من رحم الغيب،، ظهر منطاد أصفر، على بعد، كخيط ضائع في خلاء الجهة الغربية من السماء، طحنت رياح البحر النهمة ناحيتيه، فارتفع مثل رمح بين معابر الضوء، لتداعب أسيجته الخلفية جرعات من مراتب الهواء البارد كالزبدة في رقتها، مستني خيوط من حزمة شمس قلقة، كانت تفافح الغيوم وهي تحجبها عن الأرض بأجنحهما الضارية. انزلقت الأحراج على حبيبات الرمل الطرية، ثم لمست قدمي بذراعيها الباردتين. فتخلخلت واهتز كتفاي. أخرجت ناظوري من حقيبتي المعلقة على كتفي لأرى شبه المنطاد الذي أصبح تحت كد الغيوم بحجم بقة. دورت عدسات الناظور فانقاد المنطاد لحبال العدستين الملتين سحبته قريبا. فبدا كما لو كان فوق أنفي.
في داخل المنطاد، رأيت رجلا واقفا وقربه آخر جلس على كري فضي ذي عجلتين مطاطيتين. من النوع الذي يجوب به المقعدون الأرض بحد أن تعجز أقدامهم عن توجية بوصلات أجسادهم، كان الرجل المقعد ناحل الوجه، مهتريء الجلد وقد علاه طفح جلدي قرمزي اللون، ودعك جفنه احمرار ضخمه. فبدا كأنه طحن بأختام الفلفل الأحمر. دورت العدسات كما يفعل صياد يطارد ظبيا رشيق القفز، فبان الرجل المقعد محبطا شاردا كأنه يصفي الى أصوات في يسسها غيره.
أخلاط من سمك كثير كانت تسيح طولا وعرضا في حوض لدن داخل قارب صغير، كان يسابق لعاب الأمواج في صغيرها الثاقب كنشر باب خشبي. أسماك بحرية مفلطحة، طرية السلخ، حامت فوقها خمسة نوارس، تجادلت بأصواتها المذعورة فوق رأس المرجل الجالس وسط القارب، كانت النوارس تعلو أشبارا فوق حوض الأسماك مدمدمة بنثار من حروف مبهمة، هو هواها المعقود على واحدة من الأسماك أو حفنة من السردين.
كأن الواقف في المنطاد، الذي تابه طرقات الموج على ممار القارب، قصير القامة منقوش الشعر غليظ الحاجبين، ينتمي في حركاته الهاذية الى الصيادين الذين لم يروضوا حياتهم خارج مشهد البحر. الصياد ريح ترشد البحر القائه الى أحلامه الذهبية والبحر فنجان قهرته حينما يفتك براسه الصداع.
جلست على صخرة ذات حزوز ناتئة، بعد أن مهر التعب بختمه على قدمي. روضت العدستين من جديد لكي لا يفلت المشهد من عيني، فبان المنطاد أكثر قربا الى الشاطيء مما كان عليه. كان الهواء كخيوط من حرير تتعانق فوق وجهي، فازداد نثيث الأيام العابرة حولي، لقسنا آياتها الى لوح ذي ركائز متينة، امام أعمدة عيني التي هربت الى هذا المكان بعيدا عن أفراد تلك الأيام الجحيمية المتربصة بها.
جئت الى هذا الجزء الدافيء كرغيف الصباح، من جزيرة لا بالما الكنارية، بعد أن تدربت شهورا طويلة على الانتحار. تدربت بقسوة بالغة كما يتدرب الجندي في شهوره الأولى، بل انفي حرمت نفسي لثلاثة شهور من استراحة تشطر أيام التدريب، القي تسمى اجازة في الجيش، لكي أبقى محموم التشبث بهدفي الذي لم أدع ريح المصالحة مع الحياة تمسه.
حاصرت نفسي، المولعة بالانحدار إلى أهوائها، مضيقا عليها اختياراتها. فأنا أعرف بحسب خبرتي مع نفسي، بأنها لا تنقطع عن المراوغة. حتى تفقدني حزمي على ما نويت عليه. غدت حياتي في تلك الشهور الثلاثة. لا تنسب لاحتمالين كما عودتها دائما، أصبح الهدف محصورا كما يحصر الصياد قنيصته، بعين واحدة، خف زجاج بندقيته، قبل أن يطق الرصاصة التي تهبط بالحيوان من مجرة الحياة الى مجرة الموت. كنت أتسل بصفح الحياة. حين تمد عنقها بين فينة وأخرى، مثل طفل يراوغ قبل النوم، لتمتحن اصراري على مقاومة اغراءاتها.
الى ذلك الأفق العاري، الذي خضعت روحي لريحه وضوئه، جئت لانتحر، بعد ثلاثة شهور، من عمل مكين على توثيق علاقتي بحياتي القادمة خارج جدران الحياة. كنت أتخيل نفسي بعد الموت، طائرا يرتب عشه في سقف طيني، قرب خربة في
زقاق ضيق، قائم بين أفقين من البيوت القي تنكبها الفيضانات أو الأوبئة بين بوصة زمنية وأخرى. ما من أحد، أثناء حياتي، سكب حبر هذا الحلم على لوحة خيالي، حتى تصورت مرارا أني سطوت على هذا الحلم من أحد الأفلام التي خلعت أبواب عقلي.
