ما زال رحيل الفيلسوف اللبناني موسى وهبة، الذي ابتدع طريقة جديدة في التساؤل، طريقة جديدة في التفلسف بالعربية، حدثًا يهزَّ الأوساط الثقافيّة والأدبيّة والفكرية لما للرّاحل من قامة فكريّة عالية أثّرت وستبقى تؤثر في أجيال من المشتغلين في الفلسفة بالعربيّة. وما زال أمامنا الكثير لكي نرسم، بشكل واضح ونهائي، المعالم الرّئيسة في طريقة وهبة في التفلسف بالعربيّة.
لا شيءَ يميِّز حياة موسى وهبة سوى الفلسفة، فلقد بقي ذلك المتوحِّد، ذلك الغريب، ذلك الفيلسوف الذي استحوذت عليه الفلسفة، فلم تدع مجالًا لغيرها. لقد كانت حياته العاديّة تمشي بهدوء، حتى انضمامُه الى الحزب الشّيوعي اللبناني (١٩٦٨-١٩٧٨) لم يشكِّل علامةً فارقةً في حياته. وربما كان خروجُه الفلسفيّ من ذلك الحزب، بعد اطلاعه على كنط، فيلسوف الأنوار، وبعد اطلاعه على قراءة ألتوسير اللاإنسيّة لماركس، أي المضادة للمذهب الإنساني، هو ما يشكّل علامةً فارقةً.
كنط عصره
وموسى وهبة، على خطى كنط والفلاسفة الكبار، يتعاطى الشأن العام، يتعاطى التغيير في المجتمع من خلال قيامه بنشاطه الفلسفي حتى لو بقي ملازمًا لبيته، ممّا يُثبت أنّ هدف التغيير كان هدف الفلاسفة، على الأقل منذ سقراط وأفلاطون الذي دخل الفلسفة عبر السياسة، وممّا يثبت أنّ الفيلسوف لا يعيش في بُرجٍ عاجيّ، وأنّ الفيلسوف يبقى خطِرًا على السلطات القائمة التي تبقى تهابه، حتى لو كان شخصًا ثمانينيًّا ولازم بيته، كما كان حال ايمانويل كنط. لذا، بالامكان القول، وعلى خلاف ما ذهب إليه ماركس، إنّ التغيير وليس التفسير فقط، كان هدفًا ملازِمًا للتفلسف، إذ انّ الفيلسوف بتغييره لطريقة التفكير يساهم، بشكلٍ أساسيّ، في تغيير مجتمعه. لن نفيَ موسى وهبة حقَّه في هذه المقالة التي نكتبها، لكنّا سنسلِّط الضوء على بعض من ملامح فكره، لا سيما على اهتماماته الرئيسة.
لقد عاش فيلسوفًا ورحل فيلسوفًا. وقد قلتُ عنه مرّةً: “لم نكن نسمع صوت أستاذٍ وحسب، كنّا نسمع شيئًا من صوت كنط، شيئًا من صوت الفلسفة، بل ربما صوت الفلسفة نفسها”. وكنت ألقِّبه، عندما كنت طالبًا في قسم الفلسفة، بكنط عصره. نعم موسى وهبة كان كنط العصر الرّاهن. واستطاع أن يقدّم قراءة مختلفة ومتعمِّقة لكنط، بالعربي هذه المرّة، قراءة يضاهي بها قراءات الفلاسفة الكبار من أمثال هيْدغِر ودولوز.
… وكندي العصور الحديث
مشكلتان رئيستان شغلتا وهبة طيلة حياته: مشكلة إمكان القول الفلسفي بالعربيّة ومشكلة الميتافيزيقا.
