لم ينس أبي هذه الشقة. ظل يراها انها كانت الأنسب والأفضل له. وينطلق في الحديث معي عنها من أهون سبب. مرة وقع القلم الموضوع على سور البلكونة في الشارع فنزلت بسرعة لإحضاره حتى يكمل حل الكلمات المتقاطعة. أخذه مني قائلا لو أننا سكنا في الدور الأرضي ما كنت نزلت أربعة أدوار أو كان خرج بنفسه لإحضاره أو ناوله له أحد المارين. وصمت كأنه يبحث عن احتمال آخر فأضفت إمكانية أن أقفز من الشباك مباشرة ثم يرفعني هو بيده. وتخيلت تكرار القفز كلما وقع القلم منه أو أوقعته أنا متظاهرا بعدم قصدي، ويصير شيئا معتادا خروجي إلى الشارع من الشباك والعودة منه أيضا.
صرت الوحيد الذي يمكن أن يتحدث معه أبي عن تلك الشقة في أي وقت. ويشرح لي كيف كان قارب على إقناع أمي بها لولا عثور أخي على الشقة التي سكنا فيها. واعتبرت أن حكاياته عن الشقة وذكرياته بشكل عام جزء من جلوسي معه وهو يحل الكلمات المتقاطعة. أحببت مراقبته وهو يكتب الحروف في الخانات البيضاء. وينتهي منها بسرعة كأن شخصا يمليها عليه. تمنيت أن يبدأ بحلها مباشرة ما إن يتناول الجريدة التي يلقي بها البائع في البلكونة وأحيانا كانت تستقر على حبال الغسيل، ومرات قليلة استطعت التقاطها وهي تدور في الهواء. كان يسألني الأسئلة السهلة مثل حرف جر، أداة نداء، من الفواكه، الدور الذي كان يحب السكن فيه فأجيبه الدور الأرضي فيهز رأسه مبتسما ويكتب الطابق الأرضي، ويعرفني أن الجمع طوابق، وأنها من الكلمات التي تتكرر كثيرا في الأسئلة، ثم يترحم على الحاج سعيد ويقرأ الفاتحة على روحه. ظلا صديقين على الرغم من عدم تأجير أبي الدور الأرضي في بيت الحاج. ولم يتوقفا عن تبادل الزيارات والاتصالات. وحينما كان أبي يحدثه في التليفون كنا نعرف أننا يجب علينا نسيان استخدامه لمدة ساعة أو أكثر. وتوقف أخواي عن الإشارة له باحتياجهما التليفون بعدما وجدا أن تلك الإشارات تدفعه إلى إطالة المكالمة. مرة قال لأمي إن الحاج سعيد يستطيع إقناع الساكن في الدور الأرضي بتركه لو وافقنا على السكن فيه. ولم تجب إلا بـ«كثر خيره» موقفة حوارا لا تريده عن تلك الشقة التي رفضتها منذ سنوات. تعاملت أمي مع الأمر مثل أي شيء في الماضي يحن إليه أبي ويراه أفضل من مثيله الآن. وأنه لو استطاع لأوقف الزمن عند الأوقات التي لا ينساها. حتى الكلمات المتقاطعة كان يراها أفضل في الماضي، وكانت تضيف له معلومات قيمة لدرجة اضطراره أحيانا للبحث في الكتب عن الإجابات الصحيحة. أما الآن – وأشار إليّ – فإنني أستطيع حلها. وكنت أتمنى أن أكون عند حسن ظنه لكنني جربت مرات ولم استطع سوى ملء خانات قليلة. ولم يكن يغضب حينما يجد حروفي لكنه كان يشجعني وهو يأتي على كل الخانات بسرعة مصححا بعض إجاباتي. كان اشتراك الحروف في الكلمات الموزعة رأسيا وأفقيا أكثر ما يسحرني. ورغبت في عدم وجود الخانات السوداء التي تحد من انسياب وتشابك الحروف، وأخبرني أبي أن هذا النوع كان موجودا في صحيفة قديمة، وكان الحل دائما صعبا لأن معظم الأسئلة كانت عن كلمات مهجورة، يصعب معرفتها إلا بالرجوع إلى القاموس، وأحيانا لا توجد فيه.
