إيمانا مني بعالمية التراث الاسلامي، وبضرورة ربط الحاضر بالماضي لبناء غد ذي أساس متين، ويفشل كل محاولات التحديث التي تستخف بالمقدسات، ارتأيت أن أسلط الضوء على مصدر فريد، لكنه مغمور لدى الكثير من المثقفين، رغم كونه ينتمي الى "الأمالي" التي كان يمليها علماؤنا الأفذاذ الموسوعيون على تلاميذهم. ولا أخالني في حاجة الى توضيح ما للأمالي من أثر في صقل اللسان العربي الذي تعرض للخلل، وليس الخبر كالعيان. قد يقول قائل: ان عالم شهرة هذا المصدر ينقص من قيمته، ويرفضه عصر العولمة، وأرد عليه متعجبا: ما أكثر المصادر المغمورة التي تحوي الدرر في ثناياها. لكنها لم تعرف في زمانها. إلا بعد وفاة ذويها! حيث وجدت من ينفض الغبار عنها، وما التحقيقات التي يطالعنا بها باحثونا، غربا وشرقا. الا أبسط دليل على ذلك، فالعيب ليس في قدم المصدر، أو في عهد العولمة، بل فينا. ورحم الله من قال: نعيب زماننا والعيب فينا.
انها ليست أمالي أبي علي القالي، أو ابن الشجري، أو المرزوقي. لكونها أشهر من نار على علم. اننا أمام "الأمالي العمانية" للربعي.
فمن هو الربعي؟ وما المنهج الذي سار عليه في أماليه؟ وأين تتضح قيمتها؟
1 – ملامح من سيرة حافلة: هو "عيسى بن ابراهيم الربعي الوحاظي اليمني. المتوفى سنة 481هـ احدى وثمانين وأربعمائة. له "نظام الغريب في اللغة" (1) برز في الفقه، والنحو، واللغة (2) واعتمادا على مقدمته لكتابه الذي نتحدث عنه، فإنه ألف في بواكير حياته مختصرا في اللغة وهو مقيم باليمن. حيث حشد غريبها، وما قالته العرب في سفرها وفنونها النثرية. وهو الموسوم بـ "نظام الغريب في اللغة" وقد كتب له الذيوع. الا أنه لم يحل له المقام بمسقط رأسه، بسبب فتنة الداعي الفاطمي علي بن محمد الصليحي ألذي قتل سنة 459هـ (3) فهجرها، ميمما عمان، حيث طاب له المقام، فأثنى على أهلها الثناء الحسن: "ونلت ما أرجو أن أكون أهلا له من جميل الوفادة. وطلب الأ فادة" ( 4) مما شجعه على تفصيل ما كتبه باليمن. والاضافة اليه.
2 – عنوانه وتاريخ تأليفه:
اعتراف من الربعي رحمه الله – بسعة صدر العمانيين. وكرم ضيافتهم. نسب اليهم هذا المصدر الفريد، ووسمه. "الأمالي العمانية" (5). ومع أنه لم يشر ضبطا الى السنة التي ألف فيها. الا أن تحديده لتاريخ الفتنة حيث خرج من اليمن، وحل بعمان سنة 459هـ. يبين لنا أن هذه الجوهرة الثمينة من أمهات مصادر النصف الثاني من القرن الهجري الخامس.
3 – منهجه
من أبرز السمات التي كانت تميز مؤلفات القدامى، عدم تسطيرهم في مقدماتهم للمنهج الذي سيحذون حذوه، ولم يكن الربعي ليحيد عن هذا الميزة. وكأن به يوجة دعوة الى الخلف ليشاركوه في عمله، ويكلفوا أنفسهم عناء البحث. فبعد تفحصه تفحصا متأنيا ترسخ في ذهننا أن هذه الجوهرة الثمينة، تنكون من مقدمة المؤلف، وما يزيد على مائة باب.
فبعد أن حمد الله – في مقدمته – وأثنى على نبيه الكريم، بأسلوب مطرز بعبارات ريضة مزخرفة بالبديع. أشار الى الكتاب الذي ألفة حين كان فتيا، في غريب اللغة، يغلب عليه الاختصار، ونظرا لأهميته فقد قام بشرحه أحد أفذاذ القرن الهجري العاشر، وهو فخر الاسلام عبدالله شرف الدين يحيى الحسي من ملوك اليمن المتوفى سنة 272هـ (6). فأحاطنا – أكرم الله مثواه – علما بالظروف التي ألف فيها أماليه، والدافع الذي جعله ينسبها الى أهل عمان.
واليك الآن – عزيزي القاريء – أهم السمات التي طبعت شرحه:
– آثر أن يجعل هذا المصدر أبوابا، وعددها يفوق المائة بأربعة أبواب. وهذا يدل على عقليته العلمية التي تجعل التنظيم من أولى الأولويات.
– ايراده الكلمات دون مراعاة الترتيب الأبجدي للحروف.
– إن شرحه للكلمة. يشفعه باستشهادات، من القرآن، والسنة، والشعر الذي أكثر منه، والأمثال، وسيرة السلف، ومظاهر من البلاغة العربية، وهذه نماذج تشهد لذلك: أ
– القرآن والشعر: "والشواة: جلدة الرأس، قال الأفوه الاودي:
إن ترى رأسي فيه صلع
وشواتي خلة فيها دوار
وجمع شواة: شوى، قال الله تعالى "نزاعة للشوى" يعني جلدة الرؤوس. والشوى أيضا قصب اليدين والرجلين من البهائم. يقال:
فرس عبل الشوى أي شديد القوائم. قال الهذلي:…."(7).
