للمرة الثانية (1) أعود والعود أحمد للحديث عن أحد أفذاذ تراثنا العربي الاسلامي ثقة مني أن الاستعانة بحسنات الماضي ضرورة تاريخية, ليس تبجحا. أو تباهيا, ولكن لبناء أساس متين يجعلنا نساير واقعنا ونحن مطمئنون. ولتعريف جيلنا الجديد بثقافته الأصيلة التي يجهل عنها الكثير, أو يتعمد ذلك بدعوى الحداثة الكاذبة. وهذا الاختيار لم يكن من قبيل المصادفة, لأنه يتعلق برجل برز في شعر العقيدة الذي عرف اهمالا وطمسا فظيعين مقارنة بفنون شعرية أخرى, إذ أن ذويه ينطلقون من عاطفة مفعمة بالايمان الصادق. وآل المهلب من الذين استرخصوا حياتهم في سبيل الاسلام. فخاضوا حروبا يشيب لها الولدان ضد الأزارقة صورها أحد أبناء عمان, وهو كعب بن معدان الذي أبان عن قدرة فائقة في الشعر والفروسية والخطابة. فمن يكون هذا الرجل? وما هي تجليات هذه القدرة?
1 – لمحة دالة على حياته
إن قدماءنا كانوا يبجلون الشعراء الفرسان كعنترة, وعمرو ابن كلثوم, وابي فراس الحمداني. ويقللون من شأن الذين يكتفون بوصفها دون معاينتها, ومن حسن حظ كعب أنه كان في عداد الأولين وزاد عليهم بكونه خطيبا مصقعا, فقد جاء في »الأغاني«: »هو كعب بن معدان الأشقري, والأشاقر قبيلة من الأزد, وأمه من عبدالقيس شاعر فارس خطيب معدود في الشجعان, من أصحاب المهلب, والمذكورين في حروبه للأزارقة« (2) وفي »الأعلام«: »كعب بن معدان الأشقري, أبو مالك- فارس, شاعر خطيب«.(3)
إذن فكعب شاعر عماني عاش في العهد الأموي, ولا شك في أن التنافس الذي كان سائدا بين الفرق الاسلامية شعرا ونثرا قد ضربت بسهم وافر في اثراء شخصيته, الشعرية والخطابية. ولست أدري ما السبب الذي جعل صاحب »معجم المؤلفين« (4) لا يترجم له في الوقت الذي عرف بـ:كعب بن مالك, وكعب بن زهير?
2 – شاعريته وفروسيته: من النصوص المعول عليها في إظهار المكانة العظيمة التي تبوأها هذا العلم ما سجله »الأصفهاني«: »حدثنا وهب بن جرير قال: حدثنا أبو قتادة قال: سمعت الفرزدق يقول: شعراء الاسلام أربعة: أنا وجرير, والأخطل, وكعب الأشقري«.(5)
إن هذا الثناء لم يكن محاباة, بدليل أن جرير كان خصما ألد للفرزدق, ومع ذلك فقد اشاد به. وما أكسبه إياه الا ذيوع صيته وسط بيئة أموية خيمت عليها سحابة مؤججة بأشعار تنافح عن طروحات أحزاب سياسية شتى. فثابت تاريخيا أن آل المهلب خاضوا حربا ضروسا ضد الأزارقة. وقد ساير كعب هذا الحدث بسيفه ولسانه. مما أضفى على شعره حيوية وحركية, وهو يصور بسالة المجاهدين, ويخص زعيمهم المهلب بن أبي صفرة بمدح نحتت ألفاظه من قلبه. لأنه رآه بأم عينيه يقصم ظهر هذا, ويفصل رأس ذاك انه ليس مدح النابغة للنعمان, أو الأخطل لابن مروان حيث السيادة للهاجس المالي, وحتى يصدق الخبر الخبر نورد هذه المقتطفات من رائيته(6) من بحر البسيط حيث يذكر يوم »رامهرمز« وأيام »سابور« وأيام »جيرفت«:
يا حفص اني عداني عنكم السفر
وقد أرقت فآذى عيني السهر
علقت يا كعب بعد الشيب غانية
والشيب فيه عن الأهواء مزدجر
وقد تركت بشط الزابيين لما
دارا بها يسعد البادون والحضر
لولا المهلب ما زرنا بلادهم
