لليونان " يخاطب سقراط محاوره غلو كون: " والذين يزعمون انه في سبيل ادارة شؤون الناس وتربيتهم يتوجب علينا درا سته وصوغ حياتنا على نمط شعره، يجب ان تحسر تجاههم بالعطف وانهم ناس صالحون في حدود قدراتهم، بل وفي وسعك ان توافقهم الرأي بأن هوميروس لهو افضل الشعراء وأول التراجيديين. ولكنك ستعلم بأن الشعر الوحيد المسموح به في الدولة هو تراتيل الى الآلهة وتسابيح في مديح الرجال الصالحين. فإنك اذا ما تجاوزت حدود ذلك الشعر وسمحت من النظم ذلك القصيد العاطفي اللذيذ الحلو او ما هو مصدر الهام الملحمة، فإن اللذة والألم ليصيرا حاكميك بدلا من القانون والمبادىء العقلية المتفق عليها عموما بأنها الاجدى."
إننا لنقع في هذا الرد على العديد من الدلائل التي تسوغ مذهب نيهاماس المشار اليه. فالى حقيقة ان افلاطون يجادل ضد هوميروس واصحابه، وليس ضد الشعر قاطبة، فإنه ايضا ليسعى الى دحض تصورات الطيبين، و إن الغفل، من الناس معن ينزلون هوميروس منزلة مربي اليونان ومن يحضون على اتخاذ شعره دليلا ومثالا للمياة الصالحة. اي يحضون على اتخاذ شعره دليلا ومثالا للمياة الصالحة. اي ان ما يسوء افلاطون ليس اقبال الناس على شعر هوميروس إقبالهم على نشاط ترفيهي بفرض الترويح عن نفرسهم ونسيان مشاغلهم اليومية، وانما التماسهم في ذلك الشعر هاديا اخلاقيا ومرشدا الى خير ما يقتضيه القانون والمبادىء العقلية. وهذا ما لا يمكن لافلاطون الصدوع به طالما ان لا هوميروس ولا التراجيديين عموما يتمتعون بالمعرفة العلمية والخبرة العملية ما يخولهم اداء دور كهذا. ولكن هل في هذه المحاجة ما يكفي لكي نسلم بأن قراءة موقف افلاطون من الشعر يجب ان تلتزم بحدود ما هو تاريخي واجتماعي في ذلك العهد؟ أليس الحؤول دون وجود الشعراء وتمكنهم في الدولة المثال لهو وجه من وجوه اقامة هذه الدولة طبقا لما ينص عليه كتاب "الجمهورية " ؟ فهل يتوجب علينا ايضا قراءة مشروع افلاطون لاقامة دولة العدل كمشروع زمني تاريخي؟ فكيف، اذا ما سلمنا بحدود قراءة من هذا القبيل، سيسعنا التعامل مع نظرية المعرفة الافلاطونية، وهي كما نعلم جيدا ركيزة إرساء العدل، والتي في ضوئها يجادل ضد الشعر، طالما ان هذه النظرية ترى الى كل ما هو تاريخي محض وجه عابر لما هو ازلي وخالد، اي لما هو مثال؟
موقف النخبة
لا مراء في ان نقد افلاطون للشعر، بما ينطوي عليه من نزعة نخبوية، لا يختلف كثيرا عن الموقف "النخبوي" الحديث تجاه الثقافة والاعلام الجماهيريين. ففي كلا الموقفين، ثمة ركون الى الظن بأن الناس، اي متلقي الشعر، غير مكتملين او ناضجين كفاية، فهم محض اطفال وبالتالي، مجرد متلقين مغفلين يسهل الإيقاع بهم من خلال الاستجابة لما يرضي اهواءهم ونوازعهم الفريزية. وإن سواد الناس، كما الاطفال، لهم اقل عصمة ومناعة من مقاومة ما يثير نوازعهم ويصعد الشطر المنحط من نفوسهم وارواحهم. والناس، على ما يجادل افلاطون في موقع لاحق من "الجمهورية "، انما هم في نزاع دائم مع انفسهم،ما بين هذا الشطر الادني وذاك الاسمي.
ولكن قبل بلوغ هذا القول، وما له من دور هام في موقف افلاطون النهائي من الشعر، حري ان نبسط قول الفيلسوف اليوناي في الكتابين الشاي والثالث من "الجمهورية" عن دور الادب والفن في تنشئة الاحداث، لا سيما اولئك الذين يعدون لتبوء دور حراس المدينة. اذ يميل افلاطون الى تقديم ما يشبه وظيفة الرقيب الذي يعين ويحدد ما ينبغي حذفه او الابقاء عليه من نصوص الشعراء بما يتلاءم وشروط التنشئة السليمة:" فأول واجب علينا هو السيطرة على ملفقي الخرافات، واختيار اجملها ونبذ ما سواه " يخاطب سقراط اديمنتس في مطلع الكتاب الشاي، ثم نوعز الى الامهات والمرضعات ان يقصصن ما اخترناه من تلك الخرافات على الاطفال. وان يكفين بها عقولهم اكثر ما يكفين اجسادهم بأيديهن. ويجب ان نرفض القسم الاكبر مما يملي عليهم من الخرافات في هذه الايام."
ولا شك ان في قوله "خرافات هذه الايام " ما يدل دلالة واضحة على وقتية، او معاصرة نقد افلاطون للشعر. وعلى ما يتضر لاحقا، فإن " القسم الاكبر" من الخرافات لهو ما يأتي به هوميروس وهيسودس وغيرهما من اضرابهما. فلا يسيغ افلاطون انعدام الصدق في تصوير الآلهة مما تحفل به اعمالهم، أجاء ذلك من سبيل الإخبار ام من قبيل المجاز. فالأحداث لا يستطيعون التمييز بين ما هو مجازي وما هو غير ذلك.
ان الآلهة لهم مثال الخير والحق والصلاح، ولا يجوز بأى حال من الاحوال تصويرهم على غير ذلك المثال، او بالضرورة، تصوير اعمالهم وما يصدر عنهم بما يتنافى وصفاتها الالهية. وحيث ان الذات الالهية معصومة عن اتيان الشر، أيا كانت طبيعة ما يصدر عنها، فلا محيد عن رفض قول هوميروس،مثلا: " كان لدى زيوس جرتان تستقران على ارض قصره" مليئتان بالاقدار، في واحدة اقدار خيرة، وفي الاخرى اقدار شريرة."
فما يحل بالخطاة من الناس عقابا لهم على ما اقترفت ايديهم لا ينبغي ان يصور بفعل مقيت، او ما يشي بأنه كذلك. ولا يصح للشعراء نسب صفة التغير او التنكر او التحول الى الآلهة طالما ان ذلك يتنافى مع صفات الثبات والخلود التي لا يمكن ان يندرج تحتها، وان مجازا، الدهاء او الاحتيال الذي يظهر عليه الآلهة احيانا في شعر الشعراء. فذلك انما يخالف الحقيقة الإلهية، وعلى الشعراء ان يقلعوا عنها او على الاقل الحؤول دون تلقينها للاطفال ولمن يهيئون للعب دور الحراس. وهذا ما قد يسوغ الظن بأن قصاري ما يرمي اليه افلاطون هو تبرير وظيفة الرقابة، بما لا يختلف لخيرا عن دور الرقابة اليوم.
واساءة تمثيل الآلهة ليس وحده ما يضر بنشأة الحراس والحكام نشأة قويمة. فتصوير حياة ما بعد الموت على صورة تبعث الكآبة وتولد خوفا من المنية يؤثر معه المرء ان يكون عبدا على ان يكون ميتا، او تصوير اهل الصلاح نائحين سوء اقدارهم نادبين ما ينزل بهم من نوازل ونائبات، او الى ما سوى ذلك من مواقف، انما هي مما قد يوهم المرء بان هذا الموقف، او رد الفعل، لهو الموقف السليم ازاء اوقات الشدة او حيال الموت والنكبات.
ان الاسراف في الانفعال، وفي إظهار الانفعال، أكان ذلك تجاه ما هو باعث للأسى والقلق والخوف، ام كان ما يدعو الى الضحك والسخرية، لمن الامور التي ينبغي ان تحصن الناشئة، موضوع التربية السليمة ضدها. فالتربية الرصينة انما هي ما يكفل الانسجام والتوازن في شخصية من سيقوم بعبء حراسة المدينة او حكمها، وما يتطلبه منهم الخلق القويم:
"أمن الوارد ان يحض الشاعر (هوميروس ) على ضبط النفس اذا ما صور احكم الرجال بأنه ذاك الذي يظن ان افضل الاوقات جميعا هو الوقت الذي تكون فيه الموائد عامرة بالخبز واللحم والنادل يسكب النبيذ في الكؤوس؟" يسأل سقراط اديمانتس، ويضيف " وماذا عن قوله: الموت جوعا لنهاية من اسوأ النهايات التي يمكن للمرء ان يواجه." او " ما قولك في وصف زفس وقد ثارت فيه الشهوة الجنسية فذهل عما سواها، وظل ساهرأ وجميع الآلهة نيام. فغلبت عليه الإلهة هيرا، فما طاق انتظارها دخول البيت، قائلا ان الهيام قد تملكه اشد مما تملكه في المرة الاولي التي ذاقا فيها لذة الوصال.."
فتصوير ما يحرض على الاعراب عن الأسى والخوف او ما يبرر اظهار السرور المفرط او الرغبة الجامحة نحو مأكل او مشرب او نكاح، فضلا على تصوير الجائر سعيدا والعادل تعسا والزعم ان اقتراف الخطوب اسوأها لامر مفيد اذا ما قيض للفاعل النجاة والقول ان " العدل صالح لغيرك وطالح لك"، او سوى ذلك مما هو على منواله، لهو تصوير ضار وينبغي حذفه من القصائد المتوافرة ونهي الشعراء عن تكراره.
ولا يقتصر نقد افلاطون على نقد ما يصوره الشعراء من تصوير مخالف لحقيقة الآلهة او لما يصدر عنهم من افعال، فضلا عن مخالفته لاهل الصلاح معن ينبغي على الناشئة الاحتذاء بهم،في تصويرهم صورا بعيدة عن الاتزان والحكمة والفضيلة،وانما تعداه الى نقد الوجه الذي يصار الى تمثيل ما يمثل عليه،منتقلأ بذلك من الكلام على المضمون الى الكلام عن الشكل، او في اقل تقدير، تناول التقنية المتبعة في قصائد الشعراء.
وكتمهيد لهذا النقد يميز افلاطون ما بين اشكال ثلاثة من الشعر التمثيلي. فهناك اولا الشكل التراجيدي والكوميدي، وهناك الشكل الذي يتوسل من خلاله الشعراء سبيل الإخبار المعهود والبسيط، وهناك ثالثا ذلك الشكل الذي يجمع ما بين الاثنين، اي ما بين التمثيلي والاخباري. فترى الشاعر مرة يروي بنفسه وقائع ما جرى، وتراه مرة أخرى يسلم زمام الإخبار الى شخوصه يخبرون ما جرى لهم، ما تالوه وفعلوه، او ما ألم بهم وما قيل لهم. اي بكلمات أخرى ان الشاعر يتيح لشخوصه ان يمثلوا انفسهم. في مرة ثالثة ترده يجمع ما بين الضربين.
فما وجه اعتراض افلاطون على اي من الاشكال الشعرية المستخدمة؟
"اليك مسألة تنظر فيها يا اديمنتس " يخاطب سقراط محاوره،" أيحسن بحكامنا ان يمثلوا ام لا؟ او ترى انه يلزم عن ابحاثنا السالفة ان يختص الانسان بنوع واحد من الاعمال لا اكثر. وانه اذا حاول ذلك فإشتغل بأمور عديدة معا فشل فيها كلها ولم يبلغ أربأ بواحد منها؟ "
يحيلنا افلاطون من خلال هذا الكلام الى ما يعرف _"مبدأ الاختصاص". وتبعا لهذا المبدأ فانه لا يستقر العدل في المدينة، اي يستوى عمادها، ما لم ينصرف كل امرىء الى ما هو مؤهل له وما هو منوط به. فلا يكون في الدولة الصالحة مكان لمتعددي المنازع. فالتمثيل بحد ذاته امر مثير للريبة لما ينطوي عليه من ايحاء ان في وسع المرء ان يكون اكثر من صاحب مهنة واحدة وانه قادر على اداء اكثر من دور في آن معا. والاطفال (بل العامة جميعا، على ما سيتضح لاحقا) اذا ما تربوا على الشعر التمثيلي اخذتهم المظنة ان بمقدورهم اداء اكثر من دور واحد، بما يبعث على القلق لا محالة.
غير ان ما هو اشد إثارة للقلق ما قد ينطوي عليه التمثيل من تشجيع للعب ادوار لا تليق اخلاقيا او اجتماعيا بمن يعدون لكي يكونوا حكاما او حراسا. فعلى الرغم انه لمن غير المرغوب ان يمثل هؤلاء، او يمارسوا اي عمل آخر، فإنه اذا ما " عرض لهم ان يمثلوا فليمثلوا منذ حداثتهم ما ينطبق على مهنتهم، كتمثيل الرجل الشجاع الرزين المتدين الشريف، وامثاله. ولا يمارسوا او يمثلوا الدناءة وكل انواع السقالات، لئلا يلصق بنفوسهم ما مثلوه، فيرى لهم سجية. اولا تدري ان التمثيل يتمكن في النفس بتأثير الإشارات. ونغمة الصوت، وطرائق الفكر، اذا مارسوه منذ الحداثة، فيصير عادة فيهم كطبيعة ثانية؟ "
ويشمل تمثيل الدناءة والسقالة ما يشمل تمثيل المرأة، صبية كانت ام عجوزا، مهاترة الرجال ومتبجحة لدى الآلهة تعدادا ببرها، لا تمثيلأ لها في نوائبها واحزانها وشكواها. ويشمل ايضا تمثيل المريض والعاشق والمجنون والعامل والعبد والجبان من الناس وكل من يصدر عنهم الشائن من الافعال او السافل من العبارة. بل ولا يجوز لهم تمثيل اصحاب الحرف والصناع او تمثيل صهيل الخيل او جئير الثيران او خرير الانهار او قصف الرعود او هدير البحر..الخ.
