في حركة الشعوب ثمة لحظات على قدر من الأهمية بحيث لا يمكن إغفالها، قد لا تبدو هائلة في حجم الفراغ المحدق بالحيوات لكنها قادرة على اجتياز بعض الخصاص الممكنة، مستعينة بخصائص تنويرية قادرة على فك المغلق، الكهوف المعتمة، أو عقول البشر.
وكان حظنا، نحن جيل سنوات النهضة العمانية المعاصرة، كبيرا.. بما أوتي من فضاءات للمعرفة، لم يعرفها الأجداد من قبل بهكذا ضخامة وانفتاح، فشهدنا عصرا واسعا من الممكن المعرفي يتساوق علينا عبر مسارات لا تحصى، لعل أهمها، تقنيا، الانفجار المعلوماتي الرهيب عبر الشبكة الإلكترونية، معه لم تعد الحواجز ممكنة، حواجز الرقيب، أو حواجز الحدود.. جغرافية أو سياسية، أو حتى الإيديولوجي منها، إنما أصبحت جزءا من الأمس يكتب كحالة من الطفرات الإنسانية عرفتها البشرية وهي تنشد الكمال، لكنها، ورغم تخبطها، تبلغ في مفارقاتها الدهشة المرتقبة، تتقن فن الحياة كما تتقن صناعة الموت.
في تسعينيات القرن الماضي عرفنا كمشتغلين بالكتابة مشروعا حضاريا يوازي انبعاثنا كمجموعة من الكتاب الذين بدأوا في إدراك التحقق الكتابي على مستوى البلاد، كانت حركة ثقافية دؤوبة تركت آثارها على الملاحق الثقافية التي تصدر في تلك الفترة، مجموعة واسعة من المشتغلين بالنصوص الشعرية والقصصية بدأت تنشط كتابة ونشرا، فكان ملحق عمان الثقافي عامرا بالاسماء كما هو حال ملحق صحيفة الوطن الثقافي.
وكانت الحاجة إلى مجلة ثقافية تدعمها الدولة مشروعا نادى به العديد من المثقفين، وهم يؤثثون لحالة إبداعية تمتلك حيويتها وطموحاتها من خلال جيل شاب انفتحت أمامه نتاجات الثقافة العربية والعالمية عبر ترجمات باتت متاحة، ومع وجود أجيال جديدة تعلمت في عمان، جامعة السلطان قابوس قدمت العديد من دفعات خريجيها، وبينهم المشتغل بفنون الكتابة وهو على مقاعد الجامعة، أكاديميون قدموا أفكارهم النقدية (مع أو ضد) المتداول من الإبداعات الكتابية، شعرا وقصة.
إزاء ذلك، وأكثر، كبر الحديث عن مشروع ثقافي يستوعب حركة الكتابة، أكبر من ملحق ثقافي يصدر اسبوعيا ثم يطوى في ذاكرة الصحافة التي لا تعترف إلا بـ(عدد اليوم).
وقبل أن ينتصف عقد التسعينيات ولدت فكرة ذلك الحلم..
وكنا شغوفين بهكذا مجلة حملت اسم نزوى، رأى البعض في الخارج وهو ينطقها أنها نزوة، لكن العشرين عاما التي عبرت عمرها حتى الآن تؤكد أنها النزوة الأجمل حيث لا انقطاع لها، مدعومة من قبل دولة آمنت بالدور الثقافي لهذه المجلة، وبحضور فكري واع مكّنها من مد عرى التواصل مع أهم كتاب الوطن العربي ومفكريه، ولا حاجة للادعاء، بإجلال.. وتفصيل، إلى دور رئيس التحرير الاستاذ الشاعر سيف الرحبي، فثقل المجلة يغني عن كلمات المديح في حقه، وثقله الشعري على امتداد دولي، وليس عربياً فحسب، لا يحتاج إلى شهادة في هذه العجالة / الشهادة.
كأنما العشرون عاما لم تنثل على عنق هذه الساعة الرملية من اعمارنا، هكذا أكملت المجلة عامها العشرين، نضيفها إلى العمر الذي تضاعف خلال هذا المسار والمشوار، مستذكرا في هذه المصادفة مجموعتي القصصية الأولى بوابات المدينة الصادرة أيضا في ذات العام، أتذكر أنني قدمت القصة الرئيسية والتي حملت عنوان المجموعة للنشر في المجلة، لكن المجموعة صدرت قبل أن يصدر ذلك العدد من (نزوى) فاستبعدها المحرر الثقافي بحجة أن النشر لا يكون لما سبق نشره.