زمهرير هو قرار الموت، لكنه دفء عندما تتهاوى أعمدة الحياة لرجل نهم في حبها، مسرف في أمله بالتنعم بجمالها ولا طاقة له، في عين الوقت، على النتاحر مع غدرها، كانت لي سبلي وحيلي لاغلاق أبوابي كي لا أسمع ريح الحياة وهي تدق علي بعنف أثناء تاملاتي الخاصة. غير أنها كانت تقمكن من تسريب قصاصة من تحت الباب، أسحبها فأجد عليها جملة من نوع "ارتد غدا ثوبا أبيض بدل الأسود" والثوب الأسود عندي لا يعني إلا انقلاب الحجر على ظهره، أو بتعبير متشائم الانتقال من الظاهر الى الباطن، من ظاهر الأرض الى باطنها. ولأنني لم أكن في حياتي من الصابرين على المكاوه، فقد زاد جناح رفضي لتلك المساومات طولا وعرضا. قلت في تلك الليلة التي شاخت فيها وسائل حواري مع الحياة "حسنا. سأرحل ".لكنني أحسست رغم اندماجي السهل مع قراري، ان غضاريفي ومفاصل عظامي ومثانتي وأصابعي وكتفي وكل عضو في جسدي قد تقوض، أحسست أني تهدمت في فراخ كبساط الضوء الراقص في مجرى نور ضوئي.
تسلسلت فصول الكابوس مفتتحة ظهورها بفيضان مبهم لم يكترث بالأرض وساكنيها دفع بحصواته أولا، ثم بثرثرة خفيفة هي فم الماء قبل أن ينفتح، وبعد ذلك فتحت أفعوانات الماء أشداقها فلجمت أنفاس روحي بنشيدها الذي يصفر لحن الموت. صفرت ضاحكا وأنا أقلد لحن الموت، فيما كانت يداي تتوسلان المجدافين أن
يواصلا اختراقهما لأحشاء الماء. تضرج وجهي برهج ذهبي رشيق، هو تلك القوة الشيطانية التي أخرجتني من ظلمة ذلك المكان، وسرت بي بعيد اعن زمجرة
الطلاسم التي وشمت قلبي بنقشها السري.
أتيت الانتحار مفرطا في حمامي، كانفي على موعد مع شخص سبقني. كان الوقت ظهرا، في تلك الجزيرة التي تشبه سلة من الزهور وسط المحيط. بدت الأرض مغسولة بحب ت مكورة من المطر، انساحت بقاياها فوق البساط الرملي الذي رسمت قدماي ممليه كائنا يشبه الزرزور. خدر يشبه الغيبوبة سرق وجودي، فتنفست بعمق مستفيضا نفثات الهواء الى داخل رئتي.
سطح المنطاد مقتربا مني، فلمحت الرجل المقعد هذه المرة دون الاستعانة بالناظور، وزنته بعيني، فبدا شحيحا لا يتجاووز بعظمه وجلده حفنة من الكيلوات، أجفلني منظره، وأجفلني أكثر أنه يشبه شخصا عرفته في حياتي. أبعدت الفكرة عن ذهني، فلا يمكن للمصادفات أن تكون وقحة الى هذه المدرجة، حتى تجمعني، أنا الذي جئت الى هذه الجزيرة لأنهي حياتي، برجل أعرفه يوشك أن يغادر كرسيا الى القبر. صرفت بصري عنه الى الصياد الذي كان يدون ما يمليه عليه المقعد، في دفتر ذي غلاف جلدي بني، كأنه من النوع الذي تدون فيه الوصايا الأخيرة. حاولت قياس نوم حديثهما بعيني، بعد أن جلس الصياد على مصطبة المنطاد واضعا الدفتر على فخذه، كانت فخذه مثل أفخاذ الجزارين وهي تكاد تنفجر من التخمة.
خصومتي مع حياتي قادتني الى هذه الجزيرة، فأنا كنت أريد الانتحار قبل. أكثر من عشرين عاما، لكنني ختمت بالشمع. الأحمر، كل هرة على قراري بعد حادث يبدو أنني كنت أتمناه في أعماقي. ففي المرة الأولى، وكنت حينها في مطلع العشرين، أتممت التجهيزات الضرورية لا نتحاري بعد أن اشتريت قنينة من خل الصنوبر. وهو سائل كان الحجامون عندنا يعطون ثلاث قطرات منه لمن يقصدهم، بعد أن يشكون باصابته بمرض يسمونه الخمسة، والخمسة مرض غريب يشيط القلب فيحرقه، ويقول الحجامون أن دمعة تمتنع عن الخروج فتظل في مكانها أعواما، حتى تنزلق في يوم إلى داخل الجسم، فتثقب القنب دون أن تكشف عن أسرارها طوال تلك الاعوام لعين أخرى غير،عين الضحية. وبحسب علوم الحجامين، فإن ثلاث قطرات من خل الصنوبر، بحافية لتفتيت تلك الدمعة، لذلك اشتريت تلك القنينة بأمل أن أفقت بعد ,أن أشرب ما فيها كاملا، دموعي وقلبي.