١- مشكلة إمكان القول الفلسفي بالعربيّة:
حفظ موسى وهبة درس الكندي جيِّدًا. وبالإمكان وصفه بكندي العصور الحديثة، فلا إمكان للتّفلسف بالعربيّة إن لم يكن التراث الفلسفي بالعربيّة حاضرًا، إن لم يكن “جسد الفلسفة الحيّ” كما يحلو لوهبة أن يسمِّيَه، حاضرًا أمام قراء العربيّة؛ لأنَّه لا يمكن للفيلسوف أن يبدأ دائمًا من جديد. والفيلسوف يبني نتاجه على أنقاض نتاجات غيره. فهو يحاور وينقد غيره من الفلاسفة ويختلف عنهم ويتميّز منهم. وكلُّ فلسفة كبيرة تختزل في ثناياها القول الفلسفي كلّه. فلا شيءَ يموت في الفلسفة. وكلّ فيلسوف كبير يبقى خالدًا مهما مرّ عليه الزمن. وربما يكون الفيلسوف مضيئًا بعد موته أكثر ممّا كان في حياته كما يذهب الى ذلك جيل دولوز لأنّ النّص الفلسفي نصٌّ مكثَّف وغنيٌّ، ويبقى عرضةً لقراءات مختلفة. والفيلسوف يطرح طريقته الجديدة في التفكير، طريقته الجديدة في التّساؤل، طريقته الجديدة في التّفلسف. وهذه الطريقة الجديدة والمختلفة تبقى خالدةً لا تموت. لذا، ما زلنا نرجع إلى أفلاطون وأرسطو ومَنْ قبلهما من فلاسفة الإغريق، لأنّ لكل واحد طريقته المختلفة في التفكير مع أنّ تلميذ المرحلة الابتدائية يتجاوزهم جميعًا في معلوماتهم العلميّة. اذًا، ليست الفلسفة خبرًا عن العالم كما كان يحب وهبة أن يردّد دائمًا. وبالتأكيد ليست خبرًا عن ما بعد العالم، مع أنّها تنهمُّ بالأسئلة التي يطرحها العقل بطبيعته وإن لم تكن لديه القدرة للإجابة عنها بشكلٍ نهائيّ، فيحاول جاهدًا، عبر الفلسفة، بلا كلل ولا ملل، أن يجيب عن الأسئلة التي تُقلقه من أجل الشّعور بالراحة، لكن عبَثًا، إذ ما تلبث العمارات الفلسفيّة أن تنهار، إذ ما تلبث السَّساتيم الفلسفيّة أن تتعرّض الى ثقوبٍ كبيرة تمزِّقها، إذ ما تلبث الأنظومات الفلسفيّة أن تتغيّر، فتغدو الحاجة ماسّة إلى فلاسفة آخرين يحاولون البناء من جديد. ولكأنّ الفلسفة هي سعيٌ الى طموحٍ لن يتحقّق مطلقًا، لكنّ الإنسان لا يستطيع أن يتوقّف عن التفلسف، عن السعي ما دام هناك عقلٌ يفكّر ويطرح الأسئلة التي تؤرِّق العقل.
الغريب في لغته
استنادًا الى ما سبق، سعى وهبة الى نقل التراث الفلسفي العالمي الى العربيّة، الى نقل أمّهات الكتب الفلسفيّة الى العربيّة، وكان يعتبر أنّ المترجمَ هو الفيلسوفُ الوحيدُ الممكنُ بالعربيّة اليوم. لذا، كان يتمسّك بقولته الشَّهيرة: إذا أردتم أن تتفلسفوا فترجموا.
والمترجم ليس مجرّد ناقلٍ من لغةٍ الى لغة، إذ عليه أن يعطي وجهة نظرٍ في الفيلسوف المترجَم حتى لو خالفت ما هو سائد من وجهات نظر أخرى. فلا يكفي، إذًا، أن يكون المترجِمُ ضليعًا بالّلغتين المترجم عنها والمترجم إليها، بل عليه أن يكون مطَّلعًا بما يكفي على تراث الفيلسوف المترجَم وعلى التراث الفلسفي العالمي حتى يستطيع أن يقبض على النّبض الأساسي الذي يميّز بادرة ذلك الفيلسوف الذي نحن بصدد ترجمته. كما أنّ عليه أن لا ينشغل بالمعنى مهملًا المبنى. فلكلّ فيلسوفٍ كبير أسلوبه الخاص والمختلف في الكتابة، ليس من حيث المفردات وحسب بل من حيث تركيب الجملة أيضًا. لذا، كان يحلو لدولوز أن يستشهد بجملة شهيرة لبروست تقول:” إنّ الكتب الجميلة تُكتب بنوعٍ من اللغة الغريبة”. من هنا، قلنا عن وهبة إنّه ذلك الغريب في لغته وفي قومه.
في ترجمته لكنط ونيتشه وهيوم وهوسرل وحتى لهيْدغِر، ابتدع وهبة كثيرًا من المصطلحات الفلسفيّة الجديدة، من أمثال أفهوم وأمثول ومجاوِز وعِلْمان ووعيان ورئيان وفيّاه وليّاه وفيَّانيّة وليّاييّة …الخ. ولا يبتدع هذه المصطلحات الجديدة عبر التّسلية، بل عبر ضرورة يقتضيها القول الفلسفي حتى نستطيع أن نعبّر عنه باللسان العربيّ.