من تلك المرحلة استعيد أكثر من (تذكر)، الاجتماع الذي كان في نادي الصحافة بمدينة الإعلام بحضور معالي وزير الاعلام (حينئذ) عبدالعزيز بن محمد الرواس، وكأنما الحديث لا يزال طريا في الذاكرة لم يصب بالشيخوخة مثلنا، واستعيد عودة رئيس التحرير الاستاذ سيف الرحبي من مغتربه (ومنفاه المتنقل) ليتولى أمر التأسيس لمجلة ثقافية تذهب إلى أقصى الحلم بمجلة رزينة.. ودسمة إلى درجة أن البعض كان يغص من دسامتها فيدعي أنها (نخبوية) أكثر مما يجب وهو لم يقلب سوى بعض صفحات منها حيث أنها أثقلت (قلبه) أكثر مما ينبغي.
نزوى ليست مجلة، لا يفترض أن تعامل بهكذا استبساط صحفي، فهي مشروع ثقافي عماني منفتح على حدود العالم (والعربي) من ضمنه، وأسست لمسار فكري لا ينحاز إلى لغة التسطيح التي تسير عليها المجلات العربية، ثقافية أو اجتماعية، فهي حالة خاصة، جمعت الحداثي، الموغل في حداثة لغته وأسلوبه، مع التقليدي، الذي يجعل من التقليد الشعري بوابة للجمال الإبداعي، دون تكريس للعادي والمبتذل في لغة الخطاب الأدبي وأساليب بنائه.
وفيما المفكرون العرب، على اختلاف مذاهبهم، يعتنون بالمجلة، نشرا ومتابعة، كان هناك من يعتني بالتشكيك في جدوى مشروع كهذا، واضعا الاتهامات على سكة المسار، مطالبا بتخفيف ثقلها، ومراهنا على حالة الكساد التي تعانيه في مكتبات البلاد ومنافذ التوزيع، وتراجع الأعداد المطبوعة، وغيرها مما أعدّه ذي غايات أبعد من المجلة.. ومن مشوارها الحضاري.
في عواصم عدة كان السؤال عن نزوى، المجلة قبل المدينة، لأنها سافرت بالاسم ولا يعرف أولئك أن مدينة عمانية عظيمة تدعى نزوى منحت المجلة شرف الاسم..
وفيما كانت المجلة تبقى أمام المتسوق في السلطنة كانوا في الخارج يسألون المزيد من النسخ التي تنفد بسرعة كبيرة، لكن متطلبات الشحن وهواجس التوزيع (المادية) تحول دون تحقق رغبة عدد كبير يريدونها، بإدراكهم قيمتها.
مسؤول في صحيفة عربية قال أن لديكم مجلتين يبدو أنكم لا تدركون قيمتهما جيدا، وما تحققانه من حضور عماني على المستوى الثقافي، نزوى والتسامح (التفاهم لاحقا).
هل حقا لا نعرف قيمة ما لدينا؟ وهل ينسحب ذلك على المجلتين، أم أن هناك أشياء أخرى لا ننتبه لها؟
في هذه النقطة أشير إلى مجموعة من الكتّاب الذين يفرطون في تقدير ما يمتلكون من أدوات كتابية جميلة ومتفوقة، وقد غابوا، أو انسحبوا، عن الحضور عبر بوابة المجلة بأعذار تسوّق من باب إعفاء النفس من مسؤوليتها تجاه مشروع حضاري، حاضر بقوة على الصعيد الخارجي، لكننا نزهد في أدواتنا، الذاتية والوطنية، محيلين (تخاذلنا) على الآخر الذي ندعي أنه يخذلنا.. وعلى المشروع برمّته باتهامه أنه نخبوي، وحداثي (وفق نظرة دينية ترى الحداثة إلحادا وكفرا)، ويسير بالمحسوبية في علاقته مع النشر.
نتفق، أن المجلة مشروع عماني وطني، نختلف في أفكارنا حول هذا المشروع، ما نتفق عليه بديهي كما هو الحال مع ما نختلف حوله أو عليه، لكن نزوى رهان حضاري جميل بقاؤه عشرين عاما إنجاز يحفزنا أكثر لدعم استمراريتها عشرين عاما أخرى وأخرى، وما أنجزتها حتى الآن من مسار يجعلنا نفخر بإرث ثقافي ومعرفي مهم، محظوط من يمتلك كل رقم من مشوار (نزوى) لأنه يحتفظ بكنز أدبي تزداد قيمته كلما تقادم العمر، فالمجلة شاهد إثبات على زمن ثقافي عماني وعربي، وحده يبقى الشمعة المضيئة في عتمات يصنعها قاعديون وداعشيون وظلاميون يرون في الكلمة الحرّة رصاصة، وهم لا يأبهون بالرصاصة التي يسددونها إلى العقل، قبل الجسد.
————————————————
محمد بن سيف الرحبي