صالح زياد الغامدي
ناقد سعودي
يدور الجدل في الثقافة العربية الحديثة منذ طلائع نهضتها في أواخر القرن التاسع عشر، على الأقل، حول الأصالة والتغريب، والشرق والغرب، والمركز والهامش، والوحدة والتعددية، والهيمنة والاستقلال، وما إلى ذلك من الثنائيات المتقابلة، من وجهة (أو وجهات) متقاطبة ومتمركزة إيديولوجيًا في هذا الطرف أو ذاك. ثم من وجهة (أو وجهات) أخرى، بالمقابل تعي واقع هذه التقاطبات والتمركزات، وتعترف بها، وترى أنها جزءٌ من الإشكال المعرفي والحضاري العربي والإنساني إن لم يكن أُسُّه وقاعدته. وشارك في هذه الوجهة الفكرية الأخيرة نقاد ومفكرون من بينهم الدكتور سعد البازعي، الذي يمكن لقارئ مؤلفاته أن يجد معظمها، إن لم تكن كلها، تنخرط -من هذه الوجهةـ في خيط ناظم، بموضوعاته وهواجسه وقلقه وتساؤلاته وآفاق استشرافه، ويمكن أن نجد بداية هذا الخيط في تكوينه الأكاديمي، فاختصاصُه في الأدب الإنجليزي، وعلاقته الوثقى بدراسات الأدب المقارن، وإعداد أطروحته للدكتوراه عن «الاستشراق في الآداب الأوروبية» (١٩٨٣).. اختياراتٌ فكرية تحيلُ على الانفتاح على الآخرية، وعلى علاقات الثقافات وتداخلها، وارتحال النصوص والمفاهيم والأفكار والقيم في فضاء العالم. وقد لا يكون للتخصص الأكاديمي انعكاسٌ مباشر في صياغة موقف فكري محدَّد دون غيره للدارس، فزملاء الدراسة، في العادة، يختلفون، قليلًا أو كثيرًا، في وجهاتهم ومواقفهم الفكرية، لكن البازعي مضى بدراسته المتخصصة إلى استثمار موقف فكري منتج في حقل المقارنة والعلاقات الثقافية والفكرية، يرى المنتجات الفكرية والثقافية في حركتها الدائبة واختلافها وتعددها، لا في سكونها أو تجانسها أو توحدها. وليست صفة الوقائع الفكرية والثقافية على هذا النحو صفةً جيدة أو سيئة، من وجهة نظر البازعي، بل صفة معقولة وواقعية، ولذلك فإن إدراكها على هذا النحو مهمٌ لتوقع المخاطر ودرئها بقدر ما هو مهم للوعي بالذات التي لا يمكن تصورُها في فضاء معزول وساكن ومجرد من كل آخرية.
القراءة النقدية في النصوص الإبداعية
كان كتاب البازعي الأول بعنوان «ثقافة الصحراء» (١٩٩١)، وإذا كان القارئ لعنوان الكتاب لأول وهلة سيتصور حديث الكتاب عن نتاج أدبي شفهي، من شعر البدو الرُّحل في الصحراء، أو من قصصهم وأساطيرهم الشعبية، فإن النصوص التي يقوم الكتاب على دراستها هي من أدب الحداثة الذي كان موضع نبزٍ وطعن واتهام بنسبته إلى التغريب ونفي الأصالة عنه. والعنوان هكذا دلالة تجنيس وإنماء وإضفاء هوية على منتج ثقافي، وهو ضمنيًا محفزٌ على توليد الأسئلة تجاه العلاقة الثنائية بين الصحراء والمدينة، والبداوة والحضارة. وقد يبدو عنوان الشاعرة غيداء المنفى «بدوية مهزومة في ضيافة ليل حضري» الذي يستشهد به الكتاب ضمن نصوص عديدة، مركزيًا في وعي الكتاب وتشكله، فالصحراء هنا أو البداوة هي وعي بالذات ضمن سياق علاقات ثقافية وحضارية مجاوز لها، ومن ثم فإن عنوان الكتاب ليس تمدحًا بثقافة الصحراء أو ذمًا لها، كما قد نفهم، بل توجيه للوعي بالوقائع الفكرية والثقافية، واكتشافها خارج أحاديتها وتجريدها وسكونيتها الجامدة، في سياق علاقاتها ومجابهاتها وتداخلاتها ومن ثم حركتها وتحولاتها.