ما دامت الأرض فيها الماء والشجر
كنا نهون قبل اليوم شأنهم
حتى تفاقم أمر كان يحتقر
نلقى مساعير أبطالا كأنهم
جن نقارعهم ما مثلهم بشر
باتت كتائبنا تردي مسومة
حول المهلب حتى نور القمر
هناك ولو حزانا بعدما فرحوا
وحال دونهم الأنهار الجدر
وبعد مقدمة غزلية عفيفة, ووصف لهول الحرب وقوة العدو, لم تفته الاشادة بقومه الأزديين:
وفي مواطن قبل اليوم قد سلفت
قد كان للأزد فيها الحمد والظفر
في كل يوم تلاقي الأزد مفظعة
يشيب في ساعة من هولها الشعر
والأزد قومي خيار القوم قد علموا
إذا قرومهم يوم الوغى خطروا
فيهم معاقل من عز يلاذ بها
يوما إذا شمرت حرب لها درر
ولم ينس في مكان آخر أن يلفت انتباه الخلفاء إلى الانتهاكات المنافية للشرع التي كان يمارسها عمالهم. مؤكدا أن فصل رقابهم هو السبيل الأنجح لتطهير الأرض من خبثهم: ؛وقال كعب الأشقري لعمر بن عبدالعزيز: (من بحر الكامل)
إن كنت تحفظ ما يليك فانما
عمال أرضك بالبلاد ذئاب
لن يستجيبوا للذي تدعو له
حتى تجلد بالسيوف رقاب
فلما سمع هذا الشعر. قال: لمن هذا الشعر? قالوا: لرجل من أزد عمان يقال له كعب الأشقري, قال: ما كنت أظن أهل عمان يقولون مثل هذا الشعر«. (7)
بفضلك يا كعب عرف الخليفة المسلم أن لأهل عمان شعرا في الجهر بالحق الملائم دون خوف من لومة لائم. أما عبدالملك بن مروان فقد عرفك- قبله- حق المعرفة حين حث شعراءه على الاستعانة بك في مدحه ؛أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال: حدثني أبوعمرو بندار الكرجي, قال: حدثنا أبوغسان التميمي عن أبي عبيدة قال: كان عبدالملك بن مروان يقول للشعراء: تشبهونني مرة بالأسد, ومرة بالبازي, ومرة بالصقر, ألا قلتم كما قال كعب الأشقري في المهلب وولده: (من بحر الوافر)
براك الله حين براك بحرا
وفجر منك أنهارا غزارا (8)
وقد كان هذا الخليفة ذا بصر بالشعر حتى توجه جمهور من الشعراء وغيرهم بقولهم: »أنت والله يا أمير المؤمنين أشعر القوم« (9) وعدوه أيضا »متعبدا, ناسكا, عالما فقيها, واسع العلم«.(10)
3 – كعب خطيبا:
جاء في »الكامل« للمبرد (ت 285هـ): »ووجه(11) كعب بن معدان الأشقري, ومرة بن تليد الأزدي من أزد شنوءة فوردا على الحجاج, فلما طلعا عليه تقدم كعب فأنشده:
يا حفص اني عداني عنكم السفر
وقد سهرت فأردى نومي السهر
فقال له الحجاج: أشاعر أنت أم خطيب? قال: كلاهما. ثم أنشده القصيدة. ثم أقبل عليه فقال: خبرني عن بني المهلب. قال: المغيرة فارسهم وسيدهم, وكفى بيزيد فارسا شجاعا, وجوادهم وسخيهم قبيصة, ولا يستحيي الشجاع أن يفر من مدرك, وعبدالملك سم ناقع, وحبيب موت زعاف, ومحمد ليث غاب, وكفاك بالمفضل نجدة. قال: فكيف خلفت جماعة الناس? قال: خلفتهم بخير قد أدركوا ما أملوا, وأمنوا ما خافوا. قال: فكيف كان بنو المهلب فيهم? قال: كانوا حماة السرح نهارا, فاذا أليلوا ففرسان البيات. قال: فأيهم كان أنجد? قال: كانوا كالحلقة المفرغة لا يدرى أين طرفاها. قال: فكيف كنتم أنتم وعدوكم? قال: كنا إذا أخذنا عفوهم طمعنا فيهم, وإذا أخذوا عفونا يئسنا منهم, وإذا