ب – الحديث: "التوشير والتفليج، تباعد الثنايا،وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم (لعن الله الواشمة، والمؤتشمة،والواشرة والمؤتشرة، والواصلة والمؤتصلة، والنامصة والمتنمصة، والمتشبهات من النساء بالرجال والمتشبهين من الرجال بالنساء،"(8).
ج – الأمثال: "ورجل ألمعي: وهو الذي يظن الظن، فيصيب، قال أوس بن حجر: الألمعي الذي يظن بك الظن كأن قد رأى وقد سمعا
ومن أمثالهم: "الألمعي منجم" (9).
د – البلاغة: "والظنبوب: حرف عظم الساق، وجمعة ظنابيب. قال سلامة بن حنبل: أنا اذا ما أتانا صارخ فزع كان الصراخ له قرع الظنابيب وهذا مثل واستعارة. لأنهم يقولون للرجل اذا قام مشمرا في الأمر مجدا فيه، قرع لهذا الأمر ظنبوبه" (10)
والملاحظ في "البلاغة" أنه جمع دين المثل والاستعارة.
هـ – سيرة السلف الصالح:"والدردر:اللحم الذي ينبت عليه الأسنان قبل أن تنبت. ويروى أن رجلا دخل على رؤبة، وقد هرم، فقال له: كيف أصبحت؟ فقال: دخلت علي وفي فمي تمرة ألوكها على دردري. يعني أن أسنانه قد تساقطت من الكبر"(11).
– ولم يكن الربعي يستشهد بالشعراء فقط، بل تجاوزهم الى الشواعر: "يقال: رجل حنبل: قصير، ومثله حبتر، وبحتر، وجحدر، وعنفص، والحبركا: القصير الرجلين. الطويل الظهر. قالت الخنساء:
معاذ الله يرضعني حبركي
قصير الشبر من جشم بن بكر" (12)
– أحيانا لا يدعم شرحه بأي شاهد " والحماليق: بواطن أجفان العين واحدها حملاق".(13).
4- قيمتها:
إن المنهج الذي سار عليه صاحب الأمالي العمانية، وكذا الشواهد التي اعتمدها، يبينان لنا أنه كان ذات تفكير علمي منظم، و لا ننسى ثقافته الموسوعية المتنوعة، آيات، اشعارا، أحاديث، أمثال.. وأنه لمن الجحود المبين أن ينكر إنسان قيمة هذه الأمالي في عصر هبت علينا – معشر العرب المسلمين – رياح الحضارة الغربية، ونحن غير مسلحين ثقافيا، ومن الأمور التي توضح لنا ذلك، ويندى لها جبين الغيورين الصعوبة التي يجدها الانسان العربي في التعبير عن أبسط حاجاته، ومكنوناته بلسان عربي مبين، فما بالك بالنسبة للغات الأخرى التي غدت ضرورية لمسايرة العصر، كالانجليزية ورسولنا عليه أزكى السلام "كان يخاطب كل أمة بلسانها، ويحاورها بلغتها، ويباريها في منزع بلاغتها" ( 14). فأين نحن منه؟
صفوة القول: إن هذا المصدر له الفضل في تقويم اللسان، وتزويدنا بشواهد متنوعة.
وأخيرا وليس آخرا، أرجو أن تكون هذا المحاولة المتواضعة قد ساهمت في تعريف القارىء العماني أولا بذخيرة من ذخائر تراثنا العربي الاسلامي، حتى يتخذها حافزا للتنقيب والبحث فيه، متجاوزا كل الاعتبارات التي تجسد الفرقة لأننا نعيش في زمن لا مكان فيه للمنكمشين على أنفسهم، وثقا فتهم.
بقدر ما هو في أمس الحاجة الى القوة والعزم والحزم. التي تكون نتيجة التكتل والوحدة. ورحم الله شاعرنا ابا تمام:
وأيامنا خزر العيون عوابس
اذا لم يخضها الحازم المتلبب
ولعمري، إن نفض غبار النسيان عن جزء من تراثنا الأصيل، أهم مظهر يمثل الإنسان الحازم، وهكذا كل في مجاله. ليحصل التكامل. "لمثل هذا فليعمل العاملون".
الهوامش
1- كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون حاجي خليفة – 5/807- دار الفكر- 1990.
2- معجم المؤلفين – عمر رضا كحالة – 2/590 مؤسسة الرسالة – الطبعة الأولى 1993.
3- الأمالي العمانية – الربعي – تحقيق د. هادي حسن حمودي – مقدمة المحقق – وزارة التراث القومي والثقافة – عمان – 1992.
4- الأمالي العمانية ص 13.
5- نفسه.
6- كشف الظنون /4/656.
7- الأمالي العمانية ص 16-17.
8- نفسه ص 23.
9- نفسه ص 36.
10- نفسه ص 22- 34.
11- نفسه ص 23.
12- نفسه ص 43.
13- نفسه ص 21.
14- الشفا بتعريف حقوق المصطفى – القاضي عياض – 1/167 وما بعدها. دار الفكر – بيروت – 1988.
بنعلي بوعلام بوزيان (كاتب من المغرب)