وسياق العلاقات المتعدد هذا، هو ما يفضُّ طوق الحضور والمرجعية الذاتية الأحادية، في كتاب البازعي «إحالات القصيدة» (١٩٩٩). فهذا الكتاب ينتهك التصور الذي يحيل مرجعية القصيدة على التمركز في ذاتية الشاعر وسيرته أو إيديولوجيته. وعنوانه «إحالات» بدلالة الجمع لا بدلالة المفرد توكيدٌ لهذا المعنى الذي ينفتح على مرجعيات متعددة، وهي مرجعيات تجاوز الوعي إلى اللاوعي، بقدر ما تجاوز الفردي والآني إلى الاجتماعي والإنساني والكلي. «فهناك العديد من السياقات التي يمكن تناولها بوصفها مرجعيات للعمل الأدبي» (ص١٥). والكتاب -فيما يقول- «استجلاءٌ لمكامن التنوع ضمن وحدة الثقافة العربية الأساسية» (ص١٧). وإذا كان الكتاب الأول يقذف «ثقافة الصحراء» خارج أي معنى قيمي أو تراتبي أو مركزي، على الرغم من مخاتلة عنوانه للقارئ، فإن «إحالات القصيدة» تفعل الشيء نفسه، منتهكًة تمركز القصيدة وسائر ما ينبني من علاقاتها على منطق التراتب الذي يحيل على شيء لا إحالة من بعده على شيء آخر.
وحين يتناول البازعي الرواية في كتابه «مصائر الرواية» (٢٠٢٠) فإن علينا أن نتأمل الموقف النقدي السابق من وجهة اختياره لما يقرأ في الأعمال الروائية، أو لما تمثله الرواية بوصفها نوعًا أدبيًا. ذلك أن أقسام الكتاب مبنيةٌ من زاوية اختيار مَجْلَى من التوتر؛ فالقسم الأول عن «رواية العنف» والثاني عن «رواية الأقلية» والثالث والرابع يجمعان مباحث لمناقشة الرواية ضمن علاقة تقابل تقفها في مقابل «الفلسفة» أو في مقابل «الإيديولوجيا» أو في مقابل «الآخرية» وهي آخرية الشكل الروائي المنغرس في البيئة الغربية تحديدًا، أو آخرية الترجمة (أو الترجمات) للرواية. وهكذا تصبح هذه الاختيارات دلالة على الرواية التي لا تغدو رواية من دون أن تصنع توترًا في استحضار النقائض والتقابلات وخرقها واللعب بها وتجلية ما ينبني عليها من تمركزات وتراتبات زائفة. وقد لا يبدو أن الكتاب، على هذا النحو، يقدم جديدًا على ما هو راسخ في هوية الرواية وأنطولوجيتها الحوارية والبولوفونية والانتهاكية التي تتكرر على ألسنة الدارسين. ولكن الكتاب ممارسة فعلية للقراءة التي تجاوز مفهوم الرواية على هذا النحو إلى تجلية موقف نقدي وتعميمه، تجاه وقائع مادية وثقافية في المجتمعات، ما زالت تحجبها التحيزات والأيديولوجيات والممارسات الإعلامية والثقافية. وما زال قطاعٌ عريضٌ من الدارسين، وليس عامة الناس، يتغافل عنها أو يغفل.