أنهيت في ذلك اليوم الصيفي استعداداتي، بعد أن ودعت أهلي وأصدقائي، دون أن أجعلهم يدركون الى أين سيتدحرج جسدي. في النفق المظلم على عتبة الموت، سمعت صوت أمي يناديني،جميل، جميل، تعال يا جميل انظر صورتك في التلفاز" تدحرجت. تلك الكلمات. مغرية قرب أذني فمن لا يكاد يغمى عليه فرحا أو ذهولا. حينما يرى صورته في التلفاز وهو جالس في غرفته. خرجت الى مكان الصوت فاستقبلتني أمي قائلة " خدعنتي عيناي ياولدي، كان صورة منك العينان والشعر والفم، حتى أن صوته وهو يزعق بمن حوله كان مثل صوتك تماما حين تزعق بنا في البيت. هيا، في المرة القادمة ستكون أنت كما أراك ألان في صدر التلفاز" نظرت اليها وهي تطحن البيضة تحت أسنانها، ثم قلت لنفسي مواسيا "ربما سيحصل ما قالته ". كانت تتحدث بيقين صارم، كأنها تتبادل إشارات مع من بيده الأمر، سيما وأنا من المومنين بمذهب الاشارات. طويت تلك المحاولة كما كانت أمي تطوي سجادة صلاتها. متعلقا بوعدها الذي تتبعته لثلاثة أعوام كما يشب قط فأرة.
قضيت الأعوام الثلاثة اللاحقة منتظرا وعد أمي. كاد أملي يتفتت بعد أن رأيت في التلفاز من هم أقل شعرة مني، غير أنه عاد فالتحم حينما كنت أسمع مذيعا يبشر، بين فترة وأخرن. أن مفاجآت ستتضاءل أمامها كل المفاجآت القديمة هي في طور النسج. ضاق جرحي أكثر بعد أن حثني ملاك. رفرف بأجنحته على وجهي، على معاشرة امرأة وجدتها يوما قربي دون أن أعرف الطريقة التي وصلت بها الى. أصبحت تلك المرأة في غضون شهور زوجة لي، فظننت أن الانتحار قد دخل الى محفوظات التاريخ. استرسلت في تدبير محبة لتلك المرأة، فلم أعثر عليها. كنت الفظ بسفر الكلمات، بين فترة وأخرى، فأرى تلك المرأة سعيدة كما لو أنها فصلت الماء عن اليابسة، طلبت مني في الأيام التالية أن أعيد على مسامعها نفس. الكلمات كي تمتليء حجرات حياتها، كمن أخبرتني بمعبة الحب. لثر. تلك الكلمات مرت عل ذهني فأكلفة مثل نقيق ضفدع في ليل يتنفس هواء غابة.
اعتادت في. العام الأول على مذهبي الحياتي، وربما أشفقت علي، غير أنها في يوم من العام الثاني، وأظنه كان يوما سراخنا. جمعت بعض حاجاتها الضرورية، في حقيبة بلون الرمل. ومضت دون آن أراها بعد ذلك.
عاد اليأس يتسلق مدارا روحي ثانية، بعد خسارتي بصورة مفاجئة لرباطي العاطفي، الذي نفخ في، قلبي، لسنتين غيبوبة دافئة أبعدت من خيالي تلك النية التي شطرت حياتي دائما الى نصفين. تأسيت أول الأمر على سقوطي في الحفرة من جديد، لكن أبي زارني في منامي بثوب أسود يشبه ثوب قس ارثوذكسي، وهو يعرف أنني لا أحبذ زيارة غريب لي في منامي، ثم قال لي، بتهذيب جم، وهو جالس على منصة من خشب العرعر "تلك هديتي لك، إنما بركة من الرب أن تهجرك تلك المراة ". أحسست أن عظامي تطقطق فوق السرير. المصنوع من خشب الزان، ذي المساند الأربعة التي تجعله يبدو مثل قطرة زيت تتمدد فوق الماء.
ثلاث ورقات كانت رسالة الوداع التي تركتها زوجتي على طاولتي صرفت بصري عنها أول الأمر، غير أنني عدت لأقرأها بعد اليوم الرابع. من خروجها. كانت تشتم في رسالتها، المنقوعة بانشاء غاضب، مربض حياتي ويقيني ومذهبي، زاعمة أنني لا أليق برمش من رموش عينينها،. ثم أزدادت انفلاتا في الورقة الثالثة فغرزت نصل شرها الدفين في مكان تعرف أنه يؤلمني، كتبت قائلة "انتشل نفسك من أوهامك تبل فوات الأوان، اذهب الى طبيب نفساني يعلمك ألون الحب لتتدفأ بها روحك
القارصة ".