ولو أخذنا مثلًا مصطلح أفهوم الذي ولَّده وهبة على وزن أفعول وليس على وزن أفعولة، فقد اضطرّ الى ذلك ليشير الى نشاطيّة التفكير لدى ملكة الفاهمة، ليشير الى أفعال التّفكير لديها. واضطرّ أيضًا الى تعدية فعل فكّر، فقال فكّر الشيء بدلًا من فكّر في الشّيء. لنقرأ موسى وهبة في تبريره لتوليد مصطلح الأفهوم: “التّفكير يتمُّ إذًا بأفاعيل. والأفاعيل ليست كلمة مولّدةً الآن بالعربيّة، فالنحاة يطلقونها على الحال والتّمييز والاستثناء، ولم ترد إلّا نادرًا بالمفرد الذي قد يصحّ فيه أفعولًا وأفعولةً، وإنْ وردت بكثرة كوزنٍ قياسيّ في مثل قولنا: أسلوب وأخدود وأركوب، وأنشودة وأطروحة وأرجوحة…الخ. فإذا ما تأمّلنا الفرق بين صيغة المذكّر وصيغة المؤنّث يتبيّن أنّ صيغة المذكّر تشير غالبًا إلى الفعل (والمصدر النّوعيّ) وإنّ صيغة المؤنّث تشير دائمًا إلى حصيلة الفعل (ومصدر المرّة).
“هذا التّمييز بين الصيغتين هو الذي حدا بي إلى اختيار وزن أفعول في توليد لفظ أفهوم بإزاء Begriff و Concept في قراءتي لـِ نقد العقل المحض لعمّانوئيل كنط ( بخلاف ما اقترح يومها العلّامة الرّاحل الشّيخ عبد الله العلايلي، راجع: الموسوعة الفلسفيّة العربيّة، معهد الإنماء العربي، بيروت ١٩٨٦، الجزء الأوّل، مادة مفهوم-أفهوم). الأمر الذي أثار حركةً اعتراضيّة واسعة بين جمهور المتفلسفة وجماعة النثر الثقافي الفلسفي، حركة تحوّلت للأسف الى عصبة مركّزة في تجمّع عربيّ يُعنى بالترجمة، سلاحها الوحيد الاعتداد بالدّارج والرّكون الى راحة العقل المطمئن الى مسلّماته.
“كنت إذًا ولّدت (أُفهوم) لتسمية فعل التّفكير الذي تقوم به الفاهمة في محاولة معرفتها لموضوعات المعرفة التجرُبية)1 “(. وفي مكانٍ آخر يقول: “ولّدتُ (أفهوم) (على وزن أفعول) بإزاء (der Begriff)، رافضًا ترجمة هذا المعنى بـِ (مفهوم)، الذي أعدت إليه اعتباره السابق بإزاء (der Inhalt) المقابل للـْ ما صَدَق بإزاء( der Umfang). والدّاعي الى ذلك أنّ (مفهوم) الدّارج في بلاد الشّام صيغة مفعول، ولا يتوافق قطّ مع مقصد كنط الى اللفظة الألمانيّة (der Begriff) بوصفه فعل تفكير، تقوم به ملكة التّفكير الفاعلة، لا مفعولًا به؛ وأنّ “تصور” الدّارج في التقليد المصريّ لا يفي بالغرض […]. وإغفال فاعليّة الفاهمة يعبّر عن غفلةٍ تامّةٍ عن معنى الثّورة الكوبرنيقيّة التي قام بها كنط، وعن وجوب تعدية فعل فكّر، وإن تجوّزًا وخلافًا للأصول”. (2)
الترجمة قراءة أخرى