اجتهدوا واجتهدنا بلغنا فيهم آمالنا بإدراك الفرصة منهم. فقال الحجاج: إن العاقبة للمتقين: كيف أفلتكم قطري? قال: كدناه ببعض ما كادنا به, فصرنا منه الى التي نحب. قال: فهلا اتبعتموه? قال: كان الحد عندنا آثر من الفل. قال: فكيف كان لكم المهلب, وكنتم له? قال: كان لنا منه شفقة الوالد, وله منابر الولد. قال: فكيف اغتباط الناس? قال: فشا فيهم الأمن, وشملهم النفل. قال: أكنت أعددت لي هذا الجواب? قال: لا يعلم الغيب إلا الله, قال: فقال: هكذا والله يكون الرجال! المهلب كان أعلم بك حيث وجهك«.(12) وفي »الأغاني« زيادة »وأمر له بعشرة آلاف درهم وحمله على فرس, وأوفده على عبدالملك بن مروان فأمر له بعشرة آلاف أخرى«.(13)
لا فض فوك يا كعب, فأنت والله حقيق بهذا التكريم الذي خصك به الحجاج. وعبدالملك المشهود لهما بالصلابة والشدة والفهم الثاقب لخبايا الكلام العربي, وإن هذا العطاء لن ينقص من قيمتك, فقبلك زهير بن ابي سلمى مدح الناس بما فيهم دون كذب, ونال عطاياهم, وأثنى عليه الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه الثناء الحسن, فرسولنا عليه الصلاة والسلام يأمرنا بأن ننزل الناس منازلهم. إنه الاختصار المفهم الذي يعد من سمات الخطيب المصقع الذي يضرب بالاطناب عرض الحائط لأنه يبعث الملل, فهو يحدثك يا حجاج عن أسئلتك حديث العارف بدقائق الأمور, يشبه فيجيد التشبيه..
هكذا جمع هذا العماني بين الشعر والفروسية والخطابة: ليت شعري, وليت الطير تخبرني, ما لكثير من أبنائنا في الاعداديات والثانويات والجامعات.. ما زالوا يجهلونه وإلا فلن نكون أعرف بالشعر من الفرزدق الذي لولاه لضاع ثلث اللغة كما قيل, أو من عبدالملك. اللذين أثنيا على مكانتك, وكأنني بك تردد في قبرك قول أبي فراس: (الطويل)
سيذكرني قومي إذا جد جدهم
وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر
آمل أن أكون قد ساهمت في التعريف بأحد أفذاذ تراثنا العربي الاسلامي. وان لي موعدا آخر- ان شاء الله- مع هذا الشاعر أحاول فيه دراسة رائيته المسجلة في ؛تاريخ الطبري« في حوالي ثلاثة وثمانين بيتا.
الهوامش
1 – المرة الأولى كانت مع »الأمالي العمانية« مجلة (نزوى) العدد 24 ص270.
2 – الأغاني, الاصفهاني (ت356هـ) 13/54 دار الفكر.
3 – الأعلام- الزركلي- 5/229- دار العلم للملايين لبنان- الطبعة 5/1980.
4 – معجم المؤلفين عمر رضا كحالة 2/669- مؤسسة الرسالة- الطبعة 1/1993.
5 – الأغاني 13/54.
6 – تاريخ الطبري (ت310هـ) 6/304- 308 تحقيق ابوالفضل ابراهيم- دار المعارف 1960- 1071.
7 – البيان والتبيين- الجاحظ (ت 255ه-) 3/316 – تحقيق: حسن السندوبي- دار الفكر.
8 – الأغاني 13/56.
9 – الشعر والشعراء- ابن قتيبة (ت276هـ) ص244- طبعة ليدن ببريل- 1902.
10 – حياة الحيوان الكبرى- الدميري- 1/64- دار الفكر.
11 – الضمير يعود على »المهلب بن ابي صفرة«.
12 – الكامل- للمبرد (ت285هـ) 3/1348- 1349- تحقيق الدكتور محمد أحمد الدالي مؤسسة الرسالة- الطبعة 2/1993م.
13 – الأغاني 13/56.
بنعلي بوزيان كاتب من المغرب