عثرت. على طبيب نفساني بالصدفة، بعد أن لفتت نظري لوحة غارقة في سخام أسود، على مدخل عمارة صغيرة، فأتحته بهمومي فطلب مني وهو ينظر الى سقف حجرته أن أتمدد على سرير فني اللون شاقت مفاصله وشرايينه، حتى تصورت أنه سيتقوض عندما أنثر جسدي فوقه. اقترب مني متفرسا في وجهي بينيه المرتبكتين المتشبثتين بنظارة إطارها من الصفيح الذهبي المهتريء، كان حليق الشاربين، كث اللحية، يمرر راحة يده فوقها كما يفعل الشيوخ. ألبستني حركاته ثوب ارتباك أخل بإنشراحي وعرقل شحذ ما رتبته في حلقي لسرده عليه.
أخرج دفترا صغير من ملاءته البيضاء، وأخذ يدون عنيا بقلم ذي نصل بدا كقضيب يخرج من مخدعه، بعض الكلمات. كان لسانه ينساب أثناء تدو ينه من زوايا الغمين، فبدا لي كأفعى تدب بين نبت. شجر في أطلس غابات على خط طول مدفون في أفق ضائع. فرفعت روحي وشعرت أن الرجل سيهوسني،بل إنني سأكون مثل، سيزيف أدفع صخرة ملساء الى أعالي الجبل لتعود قبلي الى سافلة، جذب يدي الى الأعلى وتركها تسقط فوق صدري " ما بك،ألا تستطيع السيطرة على يدك ؟" قال لي وهو يمسح جبينه بكفه "أنا نذلك هنا، قلت له وأنا أفرك عيني الجافلتين من حزمة ضوء، باغنتهما بعد أن أنحرف الى جهة اليمين.
كنت في المخامسة والعشرين من عمري، حين بحثت عن طريقة ثانية الانتحار. عثرت أخيرا على طريقة في أحدى المجلات، في بريد قرائها، حيث وصف لهم أحد القراء معاناته بعد فقدان أخيه الذي انتحر بعد أن لف سلكا كهربائيا مكشوطا حول عنقه. فوجئت بالطريقة التي شحذت سكاكين خيالي، وسلخت هواجسي ائتي جففت حلقي في تلك الأيام متوعدة بصوتها الأنثوي بفشل المحاولة، تخاصمت مع ,أهلي وأصدقائي، زمجرت في الليلة الأخيرة قبل الانتحار في الحانة. كسرت زجاجة. فنهض أحد الزبائن وكاد يهشم رأسي لو لا تدخل صاحب الحانة،هرع الى رجلان، نزت من عظامها رائحة كريهة تنفستها بسرور، وهما يحملاني الى خارج الحانة.
أصبح السلك الكهربائي المكشوط في يدي اليمنى، لم يبق إلا أن. أضغط على زر الفور، رز الهاتف في غرفة الاستقبال وسمعت أختي ترد قائلة أنه ينتحر" انفجرت كما يحصل لقنينة غاز، أريت وأزبدت ثم دفعت السك بعيدا متجها الى أختي، شتمت كل ما يمت لها بصلة، وملحت غيظي بشتائم على مقاسها لا يفهمها غيرها، اختللت حينما ردت علي بموت ناعم.ليس لي ذنب، عثرت على وصيتك فوق هذه الطاولة.
حملت حقيبتي وغادرت مدينتي بعد تلك المحاولة، ظننت أنني نجوت من مكانا البشر وابليس بصوت مزماره ذي الرنين المدوي كالريح في أذني. "ليتني لم أفعل " تلك هي الجملة التي غمرتني بعد مسيرة قصيرة خارج دارنا. احسست أني كسبت الحياة وخسرت روحي، غادرني غضبي الساخن فأصبحت رزينا لا تصرخ حينما أري فظاظة، مرحا أتشظي من الضحك حينما أقع على مشهد نادر، كما كانت تفعل أمي. لا ينكسر قلبي حينما أرى بائسا يواجه لوحده صمت العالم المحبوك. وتغاضيت
ببطء من رسالتي المقدسة في اعادة تشذيب الكائنات بمقصي الملائكي، حين ثم يكن يهمني. أن تفقد الأرض آلاف البشر في عملية التشذيب تلك، ما دمت سأضمن ارتداء الجميع مثل ثيابي.
هبط على حياتي، بعد ذلك في السنوات التي قضيتها خارج دارنا، رخاء مثل ثلج يسقط فوق قمة جبل، تدفأت بذلك الرخاء رغم. برودته، واتخذته زينة اطرد بها لوعة أيامي الماضية، التي لم تكف عن مداهمتي في ظلام نومي، بين فترة
وأخرى فكنت أشعل في جوفها نارا لتبددها سحب الدخان عن ناهري.
أنصرفت الى تدبير مشروع خاص بي، مقهى سميته بيضة الشيطان أطلقت الاسم على المقهى أول الأمر على محمل الهزل، فإذا به اسم يخلب عقول الكثيرين. كان الزبائن يتبارون في استنباط المعاني المحتجبة التي كنت أرمي اليها من تلك التسمية، فيما كنت أجلسن على مقعدي أقهقه بصمت مسر لم يتجاوز خيالي أكثر ما تعنيا كلمتان بسيطتان : بيضة وشيطان. استنفر المجهض خياله لتفخيم مقاصدي. وأصبه بعضهم يسألني أسئلة دارت في حلقة عظمة، لم أفهمها رغم كل مصابيح الانارة التي استعنت بها. كانوا يروضون ما لا يصح ترويضه ليتسلق جدار الكلمتين. خامشا بأظافره عاصفة مثل رمشة عين، بأمن الاطلال على متحف المعنى.