أمّا بالنسبة الى مصطلح المجاوِز، أعني به مصطلح الترنسندنتال، الذي حيَّر معظم دارسي كنط، فكم فرح موسى وهبة عندما وجد له العديل العربي مدعّمًا بأمثلة من النّحو العربي وبآياتٍ من القرآن الكريم، فعند ترجمته لـِ “نقد العقد المحض”، في طبعته الأولى الصادرة عن مركز الإنماء القوميّ، اعتمد وهبة اللفظ الأجنبيّ معرَّبًا ومخفَّفًا، فقال الترسندالي بدلًا من الترنسندنتالي. لكنّ روح وهبة الفلسفيّة، العاشقة للفلسفة والعاشقة للغة العربيّة، والتي تأبى إلا أن تضيف شيئًا لإضاءة كنط ولإغناء القول الفلسفي العالمي، تأبى أن لا تجد العديل العربي. فبعد سنواتٍ من التّفكّر والتّأمّل (كان وهبة يحب المكوث في الأفهوم) وجد ضالّته في مصطلح المجاوِز المتداول في النّحو العربيّ. وقد وضّح ذلك في تقديم ترجمته لكتاب هوسّرل المباحث المنطقيّة، فقال:” المجاوز عند كنط يُطلق على علاقة المعرفة بموضوع المعرفة قبليًّا، أي قبل وبمعزل عن حضوره في التجربة. فالذهن العارف مجاوز، أو قل إنّه يجاوز بنا الى موضوع المعرفة أي يطلبه ويشكّله تبعًا لبنية الذهن الذاتيّة؛ ويمكن إيضاح ذلك بمثال من النحو العربيّ: حين أقول ضربَ زيدٌ…ينتظر السّامع تتمّة العبارة لأنّ فعل ضرب يتجاوز الفاعل ويجاوز بنا الى طلب مفعول به، فهو فعلٌ مجاوز أو فعلٌ متعدٍّ كما تقول النّحاة، وهذا التّعدّي قائمٌ في معنى الفعل نفسه أي قبليًّا، قبل أن نعرف على من أو على ماذا سيقع الفعل” (3).
هكذا تكون ترجمة موسى وهبة لـِ “نقد العقل المحض” قراءةً أخرى فيه، وتفلسُفًا بالعربيّة يُغني القول الفلسفي العالميّ. فلا توجد لدى وهبة همومٌ نضاليّة كما هي حال المثقف الذي ينشغل بسؤال ما العمل؟ أي ما العمل لننهض بأمّتنا ومجتمعنا؟ ما العمل لنحقّق التّقدّم ونتخلّص من التّخلف؟ وهو بقي فيلسوفًا، بقي عاشقًا للحكمة وصديقًا لها ومحبًّا لها، فغلّب إرادة العِلْمان على إرادة العَمَلان كما كان يحلو له أن يقول، معتبرًا أنّ ما يجرى من أقوال فلسفيّة باللغة العربيّة ما هو الّا بعد فلسفيٌّ بالعربيّ بحيث تذبح الفلسفة كما تُذبح الشّاة لتحقيق غايات أخرى كالحديث عن دور الفلسفة في النّهوض العربي وعن الفائدة منها…الخ.
٢-مشكلة الميتافيزيقا
ليس سهلًا على المرء أن يتناول الميتافيزيقا في بداية الألفيّة الثالثة، فالميتافيزيقا باتت تُرذل، وباتت تُهمةً يُتّهم بها الخصم منذ أن أنهى كنط كلّ دعوى ميتافيزيقيّة بمعرفة نظريّة لما يتخطّى شروط التجربة في كتابه العظيم “نقد العقل المحض”. إذًا تنهار الميتافيزيقا الكلاسيكيّة بعد النّقد الكنطيّ أمام أعين الجميع. وأعني بالميتافيزيقا الكلاسيكيّة تلك الميتافيزيقا التي تتناول موضوعات الله والنّفس والعالم. فباتت الأسئلة التّالية بالرغم من أصالتها خارج التناول الفلسفي: هل الرب موجود؟ هل النّفس خالدة أم فانية؟ هل الكوسموس متناهٍ أم غير متناه؟ هذه الأسئلة، مع أنّها تبقى أصيلة وملازمة للعقل البشري الذي يطرحها ولا يستطيع إلا أن يطرحها دائمًا، بحكم طبيعته بالذات وإن لم يستطع الإجابة عنها، أصبحت خارج كلّ معالجة فلسفيّة، ولم نعد نرى في الكتب الفلسفيّة فصولًا تخصص لهذه المسائل. إذًا يتمّ إسكات الأسئلة المقلقة، وحصر الانهمام بالفيزيقا، ويُقال للعقل: حذارِ أن تتعدّى حدود الطبيعة.