وبوسعنا أن نمضي في تتبُّع هذا الموقف النقدي في كتب البازعي الأخرى التي خصصها لقراءة نصوص إبداعية من الشعر أو السرد أو ما إليهما. كما في «أبواب القصيدة» (٢٠٠٤) و«سرد المدن» (٢٠٠٩) و«لغات الشعر» (٢٠١١) و«مشاغل النص واشتغال القراءة» (٢٠١٤) و«جدل الألفة والغرابة» (٢٠١٦). فالنصوص التي تظهر في القراءة لا تكف عن تضمن تعارضات، واللعب، قليلًا أو كثيرًا، على تناقضات وتقابلات، والانفتاح على سياقات وتداخلات متعددة، بطريقة تترامى القراءة بها إلى إحداث فاعلية إبداعية لهذه النصوص قائمة على الشعور بذلك التوتر الذي يصنع التثاقف والتوالد. وإضافة إلى ذلك فإن قراءة البازعي على هذا النحو تنطوي على تقدير وتثمين للنص الحداثي نوعًا وصياغةً وموقفًا، فهي قراءة منحازة للإبداع في مقابل التقليد، في مجتمعنا العربي الذي لا تزال الرؤية التقليدية في الثقافة والفكر عميقة الحضور، مع حضور أوجه الحداثة التقنية والاقتصادية والمعيشية وعلى الرغم منها. وهذا يعني أنها قراءةٌ لا تخلو من وظيفة دفاعية عن هذه النصوص وعن الحداثة الأدبية، ولكنها -إلى ذلك- وظيفةٌ كشفية وتعريفية ومعرفية، حتى في وجهة علاقتها بأدباء الحداثة أنفسهم، أو بالنخبة المثقفة ذات الاطلاع والمعرفة. ولا يقتصر هذا الموقف النقدي لدى البازعي على قراءته للنصوص الإبداعية، بل يمتد ليظهر بصورة أجلى في مجال حديثه عن انتقال المفاهيم ورحلة النظرية.
انتقال المفاهيم ورحلة النظرية
أوْلَى سعد البازعي استقبال المفاهيم والنظريات وارتحالها بين الثقافات اهتمامًا واضحًا. فالمفهوم أو النظرية ينشآن في سياق ثقافي معين، وينتقلان عنه إلى سياقات مختلفة، وهذا ليس حدثًا في الثقافة الحديثة، بل هو دأب الثقافات منذ القدم. لكن الاهتمام بذلك، حديثًا، بات من اختصاص الدراسات الأدبية المقارنة التي تلاقحت فيما بعد البنيوية مع الأفكار النظرية المتعلقة بما بعد الكولونيالية وسياسات الهوية والتاريخية الجديدة ودراسات التلقي وما إلى ذلك. فهو مجالٌ لدراسة علاقات القوة والهيمنة بين الثقافات مثلما هو مجالٌ للوعي بالتمركزات والتعصبات. وقد برز في هذا المجال في الثقافة العربية الحديثة ـ على نحو ما أشرت- وجهتان متضادتان: وجهة تدفع إلى اتقاء التأثير، خوفًا من الآخر أو بدعوى الاستغناء عنه والاعتصام بذات نرجسية وطهرانية متعالية، ووجهة، بعكسها، تدفع إليه لأن الآخرية عاملٌ من عوامل التعرف على حقيقة الذات وإنهاضها. لكن المسألة عند البازعي تحتاجُ إلى تفصيل ودرس عميق ودقيق.
وأولُ كتاب للبازعي، في هذا الصدد، كتاب «دليل الناقد الأدبي» (٢٠١٨) بالاشتراك مع زميله ميجان الرويلي. وهو كتابٌ يقوم بتعريف المفاهيم والمصطلحات النظرية الأدبية النقدية ذات المنبت الغربي تحديدًا. أما الجانب الذي يتصل بحديثنا هنا من هذا الكتاب، فهو ما ينطوي عليه من رغبة في التثاقف مع الثقافة النظرية والمفاهيمية الأجنبية في المجال الأدبي النقدي، بل الشعور بضرورة هذا التثاقف. لكن هذه الرغبة أو تلك الضرورة لا تقومان في وعي المؤلِّفَيْن من دون رغبة في الوعي بالذات في مقابل الوعي بالآخر، وعي الاختلاف ووعي التشارك الإنساني. ولذلك يقرران مشكلة المفاهيم الغربية لدينا في وجهتين: وجهة «من يقع على ما لدى الغرب وقوع العطِش على الماء لا يستطيع إلا أن يعب منه عبًا دون أن يقدِّم بديلًا لما أخذ منه، ودون تمييزٍ لصافيه من كدره»، ووجهة المتحجِّر الذي «يرى في كل جديد آفةً ينبغي عليه محاربتها دون أن يكلف نفسه عناء التفكير» (مقدمة ط١). ويحمل البازعي وزميله الرويلي على هاتين الوجهتين، حملةً تنادي بضرورة ضبط المصطلح وفهمه فهمًا دقيقًا ملتصقًا بسياقه من جهة، وتنتقد، من جهة مقابلة، موقف التحجر والعزلة عن الآخر. وقد يكون الموقف من التحجر جليًا، ولكن الالتصاق بالسياق غير واضح بجلاء، وسأعود إلى هذه النقطة لاحقًا، فالمهم هنا هو صفة الاختيار الموقفي للناقد في موقع التقابل والاختلاف بين الذات والآخر، وإرادة التثاقف انطلاقًا من هذا الموقع، على نحو يشرك الطرفين ويتجاوزهما في الوقت نفسه.