مرة ونحن في البلكونة أتابع تنقل قلمه بين الخانات، دخلت أمي لتخبره أن زوجة الحاج سعيد على التليفون. ناولني الجريدة وقام مسرعا يردد «خير إن شاء الله». منذ وفاة الحاج سعيد لم تتصل بأبي، لكنه كان حريصا على الاتصال بها كل فترة للاطمئنان على أحوالها وأحوال ابنها المسافر. عرضت عليه في المكالمة شراء شقة الدور الأرضي. فهي تعرف مدى حبه لها ورغبته القديمة في السكن فيها. أفهمها أبي عدم توفر سعر الشقة معه لكنه سيعثر على مشتر مناسب يثق فيه. لم نفهم كيف سيعثر لها على هذا المشتري خصوصا أنه أبعد ما يكون عن شراء وبيع الشقق، ويندهش دائما من ارتفاع أسعارها مقارنة بأيام زمان، وكلما رددها أمامه أحد اعتبره يتحدث لغة لا يفهمها. انشغل أبي بالاتصال بأقارب وأصدقاء ليعرض عليهم شراء تلك الشقة. وكانت المكالمات يضيع معظمها في السلامات والسؤال عن الأحوال خاصة مع من لم يتصل بهم منذ زمن. وكان يصعب عليه إنهاء المكالمات مع الأصدقاء القدماء، فقد كانوا يستغرقون في الحديث عما حدث لهم خلال سنوات طويلة. ويعدهم أبي بالاتصال بهم مرة أخرى بعد العثور على المشتري. وأحد هؤلاء الأصدقاء ظن أن العرض مقلب من مقالب أبي التي اعتاد على أن يوقعه فيها «أيام زمان»، وظل يضحك متذكرا تلك الأيام التي لا تعوض بينما لم يتوقف أبي طول المكالمة عن ترديد «أنا باتكلم بجد». لم يمل من تكرار وصف الشقة لهم وأن الغرفة فيها تسع ما يوضع في غرفتين من شقق «اليومين دول» وأن لا مثيل للهواء الذي يأتي من شباك المنور، وأنه يتمنى شخصيا شراءها لولا الظروف، بالإضافة إلى أنها ستريحهم من النزول والطلوع ويؤكد على هذه النقطة مع الأصدقاء الذين صاروا يعانون من أمراض عدة. ولا ينسى الترحم على الحج سعيد الذي لابد أن البيت مشمول ببركته. وكان يعاود الاتصال بأي واحد أحس بالتردد في رفضه، ويحاول أن يقنعه وقد يمنحه فرصة أخرى لإعادة النظر. وكان تعليق أخي الكبير كلما سمع الوصف بأن أبي يصف القصر الجمهوري. وصار يردد هذا الاسم كلما أتت سيرة الدور الأرضي. وأوقف كل محاولات أبي اتصال زوجة الحج لتخبره بعثورها على مشتر. فسألها أبي إن كانت تريد حضوره توقيع العقد والاطمئنان على كل شيء. وظهرت السعادة على وجهه وكرر:
– حالا جي
لم ترض أمي عن ذهابه خاصة أن أحد أقارب الحج سيكون حاضرا بالإضافة إلى أنه لن يفعل شيئا سوى الفرجة على التوقيع. وتحدث أبي وهو يرتدي ملابسه بسرعة عن حق الحج عليه وأن حضوره أقل شيء يفعله له في مماته. « ومين يعرف؟ « فقد يحدث شيء غير متوقع. عاد بعد ذلك يحكي عن أن وجوده كان ضروريا، واستطاع إقناع المشتري بعدم تخفيض السعر، وأفهمه أن الشقة تستحق أكثر من ذلك.
بدأت الزوجة تتصل به كلما كانت هناك مشكلة في ضرائب البيت أو مع سكان يرفضون المشاركة في إصلاح شيء. وكان يسارع ليحاول حل تلك المشاكل. وأمي تكرر عليه أنه ليس مالك البيت ولا أحد سكانه، وأبي يرد عليها بأنها وحيدة وتفتقد وجود ابنها المسافر. كان نجاحه في حل أي مشكلة ينعكس على عدم شكواه أياما من آلام ساقيه. كما انعكس على إبطائه في حل الكلمات المتقاطعة وشروده كثيرا، فكنت أسحب القلم من يده وأكتب الحروف المطلوبة، فينتبه ويمسك يدي «خلي بالك» مشيرا إلى أن حروف الكلمة لا تساوي عدد الخانات المطلوبة أو لا تتوافق مع كلمة مكتوبة رأسيا أو أفقيا. وفي هذه الفترة رأيته كثيرا يتوقف عن إكمال حروف كلمة ليكتب بسرعة في هامش الصفحة اسم صديق قديم تذكره قد يفيده في ضرائب بيت الحاج. ويفكر في طريقة ليصل بها إلى رقم تليفونه. ووضع حدا لمساعدات أبي اتصال أحد أقرباء الحاج غاضبا من موافقة أبي على أن تكتب له الزوجة توكيلا، وطلب منه ألا يتعب نفسه بعد ذلك فالأسرة مازال فيها رجال. ظل أبي يتصل بها كل فترة ليطمئن على أحوالها، ويخبر أمي بعد كل مكالمة بشعوره باحتياجها لمساعدته لكنها تخشى من أقربائها، وأن هناك كلاما على لسانها لكنها لا تنطق به. وحينما سألها عن رأيها لو ذهب لزيارة بيت الحج. ابتسمت أمي وأجابته بصوت حازم «خلاص. حكاية القصر الجمهوري انتهت». وعاد أخواي يشيران لأبي باحتياجهما التليفون، بينما هو منطلق في مكالمة أحد الأصدقاء القدماء الذين استعاد صداقتهم أثناء بحثه عن مشتر للشقة.