إنه ليصدق القول ان افلاطون المستنكر للتعددية اشد الاستنكار، كمصدر للفساد وكممها لسيطرة الطغيان، ليشاء حرمان من هم أدنى منزلة، او بالضرورة كل من يصدر عنهم افعال بغيضة واقوال شائنة، حق تمثيل انفسهم بأنفسهم، وبخلاف الآلهة واهل الصلاح، وهو ما يتفق تمام الاتفاق مع النزعة النخبوية التي تنطوي عليها فلسفته الرامية الى إناطة امر الشؤون العامة، وتقرير الصالح والجميل والعادل، بفيلسوف ملك،تو آزره صفوة من القوم، حكاما وحراسا، لا غرض لها ولا مأرب الا احقاق الحق والعدل في المدينة. ومن ثم فانه ليحرص على الا يمثل من لا يجوز اتخاذهم قدوة ومثالا، أو الا يزيد تمثيلهم على ما يتيحه نهج الإخبار العادي.
وهذا التمييز انما يملي تمييزا اعمق وابعد دلالة الا وهو التمييز ما بين نمطين من الشعراء ممن يؤدون لعبة التمثيل نفسها. وعلى هذا يكون قول افلاطون بأن ثمة " اسلوبا خاصا من القصص يختاره الرجل الشريف وحسن المزايد اذا ما لزم عليه ان يقص اي قصص " كما وان هناك " اسلوبا ضده يلوذ به من كان على خلاف هذه السجايا في طبعه وتهذيبه."
والاول هو اسلوب ذاك الذي اذا ما قص اخبار اهل الصلاح ترده يقبل على ذلك إقبال من يريد تمثيل كل ما يصدر عنهم طالما اتسم بالرصانة والتعقل. اما اذا قص اخبار الادنياء من الناس، او اضطر الى تمثيل ادوارهم فإنك لتجده يفعل ذلك على مضض وخجل، ومن ثم فإنه ليتحاشى تمثيل كل ما لا يليق بمنزلقه مما يصدر عن الشخصيات الممثلة. اما الاسلوب الشاي، فإنه أسلوب ذاك الذي لا يهاب اداء اي, او يخجل من تقليد اي صوت أنى بلغ دركا من البذاءة. بل انه لمن الوارد ان يسرف في اداء دور السخلة من الناس طالما كفل له ذلك رضا الجمهور واهتمامه. والشعراء لا يمانعون اداء اي من هذين الاسلوبين، مخالفين بذلك كلا "مبدأ الاختصاص" من وجه، وغرض اية تربية شريفة من وجه آخر.
ولنن عاب افلاطون على الشعراء عدم إتباعهم الضرب الاول،دون الشاي، من السرد، فإنه لا يتهمهم بالحض على إيثار الرذيلة،وانما كتبرير ظني مفاده أن الحياة الفاضلة لهي من السمو سموا يجعل بلوغها امرا شاقا بما يسوغ الاكتفاء بما دون ذلك. ولهذا السبب، فإنه على ما يذهب احد الشارحين للنص الافلاطوني، فإن الجمهور والشعراء لهم اكثر استعدادا لان يعرفوا انفسهم، من خلال الاداء الفني بمن يحتقرون اكثر معن يبجلون ويمتدحون (4). وعلى هذا فإن افلاطون حريص على ان يبين ان الشعراء ليسوا بواقعيين معن قصاري غديتهم الصدق. فهذا مما قد يجيز القول بأنهم يصورون الضعف الانساي ومرارة الحياة بألوانها الطبيعية. فلأن تصف الطبيعة الانسانية على هذا الوجه فإن ذلك لاقرب الي اطلاق نبوءات شؤم اخلاقي تسعي الى تجسيد ذاتها فعلا. اي انه ليس لان تواجه الواقع،على ما قد يظن، وانما لان تخلق هكذا واقع او تساهم بخلقه من خلال صوغ مشاعر الجمهور على صيغة الشاعر المتشائمة.
اما التذرع بأن الشعراء انما هم متشائمون لان الواقع يدعو الى التشاؤم او لان بلوغ الحياة الفاضلة لهي من الصعوبة بما يبرر التشاؤم، فهذا ما يتصدى له افلاطون بأشد النقد حينما يجادل ان الشعراء لا يعرفون الواقع المعرفة الحقة بما يجيز لهم اطلاق احكام حولها.
ومن الواضح ان لافلاطون من خلال معالجته لعلاقة الفن بالتربية، قصب السبق في اثارة مسألة "الصدق الفني" ، وهي المسألة التي غالبا ما تكررت العودة اليها بدوافع متباينة ولاغراض متفاوتة. ولئن احجم افلاطون عن تعيين ما ينبغي ان تكون عليه صورة الآلهة والصالحين من الناس، فليس لانه لا يريد ادعاء دور الشاعر، او الناقد الفني، وانما لانه بصدد التمهيد للخلوص بأن التصوير الفني هو باطل على العموم. وحسبه في هذا الطور استنكار تصوير الشعراء لما ينطوي عليه من مغالطة للصاق طالما ان ما يمنح الكينونات، موضوع التصوير، هوياتها، هي خواصها ووظائفها التي تجيز اتخاذها قدوة. فما يجعل الإله إلها هو عصمته عن إتيان الشر او اي سلوك يشي بالضعف والقصور. وانه ليصح القول ان ما يطلبه افلاطون من الشعراء، على الاقل في هذا الشطر من المحاجة، هو ان يصوروا من يصورون كممثلين للخواص التي يمتلكون والادوار التي يلعبون بما يبين ان مظانهم ورغائبهم ومشاعرهم يكون لها على الدوام دور في اتخاذ قرارات واعية وعقلانية. وبهذا يتوجب على الشعراء ان يسوقوا مثلا للوكالة الانسانية او إلآلهية، فمثل هذه المثل قابلة للقياس بمقاييس من خارج اطار الشعر، تماما كما هو ديدن القائلين " بالصدق الفني" مقياسا رئيسيا في معرفة قيمة الفن.
بيد ان من الجدير بالاضافة ان افلاطون، وخلافا لدعاة " الصدق الفني"، ليس من السذاجة بحيث يؤمن ان اهل الصلاح، وإن ليس بالضرورة الآلهة، من الكمال والتوافق مع ما يتمتعون به من خواص بما ينفي امكانية سقوطهم وظهورهم بمظهر الضعفا، والخطاة. فما يعني افلاطون هنا هو اثر التصوير الشعري على المتلقي. وبهذا فإن نيهاماس لا يجانب الصواب حينما يقول بإن موقف افلاطون " الرقابي" لا يختلف جوهريا عن موقف نقاد الثقافة الجماهيرية في العصي الحديث،لا سيما اولئك الذين يرون في هذه الثقافة واعزا الى الطيش (كما يرى هايدغر على سبيل المثال ) ومصدرا للافساد النفسي والاخلاقي.
فنيهاماس لا يرمي الى البرهنة على صحة ما ذهب اليه افلاطون، وانما لكي يبين انه ليس محرجا بالقدر الذي يتصوره البعض. ففي عصر لم يتوان البعض فيه عن اتهام افلاطون بأنه اول من أرسى أسس النظام التوتاليتاري، وهو ما ذهب اليه الفيلسوف الراحل كارل بوبر في كتابه" "المجتمع المفتوح واعداؤه " ، فإن ما يحاوله نيهاماس ليس بالامر النافل، او قليل الشأن طالما ان الموقف الافلاطوي الجمالي هو اخلاقي وسياسي في جوهره. ولا يغربن عن انتباهنا، علاوة على ذلك، فإن في مقارنة موقف افلاطون بموقف المثقفين الناقدين للاعلام الجماهيري ما يسلط الضوء على صلاحية محاججة افلاطون، لا سيما في الشطر المتعلق بأثر الاداء الفني على نفوس افراد الجمهور.
ومجمل القول هنا انه من الجائر للدولة المثال، اذن، ان تلعب دور الرقيب حيال الفن كمادة او منهي للتعليم، وان تستبعد منه كل ما يتنافى مع الحقيقة، او يحرض ويشجع على الرذيلة والضعف. وان تحث الشعراء، بالتالي، على التزام الصدق والدعوة الى الفضيلة. فحيث يتصل الامر بتربية حراس المدينة فإن توخي الحذر البالغ في ما يقلقاه هؤلاء لامر ضروري في سبيل ضمان سلامة المدينة. ولكن أتبريرا للرقابة يجادل افلاطون فيما يجادل؟ فعلى اي وجه، اذن، يتوجب على الشعراء ان يصوروا البشر؟ واية قيم اخلاقية هي التي ينبغي محاباتها، وايها التي تستدعي المجافاة؟ فكيف يمكن للفنان ان يلعب دورا نافعا في تربية النش ء تربية صالحة؟ يسكت افلاطون عن هذه الاسئلة متذرعا بأن الامر يتوقف على ما سينجلي عنه تعريف العدل " والفوائد التي يهبها حامله بمعزل عن المظاهر". وهذه ذريعة ملائمة في هذا المقام طالما انها تعفيه من اي اقرار مبدئي بأي دور للشعراء في المدينة الصالحة، الى ان يقيض له استكمال محاجته بان معرفة الفضيلة لهي من اختصاص الفلاسفة وحدهم، وان الشعراء غير قادرين على الإتيان بالمعرفة الحقة، على ما سيؤول اليه الجدل في الكتاب العاشر، بما يجيز له الخلوص بضرورة ايصاد ابواب المدينة في وجوههم.
لا ينكر افلاطون ما للشعر من متعة، وهو لا يجادل في حقيقة ان الشعر الاكثر إمتاعا لهو الاكثر جمالية، ومن ثم فهو يعي خطورة القول بإخضاع الجمالي لشروط الاخلاقي حتى وان لم يظهر من الحرص ما يكافىء هذا الوعي. وهو يبارك بعض ما ينطق به الشعراء، طالما ان من الضروري ان يربى النشئ تربية ادبية، بيد انه لا يعدم العثور على الكثير مما يقوله معشر الشعراء مما يتنافى مع اصول التربية منافاة تامة. لذا فهو وان وجد الشعر ممتعا، فإنه سرعان ما سينقلب مجادلا بأن ليس كل ما هو ممتع مفيد، بل انه لن ينطوي على ضرر عظيم. اما مباركة بعض ما يأتي به الشعراء، فلا تكون مقدمة للخلوص بأن الشعر قابل لان يكون موضوع حكم اخلاقي، لا كحكم ثانوي، وانما الحكم الاساسي الحاسم. فإذا ما كان من الجائز التمييز، من زاوية النظر الاخلاقي، في كلام الشعراء ما بين ما هو صالح او فاسد بطل الاعتقاد بأن الفن أسمى من ان يحاكم على منصة الاخلاق، ولم يعد في التمسك بضرورة قياس الشعر بمقاييسه الفنية دون غيرها ما يبرره. ومن المفيد الاضافة بأن هذه المحاجة جزء من المحاجة الاشمل للنص، اي كتاب الجمهورية.
وبحسب هذه المحاجة فإن الفضيلة، اي العدل، انما تكون في معرفة الكيان الحقيقي للامور، ومن ثم فإنها لا تقر بإستقلالية اي مدار معرفي استقلالا تاما، ولا تبيح الفصل ما بين معرفة اخلاقية ومعرفة جمالية او سياسية. وينبغي التنبه الى ان الحكم الاخلاقي ضد الشعر في هذا النص لهو ايضا حكم سياسي. اذ ليس ثمة فارق يذكر ما بين مداري الاخلاق والسياسة. فالأخلاق واحدة لا انقسام فيها ما بين خاص وعام،وعلى هذا يسود "مبدأ الاختصاص" (5) سيادة تتحدد من اعلي بما ينفى امكانية الفصل ما بين المدارا لعام او الخاص، الا في حدود ما تسكت عنه القوانين،وهذا قليل طالما ان للدولة حق البت في اي شأن كان، وليس من حد يحد دون تدخلها.
ان "من يعرف يحكم" في عرف الجمهورية الافلاطونية. لذا فليس من الممكن ان الصدوع بإستقلال مدار معرفي كالمدار الجمالي استقلالا يلزم سلطان من يحكم، اي الفيلسوف الملك،الذي وحده من يتسنى له تجاوز المعرفة الحسية الى معرفة المثال،او الحقيقة الكلية المطلقة. والاقرار باستقلالية الجمالي ليس بحد ذاته اقرارا بجهل الحاكم، وانما هو تسليم بما هو منسوب للشعراء من معرفة شاملة بما يتعارض وضرورة احتكارا لحاكم لمعرفة كهذه، اي معرفة الجمال بما هو مثال أسمى مما هو جميل، والا لتوجب عليه،تبعا للصلة الوثيقة ما بين المعرفة والحكم، مشاطرتهم الحكم.
لا يغربن عن بالنا ان افلاطون لا يقصد حماية النش ء فقط من مغبة ما يأتي به الشعراء وانما البالغون ايضا. ولنن احجم هو في هذا المقام، اي في الكتابين المذكورين من الجمهورية،عن تقديم الحجج التي تسوغ الحؤول دون الشعر والجمهور عامة،فهذا لانه لم ينكر بعد في ان بعض الشعر صالح في سبيل تربية ادبية قويمة. لهذا فإنه ليكتفى بالزعم ان السيىء من الشعر هو ذاك الذي يضر بالنشء وليس بجمهور الراشدين عامة. غير ان في هذا ما يشي بأن افلاطون مضمر "حله النهائي" للشعراء منذ البداية،وقبل تقصيه طبيعة العدل وشروط سيادته. فهو حالما يفلح في البرهان على ان الشعر ليس من الاستقلال بما يجيز قياسه بمقاييسه الخاصة، وانما اصلا بمقاييس الاخلاق، لن يصعب عليه دفع حدود سحاجته حول ضرر الشعر بما يشمل هذا الضرر ارشد الناس واشذهم حكمة.