لم ألتفت كثيرا الى ثرثرتهم، استعضت عما يملكونه في رؤوسهم بما أملكه في جيبي. كنت أهشم دوي الأصوات الصارخة في جوفي، المصرة، في حنق على جهالة رأسي مما يحتاجه صاحب مقهى من ذلك النوع. بالضغط على زناد البذخ، فتهدأ تلك الأصوات، بعد جلجلة ذات شعاب لا تحصى.. في السنة الثالثة من عمر المقهى، تزوجت من شقراء أدمعت عيون رجال،كانوا يحفنون أحشاء التراب الذي تدب عليه، فيقفلون راجعين الى بيوتهم ليضعوه في سندانة السقاء المنتظر. مالوا ليتصيدوها تحت بصري، حيمنا كانت تأتي كل يوم الى المقهى، غير أنها كانت تمشط شعرها الأشقر، غير عابئة بنهم، ناظرة الي ببروق عينيها الزرقاوين السخيين، حاسرة قميصها من الامام فوق السرة، كأنها :وادت أن تطلق أفاعي شهواتي من مخادعها.
كانت تلك المرأة في السنوات القي قضيناها معا، منكر قطرات زيت صبت على انابيب صدئة، اتسع قلبها لمعادلاتي الصاخبة مثل ضربات مطرقة على جحر، محاولة استمالتي عظما تستميل الأمواج صخور البحر. غير أنني كنت مشغولا بانتزع، طاعتها لي، ولم أصرف النظر عن الأمر رغم دعواتها المتواصلة لي بالانشغال. بأمر أنفع. في السابعة، من صباح كل يوم، كانت تمتطي دراجتها النارية، غير آبهة بالريح أو المطر، أو نفاياتي المتراكمة في طريقها، لتصل الى مكان عملها. وحينما كانت تعود فإن خديها كانا يبدوان، عن يمين ومثول حمراوين بلور النار، بفعل مداعبة الريح لهما.
الكرزة، هكذا أسميتها بفعل بذخ الدم في رواق وجهها، كانت تعمل في الجهة القديمة من المدينة في مكتب للنقل يقم البضائع الطازجة المتدفقة من الميناء الشمالي الى الأغصان المتشابكة طول البلاد وعرضها. وكانت قامتها العملاقة المنشقة الى ضفتين، واحدة شهوانية تكفلت بإفراغ جوفي المعتم بإتقان دموعي، والأخرى بالغت في أعرها مما يورثه الموت على مجرات الأرضية، كانت تسالني وهي تصنف سعادتها الى مراتب وبيوت، "أنظرة الا ترى أنز مشدودون الى قدرنا بخيوط فاحشة، ألسنا مثل فضلات الأصباغ ننزلق الى جحيمنا بخفة طيران شعرة ؟".
ذاك الشقاء من حزما الحب الرقيق الذي رضعته من ثدييها، كان لكنة لم أسمع بها من قبل. لم أتعود مثل سحب الحزن الفاتنة تلك ذلك آن طفولتي كانت، عبورا مذعورا من صرخات أبي الغليظة الى مشاكسات أخي الأكبر مني. لا أذكر ,‘نني استراحت في احنضان أبي، كما ثنت آشاهد باقي الأطفال. كنا من نسلى يولد مرتاب النظرات مما حوله، باحثا بأصابعه الصغيرة عن ثدي آو صدر يركن اليه، فتكون النتيجة مثل صيد في الظلام، إذ يتعود الرضيع وهو يمضغ الحلمة على بلاغة التجريه والشتم التي يوقدها الأب مثل الشواء في قضبان أذني أمه.
هكذا كنت ضائعا وسط مجرات الحب التي وضعتني الكرزة داخلها، بل كنت غاضبا ومطرقا في أحيان كثيرة، وهي تتهادى الى جواري. فتسألني مستخفة "أضاع منك شيء: "، ثم تجيب بنفسها على سؤالها بعد أن يعرض الصمت على وجهي "ما أضعته لن يعود، تدرب على أن تبدأ من جديد". كنت أهرب من تلك الحوارات الجادة الى غيبوبة الافراط في مجاهل الحنين، حتى أنني صرت أتتفس ثغرات احاسيسي كجرح مشغول بأدغال الدم. كنت أعرف، من ناحية، أنفي لم أعد أتحمل تلك الأرض التي يتذابح على تخومها أصناف من البشر، لا يلبث الفالت منهم من مذبحة أن يذهب من كان في صفوفه بالأمس. ومن ناحية ثانية، لم تناسب البلاد الجديدة أطواري ورياح قلبي ووسائد عيني، فقد كنت أهز ذيلي مثل الكلب شاكرا كل إيماءة ود، ثم أرتخي متمداعلى الأرض ناظرا بعينين مغتبطتين الى من يتأملني، متصنعا فرحة تليق بما ينتظره مني سادتي الجدد، غير أني سرعان ما أجد نفسي وحيدا من جديد بعد أن ينصرفوا دون إشارة عابرة. فأطأطيء راسي ماضيا الى لا معلوم مريب.
لم أبح لصديقي بما كان مدفونا في قاع روحي، تظاهرت بالانشغال بمقهاي، لكي لا تتراجع ابتسامتها التي كانت تنفخها على وجهها في أي وقت تريد.نساء كثيرات غيرها في المقهى وأنا المرجل الوحيد في الدف ء النابت هادئا على سحنة المكان. كنت أول من يدخل الى تلك الخيمة، صيفا شتاء، ربيعا خريفا، وآخر من يختم على أوتادها بأصابعه المستعرة التي تشم رائحة اضلاعها. كانت بعض العيون تتزاحم مستطلعة بفضول بذور وجهي القادم من قارة مفرطة في أهوالها منذ أن ربطها امة بذيل عفريت لا يكف عن ذعره من رعيته التي تقه في نطاق أقداره، فينزح بها، مستنبطا شروع خلائق القارات الأخرى، من السهول الى الصحراء ومن الصحراء الى مدافن جوفت تضاريس تلك القارة.
أسلافي على ,تلك الأرض، من الذين عبروا قبلي اليها، دخلوا أقفاصا متنوعة، أتلفت نظراتهم وعقولهم وأصبحوا مسرفين في بخلهم الروحي، شرهين في تقليد النسخ المرة من أمامهم كل يوم، أسخياء في تمويه دهاليز قيعانهم المظلمة، حتى يظن الجديد مثلي، أول أيامه، أن أمواج السعادة تقدانه على أبوابهم. أحسست أنهم، طيلة السنوات القي قضوها هناك، تزوجوا غيبوبة أنجبت لهم أولادا وأهرامات ~ن تحته ذاكرتهم الساعية، بين فترة وأخرى لأن تفتح لها شقا في سطح رؤوسهم.
هكذا تخففت مع الأيام من أملي بأن أعزف أسراري لأسلافي على تلك الأرض، وأن أنحت مع بعضهم ما يخفف علي ضربات الغربة التي حكت أحشائي، فأحسست مرارا بسببها أني قريب من عجلة الموت. عاد الانتحار يوسوس في رأسي، فاندفعت دون جدال كلويل الى مكتب سفر، طالبا من العاملة فيه تدبير رحلة الى جزيرة صامتة يستطيع الكائن. أن ينتحر فيها بهدوء يشبه النعاس. أكدت لي العاملة بصوت فاتر خرج من فم صغير عالق بوجه لعوب "المكان الذهبي لهذا الفرض هو جزيرة لا بالما"، وأدهشني تأكيدها الخالي من التفكه " في كل أسبوع، نبيع أكثر سن 0 10 تذكرة لنساء ورجال، يطيرون الى هذه الجزيرة لنفس غرضك ".
أقترب المنطاد أكر، وأنا أقف فوق صخرة شاهقة في اللحظات الأخيرة من حياتي، حررت ناظوري من غمده الأسود، ووضعته فوق عيني فوثب، المنطاد على عدستيه ليرشد بصري الى الرجل المقعد والصياد الغارق في تسجيل ما يمليه عليه الرجل. حل استرخاء في هيكلي، وتنفست عميقا أنسام البحر الذي لاعب المنطاد كما تلاعب أم،ضيعها. نظرت الى المقعد، بعد أن انخفض المنطاد وأصبح على بعد أشبار مني، كان يتطلع الى الأمواج وهي تنشر أجنحتها تحت المنطاد. تحرشت نظراته الخرساء بذاكرتي أكثر ما تحرشت الأمواج الناهضة عاليا بأقدامي فيما بعد. انجرفت اقشر طبقات بحثا في تجاويفها عن أثره.
خيل إلي، بعد أن ضغط زناد ذاكرتي على عيني، أن الرجل المقعد انطق بساقيه الرشيقتين في شوارع مدينة جور، التي ولدت فيها. كان يرتدي ثيابا ملونة تتوقف العين عندها، واضعا على رأسه قبعة سوداء تتدلى على حافاتها خصلات من الشعر. حثتني تلك السور أن أضغط على زناد ذاكرتي أكثر، فرأيته في منتصف عشرينه، يحادث زوار معرضه بتهذيب جم شارحا لهم مخاطبات التماثيل وتورياتها فيما دارت عيناه الدافئتان تتفحصان في عطش انطباعات الصحفيين وهم ينقلون الات تصويرهم بين تمثال وآخر.
أنا الآن في منتصف الثلاثين من عمري، والرجل المقعد في منتصف الأربعين، ربما بحسب مكيال عيني. خلفنا عشرون عاما تعبر السماء كشريط من طيور هاذية. استنشقت تلك الأعوام كما لو أنني خسرتها في مقامة، توسع منخاري فشممت غبارا يهبه في ممرات صدري، غبارا أحمر يرتخي. كأنفاس الشيطان فوق رموش العين والحاجبين وشعر الرأس، الغبار هو غسق جور الجالسة على موقد جمري زي فحم يصر مديرا وشيدا، وهو يشوي البشر المرضوعين في أسياخ بعنق مدور على وسطه.
وصل المنطاد الى المكان الذي كنت أقف عنده، كانت الشمس تتموج مثل أنثى على حافات رأسي الصياد والرجل القعد. تنفس الصياد عميقا ثم استدار بجذعه المنحني نصف دورة ليقيض له السيطرة على الكرمي ذي العجلتين. أطاعه المقعد بل بادره اهتماما بالوصول، ضاما ساقيه النحيلتين الى بعضهما غائصا في كرسيه. أوشك اللفن أن يتفتت، فعيناي مضتا في بحثهما عن تصنيف يهتف لهما بذكر ذلك الرجل، المبهم تلك اللحظة لانخراطه في مغيب طويل عنهما، بحبر غامق صارم كتبت عيناي اسم ذلك الرجل، فبدا الخط الذي تبلغت به يشبه خطوط حجاب أو تعويذة.
سقطت، تلك اللحظة آخر غوايات الانتحار اذ تضاءلت قيمة نفسي عندي، فيما تساوت قيمة الوجود أو العدم انشغلت شراييني بالفتيلة المبتلة بالوقود التي أشعلتها قدحة فيالي. عاونت الصياد بلهفة، متلقفا الكرسي من المنطاد الى الساحل، حيث فطست أحدى قدمي تاركة أثرها فوق لوحة الطين. انتبه الصياد الى فضولي،، فتعددت على وجهه الأسئلة مطوية في فمه وتحت عينيه. شعرت أنه يتخير الكلمات المناسبة للاستفسار مني، طاردا خيمة أمسى ضاق بها وجهه الصغير. دفعنا الكرسي بعيدا عن أنفاس الموج، قرب كومة من الشتلات تمايلت أوراقها الخضراء في ذلك العراء الرحيم. رفع الرجل المقعد وجهه وقال للصياد بنبرة واهنة "هل وصلنا الى المشفى؟"، "نعم، نعم " رد عليه الصياد بصوت ذي مدارج ودودة.
لم أعرف عن أي مشفى سأل المقعد، استفسرت من الصياد عما عناه، فقال لي "جئنا من الناحية الأخرى من الجزيرة حيث لا يوجد مشفى لمثل حالته، في الناحية حزه يوجد مشفى لا يخطي، كثيرا في صناعته، وخصوصا في حالة ميئوس منها كهذه ". نقل المقعد بصره النحيل على وجهي ثم قال للصياد "من هو هذا الرجل ؟". لم يبد الصياد رغبة في قدح افترضاته، فاكتفى بالقول "لا أعرف، أنا " لا أعرف ". استدرت نحو المقعد. وخاطبته من الزاوية التي انحسرت فيها الشمس "أنا من مدينتك، يا أخي".
ما من أحد يستطيع وصف ضيافة المقعد لجملتي، أحسست أنه أراد أن ينهض ليحضنني، ذهول مغلي وفتائل من الود تدحرجت فوق وجهه، صدحت ألوان مجلوة ببريق فرح أخفت تلك القروح القرمزية القي ربضت فوق وجهه كتلال. نفخ المقعد هواء من فمه كما كان ينفخ دخان لخافته وهتف مستفسرا "اانت من جور أيضا؟". تزينت بدوري بالشعاع المنبثق سن وجهه وشعرت أن ذلك المريض أو الميت كما أفهمني الصياد، مازال نهما لحياة جديدة مع أصدقاء طباعه أو من نجا من ريحها وزلات تاريخها" أجبته بمرح صاخب، لم أعرف كيف اخترق بتلك القوة شبابيك روحي.
انخرط الصياد معنا في افدوا الفرح زان، برقت عيناه وافترت شفتاه، فبان فمه المحشو بأسنان ذهبية في مقدمته. ضمني نحوه بطريقة محمومة، فشممت رائحة أسماك بحرية مفلطحة فضية أو حمراء اللون، تتحصن في سطور الأمواج لتنبشق بعد ذلك كتبس من مجسات البحر. بادلته وده بابتسامة خرجت دافئة من جدران وجهي، ثم تذكرت أنني ينبغي أن أستوضحه عن الطريقة التي تعرف بها على المقعد. فسألته "كيف تعرفت عليه ؟". نظر الي بمقدار خفيف من الحزن، ثم قال "إنه يسكن في قريتنا منذ عامين، منذ أن يئس من ريح تشفيه ". اعترضته مستوضحا "ولماذا في قريتكم تحديدا؟"، فرد وهو يحدق في عيني " كان يأتينا في كل اجازة قبل أر يمرض، حتى أصبه واحدا هنا" ثم ضرب بكفه على ساقه نافثا هواء ساخنا من فمه ليخفف الغصة التي كادت تخفقه دفي المرة الأخيرة وصلنا وقد قضم المرض عافيته. أصبه مثل غصن جاف لا تمسه اليد إلا ويتبعثر بين أصابعك ".
تنفست حزن الصياد، الذي غرق بعد الانتهاء من جملته في سعال يشق الصدر. انهالت يدي، دون أن أنتبه بضرب خفيف على ظهره ليتوقف السعال. قاطعني قائلا "لا ينفع، فالتبغ لا يستغني عن موسيقاه اليومية ". ثم اتجه الى المنطاد ساحبا من صندوق خشبي بني دفترا لف في قماش عسلي اللون، "هذا الدفتر أمانة عندي، إنه مذكرات هذا الرجل الذي ترده أمامك ء. تشاغلت عن المياه بالنظر الى المقعد الذي خفض رأسه مثل الأطفال حينما ينامون غفلة، تحاشيت انتهاك أفكاره قبل الموت، حدجت فيه ثانية فكانت تلك آخر نظرة من عيني تتحرى ذك المخلوق.
هادرا كأن المكون من حولنا، رأيت سقوط أفواج من الغيوم وسط البحر، فانفجرت أصوات في نواحي السماء الواطئة، كانت مثل صرخات حرب هادرة في مدى الكون. لم يكترث الصياد لتلك الاصوات، كان يرفع رأسه بين فترة وأخرى ليعدين الألق المنبعث من تلك الانفجارات، ثم ينظر في وجهي ضاحكا. سعيت الى تنبيهه الى ما يدور، فأطلقت كلماتي عاتية مثل تلك الأصوات " رائحة الباروا تنزل الى قصبتي الهوائية، الا تريد أن تتحرى مصدر الدوي؟". لم ينظر ناحيتي، أحسسته أروغ من ثعلب، مد يده ,الى ريقه ليمسح قطرات العرق الدابة تحته، ثم بصني بعينين كأنهما من زجاج تدوران على زئبق. لججت عليه مثل خنفساء، قائلا له بفظاظة "أنت مثل النعامة تخفي رأسها حينما تبصر ما لا يناسبها، الا تنوي أن تفسر لي كل هذا الغموض ؟".
جر المصياد عن لخافته نفسا عميقا، ثم قفل راجعا الى المنطاد ليأتيني بدفتر هن اثنين وعشرين سنتيمترا طولا وخمسة سنتيمترات عرضا. ذق غلاف كارتوني متين مصبغ بثلاثة ألوان. الأحمر مركزها، وفي الزوايا كان الآبيض والاصفر والأزرق والأخضر. اندلقت في منتصف الدفة ر أخاديد صغيرة هي بقايا قطرات من سوائل متنوعة أو دغدغة رغوة لشفتي الدفتر. "أسمع " قال لي الصياد بصوت يخرج من أوردة قلبه "هذا الدفتر هو كل ما بقي من هذا الرجل، أريد أن أطمئن الى أنه سيحفظ كما أراد، في هذا الدفة ر كل ما تبرع به لغيره، أعني ما راه وخبره وأحبه وكرهه، أريد لهذا الدفتر أن يقرأ على مسامع عن يهتم بالمصنفات النافعة، أتستطيع أن تعدني؟".
كلمني الصياد كما لو أنه كأن يقرأ خطبة، لعثمني بجمله المتينة التي أفصحت عن وفاء نادر، أصبحنا نسعي اليه في الأسواق فلا نجده. "نعم. نعم " قلت له على عجلة متوعدة في صرامة، وحضنت الدفتر بين يدي كأنني اقتنيت قطعة من ثمار الجنة. مد الصياد الي يده. فأخذتها في حيرة، ثم واعمل غير عابيء بذهولي "إنه لمن حسن الحظ أن أصادفك في هذا المكان النائي لتتكفل بهذه المهمة النبيلة، أعطني يدك ليرتاح ضميري الى الأبد". أعطيته يدي وقلت له بتواضع متعمد "سأتسابق مع الريح ليري هذا الدفتر مسكنه على رفوف كتب هي رعشة الانسان أمام الموت ".
هز الصياد رأسا مؤكدا جملتي الأخيرة، ثم نظرت الى الرجل المقعد بعينين حزينتين، بعدما تأكدت أنه قاب قوسين، من الموت أو أدنى. رجعت أدراجي الى فندقي، بعد أن وصلت سيارة إسعاف نقلت المريض الى المشفى المركزي في عاصمة الجزيرة. غاب عن سمعي هدير الحادثة في الأيام التالية التي قضيتها في الجزيرة، رغم أني كنت أذهب كل يوم الى نفس المكان الذي التقيت فيه بالصياد والرجل المقعد.
تضاءل الدفء في الأيام التالية، بل أحكمت الأمطار من قبضتها على خناق الجزيرة بصورة لم يألقها الناس من قبل. لذلك أصبح كفي لا يتوقف عن احتضان الكأس في حانات الجزيرة المنتشرة في تجاويفها مثل غمامات الفاكهة المبعثرة على مرتفعاتها. في اليوم التاسع بعد الحادثة، قرأت في صفحة الوفيات خبرا عن موته، لم أكف عن قراءة الخبر مرات، وخصوصا النعي الذي وقعه الصياد باسم سكان قريته وهم يرثون غريبا أسموه "دمعة ببغاء.
صلاح عبداللطيف (قاص من العراق يقيم في المغرب)