كان دولاب انارة السيارة – الذي بقي مشتعلا الى ما بعد الحادث بوقت طويل – يبدو مثل قضيب نوراني يخترق عذرية الظلام ويغوص مضينا احشاء القرى والحقول ومنازل الفلاحين والدكاكين القليلة ممتدا الى البرك الراكدة التي تفرق على حوافها عيون الضفادع واعشاب الزرع ، لتبدو نهاياته مثل نثار ساطع يضيء بخفوت طلائع النخيل ورؤوس الجبال الجاثمة على حواف القرى.
فوق شارع سمي على لون الدم (شارع سيح لحمر) بقي رغم ازدواجه ، حاصدا قديما للارواح ، والمتفحص لضفافه لن تفوته رؤية بقع دم متيبس وشظايا زجاج مهمل وقطع حديد صدئة مسفوحة على الكثبان او مدفونة في بطون الرمل ، وحين بلغ مبلغا عجيبا في بطشه وابادته وازداد عدد النائحات والثكالى والارامل على جنباته ، وعيل صبر المتوجسين لبشائر الموت وضاقت صدورهم بقلق انتظار جثة في الطريق او قريب غائب لن يجمعهم به القدر الا ميتا، حاكوا حوله اساطير ربطوها بالجن والسحرة وان رهطا هن هؤلاء نصبوا مضاربهم الخفية منذ زمن على جانبي الشارع ، يصطادون ضحاياهم في اطراف الليالي ، مباغتين هجعة النفوس وغفلة العيون ونعاسها.
وهذه الاساطير لا تساق الا لتبرهن عقد الارواح الذي انفرط على جنبات الشارع في بحث عن اوفر صيغ التوازن بين حجم الدم المهدور والفاعل الخفي في تفجيره او ربما هو بحث عن احد شقي الحرب التي حصدت هذا العدد من الانفس دون ان يدرك لهم ثأر، وتورية وتدثير للعجز عن فعل شيء ازاء هذا التسلسل المريع .
فقبل ازدواجه لم يكن حديث الموت يمر دون ذكر اسم هذا الشارع في سياقه ، بل ان ذكر اي حادث سير دون ذكر اسم شارع سيح لحمر لن يذهب الظن بسامعه ابعد من التفكير بهذا الشارع ، وهكذا ، فاذا وصف حادث ما دون ذكر لمكان وقوعه ، فان السامع لابد ان يدرك بسليقته المدربة ان المقصود هو شارع سيح لحمر وليس اي مكان آخر، واذا قدر للحادث ان يقع في مكان آخر فانه لابد ان يبدأ الذكر باسم الشارع الذي وقع فيه قبل اي تفصيل ، وان اي حادث يقع بمنأى عن هذا السيح لا يترك وقعا بعيدا في نفوس سامعيه ، كبتر لاحد الاذرع ، او تشويه جسدي مزمن يكون تفسيره من تدبيرات فردية لمنشقين من الجماعات الخفية ، او ربما احد افراد السحرة ، اراد ان يختص بضحية دون الآخرين ، فنصب شراكه بعيدا عنهم ، ولكن ما لبث وان فشل في قتلها، بل ربما نال قربة دم أخذ يتلمظها على طول عودته المنكسرة ، فتوالت عليه عصي التأنيب والزجر من جماعته ، لذا يمكن للاهالي من الرعاة سماع اصوات نقارهم وشحانهم من أعلى الجبل ، وكان اجداد هؤلاء السحرة يقطعون طرق قوافل الجمال والحمير، خاصة تلك التي تأخذ مسلكها في اطراف الجبل ، ولكنهم نادرا ما كانوا يظفرون بضحية كاملة ، حيث ان السقوط من تلك الدواب لا يؤدي بالضرورة الى الموت خاصة اذا كان الذي يتسنمها شاب يافع ، لذلك فان طرائق اقتناصهم لابد ان تتغير ومخيلة ابداع الموت لديهم لابد ان تثري وتتنوع ، فيتنقلون بين النحيلات والافلاج فربما يرون طالع نخل فيسقطونه من رأسها . او طفلا يعوم في ساقية فيغرقونه .
ومع انتشار الوحوش المعدنية ، رغم تناسخ عقلية السائق منذ قدمها، فعوض ان تجر الركبية من خطامها او تساط في ظهرها لايصالها الى أقصى قوتها وضع لها دواسات وفرامل لايصالها كذلك الى أقصى قوتها.
فبعد ان كانت دابة ، تقترب من جنس راكبها وتقاسمه زاده وغضبه ونومه ، اصبحت ماردا حديديا لا حد لعجلته وانقلاب مزاجه ، فعل طول هذه القرى المتوالدة بوداعة على جوانب الشارع الاسود، لا يوجد بيت لم يشرخ حلقه على قريب ميت او جار منكوب ، في حرب احد طرفيها لا يظهر، لتتجلى بقوة لعبة الساحر فى الضحية ، ساحر حاذق لا سبيل حتى لتحديده وضحية تصل من البؤس والضعف والغلب درجة يتعذر فيها حتى عقد خيط خفي للمقارنة بينها وبين قاتلها.
في طريقهم السهوبي المتعرج ، قاطعين سلاسل العشب وبرك الطين وحواف الاسوار الواطئة تصول العظام في اجسامهم الضامرة مثل اكياس شفيفة تغالب اخفاء ما بداخلها.
متسلقين افرع الا شجار وهاتكين مغاليق المقصورات والحقول المقصورة ، خلف اظهر آبائهم التي لا تلبث ان تستدير مندفعة صوبهم تتقدمهم العمي وانقباضات الغضب ، فيتصدى (هو) لهم ، متحملا العبء الاوفر من العقاب .
كان يظهر كالقائد بينهم متجشما من اجل ذلك وخزات الاشواك وسياط المارة ومقالب الحفر الموحلة . كان لا يرضى بغير دور القائد. وحين ينضم احد الصبية من ذوي الاجسام التي تؤهلهم لازاحته ، فانه لا يعي في اكتشاف حيله لزحزحته ، متصيدا اي نقطه ضعف تند منه بغتة ، فلا يلبث ان يلتقطها ويلوكها بسخرية صارخة ويؤلب حولها اكبر عدد من الضاحكين .
وفي ظهائر مطرح ، متأرجحين بين اصياخ الشمس وظلال دكاكين الخضار المغطاة بأردية ثقيلة ، فيحرضهم (هو) على نبشها، وحين يباغتهم عسس السوق بعصيهم المسعورة ، فان (هو) من يتصدى لكسرها، ونيل شيء من لسعاتها، قبل ان يعفر رجليه هاربا باتجاه سوق الظلام ، يتبعه لفيف من الاطفال يتكاثرون بين كل وثبة وصرخة .
في ردهات السوق القاتمة ، يعلو صياحهم بتحريض من (هو) الذي يلقي اوامره بقض قيلولة العتالين والتجار البانيان المكومين على اعتاب محالهم ، فيحتدم الصراخ وتهيج المطاردة ساحبة وراءها من تصادف وقوفه من اطفال الحارات الاخري الى ان تعترضهم الهيئة المهيبة لمركز شرطة مطرح ، الجاثم في منتصف الطريق ، والذي يخاف الاقتراب منه الاطفال والعتالون على حد سواء.
استمر قضيب النور وحيدا في ايلاجه ونشوته الى ان أذبله سطوع عويل سيارة الاسعاف التي وصلت بطيئة كعادتها بعد أن سبقتها اصابع الرحمة وحملت الروح بسلام الى بارئها.
محمود الرحبي(قاص من سلطنة عمان )