-4-
صلاة المسافر
التائه الحقيقي يموت في جلده كالذئاب . أشعر أن الشقة كبيرة جدا بالنسبة الي، بآنها فارغة وموحشة ! أنا، اسمي مهدي.. وهذا الاسم كان يطلق على جدي، لجهة أبي، كانت لجدي هذا لحية محناة وناعمة كالحرير. عاشق كبير للاحصنة الجميلة وللنساء الساحرات، وعاشق كبير للشعر والاشعار.
كان «الروم " ينادونني "ميديد" [هذا اللفظ بالفرنسية يعني وقت الظهر تماما، الساعة الثانية عشرة .م ] وكانت أمي، فاتنة، ترفض هذا التحريف في نطق اسم ابنها. اما جيراننا اليهود فقد كانوا يلفظونه «مهدي» تماما كبقية افراد اسرتنا.
هناك كثيرون ينادونني «سي محمد". ولا أعرف لماذا وكيف ألصقوا بي هذا الاسم . علما ان لي أخا يكبرني اسمه محمد، وفي البيت نصغر اسمه ونناديه «محا" .
ولدت في ميسيردا، هناك حيث أقام العالم المعروف ابن خلدون كي يكتب جزءا من مؤلفه المشهور بـ"المقدمة ". في ميسيردا، كما في بقية القرى الاخري، نسمي المولود الذكر الاول «محمد". وهناك عائلات فيها محمدان: محمد الكبير ومحمد الصغير.
– المحمدون، لا ينسدهم الله ولا الناس ابدا, هكذا كانت تقول امي فاتنة .
ليس لرشا «محمدها» لكنها تعرف جيدا كيف تقيس وقتها وخطاه كي نتقاطع ونتقابل على درج البناية . انا الآخر أفعل الشيء نفسه . تفرست في وجهي ذاك المساء وهزت رأسها.
كانت جميلة، جذابة، مشعة وشهية . كانت الجارات الاخريات وهن وراء النوافذ الممسوحة الزجاج جيدا يراقبننا بعيون جائعة .
– السعال التنبيهي الذي اعتاد مهدي على اطلاقه قبل ان يجتاز درج البناية كان بالأمس أجش، قالت واحدة منهن .- المسكين، كانت له سحنة مهموم .. اجابت الثانية . عبء ثقيل ملأ قلبي ومعدتي. اشعل التليفزيون: فيلم بطله شاب جميل تحيط به عدة نساء جميلات رقيقات .
اشتم: اشتم عطر رشا… «المركونة " على الشرفة، واشتم اريج نبيذ معتق جيدا ورائحة دخان سهى.
أفتح الباب – النافذة على المصراعين، تاركا للعطر ولدخان السجائر ان يغزوا صالوني بحرية . أحاول الهرب من هذا القمقم الذي سجنت فيه نفسي منذ ثمانية اعوام .
أتسلى بترتيب زجاجات النبيذ الاحمر والوردي والابيض في البوفيه محدثا ضجة كي يستطعن الاحساس بوجودي. هواء بارد ورطب يغزو المكانشعور غريب يسكنني، بسبب الصدوع في خيطان عزلتي.
آه، قمقمي الزجاجي!
ندامات، ندامات !
أنما واحد من أهلها!
ندامات، ندامات !
حكت لي سهى ان أمها، وقبل أن تعين كبائعة في الصيدلية المركزية، كانت تعمل في مختبر حيث تقتل الفئران والارانب .
– هناك في المختبر أصيبت أمي بأول اكتئاباتها النفسية قالت سهى.
سهى تغار من أمها. فهي تريدني لها وحدها فقط . في عينيها البراقتين المرطبتين ينام ويستيقظ شعور بالجريمة . أقدم لنفسي كأس نبيذ وردي. على الطاولة: بقايا سردين مشوي، حبة بندورة، قطعة جبن وقرن فليفلة اخضر حار.
كثيرا ما ساعدني النبيذ على تمضية ايام قاسية في هذه المدينة المسموسة سلوى تأخذ درسا في التاريخ: نابليون وفتح مصر!
سلوى لا تحب التاريخ ولا نابليون الذي كان يريد تحضير مصر الفرعونية الكبرى! لكنى بالمقابل، كانت مجنونة ,بـ "فيزيقية " استاذها، استاذ «الفيزياء». شاب جذاب ومثير.
لم يكن السيد دريكي شيوعيا، لكن سهى تؤكد ان أبدها كان يساريا، وبأنه هو الذي قدم لها في عيد ميلادها صورة لتشي جيفارا مطبوعة على منديل من حرير.
سهى متأكدة من أن أبدها قد تغازل مع حزب يساري متطرف . رشا لا تقول شيئا عن قناعات زوجها السياسية . فهي تفضل الايماء بحبها الشعري لموسكو وللصحراء العربية .
– ما ألذ المنبيذ الوردي!
أربكني السؤال الشيطاني الذي ألقت به سهى…
– أين تعمل ؟ ماذا تفعل ؟
لسهى قأهة بديعة كسؤالها. فم شرس واكبر من عمرها مرتين .
– أنا موظف حكومي.
– في البلدية !
سهى تعربش بالكلمات مثل قرد صغير، وتخدشني بتعبير جديد في عينيها.
لوعة وانقباض شديد في الصدر.
أما "الذئبة "، فانها تلاحق نيزكا بصمت عميق وملغوم . تعترف للسماء بخطيئة .
لكن أية خطيئة ؟
«الذئبة " تخفي نبيذها الاحمر داخل فنجان قهوة . امرأة صبورة، صلبة لا تكل ولا تمل .
الدموع الخائنة !
أريد أن اواسيها، ان آخذ يدها، أن اسكب في قلبها المهشم عبارة جميلة، ان اشاركها فنجان النبيذ الاحمر…، ان اقص عليها حكاية دون ذيل أو رأس وتمتد الى مطلع الفجر!
مطر افراح دون غيم !
تربكني هذه " الذئبة " فهي قادرة على تحطيم مرأياي.. آلام عزلتين: عزلتي وعزلتها.
شخصية رسمية ذات سمعة وصيت مدعوة للحفاظ على حشمتها.
أنا: المدير… السيد مدير "مصلحة الخدمات الجنائزية في البلدية "، وانا معروف اكثر من رئيس بلدية هذه المدينة . الله يعطي الحيوات وانا اعطي القبور:
اتصل بي أحد الاصدقاء كي يهنئني على هذا المنصب .
– لا نحتاج هذه الايام الى رئيس بلدية كفؤ وقدير، لكننا نحتاج حاجة ماسة الى مدير شجاع للخدمات الجنائزية .
وطبقا لما يحدث انا الآخر مقتنع بحاجتنا الماسة الى رجل منظم ومحنك ومتخصص في فنون الدفن والايواء.
لا شيء حولنا سوى الجنازات، سوى المراثي، سوى الصلوات على الموتى والدموع !
أقدم لنفسي كأس نبيذ أخرى كي أمحو، كي أنسى قوائم واحصائيات زهرا.
رعب داخل راسي: قوائم، اسماء، مجهولون، اطفال، نساء رجال، جثث .. اجساد بلا رؤوس، ورؤوس بك اجساد..
أختنق داخل سواد بسواد، هيئة زهرا وراء الآلة الكاتبة وهي تعد، تسطر، تصحح قوائم الاموات، تسبب لي الدوار والقشعريرة .
أي خرابا للنفوس !
سهى تحب الاشياء شعريا مثل امها.
كيف استطاعت رشا التي تحب الاشياء شعريا أن تقبل بالعمل داخل مختبر و تفعل شيئا آبدا- لا شيء أبدا- سوى قتل الارانب، الارانب والفئران .
– من قتل السيد دريركي؟
كانت مسؤولة عن قتل الحيوانات كي تسجل درجة فاعلية السموم . كانت رشا تريد ان تكتب كتابا حول الموت بوداعة !
السيد دريركي، وحسب تقرير الشرطة، هو أول من انشأ مجموعة جيفارية في هذه المدينة . ويقول التقرير ذاته ان المغدور به قام بخمس رحلات الى كوبا.
سهى مثل أمها، تشهد ان آباها لم يضع قدميه خارج الجزائر ابدا.
سلوى لا تحب دروس التاريخ ولا اخبار الساعة الثامنة على التليفزيون .
تحت جناح الضباب الرمادي ينام وديعا جبل مارج أجو مزنرا
مدينة وهرأن .
في يدها فنجان النبيذ، وقبالة هذا الجبل الذي لا يتحرك، تتابع رشا احلامها الملفوفة بالدخان، منفعلة لحد البكاء. لا حديث الا عن الموت او عن فنون الأغتيال . كارثة تخفي صباح اخري.
زهرة النسيان !
في غرفة سلوى تستسلم الموسيقى الى الصمت وينام الملاك في حلم من الرسوم المتحركة .
سخبات نارية . اسحب مغالق النافذة .
اكتب في دفتر يومياتي الليلي: "انتظار المصير، انتظار الموت: فلنبدأ بعدم انتظارهما. المسافر الحقيقي يموت في جلده كالذئاب …"،.
"الذئبة " هي الاخري تترك الشرفة، تسحب مغالق النافذة، تسحب طرادة الماء داخل المرحاض: أمن اجل النوم ام لاجل الرحيل ؟
-8-
حصان.. طوطم
شبه – .. مطفأ،شبه – مضاء، صديقي الكاتب يرتشف نبأ اغتيالي ويجهد نفسه من اجل كتابة خبر وفاة مليء بالشعر والعاطفة . يبحث عن اللغة الاكثر انجيلية وقرانية .
صديقي – الكاتب – الصحفي يحتسي وداعة موتي في الكلمات .. كان الحداء اليهودي يقول: هناك مقابر جميلة جدا لحد انها تبعث الرغبة على الموت ..
سوف انتظر فراشة تبسط أجنحة الخلاص فوق ليلتي الطويلة الباردة والمؤلمة .
أمي، فاتنة، لم تؤمن أبدا بعودة أبي من حلب ولم تنتظر أبدا هداياه: مناديل من الحرير (الحرير الشامي، شجر الزيتون)، صابون زيت الزيتون، صابون الغار، فستق حلبي، مكدوس … أما رشا فهي في انتظار لا نهاية له ..
وانا، انا في قمقمي! ومثل أبي أبحث عن باب الفرج، او باب كنسرين كي اخرج من حلب .
حلب = قمقم .
كان ابي لاعب نرد كبيرا، ومشهورا بخطف النساء الجميلات . اعشق النساء اللواتي يستسلمن …
على رصيف هذه المحطة طفل تعلو وجها الكآبة، يلتقط اعقاب السجائر كلي يلف لنفسه واحدة ! طيبة الشياطين ! اشعر تحت قدمي بطريق مرملة !
كان صديقي الكاتب يتحدث عن اخته التي تصرفت معا كعشيقة اكثر من أخت !
اللوحات الاشهارية تخفي الطفل الذي يلتقط اعقاب السجائر. لعله قد سحق تحت عجلات قطار؟
اليوم اعطتني زهرا دعوة من أنقرا لأجل حضور مؤتمر دولي ينعقد الشهر القادم حول موضوعة: "تنظيم المقابر والهندسة الحديثة للقبور".
موضوع عجيب .
رؤوس تركية !
صديقي – الكاتب – المؤيد يعيد للمرة الثامنة قراءة النص ذي الاسلوب الانجيلي – القرآني… نص اعلان الوفاة . وفاتي! ولدى كل قراءة، لا يكف عن ابدال بعض الكلمات بكلمات أخرى اكثر شاعرية ايضا.
أي صديق وفي!
"كئيب، كئيب جدا بالنسبة الينا ذلك اليوم الذي غادرنا فيه والى الابد فقيدنا الغالي … تاركا هكذا فراغا هائلا وذكريات لا تزول . صورته، ابتسامته، قوته، شجاعته، براعته، وداعته، كرمه، جميع هذه الاشياء سوف تظل محفورة في قلوبنا الى الابد… وفي هذه المناسبة الاليمة يرجو اصدقاؤه من جميع الذين عرفوه واحبوه ان يقرأوا الفاتحة على روحه الطاهرة .
ارقد بسلام، أيها الغالي، سوف لن ننساك أبدا.. اسكنك الله العزيز الجبار فسيح جناته في عدن "
"انا لله وانا اليه راجعون »
مثل سلحفاة رشا انزويت داخل قوقعتي. وفجأة أتساءل:
– هل سطر صديقي الكاتب هذه المرثاة لاجلي ام لاجله ؟
الى من ولأجل من هذا النص «الانجيلي – القرآني» البديع جدا:
لون رمادي خاص جدا يعلو وجه صديقي الكاتب وهو يقول مؤكدا:
– الشيء الذي أحبه حبا لا يعل عليه هو اعطاء توقيعي!
تبدو لي سكرتيرتي مثل هيكل عظمي لدابة مفلوقة، الاسنان منخورة، تجلس كما في جميع الايام قبالة الآلة الكاتبة ألمزينة جيدا لتعد باهتمام ودقة قوائم الموتى اليومية . اشتهي امرأة تغمرني بالقبل والخوف والدموع !
الموت ينتظرني في كل خطوة ! ولا احد ينتظرني على رصيف هذه المحطة المقفرة الوحشية !
الناس بلا معنى!
رشا سوف تستاء مني هذا المساء.
– ما أجمل الأحصنة !
في الحلم، يؤنبني والدي بصوت خفيض:
– أين حصانك ؟
وكما في قطار سريع أتذكر طفولتي غارقا في ديكور من الحديد! وهرأن تكابد! مرتبكة من دوي الرعود.
زهرا غارقة في اتقانها للفنون الجنائزية .
رشا المريضة مرضا لا شفاء منه تغطي سلحفاتها الميتة بملابسها الداخلية، وعلى مدخل البناية توقفت سيارة اسعاف!
رينه المديوني يلعب على العود ألحانا اندلسية !
اما انا، المستسلم لمشاعر البداوة والتيه، والهارب من اعلان وفاتي الذي سطره صديقي- الكاتب – الصحفي- المؤيد، فقد امتطيت حصاني الذي جعلت منه طوطمي!
القسم الثاني
سوناتة الذئاب
-3-
عندما اداعبها،تغمض عينيها كيلا تراني
أصوات …………….!
أصوات……………..!
……………………..!
كنت أحلم بأجمل فتاة ؤ الحي، ثم بأجمل فتاة في المدينة .. وذات يوم ركبت القطار الى الجزائر.
الجزائر البيضاء…. العاصمة !
الجميع سمعوا بالنبأ، جميع الفتيات والفتيان !
"سافرت حتى الى الجزائر!»
" قدماه تستطيلان » يقول بعضهم
شيئان لا استطيع الاستغناء عنهما: كتاب لجاك داريدا ومشط اسرح به شواربي التي اود الاحتفاظ بها على غرار شوارب سلفادور دالي أو نصري شمس الدين .
في الجزائر رأيت الجميلات والعاديات والقبيحات . في الجزائر فتيات أقل مما في وهرأن ؟!
كنت اشعر ان لي اجنحة تنبت .
انها جزائر هذا الخميس التي انستني جميلة .
أحببت دوما ان اكتب اسمها هكذا: جميلة، جميلة …
في الخدمة الوطنية … آه سنتان من المكابدة والبؤس في الصحراء… في برج باجي مختار..
النجاسة والجحيم !
640يوما..يوما بعد يوم … هدرت دون مبالاة في فضاء ساحق حيث لا شيء سوى: المرمل والصمت والشاحنات العسكرية كالجثث المريعة مصفوفة امام المعاقل وقد انخفتت دواليب بعضها، ثم مقبرة منسية لخمسة وعشرين مجندا قتلوا اثناء اشتباك على حدود الصحراء ألغربية، ثم عصفور، عصفور جميل جدا لا يتوقف عن الغناء:
"من الذي رمي هذا العصفور النادر في هذا الفضاء المختل اللامحدود؟».
لعله نسي في هذه الصحرأء الجهنمية .
640يوما من حياتي، سكبتها في الرمل الحار وعيني معلقة على هذا العصفور التائه، وخاطري في الرسائل، الرسائل الطويلة التي كنت اكتبها لجميلة وأدونيس وداريدا.
كان جنود في الخيام يستمعون الى الراي: ريمتي، الشاب خالد، الحبيب الاحمر، بيلامو وآخرون .. اما انا فقد كنت مشفغفا بكتب جيل دولوز، جاك داريدا، ايتمبل، وباغاني هذا العصفور التائه الذي ذكرني بمعاناة روبير كوهين، وحيدا في عالم أعماه النسيان والحقد واللامبالاة .
مدفوعا بجمال الصحراء الفظ والفريد، قررت ان اسجل اغاني العصفور التأثه .. "وملات" 25 شريطا.
وفي ذات يوم لففت شريطا وأرسلته الى جاك داريدا. لكن الكابتن، رئيسي، فتش البريد قبل ان يرسل الى منطقة بشار بسيارة رانج روفر 4x 4 ووجدنا الشريط فأخذه وعفسه بحذائه وهو يزعق بأمر اعتقالي . قضيت 11 يوما في السجن .
عاملني الكابتن بصفتي جاسوسا يعمل لصالح العدو- فرنسا وكزعيم حزب يطالب بعودة الاقدام – السوداء ]الاوروبيون الذين كانوا يسكنون الجزائر ايام فرنسا.م [ واليهود الجزائريين .
كانت رسائل جميلة مليئة بالحب والاخطاء الاملائية، وكانت لها كتابة خاصة ومتفردة، أتأمل طويلا هذه الحروف الصغيرة المخطوطة جيدا والمرتبة: "ح " و"ب ". حرفان بالعربية يسوغان لفظة حب .
كان الكابتن يقرأ بريد جميع المجندين، لا بل انه سرق صورا جميلة، تلك الصور الجميلة جدا والمأخوذة في استوديو اراجون بوهران
جميع صور جميلة فائقة الجمال!
كان البريد يصل الى الثكنة مرة في الاسبوع، يصل يوم الاثنين، ثم يوزع بعد ظهر يوم الثلاثاء… كان الكابتن يحتاج الى ليله، ليلة كاملة كي يفتح ويقرأ رسائلنا.
لم تكن جميلة لتتصور ان رئيسي يقرأ جميع حماقاتها الجميلة الصغيرة التي تسكبها كل اسبوع في كلمات وعبارات منثورة فوق اوراق مربعة مشقوقة من دفتر رياضيات قديم او دفتر تاريخ .
نسيت ان اقول لكم ان رئيسي، الكابتن، كان اميا. ولذلك كان يضع بامرته، من اجل قراءة البريد، مجندين اثنين: الاول مجاز باللغة العربية والثاني ناطق باللغة الفرنسية . وعلى الرغم من هذين القارئين، كان يشعر بضرورة البحث عن قارىء ثالث يعرف اللغتين معا كي يستطيع ترجمة اكيدة ودقيقة لجميع ما في الجمل العربية او الفرنسية من فروقات والتباسات صغيرة . كنت اعرف انني محترم بما فيه الكفاية كي اشغل "كرسي » التجسس هذا. لكن قضية الشريط المرسل الى داريدا، اليهودي الجزائري، قد افسدت علي هذه الترقية وهذا التجسس:
كانت لجميلة لباقة ورقة غزالة !
منذ اكتشافي سرقة صورها، رحت اكره جميع من يلبسون ثياب الخاكي.
640 يوما وليلة في ثكنة، الوقت دون شواطىء، لا ينتهي، مكتوب، مقدر ومظلم .
للكابتن وجه مجعد ويخيف، وملامح تخفي وراءها مرضا صامتا وفظيعا. كان في مكتبه يسهو مسترخيا بشكل خفيف قبالة شخير مروحة كهربائية عتيقة، مستسلما للصوت الاسطوري، صوت الشيخة ريميتي في اغنيتها الجميلة:
«سعيدة بعيدة والمشينة غالية "
مرحا وخلابا، كان صوت الشيخة ينطلق من ميكروفون جامع الثكنة، جامع ابن رواحة .
فكرت ان اذكر هذه المفارقة في رسالة الى داريدا، لكنني خفت من "التوقيفات ":
كنت خائفا من ان ارمي في السجن عدة ايام اخري.
كان اصوت رينيت يخلب غالبية شباب الثكنة .
ولخوفي من امكانية كشف هذه الوقاحة المحظورة: قررت ان اخفي الشريط في الرمل . لم «استطع " تكسيره . لذلك دفنته وسط الرمل الحار، في المقبرة، مع بقايا الـ25مجندا.
ومنذ ذلك اليوم توقف صوت رينيت الاسطوري عن ان يغمر السماء الحزينة سماء، الثكنة .
معاقل صامتة !
تعيش الثكنة في حداد مرعب بعد ان حرمت من صوت رينيت الوهرانية !
قال لي القارىء العربي للبريد: «اذا كان مستوى تلامذة المدارس من مستوى من تراسلك " لم يجرؤ على لفظ اسم جميلة، "فان وضع المدرسة الجزائرية جيد جدا!"
أعلم ان جميلة التي تعمل في مكتبة لا تتردد في اختلاس بعض الجمل، لا بل بعض الفقرات الكاملة من الكتاب المشهور والخاص بالمراسلات: "رسائل العشاق ".
ادى اختفاء شريه الشيخة رينيت الوهرانية، ذاك الشريط المشهور، الى اعتقال امام جامع ابن رواحة الذي اتهم بسرقته: كان الكابتن مخلوبا، هو ايضا، بهذا الصوت، دون ان يعرف حتى اسم المغنية .
رمي الامام في السجن لمدة شهر.
أغاني هذا العصفور التائه تصيبني بالدوخة والدوار!
رينيت في رمل المقبرة الحار.
في الصورة، جميلة فائقة الجمال بشعرها الاسود المجدول مؤخر الرأس .
ضحكة مجنونة تسيطر علي وانا اتذكر ماض، ماضي راعي الماعز،ماضي سارق البطيخ ومدغدغ الحيوانات !
هذا المساء،. افتش في الرمل . مسكونا بصوت رينيت الاسطوري اريد نبشه، للاسف، احفر في كل مكان ولا استطيع الوصول الى المكان . واخاف نبش جثة جندي!
حزينا أتخلى عن البحث عن الشريط، لان عظام وهياكل الجنود تجمد قلبي ويستولي علي احساس بالفظاعة !
أنا واثق، مثل الكابتن، بأنني فقدت رينيت .
مسكونا بخوف مريع، اصابتني تلك الليلة حمى باردة .
وفي برد صقيعي، احترق على نار هادئة ..
ابتعد عن الثكنة صارخا: غن يا رينيت، غن، غن مثل هذا العصفور التائه، هذا العصفور الذي لا اعرف ما اسمه، غن، فأنت العصفور التائه …
وتحت شمس لاهبة لا ترحم، ابحث عن ملجأ يقيني شر، هذا القيظ الشديد!
رينيت، المرأة الحديدية، وبصحبة عازف البيانو الكبير مصطفى أسكندرامي، ثم بصوتها المسكر الحار، تغني التيه اللامتناهي، تغني الدوخان والدوار.
… وأنا، يحيط بي فضاء بكر، فضاء صامت، فضاء متوعد، قاس وعقيم، مرتجفا من الرعب، آخذ مكانا في قافلة سيارات الرانج والشاحنات العسكرية التائهة في اتجاه شمال من السواد.
نص :أمين الزاوي
الترجمة عن الفرنسية: محمد عضيمة
(شاعر ومترجم من سوريا يقيم في طوكيو)