نهايات
وهكذا سادت مقولات نهاية الفلسفة، ونهاية الميتافيزيقا، وموت الميتافيزيقا، ونهاية الحداثة، وموت الإنسان، وموت الذات، إلا أنّ وهبة لا يكترث لكل هذه النّهايات، ولكل هذه الميْتات، ويعتبر أنّ الميتافيزيقا ما زالت حاجةً بشريّة لأنّها، ربما الوحيدة الآن، القادرة على إعطاء معنًى للسّعي البشريّ. وإنّ إهمال الميتافيزيقا يؤدي الى انتشار الأصوليات كالفطر، هذه الأصوليات التي تحتل الساحة التي تركها الفيلسوف لتعبث بها.
لنقرأ وهبة: “وأسأل: هل الميتافيزيقا ممكنة اليوم، وكيف تكون ممكنة؟
“وأبدأ الإجابة بالقول: ليست الميتافيزيقا، في الأصل، قدَرًا للعقل البشريّ، بل لحالة مخصوصة من أحواله، هي الحال الفلسفيّة. ومن الأسلم أن يُقال إنّ ما لا غنًى للعقل البشريّ عنه هو إضفاء المعنى على السّعي البشريّ بعامةٍ، وإنّ هذا الإضفاء ممكنٌ بأشكالٍ عدةٍ مبدئيًّا. لكن مع هيمنة الميتافيزيقا على المعمورة قاطبةً أضحى التّفكير الميتافيزيقيّ لا غنًى للعقل البشريّ عنه” (4).
لكن ما هي الميتافيزيقا التي كان يعمل لها وهبة ويحاول رسمها؟
يقول وهبة: “وأتدبّر، بالمناسبة، فهمًا آخر، رسمًا آخر للميتافيزيقا، فأحسبها لا علمًا بالكائن بما هو كائن، ولا سؤالًا عن الكون، ولا مبحثًا في الغيبيّات، ولا تلك الشّجرة الوارفة الظّل، بل أقول هي بالأحرى جذع تلك الشّجرة، وجذورها المخفيّة في الأرض، إن صحّ لنا استثمار الاستعارة الديكارتيّة مرة أخرى.
” أقول: الميتافيزيقا هي سستام المزاعم اللازمة للعقل البشريّ في مواجهة انهمامه بالأسئلة التي تطرحها عليه طبيعة العقل، أو تلك الفروض التي تسند القول في ما وراء الفيزيقا (بوصفها عالم التّجربة بما فيه السّعي النّظريّ والعمليّ والتّخيّلي). وعليه يمكن تمييز:
-مجموعة الفروض المعلنة المصوغة أو التي يمكن صوغها في سِستام، مثال ميتافيزيقا ديكارت أو ليْبنتس أو سواهما.
-من مجموعة الفروض المعلنة بوصفها بديلًا عن الميتافيزيقا، مثالًا: الأمثول والعلمان المطلق عند هيغل، والتّوق الى الإمرة والعود الأبدي للهوهو عند نتشه […].
-ومن مجموعة الفروض المضمرة التي قد تندرج ضمن سِسْتام يعبِّر عن مذهبٍ ما في القول، أو عن روح تشكيلة ثقافيّة ما، […]، مثال فروض التّفكير اليونانيّ المضمرة: ما يبدأ ينتهي، الشّبيه لا يدرك الا الشّبيه، الدّائرة أكمل الأشكال، البشر أحرارٌ أو عبيد..الخ. والمعنى أنّ الميتافيزيقا قائمة أبدًا خلف كل تفكيرٍ له سمة الشّمول.
“وحين يجرؤ العصر على صوغ مزاعمه المضمرة والمعلنة ويعترف بها كمزاعم لازمة لسلام العقل في عالم اليوم السّوقي والدّيجيتالي، ويكون بالوسع إدراجها في سستام بدعوى يونيفرساليّة يكون لدينا ميتافيزيقا للعصر” (5).
هذا هو الفيلسوف الرّاحل موسى وهبة باختصار شديدٍ. وقد عالجناه من خلال مشكلتي إمكان الفلسفة بالعربي والميتافيزيقا. وبقي أستاذي الذي تتلمذت عليه في الليسانس والماجستير والدكتوراه حتى آخر يوم من عمره منهمًّا بهاتين المشكلتين، حيث أوصاني قبيل وفاته، أن أكتب بحثًا عن الأمبيريّة المجاوِزة عند دولوز، وقدّم لي كتابًا بهذا الخصوص، الأمبيرية المجاوزة بما هي جمع فريد وعجيب بين أمبيرية هيوم وفلسفة كنط المجاوِزة.
جمال نعيم