أعده وقدمه: سعد يقطين
ما أكثر القضايا العربية القديمة ـ الجديدة تمس هذه القضايا الإنسان والمجتمع والدولة، وتتعلق بالفكر والثقافة والأدب. كما أنها تتصل بالمنهج والنظرية والعلم. إنها قضايا قديمة ـ جديدة لأننا تساءلنا بصددها في فترة ما، ولم نجب عليها الجواب الملائم بانشغالنا بقضايا أخرى جديدة كان مصيرها نظير سابقاتها. ولما كانت بعض تلك القضايا القديمة تلح علينا في كل حقبة جديدة، وقد تغيرت أمور كثيرة، نجد أنفسنا أمام ضرورة إعادة طرحها من جديد. وكلما كان الطرح الجديد غير مؤسس على فهم موضوعي، وقادر على فتح منافذ جديدة ومغايرة للتأمل والتفكير، لا نستطيع إلا استعادة ما قدمناه سابقا، وإن كان بلغة “جديدة”، فلا نحن جددنا النظر، ولا خلقنا نوافذ مفتوحة على المستقبل.
في العشرينيات من القرن الماضي، أي منذ قرن من الزمن طرح دارسو الأدب العربي سؤالا أنطولوجيا: هل هو فن أم علم؟ وكان الجواب: إنه فن وعلم؟ ووقف القطار في المحطة الأخيرة. وفي الخمسينيات، وقد تغيرت الظروف، فرض السؤال نفسه حول الأدب، ولكنه انحرف عن مساره تحت تأثير التطورات السياسية والاجتماعية، فاتخذ الصيغة التالية: هل الأدب فن أم إيديولوجيا؟ وكما كانت الغلبة في البداية للفن على حساب العلم، كان الانتصار في الحقبة الثانية للإيديولوجي رغم أنف الفني والجمالي.
بدأت البنيوية تفرض نفسها في الثمانينيات في ثقافتنا العربية، وقد تحققت في فرنسا منذ الستينيات باعتبارها إبدالا معرفيا جديدا يسعى لتجاوز الدوغمائية الإيديولوجية في العلوم الإنسانية والاجتماعية من خلال المطالبة بـ”العلمية” في الدراسة الأدبية من خلال التركيز على النص في ذاته. لكننا اختزلناها بصفتها “منهج”ـا يركز على الشكل، غير مدركين العمق المعرفي للاتجاه، فحرَّفنا سكة السؤال الأدبي ليغدو: هل الأدب شكل أم محتوى؟ وأمام وصول المحتوى الإيديولوجي إلى طريق مسدود بات الاهتمام بالشكل والبنية والخطاب والنص. وفي الوقت الذي بدأت البنيوية تتطور إلى ما بعدها، سلكنا طريقا مغايرا بقولنا بأن الشكل لا قيمة له، وأن المحتوى الثقافي هو ما علينا الاهتمام به.
مع الألفية الجديدة، وبروز الأدب الرقمي تحت تأثير التكنولوجيا الجديدة بدأ سؤال جديد يفرض نفسه حول علاقة الأدب التكنولوجيا؟
في كل هذه الصيرورة ما هي الأجوبة التي راكمناها حول تلك الأسئلة؟ ببساطة: لا شيء؟ في كل حقبة جديدة نبدأ من الصفر، وقد طوينا الصفحة القديمة. وكنا في كل بداية جديدة نعبر عن سوء فهم لتطور الفكر الأدبي العالمي، لأننا كنا نختزله في أعلام، وفي نتائج دراساتهم التي نسعى إلى تطبيقها على نصوصنا العربية. يكمن السبب في ذلك في كون تفكيرنا في الأدب يتم بدون وعي إبستيمولوجي أو علمي. فأنى لنا أن نساهم في تطوير النظريات العالمية، ونحن لا نفهمها، ولا نفكر في نطاقها، ومع ذلك نتحدث عن “التحليل”، و”المنهج”، و”النظرية”، وعن “الفهم”، و”التفسير”، و”التأويل”، وكأن هذه المصطلحات لا تتأسس على خلفية فلسفية أو معرفية أو علمية.
إن “النظرية الأدبية العربية” مستحيلة ما دام الوعي السائد بالأدب ينطلق من تصورات ما قبل علمية. ولكنها في الوقت نفسه ممكنة إذا جددنا أسئلتنا وطريقة تفكيرنا في قضايانا القديمة ـ الجديدة سواء تعلق الأمر بالأدب أو المجتمع أو الدولة.
من هنا تأتي أهمية فتح الحوار حول هذا الموضوع الإشكالي.