وقد مضى البازعي إلى تجلية هذا الموقف وتعميقه وتدقيقه في كتبه التي تناولت موضوعات من قبيل العلاقة بالآخر واستقباله وانتقال المفاهيم والنظريات وثقافة الاختلاف وجدل العولمة، وما إليها. فجاء كتابه «استقبال الآخر» (٢٠٠٤) الذي كان عنوانه الفرعي «الغرب في النقد العربي الحديث»، مبنيًا على تقابلات متفرعة عن علاقة الذات/الآخر: العربي/الغربي؛ فالاستقبال معنى مزدوج ينطوي على التقابل بين «التفاعل البنَّاء» و«الخضوع» (ص٥)، وموقف الكتاب ينطلق من «الإيمان بالخصوصية الثقافية» و«بحتمية وحيوية المثاقفة الواعية» (ص ص ٦-٧). ويذهب الكتاب بعد ذلك إلى الكشف عن خصوصية الثقافة الغربية والتدليل عليها، من دون أن يتطلب ذلك منه حديثًا (وهذا يثير تساؤلًا جديًا) عن الخصوصية العربية بالمقابل، ومن ثم يستطيل في وصف وتقويم نماذج النقد العربي التي تُحَقِّق شرط الكتاب لما هو «متميز» و«مميَّز» و«إيجابي» و«مناسب» أو تتردى -على الشرط نفسه- في «السلبية» والخضوع «لمقولات ونظريات ومناهج ليست مناسبة دائمًا، أو بالشكل الذي استُقبلت به، ولم تُستوعَب في الغالب كما ينبغي» (ص٥) أو أن المفهوم المنهجي الغربي لديها «مجتزأ وخارج عن السياق» أو يقوم على «تجاهل السياق الذي نشأ فيه المنهج» (ص١١٢). و«الشك الديكارتي» و«البنيوية» و«التناص» و«التفكيك» أمثلةٌ لما يذهب أكثرُ الكِتَاب تقريبا إلى الاستشهاد به على ما صنعه بعض النقاد العرب من هذه الوجهة السلبية تحديدًا.
وتتابعتْ كتبُ البازعي في هذا المسار الذي يبحث انتقال المفاهيم والنظريات ويقوِّم تطبيقاتها في النقد العربي أو في غير السياقات التي نشأت فيها، من زاوية نظر تزدوج فيها الرغبة الملحَّة في المثاقفة أو إقرار ضرورتها من جهة، والتمسك بالخصوصية والاختلاف من جهة أخرى. فعدا «دليل الناقد» و«استقبال الآخر» اللذين أسَّسا لهذا المسار، جاء في المسار نفسه مع تفاوت بسيط أحيانًا، «شرفات للرؤية» (٢٠٠٥)، و«الاختلاف الثقافي وثقافة الاختلاف» (٢٠٠٨)، و«قلق المعرفة» (٢٠١٠) و«جدل العولمة» (٢٠١٤)، و«مواجهات ثقافية» (٢٠١٤)، و«هموم العقل» (٢٠١٦)، و«هجرة المفاهيم» (٢٠٢١). ولذلك تنقسم مؤلفات البازعي بوضوح قسمةً ثنائية بين هذا المسار، ومسار القراءة النقدية للنصوص الإبداعية.
خلاصة وملحوظات
أولُ ما يمكن أن يستنتجه المرء من تتبُّع إنتاج البازعي وقراءة مؤلفاته، أننا أمام جهد واسع وبالغ السخاء. وهو جهدٌ يتوافر له اطلاعٌ دقيق وعميق على مرجعيات الفكر النظري والنقدي الغربي، والفكر النقدي العربي. بالإضافة إلى متابعة متميزة للإنتاج الإبداعي وقدرة على التفاعل معه تفاعلًا يترامى إلى إنتاج ثقافة أدبية متجاوزة. وهو، إلى ذلك، إنتاجٌ نقدي وفكري مولِّدٌ للأسئلة وللقلق المعرفي والثقافي. ولا مجال للاختلاف مع البازعي حول مشكلة الترجمة للمصطلحات النظرية والمنهجية، سواء في تعددها أو في انزياحاتها عن الأصل وتأويلاتها له وفهمها إياه بصور مختلفة، ولا في اختلاف السياقات وخصوصياتها، ولا في ضعف بعض التوظيفات أو الاستثمارات النقدية العربية للنظريات، ولا في الولع بالنظريات التي تنشأ وتصدر عن الغرب فليس لدينا من الإنتاج النظري ما يداني في قليل أو كثير ما لدى الغرب. ولسنا نقرر جديدًا في هذا الصدد أو نفتئت بما هو مجال للتنازع.
لكن الاختلاف هو في نسبية الحسبان لخطيئة ما تصنعه الترجمة على ذلك النحو الذي لا معدَّى لها عنه، وفي تصور السياق الثقافي، بناءً على قاعدة اختلافه، قارًا في خصوصية ثابتة ومتجانسة لا تتغير أو تتغاير في ذاتها وتتشارك مع غيرها من السياقات بالمطلق، أو في الحسبان للنظريات من زاوية نسبتها إلى الغرب نسبةً تلصقها بسياقاته وخصوصياته وتأبى مجاوزتها (أو بعضها) له. فمن هذا المنظور لن يأمن أي ناقد يعلن الانتساب إلى مفهوم نظري ومنهجي معين، كالبنيوية أو التناص أو التفكيك أو الأسلوبية أو نحوها من المفاهيم، من المحاكمة بمعايير الاجتزاء، وسوء الفهم، واعتساف السياق، والولع بالغرب، وعدم المناسبة، ونحو ذلك مما لا يمكن إخضاعه لضوابط دقيقة وواضحة ويمكن قياسُها واطرادُها.
ولذلك فقد بدت لنا مفارقةٌ غامضة بين القراءة النقدية للنصوص الإبداعية التي تحتفل بحداثيتها، دون تخوف من خرقها لأي أنساق أو خصوصيات ثقافية يمكن توهُّم قرارها واطرادها، وبين الموقف من المفاهيم النظرية التي يُخشى منها على السياقات والخصوصيات العربية الإسلامية. فالنظرية، من حيث هي بناء منطقي، لا تغدو نظريةً وهي خاصةٌ بسياق ثقافي لا تطرد في غيره، سواء أكانت نظرية في العلم الطبيعي أو في المعرفة الأدبية الإنسانية. والمفارقة أيضًا قائمة بين التشنيع (وهذا حق) على الناقد الذي يفهم التناص على أنه اقتباسات النص الواعية من غيره من النصوص، وبين الثناء على الناقد الذي يدمج «الأسلوبية القادمة من الغرب في البلاغة العربية القديمة للخروج بتوليفة نظرية مميزة»، من دون حسبانٍ هذه المرة للسياق والاختلاف والاجتزاء وسوء الفهم، على الرغم من أن الأسلوبية لا تقبل الاندماج مع البلاغة لأنها تستبق أي تفكير من هذا القبيل بتضمُّنها البلاغة ومجاوزتها بالكلية. ولكن موقف البازعي النقدي والفكري، تجاه انتقال المفاهيم النظرية واستقبالها، يُسْهِم، بعد ذلك كله، في إنتاج الانتباه والقلق تجاه حالة القصور الفكري العربي، والاندراج دائما في دائرة الاستهلاك والتقليد.