معرفة الشعراء
ما الذي يعرفه الشعراء؟ وبأية سلطة ينبرون الى تصوير ما يصورون؟
فهل الشعر حرفة، او مهارة، تكفل معرفتها معرفة كل ما يمت بصلة الى الحرف والمهارات الاخري التي يعرض لها الشاعر في قصائده وقصصه؟
يختار افلاطون منشد الشعر ايون لامتحانه في امر كهذا. فالمنشد هو من يلعب دور الوسيط ما بين نص الشاعر والجمهور، ونجاحه في لعب دور الوساطة لا يقتصر على امتلاكه القدرة على الاداء فقط، وانما ايضا القدرة على معرفة الشعر الذي يؤديه معرفة تتيح له تفسيره وتأويله. لذا فإن معرفة الشاعر الجيد تستوي بمعرفة الشاعر نفسه: "فإذا لم يعرف المنشد ما الذي يقوله الشاعر، لن يكون منشدا بارعا، فمن المتوجب على المنشد ان يكون مؤول فكر الشاعر الى الجمهور، وانه لمن الاستحالة عليه القيام بذلك على نحو صائب ما لم يفهم ما الذي يعنيه الشاعر."(6)
يختار افلاطون إيون لانه الزاعم بأنه ابرع من تمرس في اداء شعر هوميروس. وهو يجاريه في زعمه هذا مجاراة سرعان ما يتضح هرماها. فإيون بارع في اداء شعر هوميروس، بيد انه بارع في اداء هذا الشعر وحده دون غيره،وعارف لبواطن هذا الشعر معرفة لا يمكن الاستفادة منها في اداء او فهم شعر آخر. وغاية افلاطون انما الخلوص الى ان معرفة المنشد المزعومة ليست في اي شيء من المعارف النظرية او العلمية التي يتحلى بها رجال العلم او اصحاب الحرف. فيتخد افلاطون من قصور او انعدام معرفة ايون بشعر الشعراء الآخرين قرينة على أن معرفته ليست بعلم ذي مبادىء يستند فيها الى ما يعرف من معرفة. فالمرء اذ يزعم بأنه خبير في ضرب من الضروب، وهذا ما يزعمه ايون، فلابد لمعرفته من ان تشمل كافة او جل مظاهر هذا الضرب. غير ان معرفة ايون ليست بالمعرفة النظامية التي يمكن تعلمها او نقلها من فرد الى آخر. فما يستعرضه المنشد من معرفة تخوله الاداء والتأويل، ليس مما يستند الى معرفة منهجية تقوم على مبادىء عامة، وليست مما يدل على انه على معرفة عملية بمواضيع وشخوص الشاعر. فهو لا يتحلى بمعرفة النجار او الطبيب او الصياد او المحارب او سوى ذلك من الشخصيات التي تظهر في قصص الشاعر. لكن الاهم من ذلك ان المنشد، كما الشاعر، لا يحتاج الى معرفة من هذا القبيل. فليست هذه المعرفة ما يجعل اداء المنشد جميلا ممتعا للجمهور. فهو حتى وان كان نجارا فإن اداءه المسرحي لدور النجار لن يكون افضل مما هو عليه حتى وان لم يعرف سوى القليل عن حرفة النجارة. وينطبق الامر على الشاعر بالمقدار ذاته.
وخلاصة القول ان المشاعر، كما المنشد، لا يعرف سر افلاحه في ارضاء او إمتاع جمهوره. فمصدر المتعة التي يبتعثها الشعر في نفى المتلقي سر لا يكنهه أحد. انه بمثابة إلهام إلهي يفشى الشاعر فالمنشد فالجمهور. ولنن أرضى مثل هذا الزعم بعض الشعراء، لا سيما اتباع الرومانطيقية منهم (7)، من حيث انه يسبغ على الشعر صفة سمو تعفيه من اية محاكمة لاحقة، فإن افلاطون يتخذ منه دليلا على جهل الشعراء بالحقيقة التي يزعمون معرفتها معرفة العقل. ومقصد القول ان لجوء افلاطون الى مقولة الإلهام الإلهي كتفسير للاتيان بشعر حسن لا يرمي الى نسب صفة الوساطة المناعية الى الشعراء – فليرى الشعراء مؤهلين لان يكونوا وسطاء ما بين الآلهة والبشر- وانما على النقيض من ذلك تماما. فالغاية هي اطراح صفة العقلانية عنهم بما يتيح الخلوص الى ان شعرهم لهو نتاج حالة من الوجدان مشلول القوى والملكات.
ولكن اذا ما صدق الزعم بأن الشاعر يستمد شعره ومعرفته المزعومة عن طريق الإلهام، كيف يتسنى للمنشد ان يستمدها من غير سبل نظيرة او مماثلة لسبل الحرفي المعهودة؟ فهل يكون إلهاما ايضا ما يقيض للمنشد ايصال ما يستلهما الشاعر؟
وماذا عن الجمهور نفسه؟
يقع افلاطون في مثال انتقال القوة الجاذبية المغناطيسية من جسم معدي الى آخر، يقع فيه على تفسير ملائم لهذا الامر. فكما ان الشاعر لهو اقرب الى مؤول لمعرفة إلهية عن طريق الإلهام، كذلك يكون المنشد البارع في تأويل الشعر، وكذا ينتقل الإلهام الى الجمهور. فالشاعر الملقم يلهم المنشد، والمنشد الملقم يلهم بدوره الجمهور. فما من تفسير لما يفشى الجمهور من احاسيس بسب اداء المنشد، او لما ينتاب هذا الاخير في غمرة ادائه ما يؤدي، إلا استبداد الإلهام الإلهي بنفوسهم جميعا من طريق ما يؤتى الشاعر نفسه.
فالأداء الجيد انما هو ذاك الذي يأخذ بألباب الجمهور اخذا يفضي بهم الى إقصاء قيمهم ومعاييرهم المألوفة. فهم في غمرة مشاهدة ما يعرفون معرفة اليقين بأنه محض تمثيل، لا يتوانون عن إظهار احاسيس لا تختلف عن تلك التي تعتريهم امام واقعة فعلية. والقدرة على انتاج اداء جيد، انما تتطلب انغماس المنشد البارع في الدور الذي يؤديه، مقصيا ظنونه ومعتقداته الإعتيادية. غني عن القول ان الاداء لا يكون جيدا ما لم تتوافر قصيدة جيدة تنير للمؤدي الانغماس في الحالة العاطفية المطلوبة. اما القصيدة الجيدة، فإن من ينظمها، على ما سبق القول، انما هو واقع تحت تأثير سلطان قوة خارجية لا يفقه كنهها، على الرغم مما تقيض له من بعث احاسيس في نفوس المنشدين وجمهور المتفرجين على السواء.
واول ما يثير قلق افلاطون ازاء حقيقة كهذه، ان إتيان الشعراء بأفكار وبلوغهم حقائق من دون ان يفقهوا ما يؤتون، انما يدل على انعدام سلطة ازاء هذه المعرفة. فمن حيث انهم لا يحصلون هذه المعرفة من سبل ونظم المعرفة العقلية، فإنهم لأشبه بالاطفال، لا يستطيعون ان يحكموا ويقرروا ما ينبغي ان يقبل وما ينبغي ان يستبعد، وفي كافة الاحوال على اي وجه ينبغي ان يحمل، ويأول ويوظف. فسلطة الشاعر في هذا المضمار لا تزيد على سلطة المنشد او المتفرج في معرفة وتأويل الحقيقة. ونحن اذا ما سلمنا، ولو جدلأ، بسلطة ما للشاعر فيما يعرف، لافضي ذلك الى فوضى معرفية لن تكون، في عرف جمهورية افلاطون على الاقل، محمودة العواقب (8).
اما الامر الشاي الذي يخلص اليه افلاطون في محاورة ايون فهو انه لا الشاعر ولا المنشد بحاجة الى المعرفة. فيصار الى الاتفاق الى ان لا الشاعر ولا المنشد بحائز على معارف وخبرات كل من يتخذهم شخوصا لقصائده التمثيلية من نجارين واطباء وصيادين ومحاربين وعرافين، والاهم من ذلك انه يصار الى الاقرار بأن الشاعر لا يحتاج الى معارف وخبرات كهذه م فنظم قصائد جيدة لا يحتاج الى معارف من هذا القبيل وإلا لامكن لكل نجار ماهر ان ينظم قصيدة جيدة فيما يتعلق بخبرته.وتكمن اهمية هذه الخلاصة الثانية في انها الاساس الذي سترسو عليه محاجة افلاطون الاشد قوة، وذلك في الكتاب العاشر من "الجمهورية". فإذا كان الفيلسوف قد اقر في محاورة "إيون" ان المعرفة التي يأتي بها الشاعر لهي مما يستقيه من سبيل إلهام إلهي، فإننا سنراه في الكتاب العاشر يجادل ان الشعراء من حيث انهم لا يحتاجون الى معارف فعلية، فإنهم كذلك لا يأتون بها اصلا.
وضاعة التمثيل
لكي نعي سر هذه الانعطافة (9) التي حدثت في رأي افلاطون في الشعر، يتوجب علينا الاقتراب من تقييمه لفن التمثيل.
ان الشعر التمثيلي ليستوى على فن التمثيل. وهذا، على ما يرى افلاطون، فن لا يزو0 الجمهور بمعرفة ذات قيمة، بل وهو ضار بعقوله ونفوسه.
ان ما يمثل عليه الشاعر او يصوره ليسر حقيقة الاشياء الموجودة، وانما ما تظهر عليه. فجل ما يقوم به هو تقديم صور لها. وحيث ان الموجودات نفسها، تبعا للميتافيزيقيا الافلاطونية، ليست سوى صور متغيرة للمثل الثابتة، فإن ما يأتي به الفنان ليقع في منزلة ثالثة من الحقيقة (المثال). وان معرفة تقع على هذا البعد من الحقيقة لهي معرفة تافهة القيمة. وانتاج معرفة من هذا الطراز امر جد يسير. فحيث ان الشاعر يعنى بصور الموجودات، بصور الصور، اذا ما جازت العبارة، فإنه لمن الممكن له تصوير كل ما يقع نظره عليه من دون الحاجة الى معرفة ايما شيء، الا ما يظهر عليه. وهذا وإن نم عن معرفة عديمة القيمة، فإنه غير ضار بحز ذاته، لكن نتائجه قد تكون كذلك. فهو كفيل بخداع المتفرجين الذين قد تأخذ، الموجودات والحوادث لهو على معرفة بحقيقتها: "يقال لنا بأنهم (اي الشعراء) سادة المهارات" يحتج سقراط في الكتاب العاشر، "وانهم يعرفون كل ما له صلة بالتميز والقصور الانسانين، وما يتعلق الدين. وعلى ما تذهب اليه المحاجة، فان من يكتب شعرا جيدا، ان يعرف كل ما له صلة بموضوع كتابته والا لما كان في وسعه الكتابة عنه.."
ومثل هذا الظن هو ما يجعل الشعر التمثيلي خطرا، او ضارا. وما انخداع الجمهور الا الضرر الاولي. لذلك ترى افلاطون ينبرى في سوق المحاجة تلو الاخرى لكي يبين جهل الشعراء بماهية ما يصورون. بيد ان ايا من هذه المحاجات لا يلامس سوى الظاهر من امر معرفة الشعراء. فدونك ما يقوله في المحاججة الاولى:
"افترض مثلا ان رجلا قادر على انتاج الشيء الاصلي فهل تراه سيؤثر انتاج نسخه عنه. تظن بحق انه سينذر نفسه في سبيل فبركة نسخ، وانه سيجعلها الهدف الاسمى في حياته.. بالطبع لا، فاذا ما قيض له معروفة الاشياء التي يصورها معرفة حقة، فانه لمن دون شك سينذر نفسه لانتاجها، وليس صورها. فهو ليشاء ان يخلف من بعده اثر العديد من المنتجات حسنة التصنيع، ولسوف يكون تواقا الى ان يكون هو نفسه موضع الثناء، عوضا عن ان يكون مادح اعمال الاخرين."
لكن اذا ما بين هذه المحاجة امرا، فانه يبين ان افلاطون لا يرى في الشعر الا مهنة يزاولها اصحابها لما تدر عليهم من مكاسب فقط، وهو تقويم يتوافق مع يراه من امر مهنة لا يحتاج ممتهنها الى ابعد من معرفة صور الاشياء. ومن ثم فلو ان الشاعر بقادر على ممارسة مهنة ذات قيمة ارفع، او ذات مكسب اعظم، لما كان توانى عن فعل ذلك.
بيد ان سياق المحاجة نفسها لا يستقيم. فمهنة الشعراء انما قوامها فن التمثيل، اي تصور مظاهر الاشياء، تبعا للفلسفة الافلاطونية، لا ماهياتها. ومن الطبيعي، ان ينبري الشاعر لتصوير شخصية الطبيب، على سبيل المثال، لا ان يضع كتابا في الطب. فحتى وان كان في وسعه وضع كتاب في الطب، فان ذلك يبقى معدوم الصلة بمقتضيات فنه. وكما بسطنا القول، فان افلاطون نفسه يجادل، في محاورة "إيون"، ان الشاعر لا يحتاج الى معرفة ما يعرفه الشخصيات التي يصور لكي ينتج عملا فنيا ناجحا. فلا يحتاج الشاعر الي ان يكون طبيبا لكي يصور شخصية الطبيب تصويرا فنيا ناجحا.
على ان اخفاق افلاطون في هذه المحاجة او غيرها مما يشاكلها، لا يعني أنه قد اخفق تماما في البرهان على ان الشعراء لا يعرفون ماهية ما يصورون. فهو كان في الكتابين الثاني والثالث من "الجمهورية"، على ما بينا، قد جادل بأنهم يصورون شخوصهم خلافا لما هي عليه طبائعهم ومزاياهم الحقيقية. وهو لئن اتخذ من هذه البينة، في حينه، سببا للتحذير من مغبة إساءة تصوير الآلهة واهل الصلاح، بما لذلك من اثر ضار على تربية النشء، فإنه ليتخذ منها مهنا قرينة على جهل الشعراء بما يصورون. فتصويرهم الآلهة واهل الصلاح بما هو مخالف لما تمليه طبائعهم وشمائلهم لا يصدر عن رغبة في الطعن بهم، وانما يصدر عن قصور في معرفتهم. وما اساءة التصوير إلا قرينة على سوء المعرفة.