الموضوع الإشكالي:
أشكر مجلة الغراء على تكليفي بإعداد تصور حول موضوع: “النظرية النقدية العربية” ليكون مادة للتداول والنقاش والحوار. سررت بالتكليف لأني من المهتمين بالموضوع الذي أرى أنه محور التفكير الذي ينبغي أن يكون لنا حول الدارسة الأدبية، فاخترت عنوانه الفرعي: “بين الإمكان والاستحالة”. وجهت مجموعة من الأسئلة إلى نخبة من عدة أجيال من الباحثين والنقاد العرب الذين أشكرهم جزيل الشكر على الاستجابة، كما أشكر الذين تخلفوا أو اعتذروا لأحد الأسباب.
تكمن أهمية الموضوع في كون قضية “النظرية النقدية العربية” تطرح دائما في الأوساط النقدية بشكل أو بآخر. لكن مناقشتها ظلت أبدا هامشية ومتفرقة في الكتابات النقدية المختلفة، ولم يتم طرحها بالصورة التي تجعلنا نتقدم في بلورة رؤية جماعية ودقيقة بخصوصها. لذلك جعلنا الأسئلة التالية للاستئناس والتفكير، وهي الأسئلة التي تتداول بشكل أو بآخر:
1ـ هل هناك ضرورة لوجود “نظرية” نقدية عربية؟ أم أن للدراسة الأدبية خصوصيتها التي تجعلها غير قابلة لأن تتقيد بنظرية ما؟
2ـ ما هي علاقة النقد الأدبي العربي بالنظريات الغربية؟ وكيف تعامل معها في العصر الحديث (البنيوية والنقد الثقافي مثلا)؟ وهل للنص الأدبي العربي خصوصية تجعله يأبى الخضوع لتلك النظريات؟
3ـ إذا كانت ثمة ضرورة لنظرية نقدية عربية، هل نجد في الدراسات النقدية العربية الحالية بوادر لنظريات؟ ما هي طبيعتها؟ ما هي خصوصيتها؟ وما علاقتها بالتراث النقدي والبلاغي العربي؟ وما مدى قدرتها على احتلال موقع ضمن النظريات الغربية؟
4ـ هل يرتهن وجود النظرية النقدية العربية إلى خصوصية النص الأدبي العربي؟ أم يمكن لهذه النظرية أن تكون مفتوحة على النظريات العالمية؟ ما هي الإكراهات التي تجعل الحديث عن “نظرية” نقدية عربية مطروحة في ثقافتنا دائما؟ وكيف يمكن تجاوز هذه الوضعية؟ هل بالإيمان بإمكانها؟ أم بالقول باستحالتها؟ وما هي الشروط التي ينبغي توفرها لتكون عندنا نظرية نقدية؟
يستوجب الهدف من هذه الأسئلة، وغيرها مما يتفرع منها، إعادة النظر في قضية النظرية النقدية العربية من وجهة نظر تتعدى السجال إلى النقاش الذي يعطي للدراسة الأدبية العربية أفقا جديدا ومختلفا للتفكير والممارسة في التعامل مع النص الأدبي العربي القديم والحديث. وهذا هو الرهان الذي ترمي إليه المجلة من خلال الدعوة إلى فتحه، وإشراك النقاد للتداول والتفكير فيه.
يتضمن العدد مشاركات نقاد يعكسون التصورات العربية حول الأدب ودراسته، وهي تعبير عن مواقف متباينة ومتناقضة تتسم جميعا بنوع من القلق المعرفي، وهاجس السؤال. فهناك من يرفض النظرية مطلقا، وثمة من لا يرى في صفة “العربية” للنظرية أي مبرر. كما ان هناك من يدعو إلى ضرورة ربط النظرية العربية بالاجتهادات الغربية، أو العربية القديمة، أو هما معا، أو من يتوقف على الإكراهات الذاتية والموضوعية. إنها مواقف متعددة لا يتسع المجال لاستعراضها. فتحنا الباب للنقاش، ونأمل استمراره وتواصله.
الملف المفتوح:
إن الملف في مجلة لا يتوقف على حدود موضوع محدد. إنه دعوة إلى الإسهام الجماعي في النظر والعمل في القضية المثارة من أجل بلورة رؤية جديدة عبر طرح أسئلة ملائمة. لذلك تكمن أهمية هذا الملف الذي شاركت فيه نخبة من النقاد والدارسين العرب في أنه يعكس تصورات قائمة، وتساؤلات مطروحة. ونأمل ألا يتوقف هذا الملف بصدور العدد. نود أن يظل مفتوحا للتعليقات والتعقيبات التي تتكفل لجان للقراءة بتجميعها بهدف التوصل إلى خلاصات حول تصورات معينة تُمكِّننا من التفكير في أجوبة ملائمة. كما أننا نأمل نشر أعمال هذا الملف وكل ما تتوصل به المجلة من تعقيبات أو إضافات أو مناقشات ضمن كتاب نتمنى أن يسهم في تعميق النقاش حول هذه القضية القديمة ـ الجديدة.