ونحن قد نوافق افلاطون الرأي على ان الشعراء لا يحيطون بمعارف اهل المهارات واصحاب المهن، ولا هم يعرفون ماهية الخير والشر او معرفة اسباب السمو واسباب الانحطاط، بل انهم لا يستطيعون تزويدنا بمعرفة تزيد على ما نعرف بخصوص من يصورون، ولكن أليس في وسعنا ان نكتشف، من خلال ما يصوره الشعراء، حقائق حول انفسنا والعالم الذي نقيم فيه مما لم نكتشفه او نتنبه اليه من قبل؟ ان تساؤلا كهذا لن يجدي البتة في التأثير على موقف افلاطون. فعنده ان زعما كهذا ليس بأصلح شأنا من زعم الزاعمين ان الشعراء هم معلمو سائر المعارف. فنحن، كمتفرجين، لسنا بأفضل شأنا من الشعراء فيما يتصل ببلوغ معارف ذات قيمة. فضلا عن ان بلوغ معارف كهذه لا يصير من خلال الصور التي يقدمها لنا الشعر التمثيلي. فلكي نحصل على معرفة حقيقية، فلا مناص من ان نتلقاها بواسطة اولئك المتمرسين في طلبها وبلوغها. فلابد للعلم من معلم.
فمن عند افلاطون العارف بحقائق تستحق ان توصف بكونها معارف حقيقية؟
لا يبخل افلاطون علينا بإجابة قاطعة على سؤال كهذا. ففي الكتاب الخامس من "الجمهورية"، يزعم بأن من يعرف مثل الموجودات، انما هو محب الحكمة وطالبها من غير كلف او ملل. وإذا ما كان غرض الحكمة العدل، فإن موضوعها عالم المثل الثابتة والقيم المطلقة حيث يكون الجمال بذاته والعدل بذاته والصلاح بذاته.. الخ.
وهو في سياق المحاجة الواهنة لا يني يلح على هذا القول، وإن بإسلوب موارب. فهو بعدما يجادل بأن الشعراء لا يتمتعون بمعرفة حقيقة الموجودات التي يصورون، لا يني يضيف بأنه حتى اولئك الذين يصنعون الاشياء المتداولة لا يمتلكون من المعرفة ما تخولهم الحكم بما يجعل ما يصنعون جيدا او رديئا. فصانع الشيء على دراية بمثال الشيء الذي يصنعه، بيد ان معرفته تتوقف عند حدود ذلك الامر. وبحسب هذه المحاجة فإن الأقدر على الحكم على الشيء المصنوع هو مستخدمه. فعازف الناي لهو الأكفأ في تقدير الناي الذي يستخدمه من صانعه.
غير انه لمن المجانب للدقة ان نحمل قول افلاطون هذا على وجهه الحرفي. فليس افلاطون من انعدام الفطنة بحيث يطلق حكما تبرهن تجربة كل يوم على بطلانه. فليس من الشائع ان يعرف مستخدموا لاشياء حقيقة هذه الاشياء معرفة تامة. وقد يعرف عازف الناي اذا ما كانت الآلة التي يستخدمها جيدة ام رديئة بأفضل مما يمكن للصانع معرفة ذلك، لكن هذا لا يلزم انه صاحب معرفة كلية لما يجعلها جيدة او سيئة. الى ذلك فإن قبول هذا الزعم على وجهه الحرفي، قد يتيح الاقرار بأن من يصنع صورا للاشياه يمكن ان يتمتع بمعرفة تفوق معرفة صانعها، وهذا ما يتناقض تمام التناقض مع الزعم الافلاطوني البدئي أن من يصنع صورا لهو محض مقلد لصانع المجودات. فالشاعر بما هو مصور للاشياه قد يكون مستخدما لهذه الآلة او تلك، لكن هذا لا يلزم انه عارف لها معرفة صانعها أو أزيد، والا لبطل زعمه الاول.
ان ما يرمي اليه افلاطون من خلال محاجة كهذه هو تحقيق مأربين: اولا التوكيد على ان الشعراء لا يعرفون حقيقة او قيمة الاشياء التي يمثلون عليها طالما ان صانعها نفسه ليبدو عاجزا عن بلوغ ذلك. وثانيا، ان جمهور العامة اذا ما شاء معرفة الحقيقة، فإن لمن الاجدى له التماسها لدى من يمتلكها. ومن اجدر بذلك من محب الحكمة، الفيلسوف الملك؟
غير ان محاجة كهذه، جديرة بالتنويه، لا يمكن ان تستقيم ما لم يسلم المرء تسليما بدئيا بالميتافيزيقيا الافلاطونية التي تنص على وجود عالم مثل ثابتة وقيم مطلقة، لا سبيل ميسورا لاحد اليها ما عدا الفيلسوف المجد في طلب الحكمة. ان الارتياب بصواب هذا الضرب من الميتافيزيقيا كفيل بأن يوهن مسعى الفيلسوف اليوناني، بيد ان ذلك لا يكفي لإطراح نقده للشعر التمثيلي كشكل من الفن ضار ومفسد. فالى توهم الجمهور ان الشعراء خبراء بشأن ما يعرضون له من امور، بما يزين لهم اتخاذهم كمعلمين في شؤون الحياة، فان للشعر التمثيلي خطرا نفسيا أدهى.
فالشعر التمثيلي لا يزودنا بمعرفة "سطحية" فحسب، وانما ترده يقف عائقا ما بين المتفرج وسبل المعارف القويمة، بما يجعل المعرفة "السطحية" المعرفة الوحيدة المتوافرة. فمثل هذا الفن انما يؤدي الى الحؤول دون استخدام المرء لما. يتمتع به من ملكات عقل، فلا يتأمل ولا يعمل الرأي فيما يمر امامه بحيث يمسي محض متلق سلبي منقاد بانفعالاته وحدها دون سواها.
يزعم صاحب "الجمهورية" ان الشعر التمثيلي من حيث انه فن يعنى بانتاج صور الموجودات المحسوسة، فان غرضه التوجه الى ذلك الشطر من النفس الذي ينفعل بظاهر الاشياء وصورها. ولان معيار نجاح العمل الفني، هو مقدار استئثاره بنفوس المتفرجين استئثارا يحول دون تدخل ملكات الشطر المفكر للنفس، يلزم ان يكون التركيز على كل ما يثير الانفعال بحيث يبقى الشطر الادني سلطان الاستجابة لما يعرض لناظريه سلطانا لا منازع له. فاذا ما تدخل الشطر الاعلي، اي الشطر المفكر، وامكنه اعمال ملكاته بعيدا عن الانفعالات والاهواء يتقلص سلطان الشطر الادني، ويفقد العمل الفني استئثاره بأفئدة الجمهور.
ان البشر معرضون للانفعال حيال ما يشهدون ويخبرون ان على خشبة المسرح او في حياتهم العادية. لكن انفعالهم حيال ما يجرى على خشبة المسرح يكون اشد خطرا، لانه المخاطب هنا يكون الشطر الادني وحده بما يحض على التمادي في الانفعال وكأن الوجود قد تلخص في تلك اللحظة مصدر الانفعال. ان فقدان المرء لشخص عزيز لا شك يدفعه الى الاحساس بالأسى، غير ان المرء قادر حيال بلاء كهذا ان يعمل عقله بحيث يمكنه وضع مصدر الاسي في السياق الارحب للحياة بما يحول دون تماديه في اظهار الاسي. فحتى الانسان العاجز عن اعمال عقله حيال امر كهذا، فان هناك من التقاليد والاعراف المتداولة ما يمكنها من لعب دور مماثل للعقل بحيث تحول دون انغماس المرء في أسى مرير يودي بحياته.
غير ان ما يجري على خشبة المسرح لا يتيح فرصة للتأمل والتفكير، او الاستجابة لما تمليه التقاليد والاعراف. فكما سبق القول، فان فلاح الشعر التمثيلي، على الاقل في حدود الاعمال التي يتعرض لها افلاطون بالنقد، انما يتوقف على مدى استيلائها على أفئدة الجمهور. فلابد للبعض من ان يتماهى مع شخصية واحدة من شخوص الأداء الفني تماهيا يجعله ينفعل على نحو ما تنفعل عليه تلك الشخصية، ولابد للبعض الآخر من الانغماس في سياق ما يجرى انغماسهم في حادثة فعلية، فتراهم يحسون بالخوف او الغضب او الاسي او الحبور تبعا لما يقتضيه المشهد وكأن ما يحدث انما هو حادثة فعلية. ولكي يقيض للشعراء امرأ كهذا، فلا مناص لهم، على ما يخلص فيواري بايجاز رائع، بأن يناشدوا ذاك الذي يلح في ذواتنا على الصفة الخاصة للموقف الانساني عوضا عن مخاطبة قدرتنا على تصغير، او تعيين، تلك الصفة في السياق الاعم لمجريات الحوادث. فان للشعر التمثيلي ميلا متأصلا الى الاعلاء من شأن الخاص والتركيز على الشدة، وبذا فان التقليد الشعري، على ما يصفه فيواري، يركز على الشخصيات المثيرة وقد قدمت في قالب مثير. واذ يفلح الشعر التمثيلي في بلوغ مأربه، فانه لا يعود هناك موقع للنفس المفكرة على مقاومة انجراف المتفرج في الانفعال وفي اظهار الانفعال.(10).
ورب سائل، ما العيب، او الضار في التمادي في الانفعال ونحن نشاهد اداء فنيا؟ لم يتوجب علينا بالأ نندفع خلف احاسيسنا وانفعالاتنا ونطلق العنان للعاطفي والشهوي في نفوسنا طالما ان ذلك يدوم لمدة محدودة جدا، اي مدة اداء العمل الفني نفسه او اطول بقليل؟ ثم أليس ثمة نفع في الانفعال المفرط كسبيل لتنقية النفس مما يشربها بما يجعلها أنقى واشد قوة على مواجهة الشدائد الفعلية، على ما يجادل ارسطو من بعده؟
لا يظن افلاطون ان الاثر النفسي للشعر التمثيلي يقتصر على مدة مشاهدة الاداء الفني. وهو لو كان محدود الأثر كذلك، لما كان اعاره من الاهتمام بأكثر مما اعار فني الرسم والنحت. ولنن غاب عن افلاطون ما لفن التمثيل من نفع في اتاحة الفرصة للمشاهد لكي يفرغ ما تحتقن به نفسه، فهذا لان اهتمامه منصب بشكل رئيسي على ما لهذا الفن من اثر ضار يدوم على معتقدات وسلوك الجمهور في حياتهم العادية. فالناس اذا ما اثار انفعالهم حادث فعلي، مالوا بفعل تأثرهم بهذا الفن الى الاعراب عن انفعالهم على ذلك الوجه المفرط الذي يشاهدونه على خشبة المسرح، والذي لا يجدون غضاضة في الانخراط فيه.
ولكي نتبين اهمية هذه النقطة، لا بد من العودة مرة أخرى الى الكتابين الثاني والثالث من "الجمهورية". ففي هذين الكتابين يحذر افلاطون من سوء عاقبة تصوير الآلهة خلافا لطبائعهم، او تصوير اهل الصلاح مما ينبغي اتخاذهم قدوة في القول والعمل، في مواقف تظهرهم على عيب وضعف، فضلا على تحذيره من إتباع الشعراء اسلوب سرد يستوي وفقه سبيل الانسان الفاضل والانسان غير الفاضل على السواء. واذا ما كان تحذيره قد اقتصر على ما لعاقبة تصوير كهذا من ضرر على النشء ممن يعدون لان يكونوا حراسا وحكاما، فعلى ضوء ما للشعر من تأثير على الشطر الادني من النفس، تبعا لتشخيص افلاطون، فإن الضرر ليشمل كافة الناس. ففن التمثيل (او التقليد) يصور سبلا لإظهار انفعالات ونماذج للسلوك الانساني مما لم يعهده المتفرج في حياته اليومية بما يجعلها تبدو السبل والنماذج التي ينبغي اتباعها، خاصة اذا ما ارتبطت بمواقف مما لم يخبرها المتفرج، او انه خبرها من دون ان تسعفه تربيته او خبرته في معرفة الاحساس او السلوك الاوفق الذي ينبغي ان يتبعه تجاهها. اي انه يقوم مقام المثال لما ينبغي إتباعه من سلوك.
ومن نافلة القول ان لا التقاليد ولا الاعراف، ولا قدرة العقل على القياس والحسبان بكافية لتزويد المرء بمرشد سلوكي شامل يبين له سبل التصرف ازاء سائر انماط المواقف التي يجد نفسه فيها او حيالها. بينما نجد ان الشعر التمثيلي يعرض، عرض المطلع الخبير، لمواقف من الكثرة والاختلاف بما يحمل المرء على الظن ان صاحب هذا الفن عارف بخفايا الوجود مطلع على بواطن النفوس بما يبرر له صوغ انفعالات جمهوره وسلوكه على صورة ما يصور في فنه. وهذا مصدر خشية افلاطون الاعظم، فالشعراء لا يصورون الواقع وانما يعملون على تعيينه وصياغته على الوجه الذي يتوافق ومقتضيات فنهم. بكلمات قليلة، ان الشعراء يعملون على اختزال مضمون العالم بما يتوافق والنهج الجمالي الذي يتبعون.
ان فن التمثيل الشعري اذ يخاطب النفس المنفعلة، او الشطر الادني من النفس، ويعلى من شأنها على حساب النفس المفكرة، او الشطر الاسمي من النفس، يسهم في خلق مواطنين لا هم لهم سوى اتباع مشاعرهم واهو ائهم. وهذا هو ديدن مواطني الحكم الديمقراطي، بحسب تشخيص وترتيب افلاطون لانواع الحكومات الفاسدة، الذين لا يحول دون انصياعهم الى ما تمليه شهواتهم ورغائبهم حائل بما يشيع الاباحية والفوضى، وبعا يفضي في النهاية الى افسد انواع الحكم، تبعا للترتيب الافلاطوني.
الشعر مفسد الصفوة
سؤالان لا مناص لمحاجة كهذه من ان تثيرهما: الاول، أمن الضرورة المنطقية ان يخاطب فن الشعر التمثيلي الشطر الادني من النفس؟ امن الضروري ان يصور شخصيات ومواقف مثيرة؟
ثانيا، اذا ما سلمنا جدلا ان الشعر مفسد للنش ء والعامة من الناس، ايكون مفسدا للصفوة المفكرة من الناس ايضا؟ وكيف يمكن لصفوة كهذه ان يفسدها الشعر وهي التي تتميز بغلبة النفس المفكرة حيال ما ترى وتحس؟
يستدرك افلاطون في الكتاب العاشر من "الجمهورية" انه لفي وسع الشاعر ان يصور ما تميل اليه النفس المحبة للحكمة، غير ان تصوير امر كهذا لهو في غاية الصعوبة. وهو اذا ما افلح في تصويره فمن الراجح بألا يفهم حق الفهم، بل انه لمن الوارد ان يساء فهمه. وانه لخطأ فادح ان يعمد الشاعر الى تصوير ما قد يعسر على فهم الجمهور، او ما قد ينغلق عليه معناه، بما يودي بشعبيته. وفقدان الشاعر لشعبيته لا يفضي الى خسارة مكاسبه المادية او حظوته بين الناس فحسب، وانما فقدان فن الشعر التمثيلي لقيمته. فحيث ان الفن لا قيمة جدية له من حيث انه لا يزود متلقيه بمعرفة او حكمة، فإن إقبال الجمهور عليه لهو القيمة الوحيدة التي يمتلكها. فإذا ما كف هذا الفن عن ارضاء الجمهور فقد قيمته.
ردا على السؤال الاول، فإن مخاطبة الفن للشطر الادني من النفس ليس بضرورة منطقية، ولكنه تبعا لهذا الاستدراك، فهو ضرورة عملية. فتتوقف قيمة هذا الفن على توافر الجمهور، فإذا ما انعدم وجود الجمهور أمسى هذا الفن محض نشاط بائد.
لا يفوتنا أن هذا الاستدراك وإن ضيق دائرة الشعراء الذين يوصى افلاطون بإستبعادهم عن الجمهورية، فإنه لا يرسي اساسا لمحاجة في سبيل شعر "نخبوي"، شعر يخاطب محبي الحكمة وحدهم دون غيرهم. فلا يغربن عن البال ان انتاج شعر كهذا لهو امر صعب للغاية (لنتذكر بأن المقصود بهجومه هم شعراء من منزلة هوميروس. فإذا لم يكن هوميروس بقادر على الاتيان بشعر يخاطب النفس المفكرة، فمن العسير ان نتصور ان شاعرا آخر قد ينجو من حكم افلاطون.) ومصدر الصعوبة ينبع ان الشاعر اذا ما اراد انتاج شعر كهذا فلابد وان يتمتع بمعرفة كمعرفة محب الحكمة نفسه، اي الفيلسوف. ولكن المحب للحكمة هو ذاك الذي ينذر نفسه في سبيل اقامة العدل، لا امتاع قلة ممن يفهمون المعرفة الحقيقية، والاهم من ذلك انه لن يبدد معرفته في انشاء كإنشاء الفن التمثيلي.
لنأت الآن الى السؤال الشاي: ماذا عن امر تلك الصفوة راسخة النفوس المفكرة رسوخا يحول دون ايقاع الشعر بها؟ ماذا لو انها اقبلت على مشاهدة هذا الفن لغرض تحليل ما تشاهد واستقاء معرفة مفيدة منه، او حتى لفرض متعة جمالية راقية، او لاي نمرض آخر يكون أسمى من غرض عامة الناس؟
ليس افلاطون بغافل عن سؤال اعتراضي كهذا. بل اننا لنجده مودعا اشد حججه قوة في سبيل الرد عليه، او على ما قد يجري على منواله. وخذ ما يقول سقراط في معرض ذلك: "حينما نسمع هوميروس او ايا من الشعراء التراجيديين الذين يصورون معاناة بطل ما، فيجعلونه نائحا نواحا شديدا، بل ولربما جعلوا نواحه مصحوبا بسائر اشارات واصوات الحزن الفاجع، فإنك تعلم كيف ان اصلحنا ليستمتع بذلك ويطلق سبيل نفسه تنجرف بمشاعرها، بل اننا لنكون مفعمين تقديرا لفضائل الشاعر الذي يفلح في التأثير علينا تأثيرا عظيما على هذا الوجه."
فحتى اهل الصلاح لن يسلموا من تأثير الشعر عليهم، وان على وجه يختلف عن تأثيره على العامة. فبخلاف ما يكون الامر عليه بالنسبة للقامة من الناس فإن الشعر التمثيلي ليس هو ما يؤدي الى تعطيل دور النفس المفكرة عند اهل الصلاح، انما هم اهل الصلاح الذين يتسامحون ازاء ما يحرك الشطر الادني من نفوسهم. وهم يقدمون على فعل ذلك لانهم يقدرون بأن ما يشاهدون لهو مجرد حوادث متخيلة، قصصية، لا ضير في الاستمتاع بمشاهد تها. فهم ان ازدروا في حياتهم اليومية رؤية رجل مسرف في اظهار مشاعره، مخالفا بذلك ما تمليه النفس المفكرة او التقاليد السارية، فإنهم لا يمانعون من الاستمتاع برؤية رجل من هذا القبيل على خشبة المسرح طالما ان هذا الرجل محض شخصية متخيلة. وعلى هذا فإن الشعر لا يني يوقع بهم، وان بمشيئتهم، ايقاعه بعامة الناس. في "الشطر النفسي الذي يضبط عنوة في سوء اقدار اهل الصلاح، من حيث انه ميال الى البكاء والنواح، لهو ما يحظى في النهاية بالرضا من قبل ما يقدمه الشعراء."
فمهما تحلت هذه الصفوة بوعي نافذ حيال ما ترى على خشبة المسرح، فإنها لابد وان تنساق الى حيث يحملها الشعراء. فهي لا يمكنها متابعة اداء فني، والاصرار في الآن ذاته على ان ما يجرى امامها حوادث متخيلة وليست فعلية، بحيث تضبط نفسها. بل على النقيض من ذلك تماما، لهذا فإنه لا بد لها من اطلاق عنان النفس المنفعلة طلبا لمتعة يحسبونها بريئة طالما انها تصدر عن مشاهدة ما هو محض متخيل. وفي اطلاق عنان النفس المنفعلة تعليق لدور النفس المفكرة التي من المتوجب ان تضبط الاولي وتحول دون تماديها بما لا يتوافق مع معايير العقل والتقاليد. قلة قليلة فحسب، على ما يجادل افلاطون، هي التي ستفطن بإن ما تبيحه لنفسها خلال مشاهدة اداء فني لابد وان تبيحه لنفسها في وقت لاحق. فهي ان امعنت في اطلاق عنان نفوسها حيال اداء فني فإنه مع مرور الزمن ستطلق عنان هذه النفس حيال ما يجري في الواقع. والنتيجة، علي ما يرى افلاطون، هي نفسها، بالنسبة لاهل الصلاح تماما كما بالنسبة للاطفال وللعامة من الناس طالما انهم يسمحون للشطر الادني من نفوسهم أن تعرب عما تشاء الاعراب عنه، بما سيكون من العسير عليهم الحيلولة دون ذلك ازاء حوادث فعلية في حياتهم. اذ لن يكون من المستبعد ان ينتحلوا رد فعل ازاء ما يعانونه في حياتهم مماثل لرد فعلهم حيال ما يشاهدونه على خشبة المسرح بتأييد ورضا.
ورب سائل، ما الفارق اذن بين الصفوة، وهم الارجح عقلا والاوسع معرفة، وبين عامة الناس اذا ما كان للشعر التمثيلي الاثر نفسه على كلا الفريقين؟ فإذا ما كان ثمة فارق فعلي ما بين هؤلاء وأولئك، فلابد وأن يظهر من خلال تأثير الشعر على كليهما.
لا شك وان وعي الصفوة من الناس وعيا ثابتا بأن ما يشاهدون من اداء فني لهو مجرد صور للموجودات وليس حقيقتها، لهو الفارق الاساسي ما بينهم وبين سواد الناس – فهؤلاء قد يميلون الى الظن بأن ما يشاهدون لهو مطابق لما يجري في الواقع او لما قد يجري في الواقع. فهم لا يعرن بأن فن الشعر يقع على ثلاثة ابعاد من الحقيقة، تبعا للنظر الافلاطوني. بيد ان هذا الفارق لا يحصن الصفوة ضد الوقوع ضحية لاثر هذا الفن، وان ليس بسرعة وشدة وقوع سواد الناس. فالفارق ما بين اثر الفن على الصفوة وعلى من هم دون ذلك انما يكون في كيفية حدوثه. فأهل الصفوة لهم عرضة للفساد اسوة بالعامة نفسها اذا ما اخلوا سبيل الشطر الادني من نفوسهم في المواقف التي تستدعي حبسه او ضبطه. فالمر، قد يكون على ايمان لا يتزعزع بأن السطو على ممتلكات الآخرين لهو فعل شائن مناقض لشرائع السماء والارض، بيد انه اذا ما استجاب لدعوى غريزته الطبيعية في مواجهة كل شدة، فيعمد الى الاستيلاء على ما ليس ملكه بذريعة وجود الشدة، فإنه لمن الراجح ان يفقد، فقدانا تدريجيا، ايمانه مهما بلغ ذلك الايمان من الرسوخ في نفسه. ولا يكون فقدانه لايمانه هذا الا مساويا لفساده فيجعل الى السطو أوجدت الذريعة ام لم توجد.
وعلى هذه الوتيرة يستجيب الصالح لاهواء الشطر الادني من نفسه، متذرعا بإنه يستجيب لميل هذا الشطر حيال ما هو محض تخييل، وذلك لقاء الحصول على متعة ما. وهو كلما امعن في ذلك فانه يمكن لاستبداد هذا الشطر به بحيث يصير محرك احاسيسه وسلوكه في اي وقت.
غير ان وعي الصفوة الراسخ بأن ما يشاهدون على خشبة المسرح محض صور للموجودات لينجلي ايضا عن فارق اساسي ما بين غرض هؤلاء في الاقبال على مشاهدة أداء فني وغرض العامة من الناس. فبينما يكون اقبال العامة على الفن الذي يصنعه الشعراء اشبه بادمان على عادة ما تنقلهم من وجودهم اليومي، فقيرا وضحلا على ما هو عليه، الى وجود متخيل يعثرون فيه على ما يلبي رغباتهم واهواءهم، يكون إقبال اهل الصفوة التماسا لمتعة جمالية قوامها السماح للنفس بأن تقف موقفا لا يسمح لها بوقوفه في الواقع، اي تعريضها الى ما يعتبر في الحياة اليومية بمثابة شيء محرم، من دون ان تضطر الى اعتباره كذلك. ومن هنا، على ما يرى افلاطون، مصدر ثناء اهل الصلاح على الشاعر الذي يكون لعمله هذا التأثير عليهم. فالوقوف موقفا جماليا ازاء ما يجري يعني الاستعاضة عن الحكم على ما يقال ويجرى في سياق عمل فني الى الحكم على كيفية تأدية هذا العمل. فنحن، على سبيل المثال، بدلا من ان نؤيد او ندين ما يصدر عن هذه الشخصية القصصية او تلك قياسا على موافقته او منافاته لما تقربه مقاييس العقل او التقاليد والاعراف، ترانا نثني او نستنكر على الفنان القدرة، او انعدام القدرة على اداء دوره. فأن نتخذ موقفا جماليا، ان نقوم قدرة الشاعر على ابتكار شخصية قصصية، او براعته في سرد الحوادث او اللغة التي يعبر فيها عن هذا الموقف او ذاك، او التي ينطقها شخوصه، ومن ثم نضرب صفحا عن المضامين الاخلاقية والسياسية التي قد تتنافى والشرائع والاعراف التي يأخذ بها المتفرج، لهو من الخطر ما يساوي، ان لم نقل يزيد، على خطر تماهي المتفرج بشخوص الاداء الفني، بحيث يحس ما تحسه ويتبنى قولها وفعلها خلال مشاهدته العمل الفني. فكما ان حالة التماهي تفضي الى اتخاذ المتفرج الاحاسيس والافعال التي يتماهى بها خلال العمل الفني نموذجا لما ينبغي ان يحس ويفعل في الواقع، فان نهج التقويم الجمالي الذي قد يتبناه المتفرج ازاء ما يشاهد على خشبة المسرح قد يفضي به الى اتخاذ موقف مشابه في حياته اليومية ازاء حوادث فعلية. فهو عوضا عن الاهتمام بما يحدث، والحكم عليه تبعا لتوافقه او منافاته لمقاييس العقل وللشرائع والاعراف، فانك ترده ينظر الى "كيفية" حدوث ما يحدث، اي الى تجريد ما يحدث من مضمونه الاخلاقي او السياسي. وان تبني المرء لنهج كهذا كفيل بأن يؤدي به الى الوقوف موقفا عدميا من كافة القيم والشرائع والاعراف، غير بعيد عن ذلك الموقف الذي دعا اليه الفيلسوف الألماني نيتشه. فرؤية تختزل الحوادث الى اشكالها، ومن ثم لا تعني الا بأجزاء هذه الاشكال معتبرة ان دلالاتها السياسية والاخلاقية هي محض دلالات ينسبها اليها ذاك الذي يتمتع بسلطة نسب مثل هذه الدلالات تلزم بأن من الممكن للمرء ان يعيش دون قيم وشرائع مشتركة بما يتنافى وشروط قيام اجتماع سياسي عادل.
خلاصة الامر، اولا، ان متلقي الشعر التمثيلي أعان من ابناء العامة ام من افراد الصفوة، لهو تبعا لافلاطون، عرضة لخطر هذا الفن. فمهما بلغ المتلقي من العصمة، فليس يسعه الا ان يسلس قيادة للشطر الادني من نفسه، ضاربا صفحا عما يقتضيه الشطر الاعلى، هذا والا فإنه لن يستطيع تلقي
العمل المعروض امامه. وثانيا، ان وقوف المرء موقف متفرج لا يعنى بغير ما هو جمالي في العمل الفني لا يقل خطرا عن حالة المتفرج الذي يتماهى مع مجريات الحوادث الفنية. اذ ان ذلك كفيل بأن يجعل المرء يقف موقف المتفرج ازاء حوادث فعلية تتطلب حكما اخلاقيا او نشاطا سياسيا. لقد اشرنا الى ان السؤال الجمالي غير مستقل عند افلاطون عما تمليه مبادىء الاخلاق والسياسة العادلتين. للجمالي اثر على النفس لا ينكر على ما رأينا، وحيث ان النفس، بحسب الفيلسوف اليوناني، لهي صورة مصغرة للمدينة، فإن ما يصيب النفس من فساد لا بد وان يصيب المدينة بأسرها. فكما ان النفى تنقسم الى ثلاثة اقسام، كذلك ينقسم اعضاء المدينة. فهناك في النفس القسم الادني الذي لا يطلب شيئا سوى طلب الكعب واشباع الرغبات، كذلك فإن من اعضاء المدينة من لا هم لهم سوى كب المال وإشباع رغباتهم وشهواتهم. وفي النفس شطر محب للشرف، وفي المدينة حراس وفرسان لا قيمة عندهم تطو على قيمة الشرف. وهناك القسم الأسمى من النفس، وهو المحب للحكمة والعارف مثل الموجودات، وفي المدينة يتمثل هذا القسم بالفلاسفة الذين ينبغي ان يناط بهم امر القيادة. فكما ان النفس لا تستقيم على اساس العدل والعقل إلا اذا ما اسلست قيادها للشطر المحب للحكمة، فإن المدينة لن تعرف نظام العدل الا اذا ما اناطت القيادة السياسية والاخلاقية بمن يتمتع بحب الحكمة والمعرفة التي تقيض له تنظيم وادارة المدينة تنظيما وادارة يتوافقان وامس العدل. وكما ان النفس تفسد اذا ما وقعت اسيرة الشطر الادني منها، فإن المدينة صائرة الى فساد اذا ما انيط امر قيادتها بمن هو دون المحب للحكمة منزلة، اي الفيلسوف الملك، غني عن القول. وهو فساد قد يفضي في نهاية المطاف الى اشد مراحله سوءا، اي سيادة حكم الطغيان واستعباد الجميع.(11).
الانضواء في التقليد الفلسفي
كنا مهدنا لهذه الصفحات بالتساؤل عن مبرر العودة الى افلاطون. وسارعنا عندئذ الى القول بأن السؤال حول قيمة الشعر، بما هو شعر تمثيلي او ما يعادله من فنون دراسية، لاسيما تلك ذات الإقبال الجماهيري، لم يستنفد نفسه بعد. ولكن اذا كان هذا هو المبرر الفعلي، فلماذا لم ننطلق، اذن، من السؤال حول قيمة الشعر نفسه؟
المحقق ان هذا ليس سوى ذريعة احتجنا اليها لكي ننضوي في التقليد الفلسفي الذي لا بد من الانضواء فيه وإتباعه لكي يتسنى لنا العودة الى افلاطون. والتقليد يوجب العودة الى السابق فالأسبق، بإعتباره السلطة المرجعية، اذا ما شئنا النظر في قضية ما تدخل في مدار الفلسفة.
غير ان العودة لا تكون بغرض الاسترشاد او الاستقراء بالمرجع في سبيل تعزيز اطروحة جديدة او دحضها فقط، كما هو الامر عليه في التقليد الديني، وانما قد تكون ايضا لرغبة في تحدي الاطروحة المرجعية نفسها- كموقف افلاطون مثلا.
بيد انه رجوع لا يؤدي، في الاحوال كافة، الى هدم هذا التقليد او ابطال سلطة ما يندرج فيه إبطا لأ تاما (كما يحدث في مدار العلوم مثلا) وانما هو، في النهاية، يعززها. فما يجعل التقليد الفلسفي تقليدا، انما يندرج في سياقه، سواء تعلق الامر بمسائله الكبرى ام الصغرى، قد يتعرض الى الكسوف او التهميش او الاستبعاد، بيد انه ليمر هناك من في وسعه دخول اسرار هذا التقليد واستبعاد ما ينضوي فيه استبعادا تاما. فليست في الفلسفة سلطة يخول لها الاقدام على فعل كهذا. وإنما ما أتى به المرء، مصادقا ام داحضا، فإنه لينضوي في تعزيز قوام هذا التقليد لا إضعافه. ونحن لنن عدنا الى افلاطون فإنما ننضوي في هذا التقليد الذي هو نفسه، بحسب وايتهيد، ليس سوى هوامش وحواش على نصوص الفيلسوف اليوناني الرائد. واننا نعرض لموقف افلاطون من الشعر، فنلخص مزاعمه ونبسط حججه ونسوقها الواحدة تلو الاخرى على وجه يشي بالترابط والتماسك ما بينها. ولا نكتفي بذلك، انما نستعين بشرح الشراع وتعليق المعلقين، ولا نفتا نصادق على هذا الشرح او نرفض ذاك التعليق، مستعينين على الارجح بما جاء به من سبقنا من عرض لهذه الشروح والتعليقات. ثم اننا لا نلبث ان نعرج على ما يقوله هؤلاء الاخيرون ساعين الى الكشف عن بواطن القوة او مظاهر الضعف فيما يفيدوننا به. ونحن اذ نفعل ذلك فإننا نؤدي طقوس الانضواء في مدار التقليد الفلسفي.
والانضواء في هذا التقليد يوفر لنا جملة من الاسئلة وبذرائع متعددة ومتضاربة. بيد انها اسئلة لا تفضي الى اجابات نهائية مطلقة، وانما هي من قبيل تلك الاجابات التي تفسح المجال لتعقيب او تعليق او رد. نسأل لم العودة الى افلاطون؟ فنتذرع بالحاجة الى معرفة قيمة الشعر التي لم يبت بأمرها نهائيا بعد. بيد ان الاجابة التي نأتي بها ما هي الا هامش ينطوي على دعوة الى إلحاقه بهامش آخر.
يبقى السؤال: لماذا لا نتبع هذا التقليد من دون ذريعة؟ لماذا لا نقول بأننا سنبسط موقف افلاطون من الشعر جريا على تقليد فلسفي ما انفك يبسط اراء فلاسفة اسلاف، يناقشها فيحاج ضدها او يصادق عليها؟
الاجابة، ببساطة، لاننا نعرف سلفا ان الاقدام على فعل كهذا انما ينطوي على إتباع تقليد فلسفي يفترض تأدية مناسك ومزاولة طقوس. وان واحدا من شروط اتباع التقليد الفلسفي هو ان تجهل، او في اقل تقدير ان تتناسى، انك بصدد الانضواء في هذا التقليد. فان لم تجهل هذا الامر، فليس ثمة، بعد، ما يبرر زعمك بأنك عازم على البحث عن "الحقيقة"، وفي اقل تقدير بسط رأي وسوق محاجة ترمي الى تعزيز هذا الرأي او دحضه، وهو الزعم الذي يستوي الانضواء المقصود وفقه.
فإذا ما أقبل المرء على الانضواء في هذا التقليد وهو على دراية بأمر هذا الانضواء، فانه لا يعود محض منضو في اطار التقليد، وانما يصير منضويا في لعبة الانضواء في التقليد. بذا فان ثمرة هذا الامر لا تنجلي او تقتصر على بسط رأي وسوق محاجة، وانما تقديم سرد لمثل هذه المحاولة. فينتهي المرء الى سرد قصة وليس محاجة ترمي الى البرهنة على امر ما. فحتى وان استوى السرد على محاجة كهذه، فان الفرض في النهاية هو ابانة كيفية نجاح او اخفاق المحاجة المعنية في بلوغ مرماها.
حكاية إخفاق ونجاح
احسب ان ما اوردناه في سياق الصفحات السابقة انما يندرج في اطار هذا الضرب من الكتابة، اي سرد حكاية موقف افلاطون من الشعراء. هو سرد حكاية، اذن، وليس محض بسط آراء وعرض محاجاة، لاننا ندرك سلفا بأن في العودة الى النص الافلاطوني انما ننضوي في تقليد فلسفي عريق.
فأية حكاية هذه الذي نسوقها هنا؟
ان ما سردناه حتى الآن لينجلي عن حكاية نجاح واخفاق ذات اكثر من وجه واحد.
لقد افلح افلاطون، بحسب القصة التي اوردناها، في ان يبين لنا المضار التي ينطوي عليها الشعر، والاهم من ذلك، مضار التسليم بأن الشعراء مؤملون لان يلعبوا دور معلمي المواطنين في المدينة العادلة. فهو من دون ريب أبان لنا، على لسانه الناطق سقراط (12)، ان الشعراء لا يتمتعون بمعرفة كمعرفة اصحاب المهن والحرف، العملية منها او النظرية، ومن ثم فانه لا يمكن الزعم بأن الشعر مهارة او حرفة من قبيل مهنة الطبيب وحرفة النجار. كما وأبان لنا ان بعض الشعر مفسد اذا ما لقن للناشئة. بل وانه لم يخفق في اقناعنا بأن الشعر قد يكون مفسدا لعامة الناس وصفوتها على السواء. وفي النهاية فهو تمكن من اظهار قصور الزعم القائل بأن الشعراء مؤملون للعب دور المعلمين المرشدين لسبيل الحياة القويمة.
بيد انه من وجه آخر لم يوفق كثيرا في اقناعنا بأن ما يأتي به الشعراء من معرفة لهو، تبعا لفرضيته الميتافيزيقية، مما يقع على ثلاثة ابعاد من "الحقيقة"، اي من عالم المثل الثابتة الخالدة. اما تحذيره من خطر فن التمثيل، باعتباره مناقضا لـ "مبدأ الاختصاص"، فلا يبدو في غاية الاقناع. وما محاجاته حول شروط الاستمتاع بما يؤدى، فضلا عن انتاج شعر ممتع، فانها ليست بمحاجاة جامعة مانعة بحيث تجيز دعوته الى إقصاء الشعراء من المدينة. اما بالنسبة لزعمه بأن الفلاسفة وحدهم المؤملون لمعرفة الحقيقة، ومن ثم لعب دور المرشدين والحكام في المدينة العادلة، فان هذا ليعتمد بالدرجة الاساس على مدى صلاح نظرية "المثل والمشاركة" التي يرسي عليها زعمه. وهذه النظرية على ما بسطنا، وبسط غيرنا، القول لا يمكن التعويل عليها في قبول اي زعم جدي. اما المحاجة المتعلقة بفساد النفس وفساد المدينة فإن حظها من النجاح مكافىء لحظها من الاخفاق.
وعندنا إن مصدر الاخفاق انما يعود الى ما تطرقنا اليه من امر تلك الانعطافة (13) في سياق شكل الجدل الافلا طوي، ما ترتب عليها من انعطافات لاحقة. ونحن اذا ما قارنا بين المحاجاة والمز اعم التي تنطوي الانعطافة المذكورة عليها، ادركنا ان الفارق الاساسي بينها لا ينبع مما تنص عليه او تفيد به، وانما من الفارق بين شكلها او طبيعتها. فجل المحاجاة التي تنجح في مراميها انما هي تلك التي لا تنطلق من فرضية او مسلمة حول حقيقة ما هي عليه الامور، او ما تنبغي ان تكون عليه. ولا هي ترمي بالتالي الى بلوغ امر كهذا. اما المحاجاة التي تنطلق من فرضيات مسبقة، فإننا نجد بأنها غالبا ما تعجز عن الإقناع.
وأبلغ قرينة على ذلك هو الفارق بين المحاجتين اللتين اظهرتا لنا الانعطافة المذكورة في شكل الجدل الذي اتبعه افلاطون، اي محاجته حول معرفة الشعراء في محاورة "إيون"، اولا، ومحاجته في الكتاب العاشر من "الجمهورية"، ثانيا. وعلى ما بينا في حينه، فإن سقراط، لا يزعم في الحجة الاولي، بأنه يعرف طبيعة معرفة الشعراء. كل ما في الامر انه يشك في صحة زعمهم، او زعم من يؤدي قصائدهم، بأنهم يتمتعون بمعرفة من قبيل معارف اهل الحرف والنظر. وهو ينطلق في محاورته لايون من هذا الشك بما يقيض له في النهاية إبطال زعمه.
صحيح أن سقراط ينتهي الى نسب معرفة الشعراء الى إلهام إلهي، بيد ان مثل هذا النسب لهو ابعد ما يكون عن تقرير حقيقة او طبيعة هذه المعرفة، وانما هو اشبه ما يكون بعزو الامر الى مجهول لا يدرك مكنونه ولا يعقل كنهه.
اما في المحاجة الثانية، فإننا لنجد ان سقراط لا ينطلق من شك او انعدام معرفة، وانما من مسلمة مستقاة من نظرية ميتافيزيقية بعينها (اي نظرية المثل والمشاركة). فهو لنن يجادل بأن الشعراء لا يعرفون الحقيقة، فهذا لانه يفترض سلفا بأن الحقيقة ليست في مظاهر الموجيدات والحوادث التي يصورها الشعراء، وليست هي اصلا في الموجودات والحوادث نفسها، وانما في المثل المجردة الثابتة. وهذا، بحسب الفرضية الافلاطونية، ما يبين البون الشاسع بين ما ينتجه الشعراء وبين الحقيقة. فسبيل الحقيقة غير ممهد امام الشعراء، ومن ثم، فإنهم غير مؤهلين للعب الدور الذي ينيطه البعض بهم.
ولا يقف افلاطون عند هذا الحد- وبلوغه هذا الحد لهو مما يؤشر الى صعوبة لا يمكن تجاوزها او اغفالها بمكان: مثلا، أين هو عالم المثل الذي يفترضه افلاطون؟ وأية علاقة تربطه بالموجودات؟ وكيف نعلل علاقة المثل بالموجودات في ظل حقيقة التكاثر والانتشار والانقسام والفناء الذي يلازم الموجودات؟
لا يقف افلاطون عند هذا الحد، اذن. وهو لو شاء الوقوف هنا، لما احتاج تجاوز حدود المحاجة الاولي اصلا. وإن ما يرد في محاورة "إيون" ليكفي ردأ مفحما لزعم الزاعمين بأن الشعراء لهم معلمو اثينا. والمشكلة ان افلاطون لم يكتف هنا بالنهر السقراطي في الجدل، وبذا فإنه لم يكتف بإظهار خواء هذا الزعم. ففي بلوغه هذا الطور من المحاجة ضد الشعراء، كان افلاطون قد سلم بحاجة مواطني اثينا الى معلم يهديهم الى السبيل القويم، ومن ثم فإنه اراد ان يبين بأن الفلاسفة وليس الشعراء هم من في وسعهم لعب دور المعلم هذا.
لن نتوقف هنا عند الدواعي التي دعت افلاطون، بحسب السرد الذي نسوقه في هذه الحكاية، الى التسليم بأن مواطني المدينة بحاجة الى معلم هو الفيلسوف -الملك، وعلى امل ان يتضح مثل هذا الامر في النهاية.
إن سبيل الحقيقة غير ممهد، بحسب افلاطون، لما دون محبي الحكمة، الفلاسفة. لهذا فإن هؤلاء دون غيرهم هم المؤملون للعب دور معلمي وقضاة وحكام المدينة الصالحة. بيد ان افلاطون يخفق في تقديم محاجة جامعة مانعة في هذا الخصوص. وهو، اولا، يخفق للصعوبة الذي تكمن في الفرضية الميتافيزيقية التي ترسو المحاجة عليها، اي الزعم بأن هناك عالم مثل مجردة وثابتة. وثانيا، لان افلاطون في سياق الكتاب العاشر لا يزعم بأن من الاستحالة على الشعراء بلوغ الحقيقة، وانما هو امر عسير فقط. بل وعلى ما يفيدنا فإن عزوفهم عن استلهام الحقيقة انما مرده الى صعوبة إيصال ذلك الى الجمهور من دون التضحية بسمة الإمتاع التي تتمن بها اعمالهم، ومن ثم، من دون التضحية بإهتمام السواد الاعظم من الجمهور. وبذا فإن محاجة افلاطون تنقلب في هذا السياق الى محاجة ضد الشعراء الذين لا هم لهم سوى الظفر بالشعبية والفوائد التي تعود بها عليهم. وإن في هذه المحاجة الا ينكر بأن الشعراء ليسوا عاجزين عن انتاج شعر مفيد، اذا ما شاؤوا ذلك، بما يبطل حكمه الداعي الى إقصاء كافة الشعراء عن المدينة. فلم لا يشجع افلاطون الشعراء على السعي الى استلهام الحقيقة في اعمالهم عوضا عن الدعوة الى إبعادهم؟
ثالثا، واخيرا، فإن افلاطون بعدما يزعم بأنه قد برهن على حجم الافساد الذي يلحقه الشعر بالجمهور، عامته وصفوته على السواء، وبعدما يزعم بأن لا مناص من إيصاد ابواب المدينة دون الشعراء، فإنك تجده يترك باب الجدل مفتوحا امام من يشاء إقناعه بخطل رأيه. وهذا مما يبدو بمثابة تنازل لا يتوافق كثيرا مع غرض صاحب "الجمهورية"، اذا ما افترضنا بأن غرضه هو اقامة مجتمع عادل يحكمه فيلسوف -ملك. فأن يترك باب الجدل مفتوحا، انما يدل على ان تصميم المدينة المنشودة لم يكتمل بعد، او ان ابواب المدينة نفسها ستكون مشرعة امام المجادلين، وهو ما يخالف التنظيم الذي يتوخاه افلاطون ويوصي بإتباعه. فباب الجدل انما يكون مفتوحا في المدينة الديمقراطية، ومثل هذه المدينة انما هي غارقة في فساد لابد مفض الى حكم الطغيان.
فهل افلح افلاطون، حقا، في تجاوز التعالي على المدينة الديمقراطية التي شاء تجاوزها نحو مثال قويم وأبدي الصلاح؟ هل افلح افلاطون في إتباع نهر تعبير مفارق لذاك المتبع في المدينة الديمقراطية؟
الخلاصة التي يجوز لنا بلوغها، والتي ترمي الحكاية الى بلوغها اصلا، ان افلاطون اخفق لانه انتقل بسقراط من موقع ذاك الذي لا يعرف، الى موقع هذا الذي يعرف، من ذاك الذي يطرح اسئلة الى هذا الذي يجيب عليها. وعلى ما تشمل حنة آرنت بصورة رائعة، فإن سقراط السابق على افلاطون، انما شاء لعب دور "النبرة" وهي ذبابة الخيل، التي توقظ النائم من سباته العميق، ولعب دور القابلة التي تسهم في ولادة المعرفة، ودور "الشعاع الكهربائي" الذي يورث سامعه، او محاوره، الشلل الذي يكتنفه، أي بما هو الحيرة التي يعائ منها ذاك الذي لا يمتلك اجابات حاسمة (14).
لقد عمد افلاطون الى نقل سقراط من موقع ذاك الذي يوقظ الناس من غفلتهم فينبههم الى مقدار الالتباس الذي تنطوي عليه مقولاتهم وظنونهم، ومن ثم يحضهم على التفكير بها او تفكيرها، الى ذاك الذي يلقن المعتقدات ويعلم الحكمة. باختصار من سقراط المواطن النموذجي للمدينة الديمقراطية الى سقراط الحكيم مشرع المدينة وحاكمها.
مقتل سقراط
لبث افلاطون مخلصا للروح السقراطية الداعية الى استئناف التفكير والجدل، فأخفق في مسعده. فالروح السقراطية ديمقراطية بطبيعتها. وابلغ دليل على ذلك هو النهج الذي يتوسله: الحوار الذي يوقظ النائم من سباته العميق ويقوده في رحلة تفحص لاشد معتقداته رسوخا بما يكشف له عن الالتباس الذي تنطوي عليه.(15). ومثل هذا النهر لا يمكن ان يركن الى خلاصات محددة او يطمئن الى مقولات نهائية. لذا فهو يترك باب الجدل مفتوحا، لانه لا ينفك يجري في دوائره (16).
فلا يمكن لمواطن المدينة الديمقراطية ان يصل او يزعم الوصول الى اجابات حاسمة نهائية، وانما على العكس لا ينفك يسائل الإجابات التي يحصل عليها. ولعل مثل هذه المساءلة هي وجه من الانغماس في التفكير الذي لا يعرف الكلل، والذي من شأنه وحده تعليم مواطن المدينة الفضيلة عوضا عن اسلوب التلقين (17).
ومن خلال اتباعه هذا الاسلوب في طلب المعرفة والحقيقة، كان سقراط يمارس الحق الذي تكفله له الديمقراطية، وتحضه على استخدامه. ولقد فعل سقراط ذلك على أكفأ وجه، بيد ان النظام الديمقراطي، خذله وقتله. اغتالت المدينة الديمقراطية مواطنها النموذجي، فهل ثمة من دليل أنصع، بحسب افلاطون (18)، على من هذا على فساد وجور المدينة؟ والخلاصة التي لابد من بلوغها هي ان في الديمقراطية دعوة الى الفساد لا تقاوم!
ان المدينة قابلة للفساد قابلية النفس، بل ان فساد الاولي لهو من فساد الثانية. وكما ان النفس تفسد اذا ما أخلت نفسها نهبا للمشاعر والأهواء تستأثر بها، بحيث تقع اسيرة في قبضة الشطر الادني منها، كذلك تفسد المدينة اذا ما تحكم بها من تستأثر بهم الاهواء والرغائب. ولقد منحت الديمقراطية، تبعا لـ "دستور صولن" (19) ابناء اثينا الحق في انتخاب القضاة والحكام، فجعلتهم هدفا لتملق المتملقين وتزلف المتزلفين. وهؤلاء لم يكتفوا بأن يخاطبوا مشاعرهم واهواءهم دون عقولهم، وانما وعلى مدى الايام والسنين، غرسوا في الناس من الظنون والتحاملات التي تصور لهم الصالح مفسدا والفاسد مصلحا.
ليست الديمقراطية مفسدة بطبيعتها، غير انها قد تمهد السبيل الى الافساد. فهي تتيح لكل من هب ودب إدعاء المعرفة والإمساك بناصية الحكمة: خطباء وشعراء واصحاب حرف يدعون معرفة حكمة لا يعرفونها. بل وفي ظل سيادة "دستور صولن" والعهد الديمقراطي الاثيني انتشرت مدارس ومعاهد تلقن الناس الحكمة وفن الخطابة، بما اشاع ادعاء المعرفة والتكلم بلغتها عوضا عن السعي اليها من سبيل التفكير.
وكيف لمن لا يعرف ويدعي المعرفة ان يستميل قلوب الناس اليه ما لم يبادر الى تملقهم؟ ما لم ينطق بما يستجيب لاهوائهم ويعزز تحاملاتهم وتصوراتهم المسبقة؟
لقد جاء الدستور الجديد لكي يردم الهوة الفاصلة ما بين اغنياء المدينة وفقر ائها، وفي اقل تقدير، لكي يقلص المسافة الآخذة بالاتساع فيما بينهما. وهو سعى الي ذلك من خلال منح صلاحيات واسعة لعامة الناس يحق لهم بموجبها اختيار حكامهم وقضا تهم بالقرعة. بيد ان الناس لم تلبث بمنجى من أدعياء المعرفة بينهم ومن محترفي تلقين الحكمة وتعليم فن الخطابة ممن وفدوا عليهم. ومن ثم، فانه لم ينقض وقت طويل حتى دب الفساد في المدينة.
ان آفة الديمقراطية العدمية. فحيث تنعدم المقاييس والمعايير يسود الرأي الواحد سيادة نقيضه التام. ويصير اي كلام، اي زعم او حكم، جائزا ما عثر قائله على مستمعين. يصير من الجائز تصوير الامور على غير ما هي عليه، او على غير ما تمليه طبيعتها. فيصور اهل الصلاح في مواقف مزرية، ويصور الآلهة وقد استبد بهم الغضب او استولت عليهم الشهوة، ويمثل العاقل دور المجنون وقد يقلد اصوات الحيوانات واصوات الرعود والامواج..الخ. ويشجع الناس على تقليص الوجود الانساني بأسره الى لحظة دراسية واحدة، او الى النظر الى ما يجري في الواقع وكأنه محض حوادث متخيلة، او دراسية، بما يعزز النظرة ذات النزعة الجمالية التي لا تكترث الى ما يحدث ويقال بقدر ما تعني بكيفية حدوثه وقوله، اي تعني بالشكل دون المعنى والمضمون. وفي الشعر تجلت معالم هذه العدمية على وجه ابلغ منه في اي وجوه التعبير الأخرى. فالشعر، على ما سبق الاشارة، يخاطب الشطر الادني من النفس، فيعطل بذلك النفس المفكرة وعملية التفكير نفسها، بما يترك الناس عرضة لهبوب التعاليم والمعتقدات، الصالح منها والمفسد على السواء.
واذا ما تفشت العدمية انعدم التوافق الكافي لضمان الوحدة، وشاعت الفرقة شيوعا يفضي الى الفوضى والحرب الأهلية. وفي اقل الاحوال سوءا، وتبعا للسرد الافلاطوي، فان هذا ما يمهد السبيل لظهور مستبد يصور للناس بأنه واحد منهم، جامع قلوبهم وموحد كلمتهم وغاياتهم، بما يوقع المدينة اسيرة في قبضة الطغيان.
ان هذا السرد ليستوي تبعا لما تمليه "مرافعة" او "دفاع" سقراط عن نفسه. فلقد سعى سقراط، بحسب دفاعه عن نفسه، الى مواجهة الفساد من خلال البرهان على ان ادعياء المعرفة ومحترفي تعليم الحكمة وفن الخطابة يجهلون ما يدعون معرفته. وهو نفسه لم يكن مسلحا بأية معرفة سوى معرفته بأنه لا يعرف. ولنن لم يتقاعس عن إيقاظ النائمين وبثهم شكوكه، فانه لم يحاول استبدال مفاهيمهم وتصوراتهم بأخرى، وانما اكتفى بحضهم على الانغماس في عملية التفكير، باعتبارها عملية تفحص وقراءة لا نهائية، وهي وحدها ما يهب الحياة الانسانية معنى. بيد ان السعي الى المعنى لابد وان يهدف الى بلوغ يقين ما. ولابد لليقين من أن يتجسد في حقيقة يتعرف اليها المرء في النهاية ويركن اليها، والا فان الانغماس في عملية التفكير المنشود سيبدو من قبيل العبث او اللعب. فالام يكون التفكير، اذن، اذا لم يكن ثمة امل في بلوغ اليقين؟
لا يسع سقراط الإجابة على سؤال كهذا اجابة حاسمة والا فانه يضع حدا لعملية التفكير، ومن ثم لحياة النفس المفكرة، وبكلمات قليلة ان يستغرق في النوم او يموت.
إن حياة لم تتعرض للفحص والقراءة المتواصلين لا معنى لها، بحسب سقراط، ولا سبيل الى بلوغ الفضيلة فيها. والتفكير بما هو تفحص لما نظن ونؤمن ونسلم به، قد يخلق علاقة جديدة بالعالم من حولنا هي علاقة الحي بالاحياء. ولكن خلاف ذلك فإنه لا يمكن الكلام على فائدة او نفع عملي متفق عليه بأنه كذلك. علاوة على ذلك، فان تفكير الظنون والمعتقدات تفكيرا متواصلا قد يقود الى خلاف ما هو منشود، الى سفسطة وعدمية وتشوش وانعدام ثقة. وهذا ما حصل لبعض تلاميذ سقراط.
في الوقت الذي قبض عليه وحوكم بتهمة إفساد عقول الشباب، وجد سقراط ان جل ابناء المدينة قد استقال من مهمة التفكير، او لم يقيض له مباشر تها املأ. فهم كانوا قد ركنوا الى جملة محددة من المفاهيم والتصورات والتحا ملات التي لم تتعرض الى اية مساءلة او فحص. لهذا فإنه خلال محاكمته لم يضطر لان يدافع عن نفسه ضد خصومة المرئيين عندئذ فقط، وانما ايضا ضد خصومة غير المرئيين، او الأولين على ما يصفهم في "دفاعه" (20). من هؤلاء شعراء وخطباء واصحاب حرف ذهبت بهم الظنون الى انهم يمتلكون حكمة لا حدود لها. فالخصوم الأولون هم من علم اعضاء لجنة المحلفين الموكلة بالحكم عليه، وهم من غرس في نفوسهم تحاملات وتصورات لا اساس لها من الصحة.
ولكن اذا ما افلح سقراط في تفنيد مزاعم ميليتوس وانيتوس وليسون، اي خصومة الفعليين، فأي حظ له من الفلاح في التصدي للخصوم الأولين، خلال مرافعة واحدة، وهو الذي لم يفلح في مسعاه طوال حياته؟ كيف سيتأتى له تحرير عقول قضاته من ربقة ما غرس في نفوسهم من تحاملات على مدى حياتهم في غضون المحاكمة ذاتها؟
والحق فانه اذا ما وشى هذا السؤال بإستحالة عملية من نوع محدد (اي تحرير عقول قضاته) فإنه يشي ايضا بإستحالة عملية من نوع آخر، اي انعدام جدوى الانغماس في التفكير الذي يمكن لسقراط ان يكافىء من يحررهم به. ففي النهاية، اي خلاص يهيئه سقراط لقضاته اذا ما افلح في تحريرهم من عب ء تحا ملاتهم؟ ولم لا يكون نيتشه محقا حينما يزعم بأن أثينا لم تقتل سقراط، وانما هو الذي اختار الموت؟ وهو اختار الموت لانه كان مريضا من الحياة (21). ولان الموت هو السبيل الوحيد للكف عن عملية التفكير المزعومة.
افلاطون اديبا
والآن ماذا عن تلميذ سقراط النجيب؟ ماذا عن افلاطون؟ تطرقنا من قبل الى تلك الانعطافة التي حصلت في موقف افلاطون من معرفة الشعراء وذلك من خلال انتقاله من موقع ذاك الذي لا يعرف (كما في محاورة "ايون") الى موقع هذا الذي يعرف (كما في الكتاب العاشر من "الجمهورية"). وعزونا إخفاق افلاطون في تقديم محاجة جامعة مانعة في سبيل موقفه الرامي الى إبعاد الشعراء عن المدينة العادلة الى هذه الانعطافة. وإنه ليتوجب علينا ان نسأل الآن، ما الذي كان في وسع افلاطون ان يفعله سوى ان ينتقل بـ "بطله" من الموقع الاول الى الآخر؟
ان سقراط وخصومة لهم جميعا نتاج سيادة الحكم الديمقراطي. بيد ان خصوم سقراط هم الذين انتصروا في النهاية وليس لما دون سبب معقول. صحيح ان هؤلاء الخصوم كانوا محض ادعياء معرفة، بيد انهم من الجلي قد استجابوا الى حاجة اساسية عند الناس. فالناس في عهد الديمقراطية، كما في اي عهد آخر، هم في حاجة الى من يعرف، الى من في وسعه ان يكشف لهم اسرار ما لا يعرفون ويمضي بهم الى شاطىء اليقين – في عهدنا الراهن يمكن ان نتحدث عن "الخبراء" و "موجهي الرأي العام" و "مهندسي الاجماع" كمعادل لأدعياء المعرفة في عهد سقراط -. غير ان سقراط عزف عن إدعاء المعرفة، بل انه لم يكتف بذلك، وانما عمد الى بث الشك في ما ركن اليه من يقين.
ولابد ان افلاطون ادرك بأن النهج السقراطي، اي دفع الناس الى الانغماس في عملية تفكير لا نهائية، لهو نهر معدوم الجدوى. فمن يريد الاستيقاظ الى الحيرة التي تثيرها المعرفة حينما يكون في وسعه الاطمئنان الى اليقين، اي يقين؟ ولقد ثبت لافلاطون ان الناس غير محصنين ضد الحاجة الى من يعرف، والى من يوجه حياتهم وجهة اليقين، بما يجعلهم فريسة سائغة لأدعياء المعرفة. وإذا كان لابد من طلب العلم فلابد من معلم. لهذا فإنه يعيد تصوير سقراط كمحب حكمة هو الأكفأ الى بلوغ الحقيقة، ومن ثم التربع على سدة الحكم. والحقيقة المزعومة هي عالم المثل المفارق الذي لا يمكن لاحد بلوغه الا الفلاسفة. وفي الانتقال بسقراط من موقع من لا يعرف الى موقع العارف، فقد عمد افلاطون الى تعميم الماهيات على كافة الموجودات ومن ثم فصلها عنها بحيث تشكل عالما مستقلا مفارقا(22).
بيد ان الانعطافة الفعلية انما حدثت في حياة افلاطون الفكرية وفي تاريخ الفلسفة نفسها. فهو، وخلافا لمعلمه، قرر ان يكف عن ان يكون مواطنا للمدينة والديمقراطية، واقله كذلك مواطنها النموذجي. فهو قرر ان يعلم ويكتب بما يفني عن الحكم الديمقراطي ويحول دون الوقوع في قبضة الطغيان: "كنت منذ حداثة سني" يقول افلاطون في الرسالة السابعة، "اصبو الى ما يصبو اليه العدد الاكبر من الفتيان من اترابي اي الى العمل في السياسة، كنت انتظر بفارغ الصبر السن التي اصبح فيها قادرا على ذلك."
ولقد بلغ افلاطون تلك السن في عهد سيادة الحكم الديمقراطي. غير ان ذلك الحكم سرعان ما تمخض عن جور واستبداد بما خيب امله وجعله يكره السياسة ويعتزلها. وعبثا حاول استعادة الثقة بالسياسة في بلاده والامل بإصلاحها والتخلص مما فسد فيها، فلم تزده الايام الا خيبة وقنوطا: "..ادركت اخيرا ان السياسات الحاضرة جميعها قد فسدت تماما وأضحى شفاؤها مستعصيا بدون استعدادات قوية وظروف مواتية ملائمة. فأخذت اثني على الفلسفة الحقيقية واجاهر بأنها وحدها قادرة على ان ترينا الطريق الى العدالة في الحياة الاجتماعية والفردية. وعليه لن تنجو البشرية من ويلاتها ما لم تصل الى حكم ذرية الفلاسفة او يتعلم الحكام الفلسفة الحقيقية." (23)
ولا شك في ان هذه الرسالة تكشف لنا سر الانقلاب الذي وقع في حياة افلاطون، وفي اقل تقدير تصادق عليه. بيد ان التصوير الادق، والاوفق لنهاية حكاية افلاطون والشعراء، هو ذاك الذي يمكن ان نستمده من تشخيص هايدغر للموقع الذي احتله المعلم نفسه (سقراط) في الفلسفة. يقول هايدغر ان سقراط طوال حياته والى موته لم يفعل شيئا سوى ان يضع نفسه في وسط التيار الهوائي والمكوث فيه. و "تيار الهواء" هذا هو المجاز الذي استخدمه سقراط نفسه في وصف عملية التفكير من حيث انها تحدث اثرا لا ينكر وان لم تكن مرئية. لذا فإن سقراط لم يكتب شيئا. "ذلك ان من يشرع في الكتابة لابد وان يفر من التفكير على نحو ما يلوذ الناس بأقرب ملجأ هربا من ريح عاتية، وكل المفكرين الكبار الذين جاؤوا بعد سقراط انما كانوا من قبيل هؤلاء اللاجئين. فمعهم ممار التفكير ادبا"( 24).
ولقد قرر تلميذ سقراط ان يلجأ الى التفكير، بالمعنى السقراطي، فاعتزل السياسة. فعوضا عن ذلك، قرر الكتابة، فحول التفكير الى الأدب. وهذا عندنا ما يرقى الى ارساء اسس الفلسفة كتقليد لا نقاوم الرقبة ملي الانضواء فيا. فنحن من خلال اتباع هذا التقليد، نسوغ لانفسنا الفرار من التفكير واللواذ بملجأ الادب.
ترى أبسبب وعينا هذا نعتبر الامر حكاية تروى؟ وأية حكاية هذه؟ أهي حكاية افلاطون مع الشعراء؟ ام مع النظام الديمقراطي؟ ام انها حكايتنا "نحن" مع الشعر والديمقراطية والعلاقة بالتقليد الفلسفي؟
الهوامش:
1) آثرنا إعتبار سقراط "بطلا" للمحاورات الافلاطونية، على اعتباره صاحبها او شريكا فيها، لا إرتيابا في صحة وجوده التاريخي، وانما، اولا، لان التمييز ما بين المحاورات السقراطية وتلك الافلاطونية امر غير محسوم اصلا. والتمييز الذي عولنا عليه هو ذاك التمييز الذي يمكن ان نلمسه في النص نفسه، مثلا، ما بين موقع سقراط في محاورة "ايون" وما بين موقعه في "الجمهورية". باختصار، انه التمييز الذي يتمثل في انتقال سقراط من موقع ذاك الذي لا يعرف الى موقع ذاك الذي يعرف. وثانيا، لانه من الاوفق في السياق السردي الذي توسلناه ان يظهر سقراط بمظهر الشخصية القصصية.
2- اعتمدنا على ترجمة درموند لي الانجليزية لنص "الجمهورية"، طبعة "كلاسيكيات بنغوين"، لندن، 1955. غير اننا استشهدنا في اكثر من مناسبة واحدة بترجمة حنا خباز العربية.
3- الكسندر نيهاماس، "افلاطون والإعلام الجماهيري"، فصلية "ذا مونيست"، العدد 71، 1988.
4- هذا ما يجادل به كريستوفر جاناواي في كتابه "صور الامتياز – نقد افلاطون للفنون" اكسفورد، 1995. ولقد افدنا كثيرا من تلخيص جاناواي لبعض اشد محاجات افلاطون التباسا.
5- جاناواي، المرجع السابق.
6- افلاطون، "يون" الترجمة الانجليزية، ترافور ساندرز "لاسيكيات بنغوين"، لندن، 1987.
7- هذا ما يرده الشاعر الانجليزي شيللي مثلا.
8- لا وجود لمثل هذه الخلاصة في محاورة "ايون" نفسها، وانما هي مستقاة من الكتاب العاشر في "الجمهورية". وحيث اننا نعرض لموقف افلاطون من الشعراء باعتباره موقفا متماسكا، فلا ضير من تقديم هذه الخلاصة حيث لا مسوغ ينكر لها.
9- لا ريب في ان هذه الانعطافة في موقف افلاطون لتتمثل في تقويمه لفن التمثيل. بيد انها تشي بما هو اعمق انقلابا وابعد في موقفه الفلسفي عامة، لا سيما فيما يتعلق بكيفية تقديمه لسقراط. وعلى ما سبق وأوجزنا (انظر هامش رقم 1) فسقراط يحتل في محاورة، "ايون" موقع ذاك الذي لا يعرف، اما في "الجمهورية"، لا سيما في الكتاب العاشر منها، فانه يحتل موقع الفيلسوف العارف اسرار عالم المثل.
10- ج.ر.ف. فيواري "افلاطون والشعر"، في "تاريخ كامبردج للنقد الادبي- الجزء الاول، النقد الكلاسيكي" كامبردج، 1989.
11- في سبيل تلخيص مفيد للمراحل التي تمر بها المدينة منحدرة الى عهد الطغيان، انظر كتاب جيروم غيث "افلاطون"، الفصل الثاني، بيروت، 1971.
12- انظر الهامش رقم (1).
13- انظر الهامش رقم (9) وما يحيلنا اليه في النص.
14- حنة آرنت "حياة العقل" – "الجزء الاول، التفكير- جواب سقراط" نيويورك، 1978.
15- يرى نيتشه ان انتماء سقراط الى المراتب الدنيا هو الذي دفعه الى توسل اسلوب "الجدل المنطقي". فالمرء انما يختار هذا الاسلوب حينما ينعدم لديه اي اداة أخرى "فالجدل المنطقي هو سلاح الخندق الاخير في يد اولئك الذين لم يبق في ايديهم سلاح." انظر "أفول عهد الاوثان – مشكلة سقراط"، "كلاسيكيات بنغوين"، لندن، 1968. ومثل هذا الرأي "التحقيري" لغرض لسقراط، يعزز الظن بأن سقراط كان، بلغة هذه الايام، يلعب دور "الناقد المنشق"، ضد اصحاب النفوذ في اثينا.
16- حنة آرنت، المصدر المذكور سابقا.
17- المصدر السابق.
18- في "الرسالة السابعة" يتخذ افلاطون من ادانة سقراط قرينة لا تدحض على فساد وجور النظام الديمقراطي. نقلا عن جيروم غيث في المرجع المذكور سابقا.
19- المصدر السابق.
20- افلاطون، "مرافعة"، في كتاب "محاورات افلاطون الكبرى"، الترجمة الانجليزية، نيويورك، 1956.
21- نيتشه، المرجع المذكور سابقا.
22- بحسب ارسطو فان هاتين هما الاضافتان اللتان قدمهما افلاطون الى نظر سقراط الميتافيزيقي.
23- افلاطون، المرجع المذكور سابقا.
24- نقلا عن حنة آرنت في المرجع المذكور سابقا.
سمير اليوسف (ناقد